استطلاع
سالم محمد بجود باراس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 104
رابط العدد 9 : اضغط هنا
تعجز الكلمات عن أن تصف جوهرة تتلألأ وترسل أشعتها الذهبية في كل أنحاء البلاد شرقًا وغربًا…بلد الثلاثة مليون نخلة.. ماؤها لا ينفد.. وعطاؤها ليس له حدود.. ولكنها جوهرة لا تصان مفقودة منذ سنوات مديدة، فلا يد دولة امتدت إليها، لتجعل منها أسطورة في الجمال والعطاء، وتبعد عن أهلها شظف العيش وذل الفقر.. هل يعقل أن تكون تحت قدميك جوهرة فتدوسها سواء بقصد أو بإهمال، نسينا مديرية حجر أم تناسيناها ؟!!
متِّع ناظريك بهذا الجمال الخلاب وتلك النخيل الباسقة، وذلك الماء العذب الرقراق، ومُدَّ عينيك إلى تلك الصخور الشاهقة، وهي تحتضن تحتها جوهرة فريدة، واستمتع بهذا الجمال الذي يشرح الصدر، ويدخل السرور إلى النفس، فكل مقومات الراحة والهدوء النفسي بين يديك، ماء عذب ينساب تحت قدميك، وخضرة عن يمينك وشمالك. عشْ لحظات عمرك بعيدًا عن ضوضاء المدينة وضجيج المصانع، هنا ستعزف الطبيعة سيمفونية تثلج الصدر، وتزيل ما علق بها من هموم وغموم، هنا ستغمض عينيك لبرهة من الزمن وأنت تسمع خرير الماء يعزف أجمل ألحانه برتابة عجيبة، ستسمع حفيف الأوراق وزقزقة العصافير، استيقظ أنت لست في حلم وخيال، أنت تجلس على جوهرة فريدة، تعال معي لنصول ونجول في هذا الوادي المنسي؛ لنسلط الضوء على جوانب مشرقة يزخر بها وادي حجر.
هذا الوادي الجميل، الذي يسلب العقل، ويذهل الزوار، ويُحار الفكر في مناظره الخلابة، ذات التضاريس الرائعة، والنخيل الباسقة..
هل يعقل أن تجد هذا الوادي محرومًا من كل سبل الحياة الكريمة؟!! كم يؤسفني أنني وجدت أقلامًا نشازًا كتبت عنه بعشوائية، ويكاد يكون منسيًا من الحكومات المتعاقبة منذ عصور قديمة.. فقلت أدلي بدلوي في جود بحره ومعروفه وسخائه الذي لا ينكره إلا جاهل بكرمه.
التسمية:
يسمى (حجر بن دغار)، أو (حجر بن وهب)؛ نسبة إلى وهب بن ربيعة بن معاوية، وهو من ملوك كندة، أو (حجر الحصين)، أو (وادي كندة)، ولكن غلب عليه اسم حجر بن دغار.
وسبب تسمية هذا الوادي بوادي حجر بن دغار، فإن بني الدغار هم أمراء مدينة شبام وذلك ما بين القرن السادس والسابع الهجري، ويجمعهم نسب آل قحطان الحضارمة الأصل، وقيل الحضارمة الحميريون، وهم من كندة، وكان آخر سلاطينهم راشد بن أحمد النعمان سنة 605 هجرية. ودغار بن أحمد مذكور في شعر أبي إسحاق الهمداني في القرن الخامس الهجري، والظاهر كما يرجح ابن عبيدالله السقاف في كتابه (إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت) أن حجرًا اسم ابن دغار وسمي الوادي باسمه؛ لأنه حاكمه في ذلك الزمان.
وقد ورد اسم حجر في نقش قديم، يتحدث عن (شمر يهرعش) ملك سبأ وريدان وحضرموت، وأن هذا الملك قد دخل وادي حجر، فنهب وسلب أجزاء منه.
أما السيد علوي بن طاهر الحداد فقد ذكر في كتابه (الشامل في تاريخ حضرموت ومخاليفها) أن حجر كانت تسمى (حجر حمير). ونقل القاضي مسعود أن هذا الاسم يشترك فيه (حجر علوان)، وهو وادٍ باليمن، والآخر (حجر بن دغار).
