دراسات
د.عبدالقادر علي باعيسى
تعريف بالكتاب انطلاقًا منه:
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 55
رابط العدد 11 : اضغط هنا
يعرض كتاب (المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي) تأليف السيد محمد بن أبي بكر الشلي باعلوي لفضائل العلويين الحضارمة من خلال ما يقرب من ثلاثمائة ترجمة لهم يبني عليها مشروع كتابه الذي يستند في أوله إلى نصوص من القرآن الكريم، وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، قارنًا إياها بالممارسات العملية والقولية التي كان يؤديها العلويون مقررًا بصورة ضمنية وحدة القول والفعل، أو وحدة المعطى التوجيهي الكريم الصادر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والسلوك الذي صدر عن أحفاده – أوليائه، وقد أضفى على الكرامات ما وسع به فضاء تصوره عن بني علوي بوصفه فضاء متعدد القيم والشواهد على فضلهم ومنزلتهم، ناقلًا عددًا من المكارم والمآثر عن كتب سابقة مثل كتاب (الجوهر الشفاف في كرامات السادة الأشراف) للشيخ عبدالرحمن بن محمد الخطيب الأنصاري، وكتاب (البرقة المشيقة في لبس الخرقة الأنيقة) للشيخ علي بن أبي بكر بن عبدالرحمن السقاف، وكتاب (غرر البهاء الضوي في مناقب السادة بني علوي) للسيد محمد بن علي خرد باعلوي، وكتاب (الترياق الواف بأخبار السادة الأشراف) للسيد عمر بن محمد بن أحمد باشيبان باعلوي، وكتاب (المنهل الصافي) للسيد عبدالله بن عبدالرحمن باهارون وغيرهم(1).
وهو كتاب يقوم على الغيبيات التي تحضر في أذهان المؤمنين بها بصورة تبدو أنقى من اليقين، بوصف الناقلين للكرامات مرجعيات دينية وأخلاقية رفيعة يعتمد عليها المؤلف في تقديم الموروث دليلًا حيًّا قادمًا من الزمن الماضي لتأكيد صحة اعتقاده في هذا المنحى، فتعتلي بذلك المعرفة التي يقدمها الكتاب إلى درجة التقديس بوصف الكرامات نتاج معرفة بالله وإخلاص له، بل إن الشلي نفسه واحد من المعترف بقيمتهم، فقد جاء في التعريف به على غلاف الكتاب (العلامة الجليل الحبيب العارف بالله تعالى)، وعليه فالكتاب لا يشكل بنية مستقله بذاتها، وإنما هو جزء من بنية مندمجة في منظومة نسقية زمنية وتراثية سابقة عليه(2).
وربما تكون بعض حكايات الكتاب عرض لها شيء من التفخيم من قبل المؤلف لينحو بكتابه هذا المنحى الوجداني الذي يطري فيه كرامات الأولياء، وهي كرامات غير منكورة في مستواها المعقول لا سيما أن نموذج الولي الصالح ظهر في التاريخ الإسلامي بأنه الجهة التي يمكن اللجوء إليها للتوسل إلى الله لإنقاذ المجتمع مما هو فيه من ضنك، أو مرض، أو مجاعات، أو أوبئة نظرًا لما يتمتع به من طهر وصفاء روحي، وعليه فإنه يتم الانتقال من البنية الحسية للرجل الصالح الماثل بجسده أمام مريديه إلى البنية الأعمق له المتمثلة باتصاله بعالم أسمى مما يجعلهم ينظرون إليه بصورة مختلفة بوصفه قادرًا على التدخل في شؤونهم، وإجراء تغييرات جوهرية في مسارات حياتهم حتى يتعزز حضوره الروحي – الاجتماعي، ومن ثمَّ حضور العائلة بأكملها، فتضخيم الصفات في الكتاب الذي بدأ من مضاعفة دلالة العنوان التعبيرية بزيادة لفظة (الكرام) إلى (السادة)، (في مناقب السادة الكرام) يحيل إلى تفخيم مقصود يتغياه المؤلف تترسخ من خلاله نظرة تقديرية لـهؤلاء ذات طبيعة زمنية متواصلة، وتتحقق مثل هذه التعبيرات في متن الكتاب بصورة واضحة مليئة بصفات الشرف من مثل »وإن السادة الأشراف بني علوي منحوا مراتب جليلة من صاحب الرسالة، وخصوا بعدم الشهوات والشبهات، واعتقاد أهل الضلال، فحفظهم الله تعالى من الميل مع من مال إلى التشيع والاعتزال«(3)، وكانوا »الوارثين علم السلف الأوائل بحسب ما انتهى علمي إليه، ووقفت بحسب الحال الحاضر عليه، كالمقتبس من تلك المصابيح ذبالة، والمغترف من ذلك البحر بلالة، على أني لو ذهبت أذكر من فيهم من الأعيان وأبين تراجمهم بعض البيان لاستدعى ذلك تأليفًا طويلًا، وكتابًا حافلًا جليلًا«(4).
