ملف العدد
د. محمد صالح بلعفير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 10 .. ص 64
رابط العدد 10 : اضغط هنا
السلاح بمختلف أنواعه ضرورة ابتكرها الإنسان للدفاع عن النفس، والذود عن الأهل والأوطان، وبالقدر نفسه للغزو واستباحة أراضي الغير؛ وتطوَّر تبعًا للتطوُّر الحضاري للشعوب والأمم. ففي عصور ما قبل التاريخ اخترع الإنسان الأسلحة المصنوعة من الحجر والخشب، وتدرَّج التطوُّر فيما بعد، حيث حلَّتْ في عصر الحضارة الأسلحة المصنوعة من المعادن محلَّ سابقاتها الحجرية، وزاد عليها العربةُ التي تجرُّها الخيول. وفي العصور الوسطى استمرَّ تطوُّر السلاح، ونلحظ ذلك في المدفع والزِّيِّ العسكريِّ الواقي من ضربات السيوف والرِّمَاح والأسهم، وبخاصة السُّترات والخُوذ المعدنيَّة. وفي العصر الحديث شهد العتادُ الحربيُّ تطوُّرًا نوعيًّا تمثَّلَ في ابتكار السلاح الناريِّ، الذي استخدم جنبًا إلى جنب مع السلاح الأبيض.
وبسبب أطماعٍ عالميَّةٍ عرفت اليمن الاختراع الجديد، فبِحُكْمِ موقعِها الاستراتيجيِّ في طُرُقِ التجارة البحرية الشرقية، فضلًا عن تعدُّدِ ثرواتِها وتنوُّعِها وقُرْبِها من الدٌّيارِ المقدَّسةِ في الحجاز، سعتْ قوًى خارجيَّةٌ إلى وضعِ يدِها عليها، وكانت تلك القوى مسلحةً بالبنادق، الأمرُ الذي كان له أثرٌ كبيرٌ وسريعٌ في حسم المعارك لصالحها في أحَايِيْنَ كثيرةٍ، وفي إحداثِ تغيُّراتٍ خطيرةٍ تجسَّدَتْ في إسقاطِ دولٍ وكياناتٍ سياسية.
ولمْ تكنْ حضرموتُ بمعزلٍ عن ذلك التطوُّرِ الفريد، فقد فرضت الضرورة السياسية في القرن العاشرِ الهجريِّ – السادس عشر الميلادي الحصولَ على هذا السلاح الفتَّاك لمواجهة خصوم الدولة وأعدائها، وكان ذلك في عهد الأمير السلطان بدر بن عبدالله بن جعفر الكثيري المكنَّى (أبوطويرق) الذي نعدُّهُ رجلَ دولةٍ من الطرازِ الأوَّلِ بالمعنى الواسع للكلمة، على عكس ما ذهب إليه البعض من تعليقات صبَّتْ في اتجاه أنَّ الرجلَ كان يحرِّكُهُ حماسُ الشبابِ واندفاعُه أو عُقْدَةُ النقصِ ومُرَكَّباتُه؛ فقد دأبَ بدرٌ منذ اشتغاله بشئون السلطنة الكثيرية لبناءِ دولةٍ حديثةٍ تحكُمُها النُّظُمُ والقوانين، وترفضُ التمرُّدَ، وقطعَ الطُّرُقَاتِ، ونصبَ الكمائنِ، ومصادرةَ الممتلكاتِ، أو الاستيلاءَ عليها من غيرِ وجهِ حقٍّ.
دولةٌ ارتضتْ فتحَ بابِ الدِّيوَانِ السلطانيِّ على مصراعَيْهِ لِعَرْضِ الشَّكَاوَى، ولفضِّ النزاعاتِ بالَّتي هي أحسنُ، ولعلَّ ما يؤكدُ ذلك مَيْلُهُ إلى الصُّلح – في أكثرِ منْ مناسبةٍ – مع خُصُوْمِهِ وأعدائه.
صحيحٌ أنَّ بدرًا كان شابًّا آنذاك، ولكنَّهُ ذَكِيٌّ وحَاذِقٌ، وكانَ مُحَاطًا بنُخْبَةٍ من المُسْتَشَارِيْنَ من رجال الدولة وكُبَرَائِهَا.
يهدف هذا البحث إلى الوقوف على تاريخ دخول البنْدُقِ اليمنَ بصفةٍ عامَّةٍ وحضرموتَ بصفةٍ خاصَّةٍ، وما أحدثه من تغيُّرٍ موازينِ القِوَى العسكريَّةِ، وما ترتَّبَ عليه مِنْ نتائجَ على المستوى السياسي. ويشتمل على ثلاثة مباحث، فأوَّلُها: تمهيدٌ تاريخيٌّ عُنِيَ بوصول البنْدُقِ إلى اليمن، وفيه تعريفٌ بهذا السلاح الجديد من المصادر التاريخية اليمنية، والإشارة إلى مزاياه وعيوبه، وأنواعه المجلوبة من الخارج والمصنَّعة محليًّا. وأمَّا المبحثُ الثاني، فيختصُّ بمكوِّنات البنْدُقِ، وعِدَّتِهِ، وذَخِيرَتِهِ، التي اختلفتْ في مكوِّناتها، ومقاديرها من مكان إلى آخر، وعُمْدَتُنا في ذلك كتاب (الآداب المُحَقَّقة في مُعْتَبراتِ البَنْدقَية) لمؤلِّفه حسين بن محمد بن حسن الأبريقي الحبَّاني الحضرمي، والذي صنَّفه في سنة 1216هـ/1801م، وقام بتحقيقه المؤرِّخُ العلَّامة عبدالله أحمد محيرز، والحقيقة أنَّنا استفدنا إلى حدٍّ كبيرٍ من دراسة المحقِّق وتعليقاته المفيدة، وكانت هي الأخرى الدّمَاكَ الثاني، الذي قام عليه بحثُنا واستوى.
وأمَّا المبحث الثالث والأخير، فهو الذي يحمل عنوان البحث، وفيه ذكرْنا ما قدَّمتْهُ المصادرُ والمراجعُ العسكريَّةُ من معلوماتٍ تاريخيَّةٍ وتعليقاتٍ عنْ أوَّلِ ظهورٍ للبندق في حضرموت، والنتائج التي ترتَّبتْ عليه.
أولًا: تمهيد تاريخي:
وفيما يخص معرفة اليمن بالبندق، فذلك يرجع إلى سنة 922هـ/1516م، وبهذا الصدد ذكر المؤرخ يحيى بن الحسين (1) أن السلطان المملوكي قانصوه الغوري أرسل جيشًا إلى اليمن في أسطول بحريٍّ، بقيادة الأمير حسين الكردي، مكوَّنًا من مائة جندي مسلَّحين بالبنادق، وكما قال: لمْ تكنْ تُعْرَفْ بإقليم اليمن قبل ذلك، فلهذا هابَها أهلُ ذلك الزمان، وفَرَقَ منها جُنْدُ السلطان، وارتعدَ منها كُلُّ جَنَانٍ، وهكذا كُلُّ شيءٍ لا يعرفه الناس، ولا تألفه الحواسُّ، حتى ينطبع في القلوب، فيصير من جملة الأمر الذي يتم به المطلوب. وفي وصفٍ لا يختلفُ عمَّا قاله يحيى بن الحسين، ذكرَ المؤرِّخُ الكبسيُّ (2) أن تلك البنادق، ما كانت تُعْرَفُ من قبل بالدِّيار اليمنية، وإنَّما تُوصَفُ بالسَّماع، وكانتْ لها هيبةٌ في القلوب، تُذهِلُ الطالبَ والمطلوب.
وما مِنْ شكٍّ في أنَّ ذلك السلاح الجديد كان له أثرٌ كبيرٌ في تحقيق الانتصار الواحدَ تلوَ الآخر، وعُدَّ من الأسباب القوية التي مهَّدتْ لسقوط الدولة الطَّاهريَّة. (3) وقد وصف ابْنُ الدَّيْبَعِ (4) مؤرِّخ مدينةِ زَبِيْد والدولة الطاهرية البندق وصفًا دقيقًا في زمانه وهو في حدِّ قوله: ” شيء عجيب، لا يكادُ أحدٌ يقاتل أصحابه إلاّ غُلِب، وهو شيء يشبه المدفعَ إلَّا أنه أطول منه وأدقُّ، مُجَوَّفٌ، ويُجْعَلُ في جوفه قطعةُ رصاصٍ كحبّة النَبَق، ويُحْشَى من البارود، ويُدْفَعُ بنارٍ في فتيلة من أسفل البندقية، فلا يُصِيبُ أحدًا إلَّا هَلَكَ أوْ كادَ، ورُبَّمَا أصابت البندقيةُ شخصًا ونَفِذَتْ منه إلى آخر فتقتلهما”.
ولمْ تمضِ سوى بضعِ سنواتٍ على هذا الحدث حتى أدخل الأتراكُ العثمانيون البندقَ إلى حضرموت في سنة 926هـ/1519م، وهذا ما سنتناوله في موضعه.
ومع أن العثمانيين قد سَعَوْا جاهدين – بعد احتلالهم الأول لليمن – إلى عدم امتلاك اليمنيين لهذا السلاح الناري وانتشاره بين أوساط القبائل، إلَّا أنَّ الأمر قد خرج عن سيطرتهم، إذْ تمكَّنوا من حيازته من خلال الغنائم، فضلًا عن ذلك قام اليمنيون بصناعة بما توفَّر لديهم من موادّ محلية، وتبعًا لذلك ظهرتْ أنواعٌ ممَّا عُرِفَ بالبندق العربيِّ تمييزًا لها عن البندق الروسي ( العثماني)، وهي أنواعٌ أُطْلِقَتْ عليها تسمياتٌ نُسِبَتْ إلى الجهة المصنِّعة، مثل البنادق: الزبيدية، واليافعية، والشرعبية، والحسنية والحضرمية، والعولقية، ومنها ما جمع في صناعته ما بين البنادق الرومية وأحد أنواع البنادق العربية. (5)
وتأسيسًا على ما سبق، فقد أطلق على البندق العربيِّ لقبُ (أبو فتيلة) نسبة إلى الفتيل الذي يُشْعِلُ البارودَ لإطلاق الرصاصة منه، كما لُقِّبَ حاملوه بلقب أهل الفتيل للسبب ذاته. (6)
ولعلَّ من الأهمية هنا أنْ نُشِيرَ إلى البندق بقدر ما كان له مِنْ مزايا إيجابية، تكمنُ في تفريق العساكر، والسيطرة على المعركة عن بعد، وترجيح مصيرها، (7) وعلى الرغم من ذلك فإنَّ ثمَّةَ عيوبًا له؛ إذ إن وظيفته هنا لا تزيد عن السهم، مع الأخذ بعين الاعتبار المسافة التي تقطعها الرصاصة بالنسبة إليه، كما أنه لا يفيد إذا التقى الجمعان. (8) وبعبارة أخرى، فالسلاح الأبيض من سَيْفٍ وخنْجَرٍ ورُمْحٍ وسَهْمٍ فضلًا عن إيقاع الرجال في الميدان يبقى له الكلمة الفصل في حال الالتحام.
ثانيًا: مكوّنات أبي فتيلة وذخيرته:
قبل أن نأتي على التعريف بمكونات أبي فتيلة حَرِيٌّ بنا أنْ نعرِّج على وصف الأبريقي (9) الحضرمي، وهو وصفٌ يتطابق تمامًا مع وصف ابن الديبع إلَّا في تفصيل واحد يسير، وهو ككل في حدِّ قوله: حديدة مستطيلة مجوّفة يدخل فيها الباروت، ثم الرصاصة التي كحبة النبق، ويرفع بفتيلة نار بأن يكون من أسفل جوفها منفذٌ صغيرٌ جدًّا، ملصق جنب ذلك المنفذ حديد كاللوزة تسمَّى البرمة، يُوْضَعُ فيها قليلُ باروتٍ أيضًا، ثم يبدأ به بأن يوضع في المنفذ حديد النار فيسري بما في أسفل جوف البندق، فتندفع بتلك الرصاصة.
وأمَّا المكوّنات الأساسية لبندق أبي فتيلة فهي من الأسفل إلى الأعلى مع بعض التصرف (10):
17. ويضاف إلى تلك العناصر الأساسية عناصر أخرى مكمِّلة، وهي (11):
وهذا عن الهيكل العام للبندق ومكوناته وعدته، أما الذخيرة فتشمل على البارود، والفتيل، والرصاص.
ثالثًا: أبو فتيلة سلاح ناري غَيَّر موازين القوى في حضرموت:
إن الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن السلاح الأبيض (السيف والخنجر والرمح والسهم وما يتبعها من عدة) ظل السلاح الوحيد المستعمل في حضرموت إلى مطلع الربع الثاني من القرن العاشر الهجري وتحديدًا إلى سنة 926هـ/ 1519م، وهي السنة التي شهدت انقلاباً نوعيًّا في العتاد الحربي بعدما استعان الأمير الكثيري بدر بن عبدالله بن جعفر المكنّى (أبو طويرق) قبل أن يُنصَّبَ سلطانًا في السنة التالية، بالأتراك العثمانيين، فقد أدرك أبو طويرق بعينه البصيرة ونظرته الثاقبة أنه لايمكنه ردع منافسيه وخصومه سواء من البيت الكثيري أم من خارجه، وكذلك الحد من التمرُّدات القبلية التي لاتتوقف إلا باستعمالِ سلاحٍ جديدٍ ونوعيٍّ لمْ تعهدْه حضرموت من قبل، ووجد ضالته في العثمانيين الذين شرعوا قبل ذلك التاريخ للاستيلاء على العالم العربي بُغْيَةَ توسيعِ ممتلكاتهم، وإقامة امبراطوريةٍ متراميةِ الأطراف. ولتحقيق هذا الغرض استقدم في السنة المذكورة فرقة عسكرية بقيادة الضابط رجب، كانت مسلحة ببندق أبي فتيلة، ونظنُّها فرقةً تمَّ تكوينُها من السفن البحرية العثمانية، التي كانت تجوبُ بحر العرب آنذاك للاستطلاع أو التحضير للاستيلاء على الساحل العربي الجنوبي، فكان ذلك التاريخ أول ظهور للبندق في حضرموت. (15)
وفي هذا الصدد وصف المؤرِّخُ محمد بن هاشم هذا الحدثَ الخطير بقوله: ((والذي زاد في رعب أهل حضرموت، هو ما يحمله جيش الأتراك مع بدرٍ بأيديهم وعلى أكتافهم من الاختراع الغريب في ذلك العهد، وما يسمعه الناس من الصوت المزعج الذي يُصمُّ الآذان خارجًا من فم تلك الآلة القاتلة، وهو اختراع جهمني ليس لحضرموت عهد بمثله قبل قدوم جند الأتراك، ذلك هو بندق أبو فتيل، فكان لظهوره دَوِيٌّ عظيم بين كل الطبقات أكثر بكثير من دويِّ القنابل في هاته الأيام، وظهوره بأيدي الأتراك الذين كانوا يسمُّونهم الروم هو السبب في تسميتهم البنادق العلوق ببنادق الروم)). وفضلًا عن ذلك، فقد فرض بندق أبو فتيلة أو البندق الرومي (العثماني) حقائق وتكتيكات عسكرية وقتالية جديدة على قول المؤرِّخ عبدالله بن سعيد الجعيدي. (17)
على أية حال، فقد أحدث أبو فتيلة وفي زمن قياسي تَغَيُّرًا كبيرًا في موازين القوى بحضرموت على المستويين العسكري والسياسي، وكان أول أهدافه هم آل محمد الكثيريون الذين استقلوا بشبام وتحصَّنوا بها، فكان أنْ حاصرهم أبو طويرق مع الفرقة العثمانية (18) ليلة واحدة على دوي طلقات أبي فتيلة، أعلنوا بعدها استسلامهم وتسليم المدينة، ومن ثمّ تفرَّقوا أيدي سبأ لبعض الوقت. (19) ثم جاء الدور على مدينة تريم حاضرة سلطنة آل يماني والتي اتجه إليها أبو طويرق مباشرة بعد نجاح عملية شبام، فكان أن حاصرها لمدة عشرين يومًا، وكانت كلمة الفصل هنا لبندق أبي فتيلة، إذ اضطر السلطان محمد بن أحمد لتسليم المدينة ومغادرة حضرموت، ولم يبق بتريم مع أهلها سوى عبيد آل يماني، (20) الذين لم يتركهم أبو طويرق ينعمون بالتحكم بإدارة شؤون المدينة، إذ انقضَّ عليهم في وقتٍ لاحقٍ في موقعة تشبه إلى حدٍّ ما الموقعة التي قضى فيها صلاح الأيوبي على المماليك بقلعة القاهرة. وفي الحقيقة قد ترتَّب على هذه النتائج العسكرية الحاسمة أن ارتفعت أسْهُمُ أبي طويرق السياسية، إذ تمَّ تنصيبُه سلطانًا سنة 927هـ/ 1520م بعد أنْ كان أميرًا.
ومع ذلك، فالسلاح الجديد لم يتوقف استعماله عند هذا الحد، إذ كان له حضوره في المواجهات التي نشبت بين أبي طويرق وأخيه محمد الذي تنازل له عن عرش السلطنة رغبةً أو رهبةً ولاسيّما في محاولات السيطرة على كلٍ من الشحر سنة 940هـ /1533م وظفار في السنة نفسها، أو على حيريج 942هـ /1535م التي كانت تحت سيطرة آل بادجانة. (21)
وفي ظل هذا الصدام الذي أحدث صدعًا كبيرًا في وحدة البيت الكثيري وتماسكه، ومتاعب جمّة للسلطان أبي طويرق، ظهر وعلى حين غرَّةٍ منافسٌ جديدٌ من الأسرة المالكة هو علي بن عمر الكثيري ذو النزعة الصوفية، الذي أعلن استقلاله بشبام سنة 942ه/ 1535م، وجعل من رجل الدِّين معروف باجمّال أحدِ أقطابِ الصوفية بحضرموت معاونًا له، لكنَّ السلطانَ المُثْقَلَ بهموم التمرُّدات القبلية استخدم معه سياسة المراوغة من خلال اعترافه بسلطته أوَّلًا، ثم إشراكه معه في بعض معاركه، بيد أنه لم يمهلْه كثيرًا، إذ قبض عليه وألقى به في سجن مريمة. (22)
وبقدر تركيز أبي طويرق في بداية الأمر على شرقي حضرموت وساحلها لأهميتهما الاستراتيجية، فإنه لم يهمل غربَها الذي كان واحدًا من أبرز بُؤَرِ التوتُّرِ والصراع وأكثرها خطورة، فهناك خطر قبيلة نهد في وادي الكسر، وآل العمودي في وادي دوعن.
فأمَّا قبيلة نهد، فقد استطاع أبو طويرق دحرها في سنة 938ه/ 1531م بقوات مشتركة محلية، وأخرى عثمانية مسلحة ببنادق أبي فتيلة، وتمكَّنتْ تلك القوات من القبض على زعيم نهد محمد بن علي بن فارس (23)، الذي أفرج عنه في وقت لاحق من السنة نفسها لاعتبارات مختلفة، على أن الضربة الأكثر إيلامًا التي وجهت إلى قبيلة نهد كانت في سنة 945ه/ 1538م (24)، ولاسيما بعد إعلان أبي طويرق ولاءه للدولة العثمانية واستعانته بالبرتغاليين، (25)، وهي ضربة حدَّتْ لعدة سنوات من تحرُّك نهد وإنْ لمْ تقفْ حائلًا دون تحالفها مع أعداء الدولة وبخاصة العمودي في وادي دوعن. وبعبارة أخرى ظلت علاقات القبيلة مع السلطان أبي طويرق تراوحُ بينَ المدِّ والجزر في الولاء له تارة والتحالف مع خصمه العمودي تارة أخرى، إلى أنْ تمَّ الصُّلح بين الطرفين، وهو صلح قال عنه المؤرخ بافقيه الشحري إنه ضعيف، (26) ولايتناغم مع سياسة الحزم التي أنتجها أبو طويرق.
وأمَّا آل العمودي في دوعن، فقد كان شيخهم عثمان بن أحمد ذا طموح كبير في توسيع رقعة نفوذه، فهاجم سنة 938ه/ 1531م مناطق عدة خاضعة للسلطنة الكثيرية في دوعن، وتطلَّعَ للسيطرة على الشحر لكنه لم ينجح في ذلك، (27) وفاقم من الصراع بين الطرفين رفضُ العموديِّ لسياسة الولاء التي أعلنها أبو طويرق اتجاه الدولة العثمانية، وهو رفض ترتب عليه زيادة في العمليات العسكرية، إذ وصل الصراع بين الجانبين إلى حدِّ حصار القوات الكثيرية حاضرتي العموديين القرين وبضة، ودخول قيدون سِلْمًا لكونها حوطة. (28)
وكما كان مع قبيلة نهد، وبعد سنوات من الصدام بين الطرفين العمودي والكثيري جنح السلطان أبو طويرق إلى انتهاج سياسة السِلْم فأبرم مع العمودي الصلح في شهر رجب من سنة 956ه/ 1549م، والذي ظل قائمًا إلى حين انتهاء حياة السلطان بدر السياسية. (29)
ولم يُغْفِل أبو طويرق تمرُّدات قبيلة المهرة في الطرف الشرقي للساحل الحضرمي من ضرباته الموجعة بدءًا من أسرة آل بادجانة في حيريج وانتهاءً بأسرة آل بن عفرار في قشن، والأخيرة شكَّلتْ بحق قوةً ناشئةً وخطرة، هدَّدتْ كيان السلطنة الكثيرية. فبعدَ شدٍ وجذبٍ سيّر إليها أبو طويرق في رمضان سنة 952ه/ 1445م جيشًا عظيمًا تكوَّن من كتائبَ بَرِّيَّةٍ وبحريَّةٍ، فضلًا عن قوة عثمانية، وهو جيش وصفَه المؤرِّخُ بافقيه الشحري (30) بالتجهيز العظيم الذي لم يُعْهَدْ مثلُه.
لم تضع هذه المعركة نهايةً للصِّدامِ بين الطرفين، بل أظهر آل بن عفرار تحرِّيهم للسلطان، ودخل الطرفان في حربَيْنِ أخريَيْنِ انتهت الأولى لصالح أبي طويرق وكانت في سنة 953ه/ 1546م.
أمَّا الأخرى فكانت لصالح آل بن عفرار؛ إذ انتهت باستعادتهم حاضرتَهم قشن في سنة 955ه/ 1548م، ولعل الذي ساعدهم على ذلك وقوف البرتغاليين إلى جانبهم بعد أن استغاث بهم الزعيم المهري وقتذاك سعيد بن عفرار، فمدُّوه بقوة نظامي، قلبتْ موازينَ المعركةِ لصالحهم.
ومثلما كانت الحال من قبل مع قبيلة نهد بوادي الكسر وآل العمودي في دوعن، فقد مال الطرفان إلى السِّلْمِ فوقَّعَا صُلْحًا، نصَّ على إبقاءِ ما لبني عفرار من أراضٍ تحت أيديهم مقابلَ عدم قيامهم بالتعدِّي على موانئ السلطنة أو أي جزء منها. (31)
الخلاصة:
إنَّ المقامَ هنا لا يتَّسِعُ لعرض كلِّ حروب أبي طويرق ومعاركه، إلَّا أنَّ ما يسعنا قولُه هو أنَّ سلاح أبي فتيلة كانَ له اليَدُ الطّولَى والقدحُ المُعَلَّى في كثير منها، وكان له بحقٍّ دوره الكبير في تغيير موازين القوى بحضرموت في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي، والأكثر من ذلك أنه ترك أثره – مع ما تلاه من بنادق في الحياة الاجتماعية وفي الموروث الثقافي المحلي للحضاومة، فقد دخل المنازل من ذلك التاريخ وحتى عصرنا، فازداد به الناس شَغَفًا وافْتِتَانًا، وردّدتْ أصداء رصاصاته الجبال والوديان والشِّعَاب، كمَا اسْتُعْمِلَ إلى جانب الحرب لإعلان تباشير الأعياد والأفراح على قول المؤرِّخِ عبدالله أحمد محيرز، كما تردَّدَ صداه في الشعر المحلِّي لحضرموت، وتغنّى به الشعراء، ومن هؤلاء المعلم عبدالحق الذي جمع أشعاره وأخرجها في ديوان مطبوع المؤرخ والأديب الفذّ محمد عبدالقادر بامطرف.
الهوامش والتعليقات:
1- غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، تحقيق: سعيد عبدالفتاح عاشور، القاهرة، 1968م، ج3، ص664.
2- محمد بن اسماعيل: اللطائف السَّنِيَّة في أخبار الممالك اليمنية.
3- الأبريقي الحبَّاني الحضرمي، حسين بن محمد بن حسين: الآدابُ المُحقَّقَةْ في مُعْتَبَراتِ البَنْدقَة، تحقيق ودراسة عبدالله أحمد محيرز، وزارة الثقافة والإعلام، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، عدن، بدون تاريخ، مقدمة المحقق، ص31.
وحول نسب الأبريقي، أفادنا الأخ عبدالرحمن حسن بن عبيدالله السقاف الباحث في الآثار والتاريخ ومدير الهيئة العامة للآثار والمتاحف بسيئون، أن اللقب المذكور هو تحريف للقب الصحيح وهو البرّيقي، فآل بَرّيق أو آل البرًيِقي هم من سكان مدينة الغُرْفَة (غرفة آل باعبَّاد) التي تقع بين شبام وسيئون، وقد كشفت وثائق ومراسلات ترجع إلى مطلع القرن الرابع عشر الهجري عن هذه الحقيقة. ومن أسف أنه لم تعد لهم بقية في مسقط رأسهم وفي حضرموت ككل، ولانستبعد- من جهتنا- أن يكون هذا اللقب قد يغيّر مع مرور الزمن، وحل محله لقب آخر لمن بقي منهم ولانعلمه.
4- الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد، تحقيق: محمد عيسى صالحية، السلسلة التراثية، الكويت 1402ه/ 1983م، الطبعة الأولى، ص280.
5- الآداب المحققة، دراسة المحقق، ص35.
6- نفسه والصفحة.
7- نفسه، ص36.
8- نفسه والصفحة، وينحصر تعريف البندق عند المُصَنّف قبل المجرى على ماسورة الحديد المجوّفة فقط، إلا إنه يطلق كلمة البندق بعدئذ على السلاح بأكمله كما اعتاد الناس (المحقق).
9- نفسه (نَصّ الكتاب)، ص67، المُصَنّف هنا يسمي البارود باللهجة العامية (الباروت).
10- نفسه، ص 67- 69.
11- نفسه، ص70- 71.
12- نفسه، ص151- 153.
13- نفسه، ص154.
14- نفسه والصفحة.
15- بافقيه الشحري، محمد بن عمر الطيب: تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر، تحقيق: عبدالله محمد الحبشي/ مكتبة الإرشاد، صنعاء، الطبعة الأولى، 1999م، ص149- 150.
16- تاريخ الدولة الكثيرية، 1948م، ص27.
17- السلطنة الكثيرية الأولى في حضرموت (814- 1143ه/ 1411- 1730م) تريم للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1435ه/2014م، ص73.
18- ابن عبيد الله السقاف، عبدالرحمن: بضائع التابوت في تاريخ حضرموت، مخطوط، ورقة 404.
19- الجعيدي: السلطنة الكثيرية الأولى، 74.
20- المرجع نفسه والصفحة.
21- المزيد من التفاصيل عن الصراع بين أبي طويرق وأخيه محمد ينظر الجعيدي: السلطنة الكثيرية الأولى ص 76- 85.
22- باوزير سعيد عوض: صفحات من التاريخ الحضرمي، مكتبة الثقافة، عدن، 1957م ص131.
23- بافقيه الشحري: تاريخ الشحر، ص201.
24- المصدر نفسه ، ص253.
25- الجعيدي: السلطنة الكثيرية الأولى، ص91.
26- تاريخ الشحر، ص333، ينظر كذلك الجعيدي: السلطنة الكثيرية الأولى، ص92.
27- باوزير: صفحات من التاريخ الحضرمي، ص153.
28- الجعيدي: السلطنة الكثيرية الأولى، ص96.
29- المرجع نفسه، ص99.
30- تاريخ الشحر، ص 321.
31- باوزير: صفحات من التاريخ الحضرمي، 131.