الموقع:
يعد وادي حجر أحد أودية حضرموت الكبرى، ويقع غرب مدينة المكلا، ويمتد من الشمال إلى الجنوب، ويبلغ طوله 200 كيلومترًا. وتبلغ مساحته 10,000 كيلومتر مربع. والوادي به نهر يجري طوال العام؛ لوجود عيون تغذيه، فهو وادٍ خصيب وزراعي، لذلك نجده دائم الخضرة، والماء في الوادي يُعَدُّ الشريان الذي يمده بالحياة والعطاء.
أهم محاصيله الزراعية:
أهم محصول يفتخر به هذا الوادي هو التمر، الذي يسمى باسمه (تمر حجر)، وتوجد بالوادي ثلاثة مليون نخلة.. فتمر حجر لا يضاهيه تمر باليمن على الإطلاق، وله شعبية كاسحة، ولا يخلو بيت من تمر حجر على مدار العام، وهو صحي ومفيد، وتستطيع خلطه مع السمسم فيعطي الجسم قوة ومقاومة، ويعد منجم الفيتامينات في الأرياف؛ لعدم وجود كماليات الرفاهية فيها. ومن المحاصيل الزراعية التي يزرعونها أيضًا الذرة والحنطة والسمسم والحبحب وأشجار الليمون وغيرها.
ومن أعجب ما سمعت عن تمر حجر! أن الغراب لا يقربه ولا يمسه منذ أن تأسس هذا الوادي بمعنى مُحرم عليه، وتجده يقف على النخلة ولا يستطيع أكله، قيل إن سبب ذلك هو دعوة رجل صالح لهذا الوادي؛ لأن من عادة أهل الوادي لا يمنعون عابر السبيل ولا الغريب ولا أي شخص كائنًا من كان من أكل التمر الذي يتساقط تحت النخيل؛ لأنهم أهل كرم وجود وإحسان. وقيل هي كرامة من الله لهم بسبب تعاطفهم وتراحمهم وإكرام الضيف وعابر السبيل. وقيل إن أهل حمير في ذاك الزمان الغابر قاموا بعمل طلاسم وحروز على الجبال المقابلة للنخيل لمنع الغراب من أكل التمر، وقيل غير ذلك.
سكان وادي حجر:
يسكن الوادي طوائف وأجناس كثر من فئات المجتمع، وأهم ساكنيها على سبيل الذكر لا الحصر ((السادة العلويون من آل البيتي – وآل العطاس – وآل الشاطري، وآل باراس، وآل العمودي، وآل مزاحم، وآل بادبيان، وآل باحسن، وآل بافقاس، وآل بامسعود، وآل بارجاش، وآل باقروان، وآل بامساطر، وغيرهم)). وأغلب سكان مديرية حجر من قبائل نوّح وهي من سيبان.
ومن أهم مميزات هذا الوادي أنه لا يوجد فيها تمييز عنصري، فالشيخ والسيد والضعيف كلهم جسد واحد، وروح واحدة، وكذلك لا يوجد تمييز مذهبي وهذا ما جعلهم قوة متماسكة كأنهم أسرة واحدة.
أهم قرى هذا الوادي:
فمن أهم قرى هذا الوادي الخصيب ((كنينة – محمدة – ميفع – حجر – الحصين – القارة – الجول – حوطة الفقيه علي – يون – قشن – يبعث – مشاط – قارة باربيد – مدهون – باقشيم – الصدارة وفيها كما قيل مائة عين جارية)).
ماذا قيل عن هذا الوادي؟!!
هناك الكثير من الشهادات من كبار الشخصيات العالمية والمحلية وسنأخذ عينة فقط لضيق الحيز.
ماذا قال الكُتاب والمستشرقون عن حجر؟!
فقد قال المؤرخون عن أهلها وصفًا يليق بهم وبتاريخهم التليد قالوا عنهم : هم (الذئاب الحمر بحضرموت). ووصفهم المؤرخ البريطاني فورد كير بأن سكان حجر: هم (أسود كاسرة)؛ نظرًا لشجاعة أبنائها وشيمهم والقيم والمبادئ التي يتصفون بها والكرم وحسن الضيافة، ولقد تناقلوها جيلًا بعد جيل وكابرًا عن كابر إلى يومنا هذا.
فحجر تعد مهوى قلوب الثوار في أثناء تحرير الجنوب من قبضة الاحتلال البريطاني، وتذكر المراجع وكتب التاريخ أن الرئيس السابق علي سالم البيض تحصن بها في عام (1966- 1967م) في أثناء مرحلة الكفاح المسلح. ولقد نالت أفضل وسام وشرف وتقدير بعد الاستقلال عام 1967م؛ فقد سميت المديرية باسم (مديرية الثورة)؛ وذلك تقديرًا لتضحيات أبنائها الجسيمة في تلك الحقبة.
