ملف العدد
د.عبدالقادر علي باعيسى
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 10 .. ص 70
رابط العدد 10 : اضغط هنا
عملت هذه الورقة البحثية على تصنيف ثلاثة أنماط في الشعر العامي الحضرمي تتعلق بدلالة السلاح اجتماعيا وفنيا، وتحليلها من وجهة نظر ثقافية، وهذه الأنماط هي السلاح والقيم العليا في المجتمع، والسلاح والقيم المعكوسة التي شكلت بدورها حضورا في المجتمع، والسلاح والغزل، معتمدة على أقل عدد ممكن من النماذج الشعرية بغية حصر الدلالات وعدم تشعيبها مما يحتاج التوسع فيه إلى دراسات أطول، فالسلاح أوسع نطاقا في المجتمعات التقليدية، ومن ثم فإن أثره قوي في تركيبتها الاجتماعية، وعاداتها، وأدبها.
السلاح والقيم العليا:
حالة تاريخية:
ارتبط استخدام السلاح بعدد من القيم الأخلاقية بوصفه وسيلة للإبقاء على الحياة من خلال مقاتلة الأعداء للحفاظ على النفس والعرض والمال والوطن، ولعل صورة الإنسان الحامل لسـلاحـه في عدد من المجتمـعـات القديمة والمعاصرة، تعد مثلا أعلى يدعو الآخرين إلى تقديره واحترامه، فالسلاح يعطي لحامله طاقة من الفاعلية والحضور، ويشير إلى أنه قادر على ممارسة فعل الردع على من يتطاول عليه محققا بذلك وجوده الخارجي (الاجتماعي) والداخلي (النفسي).
وربما كان السلاح يحقق فكرة المعادل الموضوعي لصاحبه فيعتز به كما يعتز بنفسه ويتقلده مرافقا دائما لشخصيته، كما جاء في قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال(1)
فالسلاح يعني -في ما يعني- الانتصار لقيم الحياة المثلى، فضلا عن أن الحفاظ على متع الحياة وجمالياتها من الثروة والنساء والمال والسيادة مرتهن بعنصر القوة الفاعلة التي يؤديها السلاح في غمرة الصراع الوجودي مع الآخرين بكل أشكاله(2) غير أن استجماع أسباب القوة بالسلاح لا يؤدي وظيفته الكاملة ما لم توظف القدرات الذهنية والثقافية والفكرية والعقلية لحامله لتحقيق وجوده(3) وبدون ذلك تظل إمكانات القوة الفكرية والعقلية بيد جماعات أخرى، كما هو معروف في تاريخ المجتمع الحضرمي وغيره من وجود مرجعية روحية علوية وغيرها يرجع إليها حملة السلاح من القبائل الحضرمية ويحتكمون لأمرها.
وغالبًا ما يرتبط السلاح بالفعل الذكوري أما الأنثى فلا وجود فاعل لها في هذا المجال إذ يظل استخدامها السلاح مصدرا لعدم التقبل، فالسلاح يدعو إلى إثبات الذات، وليست المرأة بحاجة إلى إثبات ذاتها -من وجهة نظر الوعي العربي- بهذه الطريقة، وإن حدث لديها تميز في الشجاعة فعلى المستوى الشخصي كما عند خولة بنت الأزور في التاريخ الإسلامي وجميلة بو حيرد في التاريخ الحديث، ولكن على المستوى العام ينظر للمرأة على أنها رمز للنعومة والرقة، فالسلاح والشجاعة لا يمنح المرأة كينونة الاعتراف الاجتماعي الشامل بها مهما بلغت في ذلك.
