قصة قصيرة
د. أحمد عبدالله السومحي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 9 .. ص 110
رابط العدد 9 : اضغط هنا
عاد المغترب من غربته بعدما يقرب من عشر سنوات قضاها في مهجره؛ هي زهرة شبابه، وعنفوان عمره.. عاد صفر اليدين، وخالي الوفاض، اللهم إلا من نقود قليلة، لا تكاد تسد حاجاته لمدة عام في بلده، فقد ضاع أمله، وتبخر حلمه في الزواج، وتكوين أسرة، وبناء مشروع صغير يعيش منه، فقد ذهبت كل محاولاته للتوفير مع الريح في تجديد الإقامة، ورخصة العمل، والرسوم، ورخصة السيارة والقيادة، والعلاج، وأتاوة الكفيل… إلخ
عاد إلى قريته متخفيًا متسللًا خائفًا يترقب في ليلة ظلماء، تلبدت فيها السماء بالغيوم، وغابت فيها النجوم، فأظلمت الأرض، وانهمر المطر خفيفًا وغزيرًا، وعصفت الريح، واشتد البرد، وصفرت الأشجار، وسكن سكان القرية في جحورهم منذ الثامنة مساء..
كانت عودته متخفيًا منطقية بالنسبة إليه، حتى لا يتعرض للتهكم والسخرية والازدراء من شباب القرية الذين لم يغادروها، وقد تزوج بعضهم وأنجبوا. كان يشعر بالمرارة لهذه العودة المخزية، ولكن ماذا يفعل؟! فليس معه ما يكفي حتى لهدايا الأطفال، فقد فرض عليه الزمن هذه العودة؛ لكي يغطي خيبته ويستر عيبته.
وبينما كان يتسلل إلى القرية في جنح الظلام حذرًا متلفتًا، ويهم بفتح باب داره لاحظ أنوار سيارة خافتة قادمة من شرق القرية، وهي تسير ببطء شديد، فانزوى في ركن من أركان المنازل المتلاصقة؛ بحيث يشاهد ما يجري بوضوح، فسير السيارة بهذه الصورة وفي هذا الوقت، وهذه الظروف مريب ولا بد أن يكون وراءه سر.. توقفت السيارة التي لا يكاد يسمع صوت ماتورها عند منزل التاجر الوحيد في القرية، وخرج منها شخصان، وفتحا صندوق السيارة من الخلف، عند ذلك انبطح المغترب على الأرض؛ لعله يرى ما يجري؛ فالظلام دامس، والبرد قارس، والمطر ينهمر، وهو بفعله ذلك يغرق في مستنقع ماء المطر البارد، وأخذ يرتعش لكنه تماسك، فإذا بهما يخرجان شيئًا من مؤخرة السيارة لم يتبيَّنْه، ويحملانه إلى داخل المنزل، لا بد أن يكون هناك سر وراء هذه الرحلة في هذه الليلة المظلمة. أغلق الباب..
أخذ المغترب يبحث عن طريقة لكشف سر الرحلة، فهذا التاجر معروف عنه أنه يحب المال والمكسب السريع، وله مغامرات في سبيل ذلك، ولكنه ليس مجرمًا حتى يقتل ويداري سوءته، ولكن ما الذي حمله على الرحلة في هذا الليل البهيم؟! هل أوصله الطمع إلى أن يتاجر في المخدرات؟ ربما! ولكن لا.. لا.. لا أعتقد ذلك، فمهما غره المال فلديه بقايا من أخلاق القرية، ونظافة يدها، وتشدد دينها، ولكن الربح السريع يغري عند بعض الناس.. جائز..
اهتدى صاحبنا إلى تسلق شجرة الدوم، التي كان أحد فروعها يمتد إلى فوق منزل التاجر، وقبل أن يصعد الشجرة فوجئ بهما يخرجان ويطوفان حول المنزل، ويصعدان إلى السطح في حركة تفتيش احترازية، ثم يعودان ويغلقان الباب من جديد.. تسلق الشجرة في خفة، وعندما بدأ يزحف سقط شيء على السطح، فخرجا يستطلعان ذلك، بينما تسمَّر صاحبنا على فرع الشجرة، وكأنه أحد فروعها، وعندما صعد أحدهما، وكشف بالمصباح الكهربائي اليدوي، وجد دجاجة برية على السطح، وعندما رأت النور طارتْ، ووجه المصباح ناحية شجرة الدوم، ولكنه لم يلحظ شيئًا.
