آثار
محمد رمضان مسلم
تمتاز اليمن عمومًا وحضرموت خصوصًا بماضٍ عريق يمتد جذوره في أعماق التاريخ. وتتناثر شواهد تلك العراقة ودلائلها في شتى وديان حضرموت، فلا تكاد تدخل واديًا إلا وترى أثرًا يُنبيك عما تخفيه هذه المنطقة من كنوز تاريخية، تحتاج من يكشف عن أصولها، ويُفصح عن غموضها.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 38
رابط العدد 11 : اضغط هنا
ونحن في هذه (الدراسة) سنحاول أن نسلط الأضواء على بعض هذه – الأدلة الأثرية – لعلّنا
نكشف عن بعض ما تضمه من أسرار، ونُفصح عن ما يُحيط بها من غموض.
توجد هذه الأدلة الأثرية في شِعْب خيلة، الذي يقع في الجهة الغربية لمدينة تريم، وتعد خيلة ضاحية من مدينة تريم(1).
ففي يوم الخميس 28 إبريل من عام 2016م عثرت عن طريق الصدفة في شِعْب خيلة على أدلة أثرية تعود إلى ما قبل الإسلام؛ وهي عبارة عن بقايا آثار ورسوم ونقوش بخط المسند (الحروف الحميرية) الخط الذي ظل مستخدمًا به في جنوب شبه الجزيرة العربية إلى حقبة ما قبل ظهور الإسلام تقريبًا، في أماكن متفرقه من الشِعْب، منها رسوم وأشكال لحيوانات، بعضها منفذة بطريقة الحفر، والبعض منفذة بطريقة الحك(2)، منها بقرة حلوب متقنة في رسمها على صخرة صلدة، بأسلوب الرسم الإطاري(3)، تحتها عدة كلمات واضحة بالمسند، وهي التي يقابلها بالعربية الحروف الآتية: ك ر س م/ ث ل ق س ف م/ ب غ ي م. وبجانبها بعض كلمات غير واضحة لم يتضح منها إلا بعض الأحرف هي: هـ ص ب ح/ ب ج ز م/ ص ب ح خ ل/ … ز ع م.
وفي مكان آخر من الشِعْب عثرت على عدة رسوم ونقوش (بخط المسند) في لوحة كبيرة على صخر منفذة بطريقة الحفر العميق، وهذه الرسوم لوعول كبيرة وصغيرة، بأسلوب الرسم الإطاري، يتضح منها أنها مخربشات(4) للصيادين، يقومون بنقشها في الأماكن التي تم الاصطياد فيها أو بالقرب منها في الأماكن التي يقيمون فيها طقوسهم الدينية، أو في أماكن استقرار أولئك الصيادين، فقد تكون هذه الكلمات أسماء للصيادين الذين قاموا بعملية الاصطياد، أو أسماء الكتّاب الذين قاموا بالتدوين أو غير ذلك، ومن هذه الكلمات المسندية والتي يقابلها بالعربية الحروف الآتية: س م/ ذ ي ط/ ح ش هـ م/ س ص ر ت/ ض/ س م ض أ ل. بالإضافة إلى بعض الحروف المتناثرة بجانب تلك الكلمات والرسوم.
وترتفع هذه الرسوم والنقوش عن مستوى سطح الأرض بثلاثة أمتار تقريبًا، بحيث يصعب على الإنسان العادي لمسها، ولعل سبب ذلك الارتفاع أن كتّابها من الصيادين والكتّاب ذوو أجسام عملاقة، أو ربما كانوا يصعدون على شيء مرتفع لتدوين ذلك حتى يكون في مأمن من أيدي العابثين، مما جعله يبقى لمدة طويلة من الزمن شاهدًا على ذلك إلى يومنا هذا،وقد يكون سبب ذلك الارتفاع هو التعرض للعوامل الطبيعية من سيول وغيرها، مما أدى إلى انخفاض سطح الأرض وأدى إلى ارتفاع تلك النقوش فوق مستوى سطح الأرض، فالمهم هنا ليس ارتفاع هذه النقوش فوق مستوى سطح الأرض فقط، بل الأهم من ذلك هو ماتحتويه هذه النقوش من دلائل عميقة، تؤكد قدم تاريخ تلك المنطقة. وقد قال بيستون عن خط المسند »إن كتابة المسند تُمثل أثرًا باقيًا لثقافة فذة ذات شخصية متميزة وعالية التطور«(5). وأغلب نقوش العربية الجنوبية القديمة وجدت إما على صخور قائمة أو على حجارة أو على مبان، أو على صفائح من البرونز أو المنحوتات كالتماثيل والأواني. وقد تم العثور على هذه النقوش مصادفة، على صخور في الوديان أو في جدران ما يزال بعضها قائمًا حتى الآن. وتعد هذه النقوش ثروة ذات قيمة عالية عن جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، في حضارتها وفي علاقاتها الخارجية. ويقول المرحوم الأستاذ الدكتور محمود الغول، وكان من المتخصصين العرب القليلين في حضارات العربية الجنوبية قديمًا: »لم يصلنا من العرب قبل الإسلام، عن طريق الأخبار والشعر الجاهلي وسائر المصادر الأخرى مجتمعة، مايعدل في كميته وقيمته ووثوق مصدره ماتحويه هذه النقوش، لذلك لايجوز أن يتصور أحد أنه قادر عن الاستغناء عن معرفة مادة النقوش هذه، إذا شاء أن يعرف تاريخ جزيرة العرب وأهلها قبل الإسلام«(6).