لقد شكل السلاح ومازال يشكل ركيزة أساسية في حياة المجتمعات من خلال ارتباطه بمفهوم القوة التي تعد “مبدأ قارا في رفض الانهزام” (4) الروحي والنفسي وإثبات الذات الاجتماعية من خلال مواجهة الموت “لذلك نرى وبكل الحالات أن هناك جماعة أو قوة متأهبة لإحداث تغيير في المجتمع، وغالبا ما يكون بالحروب، والاستيلاء على السلطة)(5) والإعلان عن نفسها برموز حربية كالعلم المصبوغ باللون الأحمر، والنسر، والأسد، والحصن، وقصر الحكم. إلخ، تحقيقًا لذاتها، مما يعد في صميم القيم المثلى التي يسعى حاملو السلاح الواعون بأهدافهم لتحقيقها، وفي هذا الصدد يقول الشاعر خميس كندي:
ردوش يا الغرفة كما برلين
مستر جرامس هو وشمبرلين
بن صالح مبارك لقا لش رسم عاند بك قرانه
هم قايسوك العبر من رمي القنابل با تودين(6)
فمدينة الغرفة صار لها رسمها وشعارها الدال على قوتها كعواصم الدول الكبرى التي غدت قرائن مماثلة لها بعد حركة الثورة المسلحة التي قام بها الشيخ صالح بن عبدات الكثيري ضد الاستعمار البريطاني ومحاولة تأسيس الدولة، فالرسم (الشعار والاسم) من السمات الجوهرية الدالة على الاستقلالية ومستلزمات الدولة، فليست الغرفة بسيطة كالعبر، إنه يعاند بهذا الحضور الآخر عدوه ( لقا لش رسم عاند بك قرانه) وبغض النظر عن أن ابن عبدات عمل لدولته شعارا أم لم يعمل فإن تضمينه في الشعر يدل على أن الشاعر يرغب في قيام دولة قوية بحضرموت ولو على رقعة جغرافية محدودة، والشعار يعني الاكتمال، وإذا تم اكتمال الشيء وضع شعاره، وقد جاء في المعجم الوسيط عن الشعار أنه “علامة تتميز بها دولة أو جماعة” (7) وجاء فيه عن الرسم “الرسمي ، العمل الرسمي عمل ينتسب إلى الدولة ويجري على أصولها المقررة” (8).
ويقول الشاعر الشيخ عبد الله عمر بامخرمة في السلطان بدر بو طويرق:
ما ترى بدر يوم الخالق اطلع سعوده
كيف يسري، وكيف القت سرايا جنوده
في منحّاه يؤخذ حد وحد في صعوده
داس وادي العجل والكسر وطى زيوده(9)
يربط الشاعر عمر بامخرمة نصر السلطان بدر بو طويرق على أعدائه وإخضاع وادي حضرموت له بتوفيق الله تعالى من خلال نظرة مثالية جمالية جمعت بين الديني والحربي لتعزيز قوة النصر ومكنته، ذاكرا الأماكن التي خضعت لبو طويرق وهي أماكن واسعة من حضرموت تشمل وادي الكسر، بل وادي حضرموت كله الذي من أسمائه (وادي العجل) لكثرة الآبار فيه، والذي كان بو طويرق يقطعه بجيوشه حاصدا أعداءه من القبائل المتشرذمة الواحدة تلو الأخرى في صعوده ونزوله، إلى درجة الدوس والتوطئة حسب تعبير الشاعر، في كناية عن شدة هزيمتهم بغية تأسيس كيان حضرمي واحد. إنه يصف ولكن في خطاب مدحي واضح الملامح بوصف المدح والوصف يتداخلان، ناقلا من خلال ذلك تجربة عينية من المشاهدة ممتدحا السلطان الذي ظهر اسمه في أول الأبيات في إشارة مقصودة إلى رأس السلطة المهيمنة، لاسيما أن بو طويرق سعى نحو توحيد حضرموت كلها تحت سلطته مما كان سببا – فيما يبدو-لتعاطف الكثيرين معه ولو بصورة مؤقتة كما عند الشاعر الصوفي الشيخ بامخرمة وإن لم تدم علاقته الودية بالسلطان كثيرًا.