فعذرًا لقلمي إذا سها عن ذكر هذا الوادي الخصيب، وعذرًا لكلماتي إن تجاوزت مزايا وصفات هذا الوادي المنسي، فما أنا إلا زائر أو عابر سبيل آلمني ذلك الجمال الساحر بهذا الوادي، وهذا الكنز المحيط بأهلها وهم يعيشون عيش الكفاف، فلا خدمات تصلهم، ولا ذكر ينصفهم عاشوا كالذئاب الجبلية، تحفر مجدها وتاريخها بنفسها، هذا الوادي لو يجد نوايا صادقة من الدولة أو التجار والمستثمرين لتحول إلى جنة تستقطب رواد السياحة والراحة والاستجمام والرحلات الترفيهية.
فما ذكرته يعد غيضًا من فيض ونقطة في بحر من جود وإحسان هذا الوادي.
حلمنا سيطال عنان السماء يومًا ما، وسنرى هذا الوادي ينعم أهله بما يتمنون من راحة وحياة كريمة تليق بهم، لأجل عطائهم الدؤوب منذ مئات السنين وكرمهم الذي ليس له حدود، سيظل وادي حجر يرمي إلينا خيراته على مدار كل عام ومنذ مئات السنين هكذا كان وهكذا سيظل للأبد.
قرية حنور المخفية:
ما إن تسمع بهذه القرية حتى يتبادر إلى ذهنك أسطورة القرية المخفية في بطن الوادي.. حنور إحدى قرى أرياف مديرية المكلا، يقطنها قبيلة (السموح) من قبيلة آل سيبان.
بدأت الرحلة من دوعن التي تبعد عنها حوالي 80 كم جنوبًا، انطلقنا قبيل الفجر في رحلة شاقة ومتعبة، نمر على طريق وعرة وقاسية، فتارة نهبط وتارة نرتفع من شدة االصخور والأحجار التي نرتطم بها.. وصلنا عقبة حنور، ولأول مرة أشاهد من قمة الوادي قرية صغيرة معلقة، كأنها حدائق بابل ذات الصيت والشهرة، إنها القرية المخفية في بطن الوادي.. كانت العقبة أشبه بأرجوحة مخيفة ومغامرة رهيبة، ولكن كانت المغامرة تستحق ذلك، كانت الرحلة أشبه بمغامرة سندباد، طريق غير معبدة، تتمايل بنا السيارة يمينًا وشمالًا، وأحيانًا ترتطم رؤوسنا بسقف السيارة، تارة نعلو وتارة ننزل، فصرنا في نزول مستمر مخيف، حتى رأينا بعض بيوت هذه القرية تظهر كمربعات صغيرة معلقة في جهة الوادي، وبدأت الزراعة تظهر للعيان، فعلمت بأننا وصلنا بأمان.
استقبلنا أهل قرية حنور بكل ترحاب، وقاموا بحق الضيافة والكرم، وهي عادة أصيلة في قبائل نوح وسيبان وكل قبائل العرب عامة، وخاصة أهل حضرموت، الذين اشتهروا بجميل الصفات وحسن المعشر وكرم الضيافة، ولهذا الكرم والجود في أهل حنور نستشهد بقول الشاعر حيث يقول :
كم لي ونا خائل شروج أبريرة
وارجع مغب ما شربي إلا من حنور
وإن كان المعنى الحقيقي كما يقال في بطن الشاعر ولكن ذكره أهل حنور ومدحه لهم هي زبدة الموضوع ومربط الفرس.
السكان:
بلغ تعداد سكانها (418 نسمة) حسب إحصائية لعام 2004م مع القرى التابعة لها في عمق الوادي، بيوتهم من المدر ومادة (القرف) بكسر القاف وفتح الراء، وهي أحجار جيرية، تستخرج من الهضاب، وتجلب من مناطق قريبة من قرية حنور.. اشتهرت هذه القرية باسم عاصمة (السموح)؛ لأنها كانت قديمًا المركز الرسمي لهم في كل شؤون حياتهم.