وقد كان الحضارم قديمًا يستخدمون خط المسند في كتاباتهم في حقبة ما قبل ظهور الإسلام، فكانوا يكتبون بالخط المسند (الحروف الحميرية)، و»كانوا يكتبون في الجلود وفي ألواح الخشب، وإذا كان ما يراد كتابته أمرًا هامًا، فإنهم يكتبون على الصخور الصلدة، لذلك نجد كتابات كثيرة على جبال حضرموت«(7). لذا فإن النقش الأول الذي عثرنا عليه في (شِعْب خيلة) المذكور آنفًا مكتوب على صخرة صلدة، قد يكون لأهمية ذلك النقش كتب على الصخر الصلد، أما النقوش الأخرى التي عثرنا عليها أيضًا في (شِعْب خيلة)، لم تكن منسقة أو مرتبة في أسطر، وإنما كانت عبارة عن عدة كلمات متناثرة على تلك الصخرة ورسوم لحيوان الوعل بأشكال كبيرة وصغيرة، فهي أقل إتقانًا وجمالًا من النقوش المنسقة من حيث حجم حروفها وترتيب سطورها.
فالوعل هو الحيوان الرئيس في الصيد البري، وهو من الحيوانات المقدسة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام(8)، والنقوش العربية الجنوبية القديمة تندرج في مجال الصيد البري، ويتضح من النقوش أنه يمارس فرديًا وجماعيًا(9)، ويبدو أن هذه النقوش -أي نقوش الصيد- لم تحظ بالعناية مقارنة بالنقوش التي تم الكشف عنها في المدن الأثرية التاريخية، فهي أقل درجة من حيث جمال الخط وزخرفته، وذلك أن هذه الأماكن تقع خارج المدينة، حيث الصيد ممكن مما يصعب معه توفير المواد اللازمة، والوقت الكافي بعكس النقوش التي تتم كتابتها في المدن. لهذا لا نجد في هذه النقوش التزامًا من قبل كاتبيها بالدقة في الكتابة، واستقامة الخط وتساوي أطرافه وحدته عمقًا وعرضًا وأبعادًا، ومن حيث المادة لم يعمدوا إلى اختيار الأصناف الجيدة من الأحجار، كالبلق والرخام والمرمر بعد تسويتها وتشذيبها، وجعلها قوالب وألواحًا، بل لجأوا إلى الأحجار الجاهزة، فاختاروا الجوانب الصخرية الملساء وسجلوا كتابتهم عليها(10)، وقد نال حيوان الوعل قديمًا نصيبًا أوفر في النحت والرسومات على واجهات المعابد والقصور، وعلى اللوحات، وما زال الناس إلى يومنا هذا متعلقين بهذا الحيوان، فيزينون برأسه ذي القرنين واجهات منازلهم، وأركان بيوتهم(11).
أما حول أدوات نقش الأحجار لحقبة ما قبل الإسلام في العربية الجنوبية، فقد كتب أحد المستشرقين الروس بحثًا حول نوعية الأدوات والوسائل التي استخدمها القدماء عند رسم النقوش على الأحجار، جاء فيه: تبين أن المثاقيب الحجرية هي الأدوات التي استخدمت للنقش على الأحجار، الناتجة عن تحطم قطع لنوع من الصخور النارية(12).