عاد إلى داخل المنزل، وأغلق الباب، وانهمكا في عملهما، بينما أخذ صاحبنا يزحف بخفة على فرع الشجرة، حتى صار فوق الكوة، التي في أعلى المنزل، فتعلق برجليه بأحد فروع الشجرة، وتمسك بإحدى يديه بفرع آخر، واتكأ بالأخرى على حجر قريب من الكوة، وتدلى حتى رآهما يحفران في قاع المنزل وإلى جانبهم صندوق.. آلمته رجلاه وتعبت يداه، فعاد ليستريح، ثم بعدما يقرب من نصف ساعة أعاد الكرة فإذا بهما ما زالا يحفران، ولكن أذنه التقطت كلمة لأكبرهما سنًا، وهو يقول: هذه ثروة تحميكم من الجوع إذا ساءت الأحوال الاقتصادية في البلد، لا تفكروا في استعمالها إلا إذا أصبحتم بلا شيء، وهذا السر لا يعرفه غيري وغيرك، رد الشاب: اطمئن يا أبي..
عرف المغترب شيئًا من السر، فانسحب من الشجرة، وعاد إلى سور منزله، ورغم المطر والبرد انبطح يرقب الموقف في انتظار مغادرتهما المنزل، وأخذ يفكر في كيفية كشف السر، الذي في الصندوق كله، والوصول إلى معرفة ما فيه. هل يكسر الباب أو يخلع الأقفال؟ واستبعد الفكرة؛ لأنها ستحدث صوتًا، وربما أحس به بعض أهل القرية، هل يحدث ثقبًا في الجدار الداخلي للمنزل؟ سيأخذ وقتًا ويحتاج إلى خفة يد وخبرة وخبرته قليلة في هذا المجال، وسينكشف الأمر سريعًا بمشاهدة الثقب، وأخيرًا اهتدى إلى أن يحدث ثقبًا حول الكوة التي في أعلى المنزل، ويتدلى منه بحبل، ثم يعيد ترميمه بسرعة؛ بحيث لا يبدو واضحًا. وبينما كان يفكر في الطريقة التي سيحصل بها على ما في الصندوق. خرج الرجلان من المنزل، وأغلقاه، ثم قاما بجولة تفتيشية حول المنزل وصعد أحدهما إلى السطح وفتشا الشجرة بالمصباح المحمول، ثم قاما بجولة في أزقة القرية فلم يلاحظا شيئًا؛ فقد كانت تغط في نوم عميق، عندها غادرا في انسحاب بطيء الحركة، وعندما شاهد صاحبنا مغادرتهما دخل منزله، وأحضر قداحة سجائره، وحبلًا متينًا وطويلًا، وتسلق شجرة الدوم، وعندما كان يهم بربط الحبل فوجئ بهما يعودان من غير سيارة سيرًا على الأقدام، فقد أوقفا السيارة خلف الجبل، وعادا ليتأكدا من أن أحدًا لم يشاهدهما، وفتحا الباب، ودخل أحدهما إلى الغرفة التي دفن فيها الصندوق، بينما قام الآخر بالدوران حول المنزل.. وتجمد صاحبنا فوق فرع الشجرة كما تجمد الدم في عروقه خوفًا من أن يعيدا تفتيش الشجرة، ولكنهما لم يفعلا في هذه المرة، بل جلسا ما يقرب من ساعة في مراقبة المنزل ثم غادرا، ولما اطمأن المغترب إلى عدم عودتهما شرع في تنفيذ خطته، فربط الحبل في فرع الشجرة، ثم تدلى به إلى السطح، وأخذ يزيل التراب المبلل من حول الكوة، ويقوم برفع الأحجار الصفيقة من على أعواد خشب السقف، حتى أحدث ثقبًا، ونزل إلى الغرفة، وأشعل فانوسًا كان موجودًا، وقد استعملاه في الحفر، ثم أزاح التراب الرطب، الذي غُطي به الصندوق، وارتعب عندما سمع صوت ارتطام في الخارج، فخرج يستكشفه فتبين له أنه صوت صفيحة ألقتْ بها الريح، ثم عاد وواصل عمله حتى أزاح التراب الجاف من على الصندوق، فوجده