عدد البيوت فيها قليل جدًا مقابل شهرتها بين قبائل نوح وسيبان، فقد اشتهرت بإنتاجها للدبا (اليقطين)، ويعد (دبا) حنور (بضم الدال وفتح الباء مع التشديد) من أشهر أنواع اليقطين، وتغطي بهذا المحصول كل مناطق حضرموت وصولًا لعاصمة المهرة (الغيضة). وإلى جانب زراعتهم لليقطين يزرعون أشجار الليمون والثوم والحنطة والبر وأشجار المانجو وغيرها، وكل محاصيلهم ذات جودة عالية، وذوق طبيعي، لا يستخدمون أي مواد كيميائية أبدًا، وهذا ما جعل خضرواتهم ومحاصيلهم يكون لها شهرة كبيرة وإقبال منقطع النظير، رغم قلة الإمكانيات وظروف حياتهم المعيشية. يوجد بها عيون جارية على مدار السنة، وأجمل ما فيها تلك المناظر الجميلة والخضرة الدائمة، فماؤها كأنه ماء الكوثر في صفائه ومذاقه.
سرت بين السواقي والماء ينساب تحت قدمي، ولقد بهرت وتعجبت من عقول أجدادهم الأوائل؛ فقد صمموا قنوات طبيعية، تسقي مئات الفدانات الزراعية، ما يسمى (جَرِب) في ذلك الوادي بشكل دائم، وبطريقة هندسية رائعة، قنوات موزعة عن اليمين والشمال، دقة في توزيع الماء، وهندسة تدل على دهاء الأجداد الأوائل وذكائهم، وقوة صمودهم وتحديهم لحل المعضلات بطريقة شق القنوات؛ لتصل لكل فدان على طول امتداد الوادي.
ثم قمت بالتجول بين هذه المزروعات، وصرت أقيس المسافة عبر السير وتتبع قنوات الماء حتى وصلت إلى منبع الماء في أعلى الوادي، كان منبع الماء يبعد عن القرية قرابة (3 كيلومترات)، ويتم سحب الماء عن طريق مواسير تمتد عبر الوادي وحتى البيوت عبر مضخات تبرع بها أهل الخير.
مما آلمني وحز في نفسي تلك المدرسة التي تم إنشاؤها عام 1967م مدرسة (الشهيد مسعود بحنور)، ومنذ ذلك العام لم يتخرج فيها مدرس واحد، فكل معلميها من خارج القرية، والعجيب أن هذه هي أول دفعة للصف التاسع تصل إليه هذه المدرسة سنة 2017م. أما البنت فحدِّثْ ولا حرج فتكاد تصل للصف الخامس الابتدائي ثم تلتزم البيت، والسبب هو نقص المعلمين حسب ما قيل لي من مجلس الآباء وأهالي أهل القرية. ولحسن حظي التقيت بطلاب (الصف التاسع) ولأول مرة في تاريخ حنور كانوا في اختبارات نهاية الفصل الأول، رأيت طلابًا يتصفون بالذكاء الفطري وسرعة البديهة، ولكن ينقصهم التشجيع وشحن الطاقات.
وعند نبع الماء عند حجرة كبيرة تتوسط الوادي تجمَّع طلاب كُثُر، فألقيت محاضرة مؤثرة كادت العبرة أن تخنقني.. ورأيت في وجوههم الحسرة والندامة.. يعد المعلمون والآباء وأعيان القرية مشتركين في هذا التقصير الكبير، والذي لا يعقل أصلًا، كيف بهذه القرية وهي من أقدم المدارس بحضرموت الساحل لا يتخرج فيها معلمون منذ إنشائها عام 1967م؟!! ولقد عاهدتهم وعاهدوني أن يصبح منهم -ومن هذه الدفعة- المعلمون والمهندسون والأطباء لقريتهم وتاج رؤوسهم قرية حنور.
وبعد يومين من وجودنا هناك ودعنا أهل قرية حنور، وانطلقت سيارتنا تمخر تلك العقبة، وتنفسنا الصعداء؛ لصعوبة هذه العقبة ووعورتها وخطورتها، فلو تجد من الدولة أو أهل الخير من يمهّدها ويعبّدها (يسفلتها)، لعاد ذلك على أهل هذه القرية بفرح وسرور، ولن يُنسى هذا الصنيع لفاعله.
رغم مشقة الوصول إلى هذه القرية المخفية في بطن الوادي غير أن الرحلة تستحق المغامرة؛ لكشف خفايا قرية، تقبع تحت جنح واد، تمد حضرموت بفواكه وخضروات نقية طرية طبيعية لا تعرف الغش والكسب المدمر للصحة والإنسان برش مبيدات خارجة عن القانون الدولي، بل ما زال أهل هذه القرية على الفطرة وحب الخير والضمير الحي.