وهناك العديد من الشواهد النقشية والأثرية التي قادت الصدفة لاكتشافها لأول مرة في حضرموت (حضارة ما قبل الإسلام) في مناطق مختلفة من وادي حضرموت، وهذه المناطق لم يتم فيها شيء من أعمال المسح الأثرية، ولم يشر إليها من سابق، وليست في عداد المواقع الأثرية. وهذه المناطق هي: باعلال، السويري، حصن فلوقة، مشطة، وهي تعد من ضواحي مدينة تريم(13)، وموقع خباية الذي تم اكتشافه حديثًا بالصدفة من قبل أحد المواطنين.
ويضاف إلى هذه المواقع أيضًا موقع (شِعْب خيلة) الذي لم يتم فيه شيء من أعمال المسح الأثرية، ولم يشر إليه من سابق، وليس في عداد المواقع الأثرية، فهو كغيره من المواقع الأثرية التي لم تتلقَ أي اهتمام حتى للحفاظ عليها، وبما أن الصدفة هي التي قادت لاكتشاف هذه المواقع الأثرية، فهذا دليل على وجود كثير من هذه المواقع الأثرية، التي ما زالت بحاجة إلى من يقوم بالكشف عن أصولها، ويُفصح عن ما يلفها من غموض، من قِبل المختصين، والقيام بأعمال المسح الأثرية وعمليات التنقيب، من أجل الحفاظ على هذه المواقع الأثرية وما تحتويه من آثار ذات أهمية عالية، وبذلك سينكشف لنا بعض أجزاء تاريخ حضرموت المفقود. ومن بقايا الآثار المكتشفة في ذلك المكان، قبران أحدهما يعتقد؛ أنه من المدافن (القبور) البرجية القديمة(14)، التي يعود
تاريخها إلى حقب زمنية قديمة، يوجد هذا المدفن على سطح أحد تلك الجبال المجاورة للشّعْب، حيث لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس بعد قطع مسافات طويلة. كما تنتشر أيضًا مقابر برجية في وادي الذهب(15).
وتعد المدافن البرجية من المواقع الأثرية القديمة التي تركها لنا الإنسان، الذي عاش في عصور مضى عليها زمن طويل، أما المدفن الآخر فيوجد في ناحية من الشّعْب. واعتقادنا بأن وجود مثل هذا المدفن البرجي في ذلك المكان، وتلك النقوش دليل على وجود الإنسان في هذه الأماكن قديمًا، إمَّا باستقراره فيها وإمَّا بتنقله في تلك الطريق، الذي من المحتمل أن يكون فرعًا من فروع طريق التجارة القديم طريق البخور. كما عثرنا أيضًا على كسور فخارية صغيرة بجانب ذلك المدفن، نحتاج لفحصها من قبل المتخصصين في الآثار، ومقارنتها بغيرها من أجل تحديد العصور التي تعود إليها هذه الكسور الفخارية، وبمعرفة تلك الآثار والنقوش والعصور التي تعود إليها ستنكشف لنا خفايا ذلك المكان، والكنوز التاريخية التي تضمها تلك الأرض، التي ما زلنا لا نعرف عنها الكثير. والجدير بالذكر يوجد منبع للماء ضعيف التدفق بالقرب من مكان تلك الرسوم والنقوش، ولعل ذلك المنبع كان قوي التدفق في العصور السابقة، فالماء من أهم المقومات الطبيعية للحياة، وبتوفر المياه في ذلك الشِّعْب يكون من المحتمل استقرار الإنسان القديم في هذه الأماكن أو مكوثه مدة قصيرة في أثناء حله وترحاله وتنقله بين المناطق للتجارة أو للصيد أو لأغراض أخرى.
وتعد مدينة تريم من المراكز الحضارية الواقعة على الطريق البري الرئيس، الذي يمتد من (ظفار) مصدر اللبان إلى وادي حضرموت، وهذا الطريق ممتد على طول الوادي تتفرع منه طرق فرعية برية(16). وقد لعبت تريم دورًا مهمًا في طريق البخور والتجارة بشكل عام(17)، وقد غدت تريم بموقعها على المدخل الشرقي لوادي حضرموت الكبير الذي يعد من أكبر وديان الجزيرة العربية في امتداده وسعته، ملتقى للقوافل التجارية المارة في طريقها إلى الإحساء وجنوب العراق عبر صحراء الربع الخالي، جعلها هذا من بين مدن حضرموت التي أسهمت عبر عصور لاحقة من تاريخها الاقتصادي في رواج نشاط حضرموت التجاري(18)، فمدينة تريم من المدن التاريخية العريقة التي واكبت الزمن حتى يومنا هذا، وتعد من المدن القليلة في العالم التي تميزت بالاستمرارية فواكبت تاريخ العصور المختلفة، (القديم، والوسيط، والحديث، والمعاصر)، فهي في المقام الأول مدينة حضرمية من أبرز مدن مملكة حضرموت القديمة، وفي العصر الإسلامي سطع نجمها، وظلت مدينة شامخة بمبانيها الطينية ومآذنها وأربطتها العلمية حتى يومنا هذا، وطوال هذا التاريخ ظلت محافظة على اسمها (تريم)(19).
إن هذه المدينة التاريخية والمهمة على مر العصور لم تحظ بدراسة أثرية تاريخية، تكشف لنا عن دورها الريادي في مختلف مناحي الحياة. ولا شك أن آثارها القديمة ما زالت كامنة تنتظر من يرفع التراب عنها(20)، ومما يؤكد لنا أن الآثار القديمة لهذه المدينة ما تزال بحاجة إلى من يزيح الستار عن الغموض الذي يكتنفها، أن كثيرًا من هذه الآثار تم اكتشافها بمحض الصدفة. وهذا نداء عاجل إلى كل من يهمه الأمر لسرعة إنقاذ آثار هذه المدينة التاريخية المهمة وتداركها.
الهوامش:
(1) أحمد بن عبدالله شنبل: تاريخ حضرموت المعروف بـ(تاريخ شنبل)، تحقيق: عبدالله محمد الحبشي، مكتبة صنعاء الأثرية، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص89.
(2) طريقة الحك: هي عملية دعك سطح الصخر الخشن بحجر صلب أو مدبب الطرف أو بآلة حديدية.
(3) الرسم الإطاري: هو رسم أشكال غير مضللة.
(4) مخربشات: هي نقوش غير متقنة في رسمها.
(5) محمد حسين الفرح: الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير، صنعاء، وزارة الثقافة والسياحة، 1425هـ/ 2004م، المجلد الأول، ص232.
(6) محمد عبدالقادر بافقيه وآخرون: مختارات من النقوش اليمنية القديمة، تونس، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 1985م، ص6- 7.
(7) صلاح البكري: تاريخ حضرموت السياسي، الجامعة المصرية، الطبعة الأولى، 1354هـ، ج1، ص47.
(8) عبدالله كرامة التميمي: معطيات حول اليمن القديم في ضوء النقائش الحميرية (القرن 1ق. م- 6م)، (أطروحة دكتوراه غير منشورة)، جامعة تونس الأولى، تونس، 2003م، ج1، ص121.
(9) نفسه، ج1، ص119.
(10) نفسه، ج1، ص121- 122.
(11) نفسه، ج2، ص549.
(12) نفسه، ج1، ص53- 54.
(13) عبدالله كرامة التميمي: شواهد نقشية وأثرية من حضرموت (حضارة ما قبل الإسلام)، مجلة (جامعة حضرموت)، المكلا، العدد (13)، المجلد (6)، ديسمبر، 2007م، ص134.
(14) المدافن البرجية: هي نوع من أنواع المدافن (القبور) القديمة.
(15) يقع وادي الذهب بالقرب من مدينة تريم، ينظر: أحمد صالح الرباكي: الجديد في تاريخ تريم القديم، ضمن أبحاث ودراسات تريم عاصمة الثقافة الإسلامية، 1431هـ/ 2010م -ثلوثية بامحسون-، مطبعة وحدين الحديثة للأوفست، المكلا، حضرموت، 2012م، ص140.
(16) نفسه، ص136.
(17) ينظر نفسه، ص137.
(18) ناجي جعفر الكثيري: تمدن مدينة تريم في الإسلام، مجلة (جامعة حضرموت)، المكلا، العدد (2)، المجلد (10)، ديسمبر 2013 م، ص667.
(19) عبدالله كرامة التميمي: تريم في المصادر التاريخية، مجلة (جامعة حضرموت)، المكلا، العدد (2)، المجلد (11)، ديسمبر 2014م، ص582.
(20) نفسه، ص585.