شخصيات
عبدالعزيز محمد بامحسون
حقيقة لقد عُرفَ عن الشيخ الجليل القاضي عبدالرحمن بن عبدالله عوض بكير بساطته وتواضعه الجم منذ نعومة أظافره حتى أصبح أشهر من نار على علم، ورجلًا يشار إليه بالبنان من خلال إثرائه بكتاباته ومؤلفاته في مجال القضاء والدين والتاريخ، والذين يعطون بصمت من غير ضجيج، ولا يأخذون أو يدّعون ولا تداخلهم مشاعر الزهو بما أنجزوا، فقد كان الشيخ بكير معطاءً وعلمًا وروحًا يفيض بها من حوله، حتى صار وجهة للباحثين وطلاب العلم لما أحاط به من علم ومعرفة وخبرة منهجية في تاريخ حضرموت العلمي خاصة، وتاريخ شبه الجزيرة العربية عامة، بل كان نبراسًا تلمذ على يديه الكثير من الطلاب ومشائخ العلم.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 10 .. ص 96
رابط العدد 10 : اضغط هنا
وهنا لا بأس أن نستعرض في هذا المقال شيئًا عن حياته العلمية والعملية ؛ حيث درس على يد والده فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن عوض بكير رئيس القضاء الشرعي في حضرموت، وأدرك الشيخ بادباه في مسقط رأسه ومولده منطقة الصداع بغيل باوزير التي وُلِدَ فيها في أجواء 1922م، والتحق برباط العلامة ابن سلم، وبه أخذ عن السيد محسن بونمي وغيره من مشايخ الرباط، كما درس على الشيخ عوض بلقدي في المكلا، ثم رحل إلى تريم، وأخذ عن السيد عبدالله بن عمر الشاطري شيخ رباط تريم، والسيد علوي بن عبد الله بن شهاب، وغيرهما. وفي سيئون أخذ عن السيد محمد بن علي الحبشي. وأخذ عن الشيخ محمد بن سالم البيحاني صاحب عدن.
وكان له اتصال بالعلامة عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، وكان يراسله، ويجيب عليه ابن عبيدالله.
ثم رحل إلى السودان، والتحق فيها بكلية غردون بجامعة الخرطوم سنة 1950م، وتحصل على شهادة قسم الشريعة بامتياز منها عام 1953م. ومن مشايخه هناك الشيخ علي الخفيف.
وقد جاء في المذكرة الشحرية »أنه أول شاب يبعث إلى كلية (غردون) بالخرطوم سنة 1951م الموافق 1370هـ، ليتخصص في القضاء«. اهـ.
وليَ نَظَارَةَ بعض المدارس الابتدائية والمتوسطة.
– عمل مساعدًا إداريًا بمجلس القضاء الشرعي الأعلى بحضرموت (المجلس العالي)، ثم مفتشًا قضائيًا، ومستشارًا قضائيًا بحضرموت حتى عام 1967م.
– عُيِّنَ بعد الوحدة اليمنية في العام 1990م رئيس محكمة استئناف (متقاعد)، ثم عضوًا بهيئة الإفتاء الشرعية للجمهورية اليمنية.
تلامذته :
من أبرز تلاميذ الشيخ عبدالرحمن بكير لا للحصر؛ الشيخ عبدالله بن عوض المبارك بكير، الذي ترأس القضاء الشرعي بحضرموت نيفًا وثلاثين سنة بعفة ونزاهة، والشيخ سالم بن مبارك بن عبدالرحمن الكلالي، الذي تولى القضاء بمدينة الشحر مدة من الزمن، كما كان مدرس ومرشد بلدة تبالة وبواديها من ضواحي الشحر والقرى المجاورة لها، والشيخ حسين بن محمد السييلي وهو فقيه ضليع.
قال عنه د. عبدالقادر باعيسى: »عاش الشيخ بكير ردحًا كبيرًا من حياته في بيته مع كتبه وزوَّاره بعيدًا عن وسائل الإعلام، ورغم أنه جاوز التسعين من العمر إلا أنه تشعر من خلال نظرات عينيه الحادتين -رغم انطفائهما- أنك أمام رجل يتعزز رصيدك الشخصي بمصافحته، ومن خلال كلمات يقولها لا تزيد عن عشر تشعر بقوة شخصيته، فتوقن بما يمتلكه من قوة ورؤية ثاقبة لا تعرف التذبذب.
وبنظرة إلى مجموع كتبه تعرف السجالات التي خاض فيها من القضاء إلى الفقه إلى تنظيم المحاكم إلى اللغة والنحو، حتى ليمكن القول إن الشيخ بكير فصل مهم من مرحلة القضاء الحديثة في حضرموت بكل أبعادها، وتكمن الإشكالية في أننا لا نتعاطى مع الإنتاج الثقافي الرصين (ندعه يمر كما يقولون)، ورغم أنه كان في بيته إلا أنه كان منتظمًا في تأليفاته مستمرًا عليها، ولم يتعرف كثير من القراء عليه لا سيما الشباب إلا بعد أن تم طباعة كتبه مؤخَّرًا، فحين كان المؤلف حاضرًا بكامل وعيه كان القارئ غائبًا، وحين جاء القارئ غاب المؤلف بشيخوخته، لكن وقد غاب أحد الطرفين في كل مرة يبقى التواصل المعرفي الذي لا ينقطع بمرور الزمن، فمشروع بكير ما زال إلى الآن بغير قُرَّاء جادِّين وبغير مريدين، فهل عرضت بعض كتبه مثلًا على طلاب الدراسات العليا بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة حضرموت؟ وهل تناول بعض المختصين بالقضاء والفقه شيئًا من كتبه بالتحليل والقراءة وما جرى بينه وبين علماء آخرين من مطارحات، لا سيما أنه كما وصفه الأستاذ الفاضل عبداللاه محمد هاشم السقاف »انفرد عن غيره من أقرانه علمًا وإدارة وتفقُّهًا، فمن تنظيم للعمل بالمحاكم بحكم منصبه إلى استنباط الأحكام بروح عصره متجاوزًا التقليد وبما لا يخالف الشرع«.
كان يهم الرجل أن يجترح جديدًا، وأن يجتهد في ما يجترح (بما لا يخالف الشرع)، كان بتعبير آخر يرسم مشروعه الخاص، ولعله يمكن استيضاح الصورة كاملة من خلال قراءة كتبه بوصفها تجربة بناء لم تجد من يستمر في التواصل معها، فما يلفت في الشيخ أنه مختلف حين لم يندرج في التجربة القضائية بحضرموت كما هي، بل حاول أن يرسم آفاقها، وأن يبحث عن اختلافاتها لا خلافاتها، مع الإشارة إلى أنه كان في كثير من المواقف والآراء بطل تجربته وحده، ونموذجًا من تجارب صناعة الإنسان لنفسه في هذا البلد«.
مؤلفاته:
صدر للشيخ عبدالرحمن بكير (رحمه الله) عدة كتب ورسائل منها:
1) المدخل إلى المسائل المختارة لمحاكم حضرموت (نماذج في فقه القضاء وفقه الفتوى).
2) تصحيح وتهميش عماد الرضا في آداب القضاء وشرحه.
3) بيع العهدة بين مؤيديه ومعارضيه.
4) الخلاف بين الدعاة وموقف الداعية منه.
5) هل سلم القرآن الكريم.
6) الوقف في حضرموت بين السلف والخلف.
7) نظرة في ملحقات من ملحقات علم الأصول.
8) لكيلا نقع في عرض أسلوب الإمام الحبشي.
9) إرواء الرواة بأخبار الشيخ بادباه.
10) على طريق طرائق الشيخ عبدالرحيم بن سعيد باوزير.
11) قراءة في تاريخ حضرموت من خلال نصوص قرآنية.
12) القضاء في حضرموت في ثلث قرن.
وله غير ذلك مما لم يطبع.
وكنت دائمًا عندما تتاح لي زيارات خاصة لشيخنا الفاضل عبدالرحمن بكير، اصطحب معي نسخًا من أعداد مجلة (شعاع الأمل) فور إصدار كل عدد جديد، وفي مجلسه وحضرته كنا نتبادل أطراف الحديث، التي تصب في مجملها في مصلحة الأمة والعباد، وغالبًا ما أصغي لحديثه وهو يتحفني بلباقته التي تصحبها الابتسامة التي تظهر على محياه.
يقول عنه د. عمر عبدالله بامحسون (مؤسس مؤسسة الصندوق الخيري للطلاب المتفوقين): »تربطني بالشيخ العلامة عبدالرحمن بكير رباط قوي، حيث الوحدة الفكرية التي جمعتنا، وتعاطفي المستمر والمتواصل مع هذه الأسرة التي خدمت القضاء في المجتمع الحضرمي«، وقال »إننا حين نقارن بين كتاب الشيخ عبدالرحمن بكير (العهدة)، وكتاب عبدالقادر عودة في (القانون الجنائي) نرى أن كتاب الشيخ عبدالرحمن بكير أشمل من كتاب عبدالقادر عودة من جوانب عدَّة، وإذا نظرنا إلى الشيخ عبدالرحمن بكير -والحديث للدكتور بامحسون- من زوايا أخرى نعلم يقينًا أنه لم يكن قاضيًا فحسب، بل أستاذًا قديرًا، ومربيًا فاضلًا، وسياسيًا مُلهمًا، وقد تتلمذ على يديه الكثير من أبناء المجتمع الحضرمي الذين يعتزون بانتمائهم إلى المدرسة البكيرية، إذا صح لنا أن نسميها كذلك… «. ا.هـ.
وحسنًا ما فعلته (مؤسسة الصندوق الخيري للطلاب المتفوقين) عندما اختارته من بين عدد من رجالات القضاء الذين تقدموا لنيل (جائزة الشيخ سالم سعيد باحمدان لروّاد خدمة المجتمع في حضرموت) لعام 2014م في مجال القضاء، والذي حازها دون منافس، حيث منح هذه الجائزة في الحفل التي أقامته المؤسسة لتكريم روّاد خدمة المجتمع في مجالي القضاء والزراعة، وذلك صباح الثلاثاء الموافق 18/ 3/ 2014م، وتسلَّمها نيابةً عنه نجله الأستاذ بهاء الدين نظرًا لتغيبه بسبب وضعه الصحي الذي لم يمكنه من حضور المناسبة لتكريم الروّاد، ولمكانته العلمية والدينية والقضائية تمّ إقامة حفل متواضع مصغر في منزله بالمكلا مساء الأحد 23/ 3/ 2014م، دُعيت بدعوة من نجله الأستاذ بهاء الدين مع نخبة مثقفة من المشائخ الأجلاء والأكاديميين والإعلاميين تمَّ فيه تكريمه بالدرع التذكاري لجائزة الشيخ باحمدان لروّاد خدمة المجتمع في حضرموت كأفضل قاضٍ نال جائزة عام 2014م، ليشهد شيخنا الجليل أن هناك من يذكره ويكرِّمه، وهو على قيد الحياة قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
نعم.. رحل فضيلة الشيخ الجليل القاضي عبدالرحمن بن عبدالله عوض بكير من دار الفناء إلى دار البقاء يوم الاثنين 15 ربيع الآخر 1437هــ الموافق 25 يناير 2016م، إثر معاناة مع المرض الذي أنهك جسده وأقعده في منزله المتواضع بحارة البلاد بالمكلا منذ سنوات خلت، بعد حياة ومسيرة حافلة بالعطاء في مجال العلوم الشرعية والافتاء الشرعي، مخلِّفًا وراءه تركة كبيرة من العمل الشرعي والديني بعد عمر حافل بالعطاء المتعدد في مجالات متعددة.
لهذا شكلت وفاة هذه القامة الدينية والقضائية فاجعة ومأساة وخسارة كبيرة ليس فحسب على المجتمع الحضرمي، بل المجتمع اليمني والعربي والإسلامي بشكل عام بوصفه علمًا بارزًا ورمزًا أصيلًا، الذي قضى أكثر من نصف قرن ونيف من السنوات في مجال العلوم الشرعية والقضاء، فكان خير من جسّد الالتزام بصدق الحديث الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ولكن هذه إرادة الله سبحانه وتعالى.
لقد كان الشيخ بكير إنسانًا قبل أن يكون شيئًا آخر، إنسانًا يجيد فن التعامل مع مَنْ حوله، فينسج معهم علاقات أساسها الود والاحترام، لذلك حظي بحب وتقدير كل من لقيه أو عرفه، والدلالة على ذلك حضور الآلاف من كل حدب وصوب من شرائح المجتمع في حضرموت واليمن في اليوم التالي من وفاته لتشييع جنازته، بعد الصلاة على جثمانه الطاهر بـ(جامع البلاد) بالمكلا، و(جامع الصداع) بغيل باوزير، ثم توديع مثواه الأخير بمقبرة الصداع بعد صلاة المغرب، وهذا ليس بغريب أن يحزن أبناء حضرموت على فقد هذه الشخصية الحضرمية الفذة التي تركت بصماتها على مختلف الصعد، وساهمت في إثراء الساحة الوطنية بمختلف العلوم.
وختامًا لا يسعنا إلا أن ندعو الباري عزّ وجل أن يجزل خير الجزاء لشيخنا الفاضل القاضي عبدالرحمن بكير على ما قدمه من أعمال جليلة تستحق الشكر والثناء في مختلف العلوم الشرعية والإفتاء الشرعي والعلوم الأخرى، وأعمال البر والخير والإحسان، ونسأل المولى أن يرحمه رحمة واسعة بمغفرته ورضوانه ويسكنه فسيح جناته في أعلى فردوس الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.. إنا لله وإنا إليه راجعون.