ومع أن كتاب (المشرع الروي) يقوم في بعض كراماته على تواصل ميتافيزيقي مع شخصيات روحية غادرت الحياة، فقد حدد فيه مؤلفه منهجه وطريقة كتابته فقال: »فليس لي في هذا الجمع إلا حسن الاختيار من كلامهم، والتبرك بالدخول في نظامهم، وما نحن معهم إلا كما قيل :
ومالـــي فــيه ســـوى أننـي أراه هوى وافق المقصدا
وأرجو الثواب بكتب الصلاة على السيد المصطفى أحمدا
ثم ضممت إلى ذلك ما استفدته من تردادي في البلاد، ومخالطتي للعباد، من أخيار أهل عصرنا السادة الحضارمة الذين امتطوا غابر المجد وسنامه، ولا أذكر إلا من كثر في طريق القوم زاده، وكبر في العلوم مزاده«(5). وقوله: »ولا أورد من الكرامات إلا ما رواها عدل متيقظ ضابط عن مشاهدة، أو عما يقبل خبره كسائر الأخبار، ولا أثبتها بمجرد اشتهار«(6)، وقد وضع كل شخصية في مكانها حسب منهجه فقال: »وأرتب أسماءهم على حروف المعجم، ليسهل طرازها المعلن، من غير تقديم مؤخر عن مقدم، ولا تأخير عظيم عن أعظم، وأورد المتسمين بالاسم الواحد على حروف الهاء في أسماء آبائهم في الأعداد، وأسعى في إيراد المتفقين في الاسم واسم الآباء على ترتيب الحروف في الأجداد، كل ذلك بعد أن أقدم المتسمين بأشهر أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محمد توقيرًا له عليه الصلاة والسلام بتقديم أشهر أسمائه الغرر، واقتداء بمن سلك هذه الطريقة من علماء الأخبار والأثر، فأقضي لمن اسمه محمد بالتقديم، وإن كان الترتيب يقتضي لمن اسمه إبراهيم، وأوصل نسب كل واحد إلى أقرب جد مشهور، وبالعلم والولاية مذكور، وأذكر لقبه الشهير، وفخذه أو بطنه الكبير«(7)، مسبغًا على كل شخصية عددًا من الألقاب والمزايا تشكل في مجموعها حالة كبيرة من المحامد، وتبلور ظاهرة روحية وفكرية واجتماعية توحي بأن الكتاب لم يأت من فراغ، ولم يفض إلى فراغ، لا سيما أنه امتلأ بكثير من الموجهات القرائية الظاهرة والباطنة التي تسيطر على ذهن القارئ، وترغب في صناعة وعيه، أو في الأقل تهيئته لتقبل جو ذهني ونفسي واجتماعي وإيماني معين.
ولكي يعزز المؤلف هذا المنحى لا بدَّ له من أن يحيل إلى المرجعي في مكان وزمان معين، فـأما المكان فهو تريم وضواحيها في الأغلب الأعم، وأما الزمان فيمتد لعدة قرون خلت، وربما كان أولئك الذين ترجم لهم لا يرغبون في الترجمة لأنفسهم لما عرفوا به من الزهد، والتواضع، والمسكنة، لكنه اهتم بهم بوصفهم رموزًا دالة على قيم يسعى إلى تثبيتها، فهي تراجم ذات هدفية خاصة، وتخوض في عالم روحي لا نعرف عنه الكثير، فمن حيث الموضوع يعد بالنسبة إلينا موضوعًا مغلقًا أو مكتفيًا بذاته ما دمنا لا نعرف خصوصياته إذ إن ما يجري فيه مرتبط بتحول غامض تعيشه بعض الذوات البشرية، فنحن لسنا أمام شخصيات مباشرة بل أمام تكوينات بشرية – رؤيوية تخضع للكشف الباطني الخالص.