مغلقًا بالقفل، فأخذ القدوم الذي حفرا به، ثم ضغط على القفل حتى انفلت، ثم فتح الصندوق؛ ليجد به ثلاثة أكياس مربوطة، فتحسسها فإذا هي ورق، ولم يشأ أن يضيع وقته في ماهيتها ونوعها؛ فالوقت من ذهب، فسحب الأكياس من الصندوق ثم أغلقه، وأتى بالقفل وضغط عليه؛ لينقفل من جديد، وأهال عليه التراب، وليس بالتراب المعجون كما كان، وأطفأ الفانوس، وحمل الأكياس، وصعد إلى السطح، ثم إلى الشجرة، وذهب بالأكياس إلى منزله، ووضعها في غرفة مصمتة، وأغلق الباب، ثم عاد إلى السطح، وأعاد كل شيء إلى ما كان عليه، وقد ساعده على ذلك هطول الأمطار، التي سهلت له الطين اللزج، الذي جعل أن كل شيء يبدو طبيعيًا، ثم صعد إلى الشجرة، وجنى منها ما استطاع حمله من النبق، وفك حبله وحمله، وعاد إلى منزله، ولكن من فوق السور، وترك باب (الحوش) مغلقًا بالقفل من الخارج، وعندما كوم النبق تذكر أنه في حاجة إلى الماء، ولم يشأ أن يخرج ثانية؛ فالساعة قاربت على الرابعة صباحًا، وخشي أن يراه أحد من أهل القرية، فوضع تحت وابل المطر قدورًا وطسوتًا وأواني بلاستيكية، فامتلأت في لحظات، ثم أدخلها، وأغلق الباب بالإقليد..
كان منزل أبي زيد عبارة عن غرفتين و(حوش) خارجي، ورثه عن جده لوالدته، فوالده كان بدويًا شاويًا، ومات وهو صغير: غرفة متصلة بالحوش وهي مستطيلة الشكل، ربما كانت مساحتها (3×5 أمتار)، ولها كوة في الأعلى، ونافذة صغيرة عبارة عن كوة جانبية، تشرف على برحة واسعة مقابلة لمنزل التاجر. الغرفة الداخلية لا تتعدى مساحتها (2×3 متر)، فهي مصمتة من غير نوافذ؛ لأنها ملاصقة لمنزل آخرَ هَجَرَهُ أصحابه إلى المدينة، والمنزل كله مبني من الحجارة الكلسية، ما عدا أساسه، فكان من حجارة الجرانيت الصلب، أما أبوابه فمصنوعة من أخشاب شجر السدر، وكانت صناعتها قديمة وقوية..
بعد أن أمن أبو زيد الحد الأدنى من القوت، الذي يبقيه على قيد الحياة من ماء ونبق قرر أن يمكث في منزله شهرًا مختفيًا عن الأنظار؛ حتى لا تثار حوله الشكوك عندما يظهر بمظهر الشخص الميسور الحال..
استلقى في الغرفة وهو يرتعش من البرد، وعلى الرغم من تبديله لملابسه، وتغطيه بلحاف من الشعر فإن الارتعاش زاد وكأنها بوادر حمى أو إنفلونزا، فانسحب يزحف إلى الغرفة المصمتة، فهي أدفأ؛ وخوفًا من أن تعتريه نوبة عطاس وسعال، وفتش في حقيبته التي قدم بها، فوجد شريط بندول، وعلبة بسكويت، فالتهم البسكويت وشيعه بأفواج من حبات النبق، وأخذ حبتين من البندول؛ فقد بدأ السعال والعطاس شديدًا، وتغطى باللحاف، وراح في غيبوبة، ولم يصحُ منها إلا في منتصف الليلة الثانية حين نظر في ساعته..
فلم يشعر بأصوات الجرذان ومطاردتها، ومشاركته في النبق، ولم يشعر بثعبان ضخم كان يطاردها ويتغذى عليها.. اكتشف كل ذلك عندما سمع صوت حركة الجرذان، وأشعل القداحة وارتعب من الثعبان ولكنه قتله، وتضايق من الحشرات؛ فهي كثيرة، وتساءل كيف قضى ليلته تلك وسط هذا الخطر؟ وتمتم إنها عناية الله..