السلاح والقيم المعكوسة:
حالة تاريخية:
يحمل السلاح ضمنيا معنى نفي وجود الآخر، وإلغائه بقتله والقضاء عليه، حتى يغدو وجود الآخرين وحياتهم مرهونا لنزق القوة الذي قد يستفحل فيصبح أحد المسارات الأساسية التي يغرق فيها المجتمع انطلاقا من التوجه السياسي الدموي للدولة الحاكمة، أو توجه القبيلة أو الجماعة نحو الفتن والمخاصمات، فيصنع السلاح بذلك كثيرا من الأحداث، ويفرض كثيرا من الأفكار والمعتقدات غير المنطقية التي تخصب معها عقليات الشر، ويفقد المجتمع إحساسه بدفء الأمان، وقد فضّل بعض الشعراء الحضارم حالات الحروب والفتن على حالة السلم الاجتماعي، يقول الشاعر سعيد عبدالحق:
ثم قال من لا تعتليه الزلة
أيضا ولا في الحرب يغدي ضانة
ولا بدا قلبه رجف من فتنة
والحرب عنده تشتعل نيرانه
تشرق وتغرب ما يصبح بادي
ما كن معاهم للبنادق زانه
الحرب ما يعجب إذا هو فاتر
يعجب دم المقتول في ميدانه(10)
يدعو الشاعر عبدالحق إلى اشتعال الحرب كواقع اجتماعي يجب أن يكون، بل يدعو إلى استمرار إراقة الدماء مستهجنا الرجال الذين يجنحون للسلم، كأن سير التاريخ في مرحلة من المراحل ينبذ قيم الموادعة والمسالمة، أو كان الأخلاق هي القتال والحروب، فالذات القائلة وهي المعلم عبدالحق “محددة بزمان ومكان معين، وخاضعة لتأثير قوى نفسية واجتماعية معينة”(11) تدفعها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لمثل هذا القول بوصفه متعينًا اجتماعيًا واقعيًا حتى إنه “يستغرب أن تشرق الشمس وتغيب، وتمر الأيام، ولا يرى تبادلا لإطلاق النار”(12) إن استخدام السلاح للقتل مجرد القتل لا يعدو أكثر من كونه عامل تدمير لحياة الإنسان والمجتمع تتراجع معه حالة التمدن، ويعين على انتشار التفكير غير العقلاني، بل قد يصل الأمر في حالة من الحالات إلى أن يتم التلهي بالسلاح فيتم قتل الأبرياء بغير سبب سوى التلهي والعنجهية التي ترى نفسها في مأمن من العقاب والمحاكمة بوصفها رأس السلطة حتى عرف تاريخ حضرموت الاجتماعي (السيِّر) وهو السيد أو الشيخ الذي يرافق الشخص من بلد إلى بلد سواء كان مطلوبا لثأر أو غير مطلوب حتى لا يتعرض لطلقة رصاص متلهية أو مقصودة من إحدى مشارف أو (مشاوف) البيوت المطلة على الطرقات العامة، فيضطر الناس إلى أن يسيروا في سواقي الماء تحت البلدات والقرى حفاظا على أرواحهم، مما كان بحاجة بالضرورة إلى جهد ديني واجتماعي كبير لاستعادة ضبط الإنسان نفسه الذي كان يبادر إلى السلاح أحيانا بدون مقدمات، وأحيانا بمقدمات ثأرية، فحيث يوجد السلاح والحروب لا تنبت الورود، أو لا ينمو النخل وفق طبيعة البيئة الحضرمية، وقد أشارت دورين إنجرامز إلى أن الزرع كان يموت في بعض مناطق حضرموت من جراء الحروب الطاحنة بين القبائل (قبيلة آل البقري مثلا) فإذا أرادوا الذهاب إلى أراضيهم ذهبوا إليها في أنفاق تحميهم من الفوهات المتربصة بهم، فالحرب والأرض المجدبة وجهان لعملة واحدة (13).
يؤدي السلاح دورا قمعيا في استلاب الآخر الذي يكون السلاح الموجه ضده وسيلة مهينة له إهانة قصوى لإشعاره بعدمية وجوده بحيث يعيش الهشاشة وتجريد الذات من قيمتها وفاعليتها، ولذا تبدو صورة الآخر الضعيف في الحرب أو الضعيف اجتماعيا جراء حروب سابقة متسمة بالخوف والخمول(14) وعليه تجيء مغادرة المكان-الأرض هربا من الواقع الماحق للذات من جهة، وبحثا عن حقيقة وجود جديدة من جهة أخرى(15) كما حدث في الهجرات الحضرمية إلى جنوب شرق آسيا وشرق افريقيا التي مثلت هذا المنحى أصدق تمثيل، فنبغ الإنسان الحضرمي هناك. ولعل هذه الفاعلية النفسية المتوارثة مازالت تفرض نفسها على الإنسان الحضرمي إلى يومنا هذا.
يوجه السلاح الإنسان ويقوده في حالات الغضب والشحناء الشديدة، وما يلبث أن تسيطر عليه هذه الحالة فيكررها في مواقف أخرى في حالة من الكبرياء والغرور والاعتزاز المفرط بالنفس “إلى الحد الذي يشعر فيه المرء بأنه أسمى وأعلى من غيره من البشر، فيتجاهل مشاعرهم وأحاسيسهم مبديا استهجانه للنصح والإرشاد”(16) ودعوات المشورة والتناصح.