إنه كتاب ينقل سلوك الأرواح وعلاقتها في ما بينها التي تبدو أشبه بالرموز، وإن استخدمت لغة مباشرة لعدم معرفتنا بمجريات التداولات الحقيقية فيها والتي نقرؤها داخل النصوص فقط، وتعرفها جماعات خاصة معرفة يقينية كما يبدو من خلال الكتاب، بينما يعرفها القراء من الخارج معرفة خيالية يمكن أن تسيطر على وعي بعضهم بحوادثها الغيبية في ما يمكن أن يرى بعين خيالهم الذي ينشط في إطار هذا الأفق، ويترتب عليه تصور لعالم البرزخ يؤثر في مجرى حياتهم.
وظيفة الكتاب:
إن الوظيفة التي يسعى إليها الكتاب كما يبدو هي تطهير الأخلاق، وتزكية النفوس، والابتعاد عن مغريات الحياة، وإدخال الناس في أجواء خاصة من المحبة الروحية الرابطة بين الأحياء والأموات على حد سواء عن طريق فتح علاقة مع العالم الغيبي »وقد كان كثيرون من أهل الكشف يشاهدون البركات الظاهرة والأنوار الباهرة في هذه الجنان، وشاهد غير واحد منهم أنهم على غاية من النعيم والنور الجسيم«(8)، وقد »حكي أن الشيخ أبا سعيد قرأ سورة هود، ولما بلغ قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ جعل يردد الآية، ويتفكر، ثم قال يا أهل القبور ليت شعري من الشقي منكم ومن السعيد، فأجابه الإمام العارف بالله تعالى أحمد بن محمد بافضل من قبره بقوله امض يا سعيد في قراءتك فليس فينا شقي، وقيل الذي أجابه هو الشيخ مسعود بن يحيى باحرمي، ولعل الواقعة تعددت«(9)، وهو ما يمكن تفسيره أيضًا بالإضافة إلى تزكية الأخلاق بأنه فرار من الواقع أو بالمعنى الزهدي ابتعاد عن مغريات الحياة الدنيا، ونحن لا نعرف طبيعة هذه الانتقالات بين الأحياء والأموات وماهيتها، وإن كانت -كما هو واضح- تسعى لإنقاذ الإنسان بما هو تكوين إنساني فقط، بالمعنى الروحي للكلمة لا بوصفه كيانًا في مجتمع منظم يبني حياته على نظم اجتماعية واقتصادية ومعيشية وحقوقية معينة، أي إنها تبحث عن إنسان خاص مفرد في صفاء نيته، وطهر طويته مما يتطلب التصديق الإيماني بها بوصفها ركيزة روحية لا بدَّ منها لفهم أجواء الكتاب وأجواء تريم في ذلك الوقت، فهذه الظاهرة لا يمكن تحديد ضوابط موضوعية لها، فالولي الصالح هنا كائن حسي وكائن ميتافيزيقي في الوقت نفسه، ومعروف أن الميتافيزيقا تفصل الفكر عن الحواس ولا تعتمد على معطيات هذه الأخيرة(10).
والكتاب يقوم -من جانب آخر- على شكل من أشكال إبراز (الأنا) الاجتماعية (أنا العائلة أو القبيلة)، التي تبرز نفسها بوصفها عنصرًا نموذجيًا من خلال هذا التراكم في تراجم الأعلام الذي ينيف على مائتين وثمانين ترجمة؛ دالة على شكل خاص من أشكال الوعي المرتبط بتصور المثالية في القبيلة، بحيث ترى صورتها باستمرار في مرآة صافية تزداد عذوبة وروعة في عينيها كلما ازدادت مآثرها، إنها حالة من حالات إبراز الذات، وشكل من أشكال التواصل النوعي مع الواقع بنمطية فوقية، وآلية من آليات دفاع الجماعة (القبيلة) عن نفسها عن طريق هذا الشكل من أشكال القوة الروحية الناعمة المرتبطة بمثل اجتماعي وروحي أعلى(11).
إن شيوع مثل هذه الكرامات يكون له أثر في النواحي السياسية والاجتماعية والنفسية للمجتمع، ناتج عن الترابط بين حكايات الغيب وهذه النواحي على أساس روحي أو مثالي فحقيقة التجربة هنا تنتمي إلى عالمين مختلفين أو متناقضين هما عالم الأحياء وعالم الأموات حيث يختلف الزمان والمكان حتمًا، زمن الحياة وزمن ما بعد الحياة، فالميت يتحدث من زمن آخر ومكان آخر لا نعرف ماهيته، فهل الذي يتكلم معه من الأحياء في تلك اللحظة يتصل بالمكان والزمان الغيبي أو يتصل بالمكان والزمان الدنيوي؟ الأرجح -ومن خلال الكتاب- أنه يتصل بالعالم الغيبي، وعليه فـهذان العالمان متناغمان ما دام أحدهما يهتدي بالآخر، ويتكامل معه مع ملاحظة أننا ننظر إلى هذه التجربة من الخارج لأننا لا نعرف كنهها من الداخل، فالتجربة الإيمانية تجربة خاصة يتسم جمالها بصفات مثلى ينتج عنها السعادة بالأعمال الصالحة، وفي عالم الأموات والأحياء معًا، أو الأحياء والأموات لا توجد انقسامات فالجميع محكوم بسعادته بذلك العالم كما تقول لغة الكتاب (لغة الأولياء – الصالحين)، التي لا يمكن عدّها لغة الواقع، وإنما لغة ما بعد الواقع، فهذه اللغة مكشوفة في جانب، مبهمة في جانب آخر، مكشوفة من حيث بساطتها ووضوحها التعبيري، مبهمة من حيث المضمون الذي تتحدث عنه، فالحي والميت ينطقون على حد سواء على أساس أنهم يعيشون علاقات متفاعلة، ومن خلال ذلك كله تظهر نموذجية الإنسان المتحدث عنه، حيًّا كان أو ميتًا.
واللافت في هذا الكتاب قوة المنزع الوثوقي والإطلاقي الذي ينطلق منه المؤلف والذي يدل على لحظة من لحظات تشكل الوعي في حضرموت في مرحلة تاريخية معينة بحيث يبدو هذا الوعي الغيبي هو الموجه لكل القيم، بل ربما المشرع لها فإذا وعى أولئك (العارفون) أنفسهم ذواتًا متصلة بعالم الدنيا وعالم الآخرة أصبحوا مصدرًا أسمى لكل حقيقة ولكل معرفة، وصاروا قبلة المجتمع.
لكن ماذا يكسب المجتمع من هذه التجارب الدائرة على الذات في واقعه ومستقبله؟ وإلى أين يقود هذه التكرار للبركات على مدى عشرات السنين؟ في الأرجح يرتب تصورًا عامًا لقبيلة معينة عن نفسها وعن موقعها في الحياة الدينية وفي المجتمع بشكل عام، هم العلويون تحديدًا، لكن ماذا يحقق ذلك للمجتمع بوصفه كلًا ينبغي النهوض به في جوانبه المختلفة؟ الإجابة سلبية هنا مما سيفضي عند الجماعة العلوية بالضرورة »إلى نوع من التمركز حول الذات بوصفها المرجعية الأساسية لتحقيق أهمية كل شيء وقيمته«(12).
لقد هيمن هذا الوعي على حضرموت، فحينما فرغ المؤلف من تبييض أول نسخة من كتابه كما يقول الدكتور محمد يسلم عبدالنور: »تناقلها بعض النسّاخ، وكان لها صدى عظيم في الأوساط العلوية والحضرمية والمهجر، وأقبل على نسخه وقراءته طلاب العلم، حتى لقد أشار عبدالله بن علوي بن محمد الحداد (ت 1132هـ/ 1719م) على مريده أحمد بن زين الحبشي (ت 1144هـ) بأن ينقل عن هذا الكتاب، ويجمع فوائد منه، فامتثل لأمره، فكان حصيلة ذلك كتابه (المسلك السوي في جمع فوائد مهمة من المشرع الروي)، كما ذيل على (المشرع الروي) السيد عبدالرحمن بن مصطفى (ت 1192هـ/ 1778م)، ولا توجد منه نسخة سوى نسخة خطية في سورت بالهند«(13).