نهض أبو زيد نشيطًا ونجا من ضربة البرد، وأكل ما قبلته نفسه من الدوم، وفتح الأكياس واحدًا تلو الآخر، وذهل من المبالغ التي بها؛ فقد كان في الأول مليون دولار أمريكي، وفي الثاني مليون درهم إماراتي، وفي الثالث مليون ريال سعودي، وانتابته لحظة صمت رهيبة، كادت أن تؤدي به إلى الجنون، فغاية حلمه عندما سافر هو مائة ألف ريال، فإذا بين يديه ما يقرب من ستة ملايين، وبعد أن أفاق من وقع المفاجأة، أخذ يفكر في كيفية استثمار هذا المال من غير أن يلفت إليه الأنظار، واهتدى إلى أن وجود مليون ريال مع مغترب لمدة عشر سنوات أمر يبدو معقولًا ومقبولًا، ولكن ماذا عن بقية المبالغ الأخرى؟ سألقي به في قعر هذه الغرفة المظلمة إلى أن تتوسع أعمالي، وأكتسب غطاء ماليًا واسعًا عندها سأظهرها..
استمر تساقط المطر لمدة أسبوع تقريبًا، وأهل القرى والبدو في هذه المنطقة يسمونها باسمها العربي الفصيح (ديمة)، وهم قد اعتادوا عليها، فقد تستمر أسبوعًا أو ثلاثة أيام، وكان أبو زيد يتسلل خلال الظلام في تلك الليالي المظلمة والممطرة ليجلب لنفسه النبق والماء، حتى خزن كمية من الماء والدوم تكفيه للمدة التي قرر الاختباء فيها..
بعد أسبوع أشرقت الشمس، وبدأت الحياة تدب في القرية، وبدأ يسمع أصواتًا لأطفال وكبار من حوله إلا أنه كان مرعوبًا من هذه الأصوات.. وذات يوم بينما كان يجلس في الغرفة الخارجية سمع صوتًا فنظر من خلال خصائص الباب، فإذا بغلام يطارد دجاجة في الحوش حتى أمسك بها، ثم ألقاها خارج السور، وأخذ يتفحص المكان، فإذا بآثار أقدام، وبعض حبات نبق على الأرض، فقرب نحو الباب ودفعه، ولكنه لم ينفتح، فنظر من خصائص الباب لعله يرى شيئًا بينما لصق أبو زيد بالجدار وحبس أنفاسه، وعندما ابتعد الغلام عن الباب وعلا السور، سمعه يخاطب أمه ويقول لها: فيه شخص دخل دار عمي أبي زيد، فردت عليه: مَنْ سيدخل دار عمك أبي زيد وهو مسافر وهي مغلقة؟ ألم تر الحوش مغلقًا من الخارج، ولكني وجدت دومًا في الحوش.. يمكن أحدًا شبع ورماها في الحوش، ويبدو أن الغلام الذكي لم يكن مقتنعًا بما قالت أمه، ولكنه وافقها، ونزل من السور..
بعد ليلتين سمع أبو زيد صوت رجل في الحوش، فنظر من شق الباب، فرأى سوادًا لم يتبينه، ثم بعد هنيهة إذا بسواد آخر يقفز من على السور، وتورمت أوداجه فقد يكون هؤلاء لصوصًا، وقد يلجأون إلى كسر الباب، ما هذا التفكير الغبي يا أبا زيد الذي دعاك إلى هذه الحبسة المشؤومة؟ كنت غادرت القرية ودفنت كنزك في أي حفرة، وعشت طليقًا في المدينة، أو في أي مكان آخر، وبينما كان يرتجف خوفًا لاحظ أن الشخصين جلسا متلاصقين جنبًا إلى جنب فإذا بهما عاشقان، فهدأ روعه، وأخذ يرقبهما من خلال خصائص الباب عندما انزاحت عن القمر بعض سحب هاربة، فكانا يطعمان بعضهما، وقالت الفتاة في دلال:
– أين الهدية التي وعدتني بها في المرة الماضية؟
– وتعذر لها بضيق اليد، ووعدها في المرة القادمة لن يخيب ظنها.
وعض أبو زيد على نواجذه، ثم إبهامه، وود لو رمى له بربطة بعشرة آلاف ريال؛ ليفي بوعده نحوها.. ولعن الفقر.
ولكن ذلك اللقاء العشقي لم يدم إلا ساعة؛ حيث أيقظ إحساس الطفل الذكي والده.