نتيجة الثنائية:
إن التحول الذي يحدثه السلاح في تاريخ المجتمعات قد يكون تحولا نحو الأجمل أو نحو الأسوأ، وكثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والنفسانية، فضلا عن السياسية، ارتبطت به سلبا وإيجابا، مما يدل على أن ثنائية الخير/ الشر التي يكون السلاح سببها غير متعينة تعينا ثابتا، فما يراه الأول خيرا يراه الآخر شرا، وكما أن السلاح يعطي مستخدمه إحساسا بالنصر والتميز قد يجعله مشردا هاربا بوصفه يحمل بداخله بنية تضادية شديدة التنافر بين الاستقرار والتشرد، بين السعادة والشقاء، مما يستقر في الوظيفة الاجتماعية الناتجة عن استخدامه، وعليه لا يمكن الاعتداد بالسلاح بوصفه إرثا حضاريا إلا في جانبه الجمالي (التشكيلي) وفي جانبه الإنساني حيث الانتصار للقيم العليا، قيم الحق والخير والفضيلة فلا تستعاد الحياة إلا بشمولية الموت- موت الآخر”(17) المعادي.
ومن اللافت أن التقسيم الطبقي الاجتماعي يضطرب في زمن الحروب، وبعدها، فيعاد ترتيبه وفق ثناية المنتصر/ المنهزم وإن كانت هذه المسألة تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن قبيلة إلى أخرى، ومن عصر إلى عصر، ومن دولة إلى أخرى حسب الظروف والإشكالات الحياتية الخاصة بكل قبيلة أو منطقة أو دولة أو عصر، فكما هو متداول في تاريخ حضرموت أن تتحول القبيلة المنهزمة إلى جماعة دونية تعمل في خدمة القبيلة المنتصرة يطلق عليهم (الصبيان) يمارسون الأعمال المهنية من خدمة البيوت في الأعـراس والوفيـات والواجبـات الاجتماعية المختلفة، وقد يلتحقون بالقبيلة المنتصرة كطرف أضعف فيها، أو كـ (صبيان دم) يشاركون في القتال مع أسيادهم المنتصرين عليهم من غير أن يكون لهم حق الارتفاع إلى مستوى السيد نفسه(18).
ولعل الحروب الكثيرة التي شهدتها حضرموت في الماضي أنتجت كثيرا من هذه الفئات، وفي هذه الحالة وفي غيرها من ألوان الصراع بين المنتصر والمنهزم يرى الشاعر نفسه كما لو كان المكلف الرسمي بتمرير الرؤية الإيديولوجية الجديدة إلى عقول الآخرين(19) بترفيع قبيلة وتنزيل أخرى انطلاقا من دوره التأسيسي للمواقف والمكانات والقيم، فالشاعر يؤكد الحدث ويلهبه بأشعاره التي تنتشر وتتفاعل بقوة مع بنية المجتمع الذهنية والنفسية والاجتماعية، وقد ينسى المجتمع الحادثة لكن الشعر يعيد إنتاجها في كل مرة يعاد فيها إنشاده وقراءته ، وبهذه الطريقة يتفوق الشعر على حدث الحرب نفسه الذي ينتهي بانتهاء الفعل ومرور الزمن، فيصل الشعر بالحدث إلى مستوى كبير من الرسوخ في تمجيد جماعة واستهجان أخرى، لأن الشعر نشأ في أساسه لتثبيت القيم والتقاليد والاحتفاظ بديناميتها الزمنيـة بـدءًا من دوره في نـظـم الأسـطـورة(20) وترسيخ قيمها إلى يومنـا هذا في المجتمعات التقليدية.
السلاح والغزل:
يرى الشاعر الجمال في المرأة، وفي سلاحه، فيماثل بينهما، مع وجود مفارقة حادة بين الإنسان والسلاح، فالسلاح باعث على القتل وإراقة الدماء، والمرأة باعثة على المتعة والسعادة، مما يعني أن السلاح يتحول في الغزل إلى رمز غير مقصود لذاته، كما في الأشعار الخاصة بوصف السلاح فقط (ديوان الحماسة لأبي تمّام مثلًا) وعليه يتسم عالم الإنسان (المرأة تحديدا) وفقا لتشبيهها بأنواع السلاح، بالجمال والقوة والرشاقة والسلامة من العيوب.. إلى غير ذلك من دلالات متنوعة ثرية، ذلك لأن الغزل أدخل في مقام الخيال، وإثراء الصفات الإيجابية بأسلوب يحبب وصف السلاح على خشونته وقوته وكونه أداة للقتل. فالتوتر المستدام القائم بين المرأة والسلاح يتفاعل جماليا لصالح المكون الجمالي للمرأة والسلاح معا، أو بتعبير أدق لصالح المكون الجمالي في النص.
