ترجمة
أ. نجيب سعيد باوزير
«أهدي هذه الترجمة إلى ذكرى الأستاذ عبدالله صالح البار، رحمه الله. فقد قدم لي السياسي الراحل نسخة مصورة من هذا الكتاب عن طريق الأخ العزيز الأستاذ الدكتور عبدالله حسين البار، رغبةً منه في الاطلاع عليه مترجمًا إلى اللغة العربية. ولكن الترجمة أبطأت أو أن المنيّة أسرعت أو هما معًا، فلم تتحقق تلك الرغبة مع الأسف. وهذا هو الفصل الثاني من القسم الأول من الكتاب أقدمه من خلال مجلة (حضرموت الثقافية) على أمل أن تظهر الترجمة الكاملة للكتاب ذات يوم ليس بعيدًا إن شاء الله».
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 80
رابط العدد 11 : اضغط هنا
إن أبرز خاصية وحيدة كانت تتصف بها تلك النشاطات السياسية التي ظهرت في اليمن الجنوبي هو أنها كانت شديدة التباين والتعقيد. لقد نتجت هذه النشاطات عن ظروف وأوضاع اجتماعية – اقتصادية وإدارية ووطنية مختلفة في البلاد؛ وكانت نشأتها متمحورة حول الاتجاهات الجيوسياسية المحلية المتعارضة بين اتجاه محافظ صارم واتجاه آخر منفتح على التأثيرات الأجنبية. وعلاوةً على ذلك كانت هذه التأثيرات الأجنبية، التي تشمل الإصلاحات المستوحاة من الإنجليز إضافة إلى التوجهات الاشتراكية والقومية القادمة من الدول العربية ومن جزر شرق الهند، تأثيرات هي أيضًا منقسمة على نفسها كثيرًا. وقد كان مجتمع اليمن الجنوبي بطبيعته رافضًا لانتشار وتغلغل الأفكار الجديدة التي كانت على أي حال تفتقر إلى التجانس وغالبًا ما كانت تجد لها صدى لدى فئات معينة في مناطق بعينها أكثر من غيرها. وهكذا كانت الصراعات القديمة والجديدة تدار على خلفية من التباينات الواضحة. وتكمن قوة أثر هذا الموروث في الحقيقة التي مفادها أن تطور الفئات السياسية بصورة عامة في اليمن الجنوبي، وتطور التجمعات القومية على نحو خاص كان يجري في جو مشبع بروح الصراع والرفض المتبادل.
كانت الهيئات السياسية الأولى التي ظهرت في عدن تحمل سمات الشخصية المرجعية والصارمة تراتبيًا للمجتمع المحلي. ففي أواخر الأربعينيات كانت تعمل في عدن هيئة تطلق على نفسها اسم (الجمعية الإسلامية). وعلى الرغم من أنه لا تتوفر إلا القليل من المعلومات عن نشاط هذه الهيئة، فإنه كان واضحًا تبنيها لنهج إسلامي وأنها كانت معتدلة وتكاد تكون غير فاعلة سياسيًا، كما كانت مرتبطة بالباكستان. كان زعيم هذه الهيئة محاميًا باكستانيًا، وبعد وفاته ضعف كثيرًا نشاط الجمعية الإسلامية. وفي حقيقة الأمر فإن هذه الهيئة كانت تقوم بدور بصفتها هيئة اجتماعية وقضائية لخدمة المهاجرين من الشرق الأقصى، بمن فيهم العائدون من فئة السادة.
وفي أوائل الخمسينيات كانت (الجمعية العدنية) الوجه السياسي الأكثر بروزًا الذي يعبر عن النخبة العدنية، فقد كان قادة هذه الجمعية أشخاصًا ينتمون إلى العائلات ذات المكانة الاجتماعية من آل لقمان، والمكاوي، وجرجرة، والبيومي، الذين عُرفوا بالثراء وبكونهم على درجة من الثقافة، وبسيطرتهم على الصحافة، مثل (النهضة)، و(الفضول). كانت الجمعية العدنية تنادي بالحكم الذاتي، وهي التي ابتدعت شعار (عدن للعدنيين)، وكانت تطالب بأن يكون لها دور في رسم مستقبل عدن، لا سيما عن طريق المشاركة في الهيئات النيابية. ولم تكن الجمعية العدنية في بداية نشأتها تطالب باستقلال عدن، ولكنها فيما بعد استجابت لهذا الخيار بوصفه إحدى القضايا التي تتبناها، وذلك بتأثير تنامي الضغط من القوى الراديكالية ذات التوجه القومي العروبي. وعند هذا المنعطف اختار قادة الجمعية أن يقفوا في صف الرأي الذي يقول إن عدن المستقلة يجب أن تنضم إلى الكومنولث البريطاني، وكان هذا اختيارًا يليق برجال الأعمال العدنيين المحنكين، الذين أرادوا أن يمزجوا بين الأهداف الوطنية والاستقرار السياسي القائم الذي كان يبدو لهم غاية المراد.