وكتاب (المشرع الروي) عندما يقدم تلك القيم لا يقدمها بشكلها المجرد، وإنما يقدمها من خلال الرجال في ما عملوه، إنه يقدم الأخلاق من خلال تقديم الأفعال التي تعطيك في المحصلة الأخيرة الرجل النموذج، فتعامل البشر مع البشر يعين على التعلم بسرعة، ولهؤلاء الأولياء الصالحين عدد من المواقف النادرة المتفوقة على طبيعة الحياة الاعتيادية، والتي تتجاوز إمكانية الحواس وإمكانية العقل لتصل إلى إمكانية أخرى تختلف عن كليهما، ولذلك تنمو حكايات الكرامات بغير عوائق وتنتشر بطريق سريعة في المجتمع، ولعلهم كانوا يرونها طريقة مثلى لإصلاح العالم، وهي طريقة خطرة إذا ما أوغلت في الغيبيات بصورة كبيرة، وكما حدث في بعض مناحي الكتاب أيضًا، غير أنه وكما يبدو لي فهذه الكرامات ليس غايتها وصول المجتمع إلى الحقيقة بالضرورة؛ لأنه لا يمكن فحص طبيعتها، وإنما غايتها الإصلاح والهداية، وهذا ما يتفق مع ما أشرنا إليه آنفًا من أنها كرامات كائنة في ذاتها، فموضوع البرهنة عليها لا يمكن أن يتم بصورة علمية، لكن أثرها عميق، وهذا هو المهم، ولم يكشف لنا أولئك الصالحون عن الطرائق السرية التي تجعلهم يتصلون بذلك العالم، وهل يكون الاتصال على مستوى التخيل أو على مستوى الخطف الوجداني؟ وهل يمكن أن تختلط الحقائق التي يشاهدونها في درجاتها ومستوياتها أو تظل كل حقيقة محتفظة بخصوصيتها؟ والمقصود بالخطف الوجداني الخروج عن الواقع المادي بحيث تصير الحقيقة الغيبية هي الحقيقة الأعلى في لحظة معينة.
الكتاب انطلاقًا من الشلي:
لقد أثر في الشلي نشأته الدينية وإحساسه الخاص بمجد قومه، لا سيما أن الخطاب الديني العلوي في عصره كان مزدهرًا، وقد دلَّ كتابه على أنه قرأ كثيرًا من تلك الكرامات واستمع إليها بحواسه وروحه، ونقلها بحيوية وجدية كبيرة عادًّا إياها دليلًا على الفوز في الدنيا والآخرة، مستوعبًا أهداف خطابه الذي يسير بالعلويين نحو مجد أكمل بحيث يدور العالم الأسمى بصفاته وخصائصه فيهم، واعيًا بمكانتهم وخصوصيتهم بشكل فريد ما دامت هذه الصفات متمثلة فيهم، منشرحًا بمجدهم الذي يحاول فيه جهده ما استطاع بأسلوب الحقيقة أو بأسلوب الكرامة لا سيما أن الخطاب الذي يقدمه يؤدي دورًا مؤثرًا في بيئة متقبلة له في تريم خصوصًا وحضرموت عمومًا حينئذ انطلاقًا من الانتقائية الشديدة في الكتاب، انتقاء الشخصيات، انتقاء المكارم، انتقاء الأحداث، اتقاء اللغة المادحة، انتقاء الأشعار.. إلخ.
إن المؤلف الشلي أكثر سعادة واحتفاء بهذا التواصل السري بينه وبين أجداده، وبينه وبين الصالحين عمومًا، بوصفه غاية قصوى من غايات الإنسان في الوصول إلى السعادة التي تعد جوهر الحقيقة الغيبية التي تعكس نفسها على الواقع، وهو من أكثر الناس حماسًا لها، ولذا ألف في هذا الاتجاه ونقله بوصف مروياته حقائق لا تقبل الدحض، فثمة عالم مستقل بذاته تمثله طبقة من الصالحين في المجتمع حتى صارت الحياة الواقعية تحاكي الحياة الغيبية وتسعى للوصول إلى مراتبها أكثر مما تطمح إلى تطوير الحياة الواقعية نفسها، ومن ثم تطوير ذاتها، فالولع بالحياة الدنيا يعني الابتعاد عن طريق الله، ولذلك تدخل صور العالم الغيبي عن طريق الكرامات في الواقع الموجود وحينئذ لا يكف الناس عن ترديدها والتطهر بها، وهذا ما شكل خصوصية تريم في مرحلة معينة، وانبث بعد ذلك إلى سائر حضرموت بصور مختلفة، وفي هذه الحال يتحول الشعب في تريم إلى مستوى عال من الروحانية، ويتم الإقبال على هذه الحكايات برغبة كبيرة، ويغدو أهل الكرامات نماذج تتمثل، ويغدو أهل تريم بدورهم نماذج للمجتمع الحضرمي يجدر تمثلهم، وقد سيطرت علاقات هذا الشكل من التفكير على حضرموت وما زالت إلى يومنا هذا بشكل أو بآخر، مما ترتب عليه أن يتم تحويل تريم إلى مركز للإشعاع الروحي حيث يوجد إحساس خاص بالسعادة والاطمئنان النفسي الذي يدعو إلى استدامة هذه الحال والرغبة في انتشارها، وبعبارة أخرى استدعاء الفرح الباطني عبر نوع من الانسجام الهادئ في الحياة يعين على تجاوز حياة المشقات بالابتعاد عنها، ويوفر نوعًا من الضمادات الروحية، فـهؤلاء الذين غادروا الحياة لم يذهبوا بعيدًا ما داموا أقدر على تطميننا، وما داموا جربوا الحياة والموت معًا.