– أبي.. أبي.. منزل عمي أبي زيد يسرق.. وحاول والده يهدئه؛ ليعود لنومه، ولكنه أصر، فقام معه مرغمًا، وكان يلعن ويسب شقاوة ابنه ومجورة أبي زيد، وأحس العاشقان بالحركة، فقفز الشاب من السور، وعندما لاحظه الطفل وأبوه جروا وراءه في محاولة للإمساك به، واستغلت الفتاة مطاردتهم لعشيقها فانسلت عائدة إلى دارها، واعترت أبا زيد نوبة ضحك، كادت تفضحه عندما عاد الرجل وابنه وقفزا إلى داخل الحوش، ودفعا الباب وهزاه بعنف، فإذا به متماسك قوي، فعادا إلى منزلهما، وعندما أحست بهما أم الطفل تساءلت:
– أين كنتما؟ ما الذي حدث؟
– سارق كان يريد أن يسرق منزل أبي زيد.
– هذا الحين؟ أنتم مجانين أيش في منزل أبي زيد للسرقة؟! ما في منزل أبي زيد إلا الفقر، لو فيه رزق ما اغترب كل هذه المدة.
– نعم، والله له أكثر من عشر سنين.
– قل لنفسك.. تتبع الشيطان ابنك.
– ولكنا رأينا السارق يهرب وطاردناه.
– هذا سارق حاجة ثانية، مَنْ هو سارق منزل عمك أبي زيد؟
وقال الأب لابنه: نم.. نم.. أمك أخبر بالسرق منا.
توقع أبو زيد أن يأتي أهل القرية في الصباح، وخطر على باله أن يفر قبل أن ينكشف أمره، ولكنه أحس بما يشبه الحمى في جسده فالتف في لحافه، وقال لنفسه حتى لو كسروا الباب سأقول لهم عدت مع الفجر، وأن الحمى منعتني من الرد عليهم، وفي الصباح فعلًا حضر أهل القرية، ودخل بعضهم إلى الحوش، وصعد البعض الآخر إلى السطح، وتوقف العقلاء عند الباب، ودارت مناقشات واسعة حول كسر الباب، ورفض العقلاء الفكرة؛ لأنها مسؤولية، وطلبوا الشباب بالنزول من على السطح خوفًا من انهياره، خصوصًا بعد الأمطار الغزيرة، التي شهدتها المنطقة، وهز بعضهم الباب هزًا عنيفًا وكاد يخلعه.. كل ذلك يجري وأبو زيد يرتعش تحت لحافه حمَّى وهلعًا، وأخيرًا غادر الجميع المكان، ولم يبق إلا بعض الصبية يجرون على السطح محدثين ثقوبًا في السقف..
خشي أبو زيد من أن يتطور عبث الأطفال من ثقوب إلى فجوات تضر بالمنزل وتضر به، واصتكت أسنانه من البرد، وتلوى كحية أحست بالخطر، وشعر أنه في حاجة إلى كوب من الشاي أو القهوة الساخنة، ولكن أنَّى له ذلك؟ فقد مضى عليه ما يقرب من أسبوع وهو محبوس في هذه الغرفة.. ما هذا التفكير يا أبا زيد الذي أوقعك في هذه الورطة؟ الأكل دوم، والشراب ماء بارد من المطر أكثر من أسبوع، ولم يدخل بطنك شيء ساخن، إن استمر الحال على هذا الشكل طويلًا فقد تموت قبل أن تتمتع بالملايين.. ووطن نفسه على الصبر، واختصر المدة من شهر إلى أسبوعين، وأخذ يفكر في كيفية الاستثمار، وتراقصت أمامه الأحلام.. سيتزوج من أجمل فتاة في القرية أو القرى المجاورة، وسيحول المبلغ إلى السعودية، وسيتحول من بائع في محل إلى مستثمر، وسوف يوظف خبرته وعلاقته في هذا المجال ليصبح من كبار المستثمرين، وربما تزوج مرة ثانية من امرأة في السعودية، وحصل على الجنسية.. هذا المبلغ سينقلني نقلة كبيرة.. سوف أكون ندًا لباجخجخ، الذي كان يوسعني تأنيبًا وشتمًا سوف أضع رجلًا على رجل في وجهه بدلًا من أن كنت أجلس مستكينًا عند كرسيه.. أحلام وآمال كثيرة طافت بذهن أبي زيد وهو يرتعش تحت اللحاف..