تعاونت الجمعية العدنية مع الإنجليز في تنفيذ بعض الإصلاحات؛ وعلى حد تعبير جافين، فإن هذا الحزب يمكن أن يوصف بأنه (مفصّل) ليناسب نظامًا يقوم على الإصلاحات الاستعمارية. وقد كان قادة الجمعية العدنية أكثر توجسًا من مشروع الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي، لأنهم كانوا يدركون أنه إذا ظهر هذا المشروع إلى حيز الوجود، فإنه سيكون على عدن أن تقدم الكثير من الدعم لإمارات الاتحاد حتى تقلص الفجوة الاقتصادية الكبيرة بينها وبين هذه الإمارات. ومن ناحية أخرى كانوا يتخوفون من أن يتدخل السلاطين في شؤون عدن وهو ما قد يؤدي ضمنا إلى إحلال (المَلَكية) في المدينة، أو، على أحسن الفروض، يعمل على خفض وتيرة نمط حياتها التجارية النشطة. ولكن عندما تصاعد تأثير العروبيين الراديكاليين في اليمن الجنوبي، واشتد ضغط الإنجليز باتجاه تكوين الاتحاد، لم يكن أمام قادة الجمعية العدنية من خيار سوى الاقتراب من القبول بالفكرة، وفي النهاية قبولها فعلًا، وهو ما حدث في أوائل الستينيات.
اكتسح أعضاء الجمعية العدنية انتخابات المجلس التشريعي العدني التي جرت في عامي 1955م و1959م، ولم يكن هذا إلا تعبيرًا عن الرضا الرسمي الذي كانوا يتمتعون به في دوائر النفوذ الإنجليزي. وهذا التعاطف من قبل قادة الجمعية العدنية مع الإنجليز، بالإضافة إلى خوفهم من التوجهات الراديكالية، وخلفيتهم الاجتماعية الاقتصادية، هو ما حال دون حصول الجمعية العدنية على تأييد شعبي واسع. وفي حقيقة الأمر فإن تنامي المطالبة بالاستقلال التام، وازدياد المعارضة للوجود الأجنبي، وتغلغل أفكار القومية العربية والاشتراكية في عدن، كل ذلك أدى إلى انخفاض هائل في شعبية الجمعية العدنية. وفي أبريل من عام 1960م أكد قادة الجمعية العدنية على الحاجة إلى تفعيل دور الحزب وذلك أساسًا عن طريق زيادة (صبغته السياسية) والتزامه ببرنامج انتخابي واضح. ولأن الإنجليز كان يروق لهم أن يطوروا تعاونهم مع هؤلاء الذين كانوا يعتبرونهم وطنيين (معتدلين)، فقد رحبوا بعملية (الإحياء) السياسي لهذه العناصر.
ولكن الجمعية العدنية لم تستطع أن تصمد طويلًا أمام القوى المتنافسة داخلها وأدى ذلك إلى حدوث انشقاق فيها. ففي عام 1960م أسس حسن البيومي، الذي كان قد شغل في وقت سابق منصب رئيس الجمعية، حزب الاتحاد الوطني الذي حاول أن يحافظ على مكانة النخبة العدنية ويلتقي مع المطالب المتنامية للمعارضة، خاصة ما يتعلق بمسألة الهجرة إلى عدن. ففي عام 1961م اقترح هذا الحزب الجديد إصدار قانون يمنح حق المواطنة لأي شخص “جعل من عدن موطنًا له”، إلا أن هذه العبارة الغامضة لم تُعطَ مزيدًا من الدقة والتحديد. وفي حين أيد قياديو الحزب مشروع الاتحاد، فإنهم في الوقت نفسه عبروا بوضوح لا لبس فيه عن رأيهم في حكام المحميات عندما أبانوا بأن حكومات المحميات التي يمكن الاعتراف بها رسميًا هي فقط تلك التي تنتخب من السكان المحليين “انتخابًا حرًا”. وفي يونيو من عام 1961م تأسس حزب أطلق على نفسه اسم (حزب الاستقلال) قيل إنه يمثل العدنيين في حي كريتر وعدَّ منافسًا لحزب الاتحاد الوطني. وفي حقيقة الأمر فإن مبادئ هذا الحزب كانت مشابهة لمبادئ منافسيه، غير أنه شدّد على الحاجة إلى توفير تعليم أفضل لفئة العمال، وكان أول من دعا إلى قيام “شكل من أشكال الحكم التعاوني الاشتراكي” وإلى تكوين “جيش وطني” في اليمن الجنوبي. وكان الحزب الذي استقطب جناحًا آخر من المنشقين عن الجمعية العدنية هو (هيئة المؤتمر الدستوري الشعبي)، الذي أخذ على عاتقه المطالبة بالاستقلال لعدن والمحميات، ودعا إلى الاندماج بينهما، إلا أنه كان يرى أن يؤجل هذا الأمر إلى تاريخ لاحق غير محدد. وزعيم هذا الحزب ومؤسسه هو رئيس تحرير صحيفة (فتاة الجزيرة)، الأستاذ محمد علي لقمان، الذي كان يدعو إلى قيام حكومات تتبنى الديموقراطية الاجتماعية في كل أنحاء العالم العربي بما فيها عدن. وكانت فكرته هذه تعني فيما تعنيه أن على العدنيين أن يتعاونوا مع بقية العناصر “التقدمية” في العالم العربي لتحقيق تلك الغاية.