إن العلاقة بالأموات الصالحين تعين -من وجهة نظر الكتاب- على أن نحيا بشكل أفضل، ولعله نوع من أنواع علاجات الروح عن طريق جذب الأرواح إلى بعضها، وشكل من أشكال الكشف عن عالم آخر لم نعرف عنه شيئًا، ومن هذا المنطلق يكون لمثل تلك الحكايات دور مؤثر في المجتمع، وتمثل حجر زاوية فيه في ذلك الوقت، من خلال عدد من المقومات مثل: (مقبرة زنبل)، و(مقبرة الفريط)، و(مقبرة بشار)، والأستاذ الأعظم الفقيه المقدم، وشيخ الشيوخ، والإمام، وأهل الحقيقة، وإمام العارفين، والعارفين بالله، والطائفة الصوفية، والطريقة.. إلخ.
والمشكلة هنا تكمن في التنميط الذي لا يمكن التزحزح عنه، والذي يتحول بمرور الزمن إلى سلطة ضاغطة دون روحية حقيقية، تؤدي إلى تصدع هذا المشروع من داخله، قبل أن تأتي اتجاهات أخرى تعمل على تصديعه، بحيث يتحول الإنسان إلى دمية يمكن تحريكها ببعض الحكايات التي صارت بفضل تكرارها أشبه بآلة كبيرة تفعل سلبيًا في المجتمع إذ صارت تكرس الاستعلاء دون جوهر روحي صادق، فبعد أن كانت الحكايات مرتبطة بالصالحين صارت مرتبطة بأولئك الذين يحاولون السيطرة على المجتمع باسم الصالحين مما أوضح نوعًا من علاقات السيادة المحاول فرضها بالدعاية وإبراز الأبهة، والمبنية على الاتباع، وتقديم فروض الولاء.
إن الشلي وإن كان كتب كتابه في مكة فهو يكتب من واقع الوعي الاجتماعي والثقافي في حضرموت في ذلك الوقت ويعمل على تكريسه، فمثل هذه الصور هي التي خلقت وعي تريم الذي ما زال مستمرًا بصورة من الصور إلى يومنا هذا، وقد تحول مجموع تلك الحكايات إلى مشاعر قوية عند الجمهور، فصارت تفيض على أرواحهم، وتسيطر على مشاعرهم، بحيث تزداد طاقة شعورهم بالإيمان بالبرزخ والكرامات إيمانًا جازمًا يسيطر على وجدانهم، وهو فيض اعتقادي لا يأتي من الحكايات حسب، وإنما من مجموع مآثر تريم، المقابر، القباب، والمساجد، والتراب الطاهر الذي لا يجدر بأن يمشي عليه الإنسان منتعلًا، يعزز ذلك الأشعار التي أوردها المؤلف، فهذه تقدم في مجموعها حالة من الاستثارة لدى أولئك تجاه الواقع المتدين، ربما إلى درجة أن يكون إحساسهم بمن حواليهم من الأموات نفس إحساسهم بالأحياء، وربما أعلى منه بحيث كانوا يفسرون أشياء كثيرة في حياتهم بهذا الواقع الخارجي الميتافيزيقي، وهكذا تتدفق كثير من تفاسير حياتهم من المقابر، ومن انفعالاتهم ذات الطابع الكرامي، وفي ذلك تكمن سعادتهم واطمئنانهم، بل إن أحدهم قد يرى الروح المتدينة متمثلة في صاحب القبة أو الضريح أكثر مما هي متمثلة في نفسه، أو في المقبرة بكاملها، أو في قبر معين، فيرق إحساسه لما هو خارج عنه، ثم يمتد هذا النبض من الخارج إلى داخله، تصير هذه الكيانات عوامل أساسية في إرهاف