نقد
أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 10 .. ص 43
رابط العدد 10 : اضغط هنا
استخدام الفعل ودلالته في النصّ:
مثلما اتّخذت اللغة في شعر الشقّاع في مرحلة الثمانينيّات من ضمير (التكلّم) وسيلةً (للتعبير) عن مضامين الفكر ومحتويات الرؤية فقد وجدت في استخدام الفعل أداةً لجلاء المواقف وتجسيد الرؤى.
وسنحاول جلاء طرائق النصّ في تشكيل الفعل في بنية الكلام، ووظيفته النحويّة، ودلالته من خلال عددٍ من الأحكام ذات الصبغة النحويّة – الدلاليّة.
والفعل في العربيّة لا يكون إلا مسندًا.
فهو على هذا (عمدةٌ) في الكلام وليس (فضلةً).
وقد يكون لازمًا فيقتضي وجود فاعلٍ، ومكمّلات ولا غير. وقد يجيء متعدّيًا فيقتضي وجودَ فاعلٍ، ومفعولٍ به، ومكمّلات.
ولأهل النحو حديثٌ طويلٌ عن تشكّلاته في الجملة وفق منظور (نحو اللسان)، لا يشغلنا هنا ما دام شاغلنا هو طرائق استخدامه في شعر الشقّاع.
وإنّ النظر فيه ينبئ عن عدوله بالفعل من دائرة (العمدة) إلى دائرة (الفضلة) والمكمّلات ممّا يمنح الفعل في مظانِّ استخدامه من القصيدة وظيفةً نحويّةً، غير التي جرى بها العرف اللغويّ عند العرب. فهو يفرغ الفعل من وظيفته الإسناديّة ليمنحه وظيفة المكمّلات في الكلام؛ حيث يجيء حالًا أو نعتًا، قال في قصيدةٍ عنوانها (العائد):
يعود بأقماره الساهدة يهزّ مدينته الراقدة
يرتل مأساته في الظلام ويطلق أشواقه العائدة
في هذين البيتين اللذين تفتتح بهما القصيدة تتوالى أربعة أفعالٍ في صيغة الفعل المضارع (يعود/ يهزّ/ يرتّل/ يطلق)، وهي من جهة الصنعة النحويّة تبدو متساويةً من حيث الإسناد، لكنّها من جهة الوظيفة التي تؤدّيها في النص تبدو متخالفةً، فالفعل الأوّل (يعود) هو العمدة في الكلام، وهو يمثّل (النّواة) التي تتولّد عنها بقيّة الجمل، أمّا الأفعال الثلاثة الأخرى فهي أدخل في تبيان حال الفاعل المسند إلى فعل العودة عند حدوث الفعل، فبدت الأفعال الثلاثة في هيئة الحال، الذي يمكن تقديره بمشتقٍّ؛ لتستقيم الدلالة ويصحّ المعنى، وتتحوّل الأفعال الثلاثة من صيغة الفعل المضارع إلى صيغة الفعل الدائم، أو قل اسم الفاعل كما يقولون، وتصبح (هازًّا/ مرتِّلا/ مطلِقًا)، وتلك وظيفةٌ نحويّةٌ متولّدةٌ عن السياق.
يتراسل معه استخدام الفعل للدلالة على النعت؛ بسبب العدول به عن حدّ الإسناديّة، التي هي وظيفته في الكلام، قال:
هنا ولدٌ ذاهبٌ في الضياع سعيدٌ بشقوته الخالدة
تلاشى على عتبات الحجاز رمادًا من اليمن الواقدة
يتصدّر الفعلُ الماضي (تلاشى) البيتَ الثاني من هذين البيتين، وهو هنا لا يُستخدم للدلالة على الزمنيّة والحدثيّة، وإنّما يُستخدم لوظيفةٍ نحويّةٍ منبثقةٍ من السياق، وأعني بها صفة (التلاشي) في ذاتها، مثلما دلّت الصفتان الأوليان في البيت الأوّل من هذين البيتين، وهما صفة (الضّياع)، كما دلّ عليها قوله: (ذاهبٌ في الضّياع)، وصفة (السّعادة بالشّقاء)، كما أنبأ بها قوله: (سعيدٌ بشقوته الخالدة).
وليس استخدام الفعل للدلالة على النعت في صيغة الماضي من الاعتباطيّة في شيءٍ، فهو إلى القصديّة أدنى؛ من حيث إنّ الصفة دالة على ثبوت الحال واستقرار الهيئة، وكذلك هو النّاتج الدلاليّ لاستخدام الفعل في صيغة الماضي، فدنا بذلك من الاسميّة؛ من حيث انتفاء الزمنيّة والحدثيّة عنه في ثنايا الكلام.
وممّا يتصل بهذا الوادي دلالة الفعل -ماضيًا كان أم مضارعًا- على زمن وقوع الحدث، فهو في المضارع مثلًا “يدل في أكثر استعمالاته على وقوع الحدث في زمن التكلّم”، كما نصّت على ذلك كتب النّحو. وعدِّ هنا عن دلالته على المستقبل فهم شرطوها بعلاماتٍ تدلّ على الاستقبال كالسين وسوف، أو بحروفٍ تمحضه إلى المستقبل، منها (أنْ) وأخوات لها.
ولقد جرى استخدام الفعل المضارع في شعر الشقّاع للدلالة على وقوع الحدث في زمن التكلّم، كما في قوله:
يعود الأمس منهمرًا كأشعارٍ نواسيَّة
يؤرقني.. وقد كانت طيوف الأمس منسيّة
فيطرق كل أبوابي وأحزاني النحاسية
وهو استخدامٌ يقف عند حدّ الإخبار، ولا يكاد يتجاوزه إلى زمنٍ أشدّ انفساحًا:
أ- لانفتاحه على المطلق من الزمان كما في قوله:
قد يكشف المجهولُ عن أسراره لكن يظلُّ هناك شيءٌ لا يُرى
حيث يتجاوز الفعل هنا الدلالة على الوقوع في زمن التكلّم، فيدخل في الزمن المطلق غير المحدَّد بحاضرٍ آنيٍّ أو مستقبلٍ قريبٍ.
ب- أو لإفادته معنى التكرار المستمرّ، الذي تألفه العادة وتعتاده الألفة، كما في قوله:
لأنّ خيالها، ليلاً، يوافي أبيتُ على فراش من قوافي
كأغنيةٍ ترفرف في سمائي كلؤلؤةٍ لدى أحلى الضفافِ
هنا يتكرّر حدوث الفعل في ظرفٍ زمانيٍّ بعينه ممّا يفيد معنى الاستمراريّة ودلالة الاعتياد.
وقد يستخدم الفعل المضارع المجزوم بـ(لم) يتلوه الفعل المضارع المرفوع للدلالة على الزمن الماضي المنقطع. على أنّه ينزاح بوظيفة الفعل المضارع المرفوع من الدلالة على الحدثيّة والزمنيّة إلى وظيفة تبيان هيئة الفاعلين عند وقوع الفعل، وهو ما يبقي الدلالة الزمنيّة حاضرةً في النصّ، كما في قوله:
كأن لم نكنْ ذات يومٍ هـنـا نـدندنُ فـي نغمةٍ واحـدةْ
كأن لم نسرْ في العشايا معًا تحاصـرُنا الأعينُ الحاسدةْ
واستخدام الفعل الماضي مسبوقًا بـ(قد) يمحض الفعل للإيغال في المضيّ، لكنّه جاء على غير مدلوله في شعر الشقّاع؛ حيث دلّ الاستخدام على وقوع الحدث في زمانٍ يتّصل بالحاضر، كما في قوله:
يعود الأمس .. جنّيًا يداعب نهد إنسية
لقد أضنى مسافاتي لأن خطاه “عنسيّة”
لأنّ جذور أمسي -يا حنيني- غير أمسية
هنا (الحاضر) هو جوهر التجربة، ولذلك هيمن التعبير بالمضارع المرفوع؛ لدلالته على ذلك الحاضر – تكرّر استخدامه في النصّ ستَّ مرّاتٍ في حين جاء الفعل الماضي مسبوقًا بـ(قد) مرّتين فقط، إحداهما في البيت الثاني؛ للدلالة على الإيغال في المضيّ ولا غير (وقد كانت طيوف الأمس منسيّة)، والثانية هي التي نحن بصدد تحليلها.
وقع الفعل الماضي المنقطع (قد أضنى) تحت تأثير فاعليّة الفعل المضارع، فدلّ على استمراريّة الحدث من الماضي المنقطع إلى الحاضر المعيش، ولعلّه يمتدّ إلى المستقبل المنتظر، يدلّك على ذلك تعليل الحال بقوله: (خطاه عنسيّة – قوّة لا تعرف ضعفًا/ جذوره غير أمسيّة – متمدّدة في الحاضر ومستمرّة في القادم من عالم الغيب)، وهنا يتخطّى استخدام الزمن منظوره المتعيَّن في كتب النحو ومكوِّنات اللسان.
يقابله ضديًّا تحويل الزمن الحاضر إلى الزمن الماضي في قوله:
أسلو جحيم الذات أبحث خارجي فوجدتُ أنّ الآخرين هم الجحيمْ
مجيء الفعل الماضي (وجد) بعد فعلي المضارع (أسلو/ أبحث)، حوَّل زمن الفعلين من دلالة الحاضر إلى دلالة الماضي، وكأنّ الحدث فيهما تمّ في ذلك الزمن، ومن هنا اتّساق استخدام الفعل الماضي بعدهما في عجز البيت.
ولقد يتنازعان الهيمنة على الزمن، كما في قوله:
كأطياف “حبَّان” كـانت معي كأطياب “ميفعةٍ” تنفحُ
انتظمت الجملتان في إطار البنية التشبيهيّة على مستوى التخييل؛ من حيث (هي/ المحبوبة) مشبّهٌ، و(أطياف حبّان وأطياب ميفعة) مشبّهٌ به، وقامت الأداة (الكاف) بمحض العلاقة بينهما للتشابه. لكن العلاقة بين زمني كلّ جملةٍ جاءت متغايرةً من حيث دلالة الفعل الناسخ (كانت) على الزمن الماضي، ودلالة الفعل المضارع (تنفح) على الحال المستمر غير المنقطع.
أفضى استخدام الفعلين في صيغتين متخالفتين إلى شيءٍ من اللبس، على الرغم من اقتضاء عمليّة التشابه بين المرئيّات في صورة المحبوبة الانتظامَ في بنيةٍ زمنيّةٍ واحدةٍ. وعليه فهو إمّا استخدم الفعل المضارع (تنفح) في معنى الماضي، وإمّا استخدم الفعل الماضي (كانت) في معنى المضارع، وهو الأدقّ؛ لاتّساقه مع استخدام الأفعال في سياق النصّ، فهوى المحبوبة (يجرح)، وهي (تمرح)، وهو (يحسُّ بأنّها البلاد كما يقول لها)، وأنّها في دمه (تسبح)، وهي (تقول) له ما تقول (وحين يجدّ الهوى تمزح)، وهو (سيترك عزّان) لعلّه يربح بخسرانها ما دام لا يزيد على كونه ذبيحًا (يقبّل يد من يذبح)، ومن خارجه (تزأر الحادثات)، ومن داخله (شجنٌ ينبح)… إلى آخر ما هنالك.
سياقٌ تتوالى فيه الأفعال في صيغة المضارع، أفلا يتّسق معها تحوّل استخدام الفعل في صيغة الماضي إلى صيغة المضارع ولوجًا إلى معنى الديمومة والاستمرار، ونأيًا بها عن معنى القدم والانقطاع؟
وممّا يتصل بهذا إعماله الفعل الناسخ الذي لا عمل له، كما في قوله:
طلعتُها -كانت- ألوهيَّةً خطوتها -كانت- غناءً وطيبْ
في ضحكها أمومةٌ واشتهاءْ لصوتها -كـان- مذاق الحليبْ
فالأصل -كما يقتضي قانون اللسان ذلك- في (كان) إذا جاء بين متلازمين، وبصيغة الماضي، أن يكون زائدًا لا عمل له من جهة الصنعة النحويّة، أمّا من جهة الدلالة فهو يفيد معنى المضيّ والقِدم. وعليه فقد كان من المتوجّب أن يشتمل المبتدآت تقدّمت أو تأخّرت (طلعتها/ خطوتها/ مذاقُ الحليب) على أخبارٍ مرفوعةٍ أو مؤوّلةٍ بمرفوعٍ، لكن ّ خبرين منها جاءا منصوبين (ألوهيّة/ غناء وطيب)، وثالثهما -سيرًا على النسق- تأوّله بمنصوبٍ؛ لأنّ الكلام جرى على إعمال الناسخ في الجمل الثلاث.
ومثله قوله:
وجهها -كان- مظلة وسحاباتٍ مطلَّة
وبـروقـاً.. تـرعـش الآمـ ـال مـن أوّل وهـلـة
فقد أعملها ولا عمل لها في مثل هذا المقام. ومن هذا الباب قوله:
وحيدًا -كما كان بدء الزمان- يهرول في الطرق الجاحدة
فالأدقّ إجراء (المنصوب/ وحيدًا) هنا (مرفوعًا/ وحيدٌ)؛ لأنّه بالخبريّة أليق، وأمّا الناسخ فلا عمل له سوى الدلالة على انقطاع الحدث في زمنٍ سحيقٍ.
ومن ظواهر استخدام الفعل التي خرج فيها النصّ على مألوف القاعدة اللغويّة وتجاوز منطوقها:
– رفع المضارع المنصوب بإحدى أدوات النّصب، كما في قوله:
“عنترَ” يشعلُ حربًا كي يلاقيْ وجه “عبلة”
فيا وعدها آن أن نلتقيْ ويا شغفى آن لي أن أبوح
دعيني أحاول أن أنتهيْ ليبدأ هذا النشيد “المعيني”
– رفع المجزوم، كما في قوله:
هاتف بالباب يستعجلني فدعيني أعزفُ اللحنَ الأخيرا
دعيني أحاول أن أنتهي ليبدأ هذا النشيد “المعيني”
ومنه إجراء اسم الشّرط الجازم (مَنْ) في معنى الاسم الموصول غير الجازم (مَنْ)، ممّا يقتضي رفع المضارع في موضع الجزم، كما في قوله:
مَنْ يريد الموت: هذا وقته فعلى كل فتى أن يستعدْ
مَنْ يشبُّ الحلم لن يبلغه مَنْ يريد الحبَّ -حتما- لن يجدْ
– نصب الفعل المرفوع دون مسوّغٍ، كما في قوله:
ومضةً ترديَ الرَّدى فكرةً تسقط العروشْ
ويماثله جزم المرفوع دون مسوّغٍ للرفع، كما في قوله:
أحب المحبَّةَ في ذاتها كذا يكن الحبُّ .. أو لا يكونْ
ويقتضي التعبير (بالفعل) استخدامه على أصل صيغته بالبناء للمعلوم، فيتجلّى الفاعل في الجملة كائنًا ما كان الفعل لازمًا أو متعديًّا. وهو الشائع في شعر الشقّاع. فالفعل في جمل أبيات قصائده في هذه المرحلة يجري على النحو الآتي:
إمّا أن يكون الفعل مسندًا، وفاعله هو الذّات المتكلِّمة في النصّ، وهنا يدخل التركيب في دوائر الاعتراف، كما في قوله:
أرنو فتصفعني الكـُوى أمشي فيمضغني الرَّصيفْ
أو في دوائر النجوى، كما في قوله:
أهمي، كدمع الليلة المتحدِّرِ وأجفُّ –وحدي- كالصباح الأصفرِ
قدر علي: بداية ونهاية أن أعبر النهر الذي لم تعبري
أمتصُّ غربة عالم متوجع وأذوقُ خيبة عالم متوتر
أو استدرار عطف الآخرين من خلال إظهار ضعفها، كما في قوله:
ناءٍ على هذا الطريق النائي أنهدٌّ من ألفي الحزين ليائي
أو إظهار حالاتها المعنويّة وتناقضاتها الجوّانيّة، كما في قوله:
أحاور عاصفة في جذوري واقرأ زلزلة في يقيني
فأنكش شعري عن مطلع ٍ وأستلّ قافية من جبيني
أو في دوائر التعاطف الإنسانيّ، كما في قوله:
وأحسّ أنّى في الجسوم ممزقٌ فكأنما كل الورى أشلائي
أو التعالي بصنيعها، كما في قوله:
فأبثُّ في قلب الجميع محبّةً خضراءَ للأحباب والأعداءِ
أو في دوائر التحدّي، كما في قوله:
سآتيكِ من لغةٍ حرَّة تمرُّ على صخرتي ورفاتي
سأدخل كهفي لأقرأ حتفي وأنقضُّ : عاصفةً في دواةِ
وإمّا أن يكون الفعل مسندًا وفاعله الآخر، والذات تعرفه وتحدّق فيه وفي فعله، فينفتح التركيب على دلالات متنوعة:
كالإدانة في قوله:
قتل الزمانُ بقلب كلٍّ خلَّـه فحبيبتي ثكلى وشاعرها يتيمْ
تتسرّب اللحظات بين أصابعي فكأنّ عمري كائنٌ من ماءِ
أو إبراز قوّة (الفاعل/ الآخر) على اجتراح الأفعال، التي تصيب سهامها الذات، كما في قوله:
يعود الأمس منهمرًا كأشعارٍ نواسيَّة
يؤرّقني.. وقد كانت طيوف الأمس منسيّة
فيطرق كل أبوابي وأحزاني النحاسية
ويزرعني هوى “حقات” أو نجوى “قلنسية”([1])
ولقد يعمد إلى توالي الأفعال، وتنوّع الفاعلين؛ لبيان أثر ذلك على وجدان المتكلّم، كما في قوله:
نادى العبيرُ
فسرتُ خلف ندائه
لكنّ بابَك والطريقَ تنكّرا
فتفرّق الأملُ الجميلُ شراذمًا عبر الشّوارع
والعذابُ تجمهرا
هنا خمسة أفعالٍ، لكلّ فعلٍ منها فاعله الذي ينماز من الآخر في دلالته، ففي حين يوحي نداء العبير باستجلاب البهجة ممّا أفضى إلى سير الذات خلفه أملًا في الظَّفَرِ بها، وتنظّرًا لها، يوحي تنكّر وسيلة الظفر بالمشتهى (الباب والطريق) بالجفوة والصدّ، وهو ما يفضي إلى فعلين تتكامل بهما الدلالة، وهما (تفرّق الأمل شراذم، وتجمهر العذاب)، وهنا تتكامل الدلالة من خلال التضاد بين ما هو كائنٌ وما ينبغي أن يكون، بين الموجود المشهود، والمأمول المنشود.
بيد أنّ (اللسان) قد أذن باستخدام الفعل مغيّرة صيغته بالبناء للمجهول، فعمد (النصّ) إلى توظيفه في مظانّ منه وإن قلّت في قصائد الشقّاع في هذه المرحلة من تاريخ تجربته الإبداعيّة. فقد دلّ الإحصاء على أنّها لا تزيد عن الثلاثة المواضع عددًا، لكنّ لها بعدها الدلاليّ، ففي قوله:
نـاقـة الله التي مـا عُـقِرَتْ يـتـولّـى حلبَها (سامٍ) و(بولْ)
يُستخدم الفعل في صيغة البناء للمجهول؛ للدلالة على تعظيم المفعول به وإجلاله، ولذلك تعذّر العثور على فاعلٍ ينهض بالفعل، ولو كان كأشقى ثمود، هذا في الزمن الماضي، أمّا في الزمن الحاضر فالفاعل ظاهر ومحدّد ومدرك بكلّ وسائل الإدراك، فبدت الناقة ممتهنةً (تحضر في الشطر الثاني بضميرها/ ها)، ويتجسّد الفاعل الذي يستبدّ بها (سامٍ وبول)؛ للدلالة على تحقير الشأن.
أمّا في قوله:
عاشق من أول الحزن أتى عندما يُطفَأُ -شوقًا- يتوهج
ناره يمتشق الموج بها صمته أنشودة السِّيف المضرَّج
فإنّ الفعل المضارع في البيت الأوّل (يُطْفَأُ) يقوم بدور المولِّد الدلاليّ في الجملة، وقد جاء مغيّرةً صيغته بالبناء للمجهول ممّا أسهم في إضمار الفاعل، واندغام المفعول به في مقام الفاعليّة تعظيمًا للشأن. فإذا عدنا بالجملة إلى بنيتها العميقة، التي لم تتجلَّ على سطحٍ لغويٍّ ظهر لنا أنّ (العاشق) شمسٌ، رام الآخرون أن يطفئوها، فهي إذًا واقعةٌ في مقام المفعوليّة، وتلك دونيّةٌ يأباها (الإبداع) ولا يقبل بها، فاستعاض عنها بإضمار الفاعلين، الذين أبوا إلا نفيه وإلغاء وجوده، فغيّر في صيغة الفعل المضارع؛ ليتمكّن المفعول به من الصعود إلى مقام الفاعليّة، وهو ما يسّر من بعدُ تجلّيَ فعل جواب الشّرط (يتوهّج) في صيغة البناء للمعلوم؛ لتتسق الفاعليّتان في مقامٍ واحدٍ.
أمّا في قوله: (ناره يُمتشق الموج بها) فقد أمكن تغيير صيغة الفعل من الارتقاء بحال الأشياء من منظورها الطبيعيّ؛ لتكتسب منظورًا أسطوريًّا، أو ما هو أدخل في عوالمه.
وثمّة موضعٌ ثالثٌ جاءت صيغة الفعل فيه مغيّرةً بالبناء للمجهول، وهو قوله:
استبدت “هندُ” يا قلبُ اتئدْ بُدِّل العجزُ بعجزٍ مُستَبدْ
(بدِّلَ العجزُ بعجزٍ…). الأصل في الفعل (بدل) -بالبناء للمعلوم أو بالبناء للمجهول سيّان- أن يتّصل حرف الجرّ (الباء) فيه بالمتروك من الأسماء، ولكنّ الإبداع آثر استخدامه كما أجازه اللسان العربيّ في عصره الحديث. أتراهم لهذا أجازوا قول شوقيّ:
أنا من بدَّلَ بالكتب الصّحابا لم أجد لي وافيًا إلا الكتابا
والمتروك هنا هم الصّحاب وليس الكتاب؟ وكذلك هو في بيت الشقّاع، لكنّ البعد الدلاليّ في بيته ظاهرٌ غير ملغيٍّ من جهتين.
أولاهما: التقابل الضدّيّ بين (الأهون) و(الأعظم)، فالعجز غير الموصوف أهون عن العجز المُسْتَبِد.
وثانيهما: من جهة الفاعليّة، فليست الأهمّية هنا لعمليّة االتبديل، ولكنها للفاعل الناهض بالفعل، والمفعول به الذي حلّ في مكانه آخرٍ، ومن هنا قيمة الاستخدام ودلالته.
ومن قبل قيل: “وإذا خرج الكلام عن حدّ الإمكان فإنّما يراد به بلوغ الغاية لا غير ذلك”. وإنّ فيما سلف غنيةً فلنلقِ نظرةً على
الأساليب الإنشائيّة في قصائده:
وإنّ الأغلب عليها في هذه المرحلة شيوع (المتكلّم)، الذي يفضي بما في النفس، فهيمن الخبر على النصّ، وبدا التعبير باليقين ناتجًا عن ألفةٍ للمعنى، ومكاشفةٍ للمفهوم، فتماهى المنطوق بالخبر؛ لأنّ غاية النصّ الإفضاء، والإخبار.
لكنّ مظانَّ منه ندَّ فيها التعبير عن موجعات النفس، وتسلياتها بالخبر، فتوسّل بالإنشاء؛ لإظهار المكنون فيها، ولجلاء الرؤية للحياة. فانتقى الإبداع صورًا من الأساليب الإنشائيّة، ونوّع في طرائق استخدامه إيّاها، فتنوّعت دلالتها في النصّ.
ومن الصور التي تنقّاها (الاستفهام/ الأمر/ النداء/ النهي والتمنّي وهما قليلا الاستخدام).
أمّا عن طرائق استخدامها فمنها ما جاء في مطالع قصائده مفتتحًا بها أبياتها، كما في قوله:
ساعديني على النوى يا أمينه قلق اليوم فوق ما تعهدينه
وهو أمرٌ. ومثل قوله:
ماذا تريد؟ ومن تراوِدْ أنت المطارَدُ والمطارِدْ
وهو استفهام. وكقوله:
أيّها النّائم في حضن الجبلْ أعطِ للنائي عناوين الأملْ
وهو نداءٌ مشفوعٌ بأمرٍ. وكقوله:
لا تقابلني بقلبٍ منفتِحْ أيّها الوقتُ أرحني واسترِحْ
وهو نهيٌ مشفوعٌ بنداءٍ وأمر.
لكنّه لم يقتصر على استخدام تلك الأساليب في مطالع قصائده، بل جاء بصورٍ من الإنشاء في متونها أحدثت نوعًا من النغم المغاير للنغم الذي تولّده مكوّنات الأسلوب الخبريّ في الكلام. وهذا واحدٌ من العوامل التي تسهم في تشكيل الأساليب الإنشائيّة، وأعني به العامل الصوتيّ، وقريبٌ منه العامل النحويّ والصرفيّ؛ من حيث إنّ لهذه الأساليب أدواتٍ تحدّد هويّتها اللغويّة كالنداء، والاستفهام، والنهي، وصيغًا صرفيّة تختصّ بها كالأمر، والتعجّب، وما أشبه هذا.
وفي كتاب (خصائص الأسلوب في الشوقيّات) للدكتور محمّد الهادي الطرابلسيّ تفصيلُ ما أجمل هنا فلينظره في مظانّه من رام التفصيل. أمّا نحن فماضون في تقرّي طرائق استخدام هذه الأساليب في شعر الشقّاع، كما أنبأت قصائده، وسنبدأ أوّل ما سنبدأ بـ
النداء:
لا تخطئ عين الناظر في شعر الشقّاع شيوع دال (النداء) فعلًا وصيغةً، فقد تكرّر الفعل في مظانّ منه متعدّدة، ومتنوّعة، كما في قوله:
– …. … … … أناديكِ لكن بلا فائدة
– أناديك والصّمتُ ما بيننا … … …
– أناديكِ قبل انسدال السّتار … … …
– كانت تناديني وكنتُ المجيبْ … … …
– كم أناديكَ ولكن لم تُجِبْ … … …
– … … … أناديكِ أنت فيأتي سواكْ.
وفي هذا ما ينبئ عن أنّ المساحات والمسافات بين الذات المرسومة في النصّ، والآخرين رحيبةٌ تتطلّب مدّ الصوت، ورفعه بالنداء؛ ليبلغ الآخر، فيلتفت إلى مصدره، فيقبل عليه.
ولعلّ هذا الناتج الدلاليّ كان وراء استخدام الإبداع صيغةَ النداء في القصيدة على صورٍ من التشكيل متنوّعة.
ولقد نادى الشقّاع أعلامًا ولو في إطار الرمز ودائرة الاستخدام المجازيّ، مثل قوله:
– أيُّ شيءٍ لديك غير الأماني يا حنانُ اذهبي دعيني أعاني
– وهنا السّماء تحجّرت وفِّرْ نداءك يا بلالْ
مثلما نادى صفات في شخوص:
– عيناك عندي فرصةٌ للرحيلْ يا حلوةً تجيء عند المقيلْ
– هل أشبُّ الغرامَ كي تفهميني أنتِ يا ربّة الجمال الحزينِ؟
– أيا حضرميّة همّي بعيدٌ بعيد وخطوي قصيرٌ قصيرْ
ولقد يجيء المنادى في بنية (المستعار) منزاحًا به عن بنية المنادى (المشبّه)، الذي جرى استخدامه في نحو اللسان، قال:
لم أعد يا حمامتي وصباحي ذلك الشّاعر الذي تعرفينه
فالمحبوبة -وهي في الأصل المنادى- خفيت في المقولة اللغويّة، وهي هنا في مقام المستعار له، وحلّ محلَّها المستعار (حمامتي وصباحي) في إطار بنية الاستعارة التصريحيّة. ومن بابه قوله:
يا وجهَ مَنْ أحببتُ يا قمرًا يطلّ على التّلالْ
حيث الوجه مستعارٌ له والقمر في مقام المستعار، وقد ناداه بعد مناداته (الوجه)؛ للحثّ على الإقبال، والالتفات إلى صوت المنادي الحائر في أمور الزمان:
أصبحتَ مألوفًا .. ومكشوفًا .. فما بال الجمال؟
ولقد يستخدم المنادى في شعر الشقّاع مصحوبًا بأمرٍ أو نهيٍ، كما جرى به الاستعمال في نحو اللسان، كما في قوله:
– … … … يا حنانُ اذهبي دعيني أعاني
– والحزن يعزفني .. فيا أرجاءَ روحي ردّدي
– استبدّت هند يا قلبُ اتّئدْ … … …
ولقد يتقدّم الأمر، أو النهي على المنادى في مظانّ من شعره مخالفة لما جرى به الاستعمال في نحو اللسان، كقوله:
– ساعديني على النوى يا أمينة … … …
– لا تفتحي الأبواب يا رجائي فهذه آخرة الدّروبِ
– لا تقابلني بقلبٍ منفتِحْ أيُّها الوقتُ أرحني واسترِحْ
على أنّه يكثر من استخدام المنادى مصحوبًا بالخبر على غير ما جرى به الاستعمال في نحو اللسان، كما في قوله:
– طالبتي همّي بلا آخرٍ وأغنياتي رحلةٌ في الأصيلْ
– أيُّها الحلمُ الذي ضيّعته كدتُ ألقاك صباحًا عند إبْ
وهنا يتحوّل المنادى إلى أذن تصغي لنجوى المنادي، وهمسه بما في الوجدان.
أو يجيء المنادى النكرة مصحوبًا بجملةٍ خبريّةٍ، هي في معنى النعت له، ممّا يدخل النداء في دائرة التعجّب:
– … … … يا حلوةً تجيء عند المقيلْ
ولقد يستخدم النداء للتعجّب بأسلوب النّدبة، كما في قوله:
نوّارُ ضاعت من يدي يا لانهيار المعبدِ!
فالمتعجّب منه هنا هو المستغاث له، لكنّه أشرب معنى التعجّب من ذاته ومن صفته؛ حيث الأصل فيه: يا للمعبد المنهار! وكأنّما استغاث بالآخرين له من جهةٍ، وتعجّب من انهياره، وهو الكيان الضّخم من جهةٍ أخرى.
ولعلّه لهذا وجد النصّ سبيله إلى التعجّب منفتحًا، فمضى إلى قوله:
يا حيرةَ الأقمار في الأفق تبحث عن غدِ
يا نبتة الحسراتِ في الليل القديم المرعدِ
… إلى آخر ما هنالك من ذلك.
ولقد ينزل المنادى البعيدة منزلته من القلب منزلة المنادى القريب حين يستخدم أداة النداء (يا)، كما في قوله:
ألن تستحرّي ولو مرّةً بنار الأناشيد يا باردة
حيث المرأة الموصوفة بالبرودة قد لفظها القلب بعد أن تنكّرت له، وهجرت المحيط الجسور الغيور؛ لتقعي على البركة الراكدة، فهو بعدٌ معنويٌّ، لا يلائمه استخدام الأداة (يا) وإن نودي بها البعيد. لكنّ في قوله:
أيا حضرميّةُ همّي بعيدٌ بعيد وخطوي قصيرٌ قصيرْ
إنزالا للمنادى القريبة منزلته من القلب -تدلّ عليها هذه النجوى، ويؤكّدها هذا الهمس- منزلةَ المنادى البعيد الذي لا يظفر به:
أجوب المكلا بهذا الغناء كراعٍ يغازل بنت الأمير
وهنا تماهى القرب المعنويّ مع البعد الحسّيّ من جهة أنّ الوصل أمرٌ صعبٌ إن لم يكن مستحيلًا، فتلاءم شكل التعبير مع دلالة السياق.
ولقد يتوالى المنادى في إطار التشخيص، كما في قوله:
فيا وعدها آن أن نلتقي
ويا شغفي آن لي أن أبوح
ويا سحرها كيف في لحظةٍ منحتَ القصائد جسمًا وروح
ويا آخر الحزن فلتنطفئْ ليشرق هذا الغرام الطّموح
فيتجلّى المنادى في مقام (البهجة)، وفي مقام (الحبّ)، وفي مقام (التعظيم)، وفي مقام (الترجّي).
وكما وضع المنادى في مفتتح البيت وضع في مختتمه، فجاء في عجزه، كما في قوله:
هل أشبّ الغرام كي تفهميني أنتِ يا ربّة الجمال الحزينِ
جدّدي نكهة الزمان .. تمشّي في دمائي .. يا نكهة الياسمينة
ألن تستحرّي ولو مرّةً بنار الأناشيد .. يا باردة؟
وهنا يتراءى النداء صرخةً في فضاءٍ، تظلّ تتردّد فيه علّه يصل إلى سمع المنادى، فيجيب طلبًا، ويلبّي نداءً.
الأمر:
أسلوب الأمر صورةٌ من صور التفاعل بين المرسِل والمرسَل إليه؛ إذ يقتضي وجودُ الآمر وجودَ مأمورٍ ومأمورٍ به، وهو الفعل المطلوب إنجازه. والأصل في شعر الشقّاع أنّه يجلو تجربة ذاتٍ في مكابدة الوجود، وينثّ صور معاناتها لبلوغ المنشود. فلا سبيل فيه لاستخدام (الأمر)؛ من حيث يقوم على علاقة استعلاء وإلزام، ومن هنا قلّ في قصائده وإن لم تخل من مظاهره التي تشكّلت فيها على طرائق، وسمتها بالخصوصيّة، التي تميّز نصًّا من نصٍّ حتّى وإن اتّفق مع آخرين في عمليّة اختياره هذا المكوّن الأسلوبيّ وتوظيفه فيها.
وبتدبّر طرائقه في استخدام (الأمر) في شعره نجد أنّه يستخدمه مع مسندٍ إليه مفردٍ ولا غير، على خلاف ما نجده في أشعار سواه من شعراء العربيّة في الأوّلين والآخرين. فامرؤ القيس استخدم الأمر مع مسند إليه مثنّى في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ … … …
والشنفرى استخدمه مع مسندٍ إليه جمعٍ في قوله:
أقيموا بني أمّي صدور مطيِّكم فإنّي إلى قومٍ سواكم لأميلُ
وفي تاريخ الشعرية العربية ترسُّمٌ لخطاهما على حسب اقتضاء السياق، حتّى غدا القول نمطًا مكرورًا. أمّا في شعر الشقّاع فالمسند إليه في فعل الأمر مفردٌ عددًا، لا يكاد يتجاوزه إلى سواه قطُّ. قال:
– أيُّها النائم في حضن الجبل أعط للنائي عناوين الأمل
حطَّ عن كاهله يا حلمه ذلك الحزن الذي لا يحتمل
– احمل الورد للذي كنتَ عيده ودعِ الحزن للقلوب الوحيده
الصحافات سلوةٌ؟ فلأجرّبْ كان لبنانُ جثّةً في جريده
… إلى آخر ما هنالك.
ويتنوّع المسند إليه المفرد من حيث الجنس بين مذكّرٍ ومؤنّثٍ، فإذا قال في موضعٍ:
ساعديني على النوى يا أمينه … … …
قال في آخر:
… … … وفّرْ نداءك يا بلالْ
وقد يتعيّن لديه المسند إليه دلّ عليه المنادى، وقد لا يتعيّن فيبدو عامًّا غير محدَّدٍ، كما في قوله:
خذْ دمي هجمة الوحوش وانفعالا بلا رتوش
أنتَ يا من أحبّه أعطني وجهك البشوش
ولقد يجيء المسند إليه في مقام التجريد، ويستوي فيه أنْ يكون السياق للذات المتكلّمة، كما في قوله:
فارجع لمن صانت هواك لدى الخطوب لعلَّها
أو في سياق الذات المخاطبة؛ حيث يشتقّ من المؤنّث -وهو المأمور الواقعيّ، والمختصّ بالخطاب- مخاطبًا مذكّرًا، فيجعله مأمورًا نصيًّا، يتجلّى في الخطاب الشعريّ، فيناديه ويأمره. قال:
أيُّها النائم في حضن الجبل أعط للنائي عناوين الأمل
ولقد توزّع الأمر في قصائده بين المطالع والمتون، لكنّه جاء في الأغلب جزئيًّا ومتفرّقًا في مظانّ متنوّعة ما خلا قصيدة (الياسمينة)؛ حيث توالت أفعال الأمر في سياقٍ لغويٍّ متّصلٍ:
ساعديني على تجاوز وضعي وتخطّي كلّ الظروف المهينة
امنحيني طفولتي من جديدٍ
برّدي هذه الهموم السخينة
احمليني على حواري المكلا
أرجعيني إلى عشايا دثينة
جدّدي نكهة الزمان..
تمشّي في دمائي يا نكهة الياسمينة
تتوالى أفعال (الأمر) هنا مفصولةً غير موصولةٍ. ويذكر علماء بلاغة اللسان مواضعَ ثلاثةً يجب فيها الفصل دون الوصل في الكلام، هي:
أ) أن يكون بين الجملتين اتّحادٌ تامّ، كأنْ تكون الثانية توكيدًا للأولى، أو بدلًا منها، أو بيانًا لها. ويجري الحديث هنا عن كمال الاتصال.
ب) أن يكون بين الجملتين تباينٌ تامّ، كأنْ تختلفا خبرًا وإنشاءً، أو تتنافرا؛ إذ لا مناسبة بينهما. ويجري الحديث هنا عن كمال الانقطاع أو الانفصال.
ج) أن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤالٍ، اشتملت عليه الجملة الأولى. ويجري الحديث هنا عن شبه كمال الاتصال.
عمد النصّ هنا إلى الانزياح بالمكوِّن الأسلوبيّ عمّا جرى به العرف اللغويّ في بلاغة اللسان ليصنع بلاغته، ويبين عن جرأته في انتهاك قواعد اللغة وسننها المرسومة. وليس لنا من حقٍّ في أن نسأل: لماذا؟ فللشعراء أن يقولوا، وعلينا أن نتأوّل، كما قال الفرزدق يومًا. ولهذا ترانا نعيد النظر كرّة أخرى في أفعال (الأمر)، كما اشتملت عليها الأبياتُ السالفُ ذِكْرها؛ لنتبيّن طبيعة السّياق، الذي وضعت فيه، ودلالة استخدامها على ذلك النحو.
والحقّ أنّ أفعال الأمر هنا وإن تشكّلت في بنية الأسلوب الإنشائيّ (الأمر) فإنّها انتظمت في سياق البثّ الوجدانيّ، فليس من غايتها طلب الفعل على وجه لاستعلاء والإلزام، ووجوب التنفيذ والتحقيق، ولكنّها تتغيّا الإفضاء بما في النفس من اشتهاءٍ ورغبةٍ في البوح. وفي هذا السياق انشطر البثّ إلى وحدتين دلاليّتين متراسلتين، قصدت إحداهما إلى الحديث عن المستقبل المأمول، الذي قد يكون وقد لا يكون، وهو ما دلّت عليه الأفعال (امنحيني طفولتي/ احمليني إلى حواري المكلا/ أرجعيني إلى عشايا دثينة/ تمشّي في دمائي…). في حين قصدت ثانيتهما إلى الحديث عن معاناة الذات في واقعٍ حاضرٍ مأزومٍ، تتلمّس السبيل إلى الخلاص منه من بعد ما أنشب فيها مخالبه، وهو ما تشير إليه الأفعال (ساعديني على تجاوز وضعي، وإنّما تُطلب المساعدة لتجاوز الوضع القائم بالفعل حين يسوء ظاهره، ويقبح مخبره/ برّدي هذه الهموم السّخينة، وإنّما يُنشد تبريد الحرارة حين يرتفع مؤشّرها إلى حدٍّ لا يطاق، ذاك في الحرارة الحسيّة، فما بالك والحرارة معنويّة تكوي الجوف نيرانها المحرقة/ جدّدي نكهة الزمان، وإنّما يُلِحُّ طلبُ تجديد الرائحة حين تزداد العفونة انتشارًا، وتستحيل الأطيابُ العطرة إلى روائحَ مستكرهةٍ). وهنا تتلاشى دلالة فعل الأمر على الاستعلاء والإلزام وإن احتفظت بصيغته اللغويّة الدّالّة على النسيج الآمر. وهي هنا لا تتجاوز أبرز صيغه، وهي صيغة (افعل) وما ماثلها من صوره المتنوّعة صرفيًّا مثل: (فاعِلْ)، و(فعِّلْ)، و(أفْعِلْ…). ولقد جاءت صيغة المضارع المقرون بلام الأمر في مظانّ محدودةٍ، وخلا متنُ القصائد من بقايا صيغ (الأمر) المذكورة في بلاغة اللسان.
والعلّة في قلّة استخدام هذا المكوّن الأسلوبيّ في شعر الشقّاع في هذه المرحلة من تاريخه الإبداعيّ هو انصرافه إلى موجعاته، وما أكثرَها! وانشغاله بتسلياته، وما أقلَّها! دون النظر في السياقات الاجتماعيّة على اختلاف صورها ففيها تتنوّع المعاني، وتتعدّد الدلالات، ويكون (للأمر) بكلّ صيغه حضوره البارز في متن النصوص. وحسبك ما تجده في شعر شوقي وأضرابه مثلًا على ذلك، وفيه دلالةٌ على الهُويّة الإبداعيّة لشعر الشقّاع، وهو ما لا يخطئ اللبيب إدراكه.
الاستفهام:
هو عند العرب بمعنى الاستخبار، والمقصود به »طلب خبر ما ليس عند المستخبر«. لكنّ ابن فارس في (الصّاحبيّ) يفرّق بين المصطلحين بـ»أنّ أولى الحالين استخبارًا؛ لأنّك تستخبر فتجاب بشيءٍ، فربّما فهمتَه، وربّما لم تفهمه، فإذا سألتَ ثانيةً فأنت مستفهمٌ«.
وهو يذهب إلى أنّ »جملة باب الاستخبار أن يكون ظاهره مطابقًا لباطنه«. وهنا يتّصل معناه بمفهوم التّداوليّ في البنية اللغويّة؛ حيث تبدأ العمليّة الكلاميّة بسؤالٍ يردّ عليه بجوابٍ، على نحوٍ ممّا ذكره جميلُ بن معمرٍ في حديثه عن أوّل ما قاد المودّة بينه وبين بثينة بوادي بغيضٍ حين قال:
فقلتُ لها قولًا فجاءت بمثله لكلّ سؤالٍ يا بثينَ جوابُ
فيكون الجوابُ مطابقًا للمقصود من السؤال. ولعلّه جرى مثل هذا الاستخدام التداوليّ للاستفهام في بعض شعر الشقّاع في هذه المرحلة. قال في قصيدةٍ حواريّةٍ:
– كيف جئتَ الآن؟
* من داخله. دائمًا يبقى جزيءٌ لا يضارْ
إنْ أكن اصفرّ يا جدب المنى
من هشيمي سوف يأتي الاخضرار
– والغرام الحلو هل تتركه؟ بعدما درت بذيّاك المدار
* لم أكن في الحبّ إلا هاويًا مثلما يرسم طفلٌ في جدار
بيد أنّ هذا الاستخدام التداوليّ لبنية الاستفهام لا تصلح في الإبداع الشعريّ؛ من حيث هي مكوّنٌ أسلوبيٌّ، يقوم بوظيفةٍ في ثنايا الكلام. وفي شعر الشقّاع كما في سواه خروجٌ على ذلك النسق المحدود، فتنساح البنية اللغويّة بدلالتها وظيفةً وتشكّلًا ومعانيَ متنوّعةً.
ومن الحقّ أنّ القول بخروج بنية الاستفهام على معنى الاستخبار إلى سياقاتٍ دلاليّة متنوّعة هو من البداهة بمكانٍ، فلا يحوج إلى تبصّرٍ؛ لأنّه أظهر ما يكون. فالشقّاع حين يقول:
إنّي أفتّشُ عن معانٍ للغرام.. فما أضيف؟
يشي الاستفهام هنا بدلالة الحيرة. أمّا حين يقول:
أنت لم تقوَ على حزن الصِّبا من يقوّيك على حزن الكبار؟
تمنح البنية الاستفهاميّة دلالة التّعظيم. لكنّه حين يقول:
أيكون حظّك أن تموت وأنت ترجو وصلَها؟
تمنح البنية الاستفهاميّة دلالة الدعاء، في حين أنّها تنتج دلالة التقرير ودلالة الاستبعاد في قوله:
أولم تكن طفلا لديها؟ كيف تسلو طفلَها؟
بيد أنّ طرافة الاستخدام تأتي من جهة النظر في طرائق استخدام بعض أدوات الاستفهام في شعر الشقّاع وما اتسمت به من صور الانزياح بدلالتها عمّا أُثِرَ في بلاغة اللسان وأَلِفَه متلقّوها من زمنٍ بعيدٍ. فالإجماع كائنٌ على أنّ أداة الاستفهام (كيف)، إنّما تُستخدم للسؤال عن الحال، أو الهيئة، التي حدث بها الفعل المستفهم عنه، أو ما أشبه هذا وذاك. لكنّها في شعر الشقّاع تعدل عن هذه الدلالة لتمنح دلالةً سياقيّةً، هي إلى التعجّب أقرب منها إلى سواها. قال:
– ويا سحرها: كيف في لحظةٍ منحتَ القصائدَ جسمًا وروحْ؟
– وكيف يكون قدّامي وممنوعًا من اللمسِ؟
– كيف انتهى حزني لديها وما زال على الأفقِ دخانٌ ثقيلْ؟
… إلى آخر ما هنالك من نظائره.
وصورةٌ من صوره الخروجُ بالأداة (هل)، و(الهمزة) عن دلالتيهما في أصل اللسان. فأهل اللغة يذهبون إلى أنّ (الهمزة) يُستفهم بها عن التصوّر والتصديق، أمّا (هل) فلطلب التصديق الإيجابيّ دون التصوّر ودون التصديق السلبيّ. ولقد جرى استخدامهما في شعر الشقّاع على تينك الدلالتين. قال:
ألن تستحرّي ولو مرّةً بنار الأناشيد؟ يا باردة
هل أشبُّ الغرامَ كي تفهميني؟ أنتِ يا ربّةَ الجمال الحزينِ
… لكنّه في مظانّ يحلّ (الهمزة) في موضعٍ يقتضي استخدام الأداة (هل)، ويحلّ (هل) في موضعٍ يقتضي استخدام الأداة (الهمزة).
قال:
هل أنت حلمٌ؟ فكرةٌ؟ رغبةٌ؟ ألستَ شعرًا مزهرًا باللهيبْ؟
واستخدام (الهمزة) في هذا الموضع أولى من (هل). أتراه لهذا جاء في الكتاب الحكيم: ﴿أأنت قلتَ للناس اتّخذوني وأمِّي إلهين من دون الله؟﴾ [المائدة: 116]. ومثله: ﴿أفمن حقّ عليه كلمة العذاب؟ أفأنت تنقذ من في النار؟﴾ [الزمر: 19]…؟
يقابل هذا الاستخدام استخدام (الهمزة) في موضع يستوجب استخدام (هل)، قال:
أتعدِّدين لي المناقبْ؟ إنّ الذي تعنين غائبْ
أأكفُّ النشيدَ؟ إنّي مغنٍّ يذبح القلبَ كي تعيش القصيدة.
وإنّما استوجب السياق استخدام (هل) دون (الهمزة)؛ لأنّ الغاية من السؤال طلب التصديق، لا طلب التصوّر، أو سواه ممّا أشبهه.
واللافت هنا -ونحن بصدد الحديث عن توظيف أداة الاستفهام في شعر الشقّاع- أنّه لا يكثر من الاستفهام بـ(ما)؛ لأنّه لا يستفهم عن الماهية، ولا من الاستفهام بـ(متى وأين وأيّان)؛ لأنّ انشغاله بعالمه الداخليّ صرفه عن الخارج زمانًا ومكانًا، ولكنّه يكثر من استخدام أداتي الاستفهام (الهمزة) و(هل). وهاك ما وجدناه من شواهد على استخدامه (الهمزة) في مظانّ من شعره:
أأبدأ هذا النشيدَ الغريرْ؟
أفي الوقتِ متّسعٌ كي أطيرْ؟
أأشكو سوايَ وأشكو الأنا؟ كلانا كُسرنا كلانا الكسير
أو تعجبين من انكساري في متاهات الغياهب؟
أو تسألين عن الهوى الناريّ عن عشب الغرائب؟
والاستفهام في شعر الشقّاع مشفوعٌ دائمًا بالخبر المؤكَّد، وذاك لأنّ يقينه بالماهيّات يفوق شكّه فيها. قال:
أتعدِّدين لي المناقب؟ إنّ الذي تعنين غائبْ
ولأنّ اليقين غالبٌ في شعره على الحيرة والشكّ، تلا الاستفهام إخبارٌ يقينيٌّ مؤكَّد، كما في قوله:
أأكفُّ النشيد؟ إنّي مغنٍّ يذبح القلبَ كي تعيش القصيدة
فأين الغرابةُ يا حلوتي؟ دروبُ الهوى دائمًا قاتمة
وهو يستفهم بـ(لماذا)، وهي في الأصل سؤالٌ عن العلّة، التي حدث بها ما حدث، لذلك يتلوها جوابٌ مبدوءٌ بـ(لأنّ)؛ لتوضيحها والبيان عنها، قال:
– لماذا الهزائم لا تنتهي؟
* لأنّ انطلاقاتنا دائمة
– لماذا أحبُّكِ رغم السنين؟
* لأنّ غرامي فتًى لا يهون
وهنا طريفتان: أولاهما تتعلّق بطبيعة الجملة الاستفهاميّة، فهي تبدو وكأنّها ترديدٌ لمقول الأخرى، واستفهامها عن علّة الأمر الكائن بينهما، وهو يكرّره في سياق النصّ؛ ليتمكّن من الجواب عنه. وثانيتهما أنّ الاستفهام بـ(لماذا) يجيء في البنية العميقة للجملة دون أن يتجلّى على بنيتها السطحيّة، وذلك في إطار مفهوم (الاحتباك). فهو حين يقول:
لأنّ خيالها ليلا يوافي أبيتُ على فراشٍ من قوافي
إنّما يجيب عن سؤالٍ ثاوٍ في الأعماق، ولم يتجلَّ على سطحٍ، يدلّ على مضمونه ما جاء في الشطر الثاني من تعليلٍ.
وقد يجيء الاستفهام في شعره دون استخدام أداةٍ، وذلك عن طريق (التنغيم)، الذي تتحوّل به الجملة من الإخبار إلى الإنشاء، قال:
– يطولُ الطريقُ؟ ولكنّه أحبُّ المشاوير يا نور عيني
– الصحافاتُ سلوةٌ؟ فلأجرِّبْ كان لبنان جثّةً في جريدة
وكأنّ الأصل في الاستفهام هنا هو الإخبار، لكنّ الجملة تحوّلت بالتنغيم إلى الاستفهام.
وفي كلّ المظانّ التي استخدمت فيها البنية الاستفهاميّة يجيء المستفهم منه كائنًا حيًّا (إنسانًا)، حتّى وإن عمّاه، فإنّ في مبتدأ القصيدة ما يشير إليه. وأين هو من صنيع شوقي، أو أين صنيع شوقي منه حين قال في غاب بولون:
يا غاب بولونٍ ولي ذممٌ عليك ولي عهود
زمنٌ تقضّى للهوى ولنا بظلّك هل يعود؟
وكأنّ الشقّاع ينتظر إجابةً من المستفهم عنه ما دام يستفهم من قادرٍ على الوعي بالسؤال والإجابة عنه، وهو ما لا نجده في بيتي شوقي السالفين. ومن بابه أن يكون المستفهم منه هو الذات المتكلمة في بنية التجريد.
أأشكو سواي وأشكو الأنا؟ … … … … …
وعلى ما في وجود الذات المتكلّمة من قلقٍ ومكابدة صراعٍ مكتومٍ، فإنّ الشاعر لم يعمد إلى (مسرحة) ذلك الصّراع، فعمد إلى الإخبار عنه، فقلّت فاعليّة الاستفهام في شعره ما خلا ما نجده في قصيدة (الغريب).
قوام القصيدة عشرة أبياتٍ ولا غير. استخدِمت البنية الاستفهاميّة فيها إحدى عشرة مرّةً، وهذا لا يعني أنّ في كلّ بيتٍ منها استفهامًا؛ لأنّ الإبداع وزّعها على نحوٍ يسهم في تكامل بنائه، واستقامة الكيان.
جاء البيتان الأولان إطارًا تمهيديًّا للحدث، الذي انتظم كيان القصيدة، وهو حالة الاستغراب، التي أحاطت المتكلّم عند رؤيته ذلك الوجه الحبيب المألوف. فصفة (الغريب) إذًا آتيةٌ من الغرابة وليست من الغربة، أو الاغتراب. ومن هنا انبثقت الدهشة، واستحثّت الذات السؤال عن هُويّة هذا الغريب. فتوالت الأسئلة لتكشف عن حيرة المتكلِّم من جهةٍ، ويقينه بهويّة الغريب وإن تجاهلها تجاهل العارف من جهةٍ أخرى، كما سينبئ تحليل البنية الاستفهاميّة فيها.
وهو يبدأ استخباره باستيقافه الغريبَ (قلتُ: اتّئدْ)؛ ليسترجع معه ماضيًا (غضًّا رطيبًا) وعاه المتكلّم، ويشتهي أن يعيه المخاطَب. جاء الأمر، لكنّ جوابه غير مذكورٍ، بيد أنّا ندرك تحقّقه من خلال انثيال الأسئلة، التي شفّت عن قلقٍ كامنٍ في النفس، أخذ يتجلّى من لحظة الرؤية حتّى انفجار الأسئلة: (هل أنت حلمٌ؟) (رغبةٌ؟) (فكرةٌ؟). هنا سؤالٌ عن هُويّة المخاطب المستفهم منه وهو الغريب، يسعى للتحقّق منها بالتصديق الإيجابيّ، لكن موجّهات السياق تصل بنا إلى الجحد، الذي ينكر تلك الهُويّة فلا يقيم لها شأنًا. لكنّ المتكلّم لا يكفّ عن المحاولة، فيعيد الكرّة ثانيةً: (هل أنت من أبطال فيدور؟) (أم جبران عن سلمى يناجي المغيب؟)، أو (كأنّك الجعفيّ في زهوه…؟). وهنا تتشابه الحال بالحال السالفة، فيستحيل النصّ إلى وسائل لغويّة أخرى، يستفهم بها عن تلك الهُويّة؛ لتحدّدها بالتصديق الإيجابيّ:
(ألستَ شعرًا مزهرًا باللهيب؟)
(ألم تكن حبًّا به أصطلي؟)
(ألم تكن شخصًا قريبًا قريب؟)
(ألم تكن في حلقة الأصدقا صوتًا يدوّي بالكلام العجيب؟)
(ألم تكن يومًا صديقي؟).
والاستفهام بالهمزة عن نسبة الخبر إلى المبتدأ يشي بوعي المتكلّم بهُويّة الغريب، وإلا ما أدراه أنّه كان شعرًا مزهرًا باللهيب؟ وحبًّا به يصطلي في الزمان القديم؟ وشخصًا قريبًا إلى نفسه؟ وصوتًا يدوّي بالكلام العجيب؟ ناهيك بكونه صديقه الذي يؤثره دون سواه. كلّ هذا يفضي إلى القول إنّ المتكلّم أخرج الاستفهام هنا في بنية (تجاهل العارف) يريد منه توكيد وعيه بهُويّة ذلك الغريب، واستخدام الاستفهام منفيًّا يسهم في الحصول على جوابٍ، يلبّي رغبة المتكلّم في توكيد حقيقة المخاطَب المستفهم منه عن هُويّته.
وهو ينوّع في استخدام أدوات الاستفهام، فيستخدم (هل) في ثلاثة مواضع: (هل أنت حلمٌ؟)، (هل أنت من أبطال فيدور؟ أم جبران عن سلمى يناجي المغيب؟). ويستخدم (الهمزة) خمس مرّاتٍ: (ألم تكن شعرًا… ألم تكن حبًّا… ألم تكن شخصًا… ألم تكن…صوتًا… ألم تكن يومًا صديقي؟)
وتحوّلت الجملة من الإخبار إلى الاستفهام بالتنغيم في ثلاثة مواضع: (رغبةٌ؟ فكرةٌ؟ كأنّك الجعفيّ في زهوه…؟).
تناسل الأسئلة وتدافعها لا يمنح الآخر فرصةً للجواب، وحين أتاح المتكلّم له أن يجيب (ولّى.. وما من مجيب)، وهنا يعمد النصّ إلى تقنية سينمائيّة، تتمثّل في أسلوب قطع المشهد المرئيّ، والانتقال إلى سواه. لكنّه يبرز هنا الفعل بتشكيلٍ طباعيٍّ؛ حيث استخدم ثلاث نقط فاصلة بين ما تقدّم من قولٍ شعريّ وما تأخّر، لتتبأّر الذات المتكلّمة في المشهد في انكسارٍ وخنوعٍ ترجو متوسّلة (يا حسرة تسكنني هاجري)، وتتعلل بمستقبلٍ مغاير (اصنعيني قدرًا لا يخيب)؛ لتكشف لنا أنّها والغريبَ كائنٌ واحدٌ، وإذا هو هي كما يقولون.
عرفتُ والحسرةُ لا تنتهي أنّي أنا ذاك الأليف الغريب
ومن هنا جاء القول من قبل بأنّ استخدام البنية الاستفهاميّة تمّ في إطار بنية (تجاهل العارف)، وهو يستخدمها في إطارين غير متماثلين، أولهما استعاريّ؛ حيث استخدم (الشعر المزهر باللهيب والحبّ الذي به يصطلي والصوت المدوّي…) مستعاراتٍ تشي بهُويّة الغريب الإبداعيّة والعاطفيّة وقوّته الحجاجيّة. وثانيهما إطار تداوليّ، لكنّه ينبئ عن ألفةٍ تحيط بذلك الغريب (شخصًا قريبًا قريب)، و(صديقي). وجميع ذلك لا يعيه غير من عرف (الآخر) معرفة وعيٍ، وأدرك طبيعته ظاهرًا وباطنًا.
وفي هذا كلِّه ما يدلّ على إسهام البنية الاستفهاميّة في بناء النصّ، وكمال كيانه ممّا أخرجه من دائرة الغنائيّة الخبريّة المحض إلى دائرة الغنائيّة الإنشائيّة أمرًا، واستفهامًا، ونداءً.
ومن تتمّة القول في الأساليب الإنشائيّة في شعر الشقّاع الإشارة إلى أنّه استخدم من صورها مظاهر أخرى كالتمنّي في قوله:
أيّها الشيء الجميل المشتهى ليت في بحرك تيّاري يجولْ
والنهي في قوله:
لا تفتحي الأبواب يا رجائي فهذه آخرة الدروبِ
إذا ما أتيتك ذات ذهولٍ فلا تحجبي الشمس عن ذكرياتي
أريدك فعلًا فلا تيأسي لنا هدف اللحظة الحاسمة
… لكنّها صورٌ نزرةُ الاستعمال، قليلة الحضور، فلم تتكاثر حتّى تغدو خصيصةً من خصائص الأسلوب في شعره.
([1]) حقّات وقلنسيّة اسما منطقتين الأولى في عدن، والثانية في سقطرى.