ويبدو أن هذه الأحزاب التي كانت تمثل النخبة العدنية كانت أيضًا تعبر عن الصوت الذي يجهر على نحو ملح ومتصاعد بالمطالبة بالاستقلال، جنبًا إلى جنب مع التأييد الثابت لمشروع الاتحاد الفيدرالي. ولكن كان المطلب الأثير غير القابل للتنازل لهذه الأحزاب هو وقف الزيادة في أعداد الآسيويين والأوروبيين وتقليص نفوذهم في عدن. فلم تكن الأحزاب السياسية العدنية ترى في المهاجرين اليمنيين مصدر خطر وكانت تتقبل وجودهم، ولكنها كانت تتخوف من الجاليات الأوروبية ومن الآسيويين على اعتبار أنهم يمثلون تهديدا محتملا لمركز العدنيين وثقلهم على مختلف الأصعدة. وفي أوائل عام 1960م ضغط حزب الاتحاد الوطني على حكومة عدن لسن قانون يحظر تغيير العمال اليمنيين والمحليين بأجانب. ولكن في مارس وأبريل من نفس العام لم يفلح الأستاذ لقمان في محاولاته لإقناع حكومة عدن بإلغاء القوانين التي تسهل للأجانب الهجرة إلى عدن وحيازة الأملاك فيها. لقد باءت جهود ومحاولات النخبة العدنية بالفشل ولم يستطيعوا أن يشكلوا جبهة متحدة خلال هذه المدة العاصفة، وعلاوة على ذلك لم يفلحوا في ردم الهوة التي كانت تفصلهم عن الجماهير اليمنية، إذ كانت هذه الجماهير، وواجهتها (المؤتمر العمالي)، خصمًا عنيدًا للنخبة العدنية. وبتاريخ 23 يونيو من عام 1961م صدرت الجريدة العدنية Aden Chronicle وهي تحمل ما يشير إلى خيبة أمل النخبة العدنية عندما نوهت إلى أن “العناصر المعادية” قد نجحت في تهييج الجماهير العدنية عن طريق الديماغوجيا والأساليب الرخيصة. كانت الأحزاب العدنية ضعيفة ومفككة، مثلها مثل باقي الأحزاب النخبوية التقليدية في الشرق الأوسط، فقد كانت تنقسم على نفسها بسبب الصراعات الشخصية، وتفتقر إلى الرؤية الشاملة وإلى القاعدة الشعبية العريضة.
أما في المحميات فقد كانت العناصر ذات الثقل الاجتماعي أكثر عجزًا عن تشكيل أحزاب سياسية. وفي عام 1950م كوّن نفر من (السادة) والمنتمين إلى الإنتليجنسيا الجديدة من المؤيدين للإنجليز في حضرموت ما أطلق عليه اسم (جمعية الإحسان الحضرمية)، وفي لحج تأسس (النادي الشعبي بلحج). وفي مايو 1961م تأسس (الحزب التعاوني الإسلامي الحضرمي)، وأعقبه في التأسيس (حزب الرابطة الشعبية). ولا يعرف الكثير عن أنشطة هذه الهيئات والمنظمات، ولكن على ما يبدو فإنه في أواخر الخمسينيات توصلت الطبقة الحاكمة في المحميات إلى اقتناع من الناحية السياسية حول ضرورة الاستعداد للدخول في الاتحاد.
ارتأى السلاطين أن يضمنوا حماية وجودهم من خلال الدوران في فلك السياسة البريطانية التي تفتقت عن مشروع الاتحاد الفيدرالي، وذلك بعد أن أحسوا بالخطر من مداهمات اليمن الشمالي المدعومة بالتخريب الناصري. ونتيجة لذلك أصبحت شخصيات مثل شريف بيحان حسين الحبيلي، والشيخ ناصر بن فريد زعيم العوالق العليا، والسلطان صالح سلطان العواذل، والسلطان أحمد بن عبدالله الفضلي وزراء بارزين في الاتحاد. وعلى النقيض من مطالبة الأحزاب العدنية بالاستقلال، تلك المطالبة المعتدلة والمتصاعدة في الوقت نفسه، كان الشريف حسين يطلب من بريطانيا: »كلمة شرف… أنكم لن تتركونا لكي نشنق مثل أولئك النفر المساكين الذين أعدموا في مصر بسبب تعاونهم معكم في حرب السويس«. وأكثر من ذلك طالب شريف بيحان بريطانيا “حامية العقيدة” أن تحترم تعهداتها لبيحان التي اتُفق عليها في المعاهدة بين الطرفين. ومن هنا يمكن القول إن الهيئات السياسية التابعة للنخب المسيطرة في عدن والمحميات قد أفرزها الشعور بعدم الأمان الذي كانت تعيشه تلك النخب وأنها كانت إحدى المحاولات السياسية العديدة الملتبسة التي بذلتها لحماية وضعها.