إحساسه المتدين، فيدرك جوهر حياته عبر العالم الآخر الذي يسمعهم يتحدثون عن كل حين، بكراماته واتصاله بعالم الأحياء، وربما أحس المواطن أن هؤلاء الأموات الصالحين نعمة من نعم الله التي عليه أن يتمسك بها، وألا يضيعها، ومن ثم فأهل تريم أقرب إلى الأولياء، ولعلهم من هذا المنطلق يكونون في نظر غيرهم من سكان بلدان حضرموت أقرب إلى الولاية والصلاح؛ لأنهم أدركوا من جوهر الأرواح وصفائها ما لا يدركه الآخرون، بوصف النتيجة الطيبة التي تلقتها الأرواح في عالم البرزخ تؤكد صحة الدرب الذي يسيرون عليه، والذي يجب على الآخرين أن يسيروا عليه ليسلموا. إنهم ضمنيًا يتجاوزون حدود المكان والزمان ليعيشوا في حالاتهم الخاصة، وبمقدار إيمان أحدهم بهذه الكرامات تقوى علاقته بالعالم الآخر، وفي هذه الحالة تأتي كرامات أرفع من كرامات، ومقامات أرفع من مقامات، ويتحول كل شيء واقعي إلى مثالي: القبة، والضريح، والمقبرة، والرجل العابر بالطريق، والأعرابي القادم من الصحراء، والهمهمات… إلخ.
واللافت أن هذه الحالة تشكل قاعدة متينة من التماسك نتيجة للفكر الوثوقي النمطي الشديد القداسة، الذي لا يمس، ولعل المواطنين أنفسهم خلعوا من ذواتهم على هذه الشخصيات أبعادًا إضافية انطلاقًا من إيمانهم بكراماتهم التي ترتفع بهم إلى أن يكونوا في مصافي بشر غير عاديين ينبثون في كل تفاصيل حياة الناس من الرغبة في الإنجاب، والسلامة في السفر، ونزول الغيث، والقضاء على اللصوص، وقصم الظالمين، وهي صور من الوحدة والتلاحم الذهني والنفسي والاجتماعي، الذي سيطر على مدينة تريم وحضرموت قرونًا عديدة حيث يعيش الناس في عالم من الصور المتمثلة في أرواحهم بصورة جيدة، فالسيد أبوبكر بن سالم بن أحمد بن شيخان صاحب عينات »تربته بها مشهورة، وكالشمس في وسط النهار، تقصده الزوار، من جميع الأقطار، بأنواع الأنذار، ومن استجار بقبره المأنوس، أمسى وهو محروس، لا يقدر أحد أن يناله ببوس، وبني عليه قبة عالية البناء، عظيمة القدر حسا ومعنى«(14)، (ص29، ج 2).
وعليه لا يعد كتاب (المشرع الروي) ثانويًا أبدا سواء في تاريخ الوعي الاجتماعي أو تاريخ الوعي الفكري فالأشياء تلتحم في تريم من خلال الكتاب التحامًا خاصًا البشر والحيوان والجماد، والأغنياء والفقراء، والعلماء وأهل الجذب، وتتحول تريم إلى مدينة واقعة بين عالمين عالم الدنيا وعالم البرزخ أو عالم الحياة وعالم المقابر، فهي إذن صورة خاصة مما يتولد عنه في المجتمع انفعالات وتصورات ذات طابع دنيوي – برزخي، يتعاملون معها على أنها تجارب حقيقة لا ينفصل بعضها عن بعضه الآخر، فيصير القبر والضريح أماكن مفتوحة حسب منطق تريم وليست أماكن مغلقة، أو مغيبة، ويصير المكان الواقعي مغلقًا.
وعليه تعني تلك الكرامات الممتدة على مدى قرون محاولة إيجاد شخصية دينية مميزة لتريم تجعلها تقف بموازاة الكيانات القبلية المنتشرة حولها، ابتداء من قيام الفقيه المقدم بكسر سيفه لتصبح رمزًا لسيادة العلويين، أو لسلطتهم الروحية التي قامت بوصفها رفضًا صريحًا للوضع القبلي العام بمعناه المسلح، ومحاولة تخطيه، قبل أن تتحول هي نفسها إلى سلطة تقليدية ضاغطة، ومن هذا المنطلق جاء تغليب الناحية الصوفية (قيام الفقيه المقدم بكسر سيفه) على الناحية الفقهية (رفض الفقيه بامروان هذا التصرف من تلميذه)؛ لأن الفقه سينتشر في حلقات الدارسين فقط، وفي زوايا محدودة من المساجد وفي الأربطة، أما البركات الصوفية فيتداولها المجتمع كله، وبتأثير أشد، وسيرورة أكثر انتشارًا إلى درجة أن الروح الصوفية يتعلق بها كل الناس جهلتهم ومتعلميهم، فيبرز الصوت الصوفي بوصفه صوتًا مجتمعيًا عامًا مما يتضمن تقديس الجهة التي تصدر عنها هذه الكرامات ورفعها لمنزلة أعلى.
لكن بالمقابل سيعيش الفرد الذي يتعلق بالكرامات حالة استلاب لذيذ تجاه المنتج للكرامات أو المانح لها (مدد.. مدد)، (شيء لله.. شيء لله)، و(أغثنا)، و(جينا طالبين)، وهنا يتحول معنى السيادة الروحية إلى معنى اجتماعي، ويتأصل المعنى الروحي اجتماعيًا عبر الزمن، فيقوم المجتمع على حالة من الاجتماعية – الروحية، ويكون لكلمة (حبيب) معنى روحي – اجتماعي، وتأتي الحضرات والزيارات الحولية كتجسيد طقوسي لهذه العلاقة، وتسهم في تعزيزها.
وقد يكون الدخول إلى عالم التصوف والكرامات منذ بدء إنشائه (المؤسسي) في حضرموت على يد الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي ناتجًا عن إحساس العلويين بالغربة في المجتمع، في ظل اعتزاز مفرط بالذات، فصب الفقيه المقدم جهوده على هذا المنحى، واعتز به، من خلال عدد من الممارسات والأقوال ذات الطابع الصوفي التي تمسك بها أبناؤه وأحفاده بوصفها تحقق وجودهم مما يجعل من كتاب (المشرع الروي)، والكتب المماثلة له علامة من علامات تميزهم الخاص الذي أسسوه بأنفسهم، ونموه بعناية ومحبة في بيئة قبلية وزراعية بسيطة يمكن أن يتسيد فيها هذا الجانب الوجداني – الروحي على الجانب العقلي، فالسيد »أبو بكر بن أحمد ابن الأستاذ الأعظم الفقيه المقدم رضي الله عنهم ظهرت منه كرامات منها أنه أتى إلى بئر المسجد ليتوضأ منها فلم يجد دلوًا، فأشار إلى الماء، فارتفع إلى عنده، واستمر حتى توضأ هو، وجاء بعض أصحابه فوجد الماء مرتفعًا فتوضأ والماء ينزل حتى فرغ من وضوئه ورجع الماء إلى محله«(15).
وفي الختام فإن كتاب (المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي)، كان يعرف مساره وموقعه على مستوى الوعي الاجتماعي والنفساني في مجتمع تريم، وترك أثرًا في ذلك الواقع ما زال أثره واضحًا إلى يومنا هذا.
الهوامش:
10) ينظر: الأدب في خطر، تصفيطان تودورف، ترجمة: عبدالكبير الشرقاوي، الطبعة الأولى، دار توبقال للنشر، 2007م، ص30.
11 (ينظر: مقالات في الشعر الجاهلي، يوسف اليوسف، الطبعة الثانية، دار الحقائق بالتعاون مع ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، تموز 1980م، ص24.
12) المدخل الفلسفي للحداثة، ابن داود عبدالنور، الدار العربية للعلوم – ناشرون، منشورات الاختلاف، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، قراءة في نصوص ميشال فوكو، الطبعة الأولى، 1430هـ/ 2009 م، ص26.
13) تراجم الشلي (ت 1094هـ/ 1683م) في كتابه “المشرع الروي” في القرنين 11، 12 الهجري، قواعد وبيانات تحليلية، د. محمد يسلم عبدالنور (بحث مخطوط).
14) المشرع الروي، ج2، ص29.
15) نفسه، ج2، ص24.