بعد انقضاء الأسبوع الأول سمع صوت ماطور سيارة، فأشرف من النافذة الصغيرة بعين واحدة، فشاهد سيارة تقف عند منزل التاجر، وإذا بامرأة تسأل أخرى عن المسافرين، وأجابتها الأخرى:
– محد مسافرين؟
– إذن من أصحاب الموتر؟
– الباغشيش يدورون على أبيهم وأخيهم الكبير.
– ليش ضاعوا؟!
– لا.. قالوا طلعوا إلى القرية ببضاعة وما رجعوا ولهم أسبوع.
– ما هؤلاء كما الجن يأتون ويروحون ولا أحد يحس بهم، ولا يطعم رزقهم.
– أووه.. لك عافية حتى لو دخلت دارهم ما يقدمون لك الماء البارد.
– اقلعهم هم ورزقهم.
– ومن وقف على بابهم.. حفن دوم ولا رزقهم.
– كل رزقهم حرام من التهريب، واستغلال الناس.
– ولا عملوا معروفًا في واحد من أهل قريتنا، أو صلَّحوا شيئًا فيها.
ارتاح أبو زيد عند سماعه رأي أهل القرية في الباغشيش من خلال محادثة الامرأتين، فهم إذن يستحقون السرقة.. مع أنه كان يعلم قبل هذه المحادثة أن تكوين ثروتهم كان من طرق مشبوهة..
في نهاية الأسبوع الثاني من اختبائه استيقظ على أصوات نساء يندبن.. وبكاء وعويل.. فأرسل أذنه من خلال النافذة الصغيرة فإذا أحد النسوة تسأل عن سبب هذا البكاء، فإذا بالأخرى تجيبها الشيبة باغشيش وابنه الكبير وجدوهم أمواتًا بعد الدواس سقطت بهم السيارة..
لا حول ولا قوة إلا بالله.. اللهم استرنا.. الناس تجري وراء الدنيا، والموت يجري وراءهم.. لو معهم مثل هذا الجبل ما نفعهم..
استمع أبو زيد إلى تلك المحادثة بعناية، وخمن أن يكون سر الصندوق قد مات بموت دافنيه؛ لهذا فعندما يظهر بمظهر المغترب الموسر، والمتاجر في السوق فلن يشك أحد فيه، وقرر أن يظهر في منزله في صباح اليوم التالي، وأخذ يطرح على نفسه مشاريع لتطوير القرية إذا توسعت تجارته، سواء أكان ذلك في المدينة في وطنه، أو في الخارج في الإمارات أو السعودية، وأحس ببرودة واشتدت الحمى عليه، وحاول أن ينهض ليفتح الباب ويعلن عن وجوده في المنزل؛ فهو في حاجة إلى أكل وشراب دافئ، ولكنه لم يستطع، وذهب في غيبوبة لم يخرج منها ثانية إلا إلى القبر..
صعد عدة أطفال إلى سطح دار أبي زيد يبحثون عن كرة لهم على السطح، ونظر أحدهم من الكوة إلى داخل المنزل بداعي الفضول، فرأى شخصًا ممددًا تحت اللحاف، فصاح السارق في منزل عمي أبي زيد، وهرع أهل القرية ليتأكدوا من ذلك، وصعد أحد الشباب وتأكد من وجود شخص فعلًا داخل المنزل، وقرع الباب مرات ومرات، ولكن لا مجيب، عندها طلب شيخ القرية كسر الباب، وعندما دخلوا ورفعوا اللحاف تبين لهم موت أبي زيد، وفتشوا شنطته فوجدوا بها أمواس حلاقة، وصابون، وملابس قديمة، وكيس شكليت هدية الأطفال، ووجدوا في حزام حول خصره مبلغ عشرين ألف ريال …..، واستغربوا لموته.. متى جاء؟ وهل مرض؟ أو مات فجأة؟ واشتموا رائحة كريهة تنبعث من الغرفة الداخلية، وارتعبوا عندما شاهدوا الثعبان، ولكنهم اطمأنوا عندما رأوا النمل عليه.. لا دليل على أي شيء.. لقد مات أبو زيد بسر الصندوق..
ولكن..!
هل مات بسم الثعبان؟
هل مات من الجوع؟
هل مات من الفرح؟
هل مات من قهر الغربة وإهانة باجخجخ له؟