وخلافًا للهيئات النخبوية، حاولت المعارضة أن تثبت وجودها من خلال انخراطها في هيئات أكثر تنظيمًا، وذات خط سياسي أكثر وضوحًا. وكما ذكرنا سابقًا، فإن موجة المعارضة في المحميات كان وراءها في كثير من الأحيان أفراد متذمرون ينتمون إلى الفئة الحاكمة نفسها. فحتى منذ أواسط الخمسينيات كان سلطان لحج علي عبدالكريم يصرح بأنه “قومي عروبي”، وأن “عهد الاستعمار” قد ولى، وقد وافق على أن يمدد معاهدة الاستشارة بين لحج والإنجليز ولكن مع عقد النية على تهيئة إمارته للاستقلال. وقد أشار فعلًا تريفاسكس إلى أنه كانت هناك “عناصر صديقة” في الطبقة الحاكمة كانت تحركها دوافع تجمع بين الرغبة في الإصلاح الاقتصادي والنزعة الوطنية. لقد تعاون هؤلاء مع الإنجليز من أجل الحصول على الخبرة الفنية والتعجيل بتطور اليمن الجنوبي، ولكنهم إنما فعلوا ذلك وهم يعتقدون أن رد بريطانيا على هذا التعاون هو أن تتعامل بصورة متحضرة، أو بالتحديد أن تتخلى عن حكم المنطقة. وعلاوة على ذلك، فإنه على الرغم من المشاكل الحدودية السابقة بين لحج واليمن الشمالي، فإن علاقة السلطان علي مع حاكم اليمن الشمالي (الإمام أحمد) كانت علاقة طيبة جدًّا، وقد أعلن الأول أن اليمن الشمالي سوف تكون “عاملًا مساعدًا” على استقلال اليمن الجنوبي. وفي عام 1955م التقى السلطان علي بعبدالناصر، وبعد هذا اللقاء مباشرة أخذ يثير الضجيج حول ضرورة التعليم المجاني الإلزامي وإنشاء سد في وادي تبن بلحج، وهي مطالبات رأى تريفاسكس أنها صدى لخطط عبدالناصر التطويرية.
قدم السلطان علي مطالباته في وقت كانت المحميات فيه تشهد توسعًا اقتصاديًا. فقد كان في إمارته (لحج) جمعية تعاونية ناجحة لإنتاج القطن، ممولة من مجلس أبين. وقد سبق أن أشرنا إلى أن محمد بن العيدروس أعلن انتفاضته بعد أن رفضت السلطات البريطانية طلبه بأن يحصل السكان المحليون على نسبة كبيرة من الأرباح وعلى تمثيل أكبر في مجلس أبين. ونخلص من هذا إلى أنه لم يكن الفقر ولا الحرمان الاجتماعي هو الذي دفع علي عبدالكريم ومحمد بن العيدروس إلى رفع راية المعارضة، كما أنه لم تكن تحركهما المصالح التقليدية للطبقة الحاكمة التي لو وجدت لكان الأجدر أن تجعلهما يتعاونان مع الشريف حسين. فما كانا يريدانه هو أن يتحكما -أو أن يكون لهما نصيب أكبر- في الاقتصاد اليمني الجنوبي الآخذ في التطور وفي نمط الحكم الجديد. وكانت هذه هي نفس المصالح التقليدية لملاك الأراضي، وكبار المسؤولين، والمشتغلين بالتعليم، وبعض الفئات الأخرى المنتمية إلى الطبقة الناشئة حديثًا في اليمن الجنوبي وهي طبقة متوسطة في معظمها وعالية في جزء منها. وهؤلاء كانوا يسيّرون فعلًا المشاريع التطويرية في البلاد وكانوا هم العنصر الأكثر رقيًا والميسورين ماديًا بين السكان. وقد أشار بعض الكتاب، من بينهم هالبرن و م. بيرجر، إلى أن الطبقة المتوسطة الجديدة في الشرق الأوسط أصبحت مشاركة بقوة في النشاط الاقتصادي لبلدانها، وأظهرت رغبتها الصادقة في استلام الحكم في تلك البلدان. فقد كان لدى هذه الطبقة معرفة واهتمام بشؤون البلاد، وكان كثير من المنتمين إليها ذوي مستوى تعليمي عال إلى حد ما ومعرفة لصيقة بالمشاكل الكامنة في المجتمع، ويمكن القول على وجه العموم إن الناس الذين كانوا يمثلون الطبقة المتوسطة الناشئة قد تكوّن لديهم شعور وطني وإحساس بالمسؤولية نحو المجتمع الذي يعيشون فيه.
وقد كانت توجد منذ العام 1950م جماعة تنتمي إلى تلك الطبقة المتوسطة، وقد أصبحت تعرف باسم (رابطة الجنوب العربي). وكان يتولى زعامة هذه الجماعة رجلان ينتميان إلى فئة (السادة)، إلا أنهما كانا يتصرفان بوصفهما مفكرين ينتميان إلى الطبقة المتوسطة لا إلى فئة ذوي السلطة الروحية. وأحد هذين الرجلين هو محمد علي الجفري، الذي درس في القاهرة، وقد كان هو مؤسس الرابطة ومنظِّرها، والآخر هو شيخان الحبشي الذي درس في بغداد، وأصبح فيما بعد زميلًا للجفري. وكان علي عبدالكريم ومحمد بن العيدروس من أشد المناصرين لرابطة الجنوب العربي. لم تكن أفكار الرابطة أفكارًا متكاملة ولم تُصغ أدبياتها في لغة دقيقة، ولكن من المعروف أن أعضاءها كانوا يؤيدون نوعًا من الاتحاد بين عدن والمحميات، وهو ما كان ينسجم مع الطموحات الاقتصادية للطبقة المتوسطة في المحميات وأيضًا مع الأفكار العروبية. وكان الجفري، الذي كانت أسرته في لحج تحتفظ بعلاقات وطيدة مع الإمام، ينظر إلى وحدة اليمن الجنوبي على أنها الخطوة الأولى فقط نحو وحدة أكبر يمنية بل وعربية، ولكنه تخلى عن تبني هذا الهدف في أعقاب ثورة 1962م في اليمن الشمالي. وعلاوة على ذلك كانت رابطة الجنوب العربي أول هيئة تطالب بالاستقلال التام والفوري لليمن الجنوبي.