والحقيقة أن السلاح المحلي التقليدي المعروف تاريخيا في حضرموت كالجنابي والسيوف وغيرها تعد مرتبة حضارية من الإبداع تضاهي صناعة القول الشعري، فكلاهما (الجنبية والقصيدة) مليء بجمال الصقل وحسن السبك والزخرفة والتطريز وغيرها في إطار سياق ثقافي جمالي متفاعل داخل البيئة المحلية الحضرمية بين صناعة القصيدة من جهة، وصناعة الخنجر من جهة أخرى، وعليه يمكن الاستنتاج أن للشعر العامي التقليدي الذي قيل في السلاح قبل معرفة الأسلحة الحديثة خصوصية تختلف – في ما يبدو- عن الشعر العامي الذي قيل بعد ظهور السلاح الحديث في حضرموت، ذلك لأن فاعلية الإنشاء المتقارب وفق صيغة حضارية واحدة تماثل بين الجنبية والقصيدة، قد اضطربت بشكل أو بآخر حين أخذت صناعة الأسلحة التقليدية تتخلف في السياق الاجتماعي لصالح البندقية الحديثة المصنوعة خارجيا والتي تم توظيفها فنيا في الشعر، يقول الشاعر حسين بن أبي بكر المحضار مثلا:
عربـي يمانـي لا سـل سيفـه قتـل
والعيلمـانـي من لحظ عينـه شعـل
خذ لي أماني منه ومن سيفه البتار(21)
فالبندقية الألمانية (العيلمان) تصدر بريقا عند الرمي بها كبريق عيني المحبوبة، هذا البريق مستند ذوقيًا وفنيّاً وتاريخيًا إلى بريق السيف أو الخنجر، أما هو فبريق مختلف (شعلة حمراء بعيدة عن الجمال) تنتج عرضيًا من جراء احتكاك الرصاصة عند خروجها بفوهة البندقية. وليس من طبيعة تكوين الحديد نفسه (جسد المرأة- الجنبية) إذ فرضت التقنية الجديدة (الأجنبية) في صناعة السلاح نفسها على الشاعر، فجاءت البنية التكوينية لوصف نظرات الحبيبة على هذه الشاكلة الجديدة، في الوقت الذي ظل فيه تشبيه الحبيبة بالجنبية عند المحضار وعند غيره من الشعراء مستمرا على الآلية القديمة المتميزة، يقول حداد بن حسن الكاف:
قلبي يحن لا قد ذكر نصله
في ذي البلد ما مثلها يا ناس يتحصل
لو جبتها من شرق لا قبلة
قل ما حصل
وبالمثل نضرب بها في جمع لنصال
* * *
زينة رهيفة حد لها صقلة
وحديدها من هندواني رطب يتفصل
لا شافها الزاكن رقل عقله
عظمه رقل
وان شط إليها شاب دمه منه سال
* * *
في عرضها مع طولها عدله
يا سعد كل من هو بها يظفر ويتجمل
وان هي معي بلقي بها صلة
هي في الوسل
لي عادها بافدي لها بالمال والحال(22)
* * *
والسلاح من أصعب الأدوات التي يمكن التعامل معها لاحتياجه إلى مهارة خاصة، ومعرفة كثير من فنون القتال والحركة، ولذا تشبه المحبوبة به لأنها في رقتها وجمالها تحتاج إلى تعامل خاص، وعليه فالأوصاف التي أسندت إلى الجنبية في قول حداد تسند وبتلقائية شديدة إلى الحبيبة دون أن يحدث اضطراب في أثناء نقل الصفة من مجال إلى آخر (زينة، رهيفة، حديدها رطب يتفصل، في عرضها مع طولها عدلة).
نحن إذن أمام معيار من المماثلة بين المرأة والجنبية في هذا الوصف الشعري المستمد من جذور التراث الشعري التقليدي، فضلا عن أن قصص السلاح والغرام، وكيفية وصول العاشق إلى حبيبته في أحرج الأوقات وأدق الظروف يعد من البطولات، فثنائية (القتال/ الغرام) المتوحدة على مستوى الشعر، تحقق جزءا من وجود الإنسان في إثبات ذاته. ولعل ذلك يكثر في المجتمعات البدوية والريفية التي تعتز بالسلاح جزءا من وجودها الاجتماعي، والحاضن الأساسي لذلك هو كينونة الإنسان العربي نفسه وهويته الثقافية، فالسلاح كان ومازال ينزل في المجتمعات العربية التقليدية منزلة الضرورة التي لا يمكن الاستغناء عنها، كالمرأة تماما.
_________________
الهوامش:
(1) ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثالثة، دار المعارف بمصر 1969م، ص33.
(2) ينظر جماليات التحليل الثقافي، الشعر الجاهلي نموذجا، د. يوسف عليمات، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان 2004م، ص90.
(3) ينظر نفسه، جماليات التحليل الثقافي، ص140.
(4) جماليات التحليل الثقافي، ص60.
(5) سوسيولوجيا التغير الاجتماعي في الفكر الخلدوني، دراسة تحليلية، د. علاء زهير الرواشدة، مجلة الآداب، دورية علمية محكمة تصدر عن جامعة الملك سعود، المجلد 26، العدد2، الرياض، المملكة العربية السعودية مايو2014م، جمادى الآخرة 1435هـ، ص.
(6) الشعر الشعبي وتاريخ حضرموت العسكري، صالح مبارك عصبان، (بحث مخطوط) نقلا عن: الأنغام الخالدة، نشرة تأبينية للشاعر سعيد مبارك مرزوق، إدارة الثقافة، سيئون، حضرموت 1981م.
(7) مادة: شعر، الطبعة الثانية، دار الأمواج، بيروت، لبنان1410ه -1990م.
(8) نفسه، المعجم الوسيط. مادة: رسم.
(9) الشعر الشعبي وتاريخ حضرموت العسكري (مرجع سابق).
(10) الشعر الشعبي وتاريخ حضرموت العسكري، (مرجع سابق) نقلا عن: المعلم عبد الحق، محمد عبد القادر بامطرف، الطبعة الثانية، دار الهمداني للطباعة والنشر، عدن، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية 1983م.
(11) الخطاب، هرمان باري، ترجمة محمد أسيداه، مجلة نوافذ، العدد 34، النادي الأدبي الثقافي، جدة، المملكة العربية السعودية ذو القعدة 1426ه- سبتمبر 2005م، ص91.
(12) الشعر الشعبي وتاريخ حضرموت العسكري (مرجع سابق).
(13) يمكن التذكير هنا بقصيدة (الأرض اليباب) للشاعر الإنجليزي ت. س إليوت التي قالها بعد الحرب العالمية الأولى..
(14) ينظر جماليات التحليل الثقافي، ص 68.
(15) ينظر نفسه، ص 70.
(16) في الأدب المسرحي، د. عبد الرحمن عبد الله بكير، الطبعة الأولى، سلسلة كتاب حضرموت 19، دار حضرموت للدراسات والنشر، المكلا، حضرموت، الجمهورية اليمنية 2918م، ص 60.
(17) جماليات التحليل الثقافي، ص 125.
(18) نعتذر عن ذكر الأسماء لما يسببه ذلك من حرج وجرح للمشاعر.
(19) ينظر المكان العدائي وهروب الشخصية، دراسة نصية لرواية (القانوط) لعبدالحفيظ الشمري، كوثر محمد أحمد القاضي، مجلة الآداب، دورية علمية محكمة تصدر عن جامعة الملك سعود، المجلد 26، لعدد 2، الرياض، المملكة العربية السعودية مايو 2014ه- جمادى الآخرة 1435ه، ص50.
(20) ينظر بنية الرحلة في القصيدة الجاهلية، الأسطورة والرمز، د. عمر بن عبد العزيز السيف، الطبعة الأولى، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان 2009م، ص 34.
(21) صورة السلاح في الأدب الشعبي الحضرمي، د. ماهر سعيد بن دهري (بحث مخطوط) نقلا عن ديوان دموع العشاق للشاعر حسين أبي بكر المحضار، 1965م، ص179.
(22) صورة السلاح في الأدب الشعبي الحضرمي (مرجع سابق) نقلا عن: ديوان حداد بن حسن الكاف، 1/ 362-363.