وفي عام 1954م ساندت الرابطة المملكة العربية السعودية ضد بريطانيا في النزاع حول واحة البريمي. ولكن عداءها لبريطانيا وصل إلى ذروته في أثناء الانتفاضات التي شنها أبو بكر وابن العيدروس، إذ كانت الرابطة حينها تمثل مركز الثقل الأيديولوجي والسياسي لهذه الانتفاضات. ووفقًا لرواية تريفاسكس فإنه في عام 1958م كانت إمارة لحج، موطن الجفري وعلي عبدالكريم، على وشك إعلان اندماجها مع الجمهورية العربية المتحدة، وفي نهاية ذلك العام انشق أفراد الحرس القبَلي في لحج بهدف تكوين “جيش تحرير وطني”.
وكما كان متوقعًا فقد صنف الإنجليز الرابطة على أنها المنظمة الأكثر خطورة. وفي عام 1956م، وقرب نهاية ولاية ت. هيكينبوثام حاكمًا لعدن، صدر حكم بنفي الجفري، إلا أن هذا الأخير كان قد توقع هذا الإجراء من قبل الإنجليز ففر هو وأخوه عبدالله إلى اليمن الشمالي. وفي صيف عام 1959م عزل الإنجليز السلطان علي عبدالكريم عن الحكم ثم نفوه خارج البلاد.
كان لرابطة الجنوب العربي إنجازان واضحان يسجلان ضمن التاريخ الوطني لليمن الجنوبي: فمن ناحية جسدت آمال الطبقة المتوسطة الوليدة في المحميات ونجحت في أن تجمع في نسيج واحد قطاعًا عريضًا مركبًا من حالة التمرد بلغ ذروته عندما حظي بدعم محلي واسع ومساندة من اليمن الشمالي. ومن ناحية أخرى حاولت جاهدة أن تخلق منظمة شاملة لكامل التراب الوطني، إلا أن هذه المحاولة لم تتمخض عن أي نجاح يذكر.
ومن الحق القول إنه في بداية الأمر حققت الرابطة بعض النجاح في حضرموت، فقد كان رأس عائلة بافقيه في المكلا من المناصرين للرابطة، وكان هو رئيس تحرير صحيفة (الجنوب العربي). وفي عام 1950م قاد هذا الرجل المعارضة ضد السلطان القعيطي، ثم في عام 1958م كان يتقدم الانتفاضة التي اندلعت بعد أن منع الإنجليز القبائل من حمل السلاح. وكان رد فعل السلطات أن أغلقت (النادي الثقافي) بالمكلا الذي كانت الرابطة تعمل من خلاله. وكانت هناك مظاهر أخرى ذات صلة بتأييد الرابطة، من أبرزها الدعوة إلى الوحدة اليمنية. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الرابطة أول منظمة حاولت فتح فروع لها في عدن من المنظمات التي نشأت أصلًا في المحميات. وليس من الواضح من هم الذين استجابوا لدعوة الانضمام للرابطة في عدن، ولكن في المحميات ربما كان المؤيدون الأساسيون لها هم من المدرسين والموظفين. ومن المعروف أيضًا أن الرابطة هي التي كانت وراء تأسيس أحد الاتحادات المبكرة في عدن، وهو الذي أطلق عليه اسم (المستخدمون)، وهو اصطلاح لم تظهر أي معلومات إضافية تبين حقيقته.
وفي عام 1955م شكلت عدة اتحادات تجارية وأندية شبابية في عدن ومعهم رابطة الجنوب العربي هيئة أطلق عليها اسم (الجبهة الوطنية الموحدة)، وكان الهدف منها توحيد كل المنظمات السياسية العدنية. وقد تضمن البرنامج السياسي للجبهة الدعوة إلى الاتحاد الشامل لكل أجزاء اليمن الجنوبي على أن تكون عاصمته هي عدن، وإلى تكوين حكومة منتخبة، وتحسين أوضاع العمال، وترحيل الأجانب، وتشجيع الثقافة واللغة العربيتين، وتقوية أواصر العلاقة مع الدول العربية. كما تبنت الجبهة بعض الشعارات اللصيقة بالناصريين والبعثيين، مثل الوحدة العربية والحياد الإيجابي. وعلى وجه العموم فإن هذه الجبهة كانت تعبيرًا واضحًا عن الروح القومية التي أخذت في البروز. ولكن في أثناء انتخابات عام 1955م في عدن، وبعدها، نشب خلاف بين الرابطة وشركائها داخل الجبهة. فقد خاض مرشحون عن الرابطة الانتخابات ولكنهم خسروا، وكان الفصيل الذي فاز بمعظم المقاعد في المجلس التشريعي العدني هو الجمعية العدنية. أما الجبهة الوطنية الموحدة، التي كانت الرابطة أحد مكوناتها، وعمال عدن فقد قاطعوا الانتخابات. وكان هذا يشير إلى اتجاه سياسي جديد في اليمن الجنوبي. فإن كلا النخبتين العدنيتين اللتين كانتا تعملان من خلال الجمعية العدنية ورابطة الجنوب العربي حاولتا أن تتواءما مع النظام القائم بأن تخوضا الانتخابات، ولكنهما لم تفلحا في إقناع عمال عدن بأن يفعلوا الشيء نفسه. ولا بدَّ أن رابطة الجنوب العربي قد حاولت إقناع الجبهة الوطنية الموحدة بأن تشارك في الانتخابات بصفتها هيئة واحدة، ولكن زعماء الاتحاد (لاحقًا زعماء المؤتمر العمالي) داخل الجبهة هم الذين حرضوا الرأي العام على المقاطعة ونجحوا في ذلك. ويبدو أن هؤلاء كانوا هم الذين تولوا صياغة أهداف الجبهة وخططوا لنشاطاتها. وفي عام 1956م كانت الجبهة بتركيبتها التي سيطر عليها العمال هي التي هيجت عمال عدن حتى يشاركوا في الإضرابات التي سبقت الإشارة إليها.
نستنتج مما تقدم أن الرابطة، التي نشأت في المحميات، قد فشلت في توطيد مركزها في عدن وفي السيطرة على قيادة الحركة الوطنية في اليمن الجنوبي. ويمكن شرح هذا الفشل على مستويين. المستوى الأول يتعلق بنمو الحركة السياسية الوطنية، إذ يبدو أن شعارات الرابطة الوطنية التي تعاطفت بشدة معها الطبقات المتوسطة في المحميات كانت غير متوائمة إلى الحد الكافي مع أفكار العمال في عدن، التي كانت أكثر راديكالية بكثير. وقد عدَّ العمال مشاركة الرابطة في انتخابات العام 1955م تراجعًا خطيرًا للرابطة عن جبهة المقاومة الموحدة باتجاه السلطة الأجنبية. وفي عام 1960م كتب الأمين العام للمؤتمر العمالي قائلًا إن: »الرابطة خذلت أنصارها… خاصةً وأنه كان لها ماض وطني«. وقد قاطعت الرابطة الانتخابات فعلًا في عام 1959م ولكن هذا لم يمحُ وصمة تخاذلها السابق وتراجعها عن الصف الوطني المتشدد.
ولم تكن زيارة الجفري للرياض في المملكة العربية السعودية في عام 1959م وحصوله على مائتي ألف ريال »من أجل التمرد (الذي قاده ابن العيدروس) في الجنوب« إلا ليُحدث أثرًا معاكسًا؛ لأن المؤتمر العمالي كان يعد المملكة من أعوان الإمبريالية. وذهب المؤتمر العمالي إلى أبعد من ذلك، إذ اتهم علي عبدالكريم بأنه طموح أكثر من اللازم ويريد أن يكون »ملكًا على الجنوب«، كما اتهم الجفري بأنه يملك امتيازًا بتروليًا في لحج منحته إياه شركة (شل) الأوروبية. وعلى الرغم من أن الاتهامين كانا غير واقعيين، فإنهما أحدثا تأثيرًا غير هين في عدن.
كما أن الرابطة فشلت أيضًا على المستوى الاجتماعي. لقد أبانت معارضة المؤتمر العمالي للرابطة عن نفور الطبقات الدنيا والمتوسطة العدنية من التعاون مع العناصر القادمة من المحميات حتى لو كان هؤلاء ينتمون إلى نفس الطبقات الاجتماعية. وعلاوة على ذلك، فإن المؤتمر العمالي الذي كان يجسد البروليتاريا المنتمية إلى المدينة وجد من الصعب عليه أن يندمج مع هيئة تنتمي إلى المحميات وتضم في صفوفها سلاطين ومسؤولين حكوميين. وكان المؤتمر العمالي يرى أن علي عبدالكريم وابن العيدروس، بالإضافة إلى فرع الرابطة في عدن، كانوا في الأساس يتقبلون النظام القائم، وأن كل همهم هو أن يزيدوا من مستوى تمثيلهم داخله، وأن يحصلوا على نصيب أكبر من خيراته. وعلى العكس من ذلك كان أعضاء المؤتمر العمالي نتاج التفاوت الاجتماعي الذي كان آخذًا في الازدياد وعلاقات العمل المتوترة في عدن؛ فلم يكونوا مهتمين أو حريصين على التعاون مع النظام القائم، أو على المشاركة في السلطة. كان هؤلاء يشعرون أنهم في قطيعة تامة مع السلطة الحاكمة، ويسعون إلى إسقاطها، ولعل هذا الموقف يفسر الاتهامات التي كانت موجهة ضد علي عبدالكريم.
وعليه فإنه في أوائل الستينيات، برز المؤتمر العمالي العدني بوصفه أقوى الهيئات السياسية في اليمن الجنوبي، خاصةً بعد أن تم إخماد الانتفاضات الموعز بها من الرابطة في عام 1960م ونفي زعمائها. وهذا الوصول للمؤتمر العمالي إلى أن تكون له الغلبة كان يشير أيضًا إلى أن العمل السياسي في عدن قد انطبع بالطابع الراديكالي. وقد كانت أنشطة المؤتمر منذ انطلاقها ذات أهداف سياسية وأهداف اجتماعية مهنية. وقد توصلت لجنة تقصي الحقائق حول إضرابات عام 1956م إلى أنها كانت نتيجة لتضافر عاملين هما: المشاكل الاجتماعية، والسياسة المتبعة من قبل الحكومة في موضوع الهجرة، اللذان أديا إلى نشوء “مظلمة شديدة” سرّعت بحدوث الإضرابات. وفي أبريل من عام 1958م انفجرت إضرابات أخرى على خلفية مشابهة، وفي مايو أعلنت السلطات حالة الطوارئ. وفي أكتوبر من نفس العام، على أثر حدوث اضطرابات، نفي مائتان وأربعون عاملًا إلى اليمن. وفي تلك الأثناء اعتقل الأمين العام للمؤتمر العمالي، ومنعت من الصدور الصحيفة الصادرة عنه التي تحمل اسم (العمل). وفي أوائل عام 1959م نظم المؤتمر العمالي إضرابات أخرى احتجاجًا على الانتخابات الوشيكة في عدن. ونتيجة لهذه الإضرابات أصيب الميناء بالشلل لمدة 48 يومًا، ومصافي البترول لمدة 34 يومًا. وقد أنهيت الإضرابات بعد أن تدخلت هيئة اتحاد التجارة البريطانية، التي كانت ترغب في أن تبقي على اتصالها مع المؤتمر العمالي. كما حاول وسيط من قبل هيئة اتحاد التجارة البريطانية، اسمه أ. دالجليش أن يبحث الوصول إلى اتفاق بين الحكومة والمؤتمر العمالي، ولكن دون جدوى. وفي عام 1960م وصل عدد الإضرابات إلى 84 إضرابًا، معظمها كانت بدوافع سياسية، وتضررت المشاريع الاقتصادية في عدن بما قيمته عشرات بل مئات الآلاف من الجنيهات. عندئذ أدرك الإنجليز أن الإضرابات كانت وراءها دوافع سياسية واقتصادية، وأن لها أثرًا خطيرًا على الاقتصاد العدني.
وفي مارس من عام 1960م رفع إي. باري، وهو مستشار خاص للعلاقات الاقتصادية تابع لحكومة عدن، تقريرًا تقدم فيه باقتراح بأنه، إجمالًا، من الأفضل للحكومة أن تتصرف بصفتها وسيطًا وليس صاحب عمل فيما يتعلق بالمشاكل الاقتصادية التي تنشأ في عدن. ولكن من الناحية العملية أوصى باري في تقريره بتعليق حق العمال في الإضراب، إلا إذا وافقوا على خصم الضرائب مباشرة من أجورهم، وعلى التوسط الإلزامي في النزاعات، وتغيير أنظمة الاتحاد، وذلك بهدف منع أي “إضرار” بالموارد المالية للاتحاد.
وفي 17 أغسطس من عام 1960م أصبحت توصيات باري قانونًا يُعمل به في عدن، وهو ما عجّل بنشوب أزمة بين المؤتمر العمالي وبين الإنجليز والنخبة العدنية، التي كان ممثلوها في الحكومة هم من أقروا القانون. ولكي يتجنب المؤتمر العمالي أي صدام مباشر يمكن أن يخسر فيه، وافق على التوسط الإلزامي وقام بتخفيض عدد الإضرابات ذات الدوافع المهنية. ولكن، في الوقت الذي انسحبت قياداته من المفاوضات، بدأ بتنفيذ الإضرابات التي كان قد أعلن عنها سابقًا وجعل عمال عدن يبدأون في طريقة (التلكؤ) الاحتجاجية. ظهر رد الفعل الأولي للمؤتمر العمالي في المجال السياسي، ونحتاج هنا إلى بسط القول في سياسات هذه الجامعة النقابية حتى نتمكن من إدراك الأهمية التي كانت تمثلها. كان المؤتمر العمالي ذا بنية اتحادية وكان المفترض أن النقابات المختلفة المنضوية في إطاره تحتفظ لنفسها بقدر كاف من الاستقلال الذاتي، ولكن في أواخر الخمسينيات نجحت القيادة المركزية تدريجيًا في الاستحواذ على قدر أكبر من السلطة والنفوذ. وفي عام 1959م نظمت النقابات المنفردة نفسها في تجمعات أو اتحادات أكبر؛ وفي عام 1960م، على أثر إبطال حق الإضراب، تأسست ثمانية اتحادات: نقابات عمال النفط، نقابات عمال الميناء والتصدير، نقابات عمال الحكومة والبلديات، نقابات عمال الصناعات المختلفة، نقابات المعلمين، نقابات مستخدمي الدفاع المدني، نقابات مستخدمي الأعمال الخاصة والبنوك، ونقابات عمال المطاعم ودور الترفيه. وكل اتحاد من هذه الاتحادات كانت له سكرتارية ومندوبون إلى الجمعية الاستشارية للمؤتمر العمالي يتراوح عددهم من اثنين إلى أربعة. وكانت هذه الجمعية تنتخب سنويًا مجلسًا تنفيذيًا يتكون من تسعة أعضاء، من ضمنهم رئيس المؤتمر العمالي، ونائبه، والأمين العام، ورؤساء الإدارات. وكان زعماء المؤتمر العمالي يهدفون من تكوين هذه الاتحادات إلى الحد من قوة النقابات المنفردة (مثل نقابة عمال النفط، ونقابة عمال الميناء)، وإلى دمج أكبر عدد ممكن من النقابات الصغيرة والأقل تأثيرًا في إطار المؤتمر العمالي تحت قيادة مركزية قوية. وبعد دخول قانون حظر الإضرابات حيز التنفيذ، أعطيت القيادة المركزية للمؤتمر العمالي السلطة على أكثر من 50% من الودائع الخاصة بكل نقابة مستقلة.
كانت الشخصية المهيمنة على المؤتمر العمالي هو عبدالله عبدالمجيد الأصنج، المولود في صنعاء في عام 1934م، ولكنه قضى معظم مراحل حياته في عدن. كان عبدالله الأصنج يعبر عن الاعتراف بالفضل لأشعار والده وميول والدته نحو الأدب العربي والتاريخ والدين، بوصفها هي التي وجهته إلى أفكار القومية العربية في وقت مبكر من حياته. كما تأثر أيضًا بالقضايا المركزية ذات الاهتمام العربي المشترك مثل حرب عام 1948م. وكان الأصنج قد التحق بكلية في الشيخ عثمان بعدن، كما درس لاحقًا في كلية للمعلمين إلا أنه لم يكمل مقرره التعليمي. ثم بدأ يعمل في مهنة كاتب في الفرع المحلي للخطوط الجوية البريطانية، وعرف عنه آنذاك القيام بدور مهم في تكوين نقابة عمالية. وقد اتجه بعد ذلك إلى الانخراط في نشاطات أوسع في عدن، وكان أحد المؤسسين للمؤتمر العمالي، ثم أصبح أمينًا عامًا له ثم رئيسه.
ويقول تريفاسكس إن الأصنج كان يسعى إلى أن يكون في عدن كما كان مكاريوس في قبرص، أي أن يكون زعيمًا وطنيًا، داهية، مرنًا في الظاهر ولكن عنيدًا في الوقت نفسه. وتحت قيادته كان المؤتمر العمالي يتبنى مبادئ سياسية بعينها. كان الأصنج يعلن أنه في المقام الأول وقبل كل شيء هناك: »شعب واحد، يمن واحد، كفاح واحد. لا شمال ولا جنوب بل يمن واحد… ولا اتحاد فيدرالي«. ونتيجة لذلك أصبح المؤتمر العمالي هو صوت العرب العدنيين، الذي دأب على شن هجمات حادة ضد الأجانب. ومما عزز أكثر فأكثر من الصبغة والتوجه (الوطني) للمؤتمر العمالي أنه في الستينيات كان خمسون في المائة من أعضائه البالغ عددهم اثنين وعشرين ألفًا ينحدرون من أصول يمنية. وبعد إقرار قانون أغسطس لعام 1960م الخاص بحظر الإضرابات، اتهم المؤتمر العمالي الإنجليز بالسعي إلى »تدمير الشخصية العربية لعدن وتحويلها إلى مدينة للأجانب… حيث إن الأجانب يجنون خيرات عدن بينما العربي… يفتقر إلى من يشفق عليه في وطنه«. وقد طالب المؤتمر العمالي بحرمان الأجانب من حق المواطنة في عدن.
وقد أعرب الأصنج والمؤتمر العمالي عن استعدادهم للتفاوض، ولكن رؤيتهم حول الوضع المستقبلي لعدن كانت متعنتة جدًّا. فقد كان من بين مطالب الأصنج: إلغاء مجلس عدن التشريعي، حل الاتحاد الفيدرالي، إشراكه هو ورفاقه في عضوية أي حكومة مؤقتة يمكن أن تشكل، وانسحاب بريطانيا من المنطقة. كان الأصنج ينظر إلى الاتحاد الفيدرالي القائم آنذاك بوصفه: »أكذوبة زائفة، وأن الذين يتحكمون فيه هم مجموعة من المستبدين الإقطاعيين المكروهين من الشعب الذين لا يفكرون إلا في مصالحهم، والذين يستندون بصورة كاملة إلى تأييد الإنجليز… «، وكان يعد الأحزاب السياسية الموجودة آنذاك في عدن أحزابًا خاضعة للاستعمار، سلبية وغير قادرة أو غير راغبة في الوقوف صفًا واحدًا ضد الأجانب. قاطع المؤتمر العمالي المفاوضات المتعلقة بالبت في موضوع انضمام عدن إلى الاتحاد الفيدرالي؛ وأصر قادته على موقفهم الذي يرى أن هذا الاتحاد في حقيقة الأمر تم فرضه ضد إرادة شعب المنطقة. وفي أبريل عام 1961م زار وزير المستعمرات البريطاني، مكلاود، عدن وعقد مباحثات مع أحزاب النخبة العدنية، فقام المؤتمر العمالي بتنظيم مظاهرات حاشدة ضد هؤلاء. وعلى أثر ذلك اعتقل الأصنج لمدة قصيرة.
وبالتزامن مع استنكار المؤتمر العمالي للوضع القائم جاء اقتراحه بتشكيل حزب سياسي جديد تناط به مهمة قيادة وتوحيد القوى الوطنية في المرحلة القادمة من الكفاح. وهناك عدة أسباب دفعت إلى تقديم هذا الاقتراح؛ منها الدروس التي استفادها قادة المؤتمر العمالي من تطورات الأوضاع المشابهة في الكونغو، والجزائر، ونفوذ المؤتمر العمالي في أوساط الجماهير العدنية، والدعم المعنوي الذي كان يحظى به نشاطه من الاتحاد السوفيتي ومصر. وهكذا تأسس في فبراير من عام 1962م حزب الشعب الاشتراكي، وفي حقيقة الأمر فإن هذا الحزب كان عبارة عن بلورة للمكتب القومي الذي أنشأه المؤتمر العمالي في عام 1960م، والذي كان يرأسه محسن العيني، اليمني الشمالي ذو الاتجاه البعثي. وقد انتخب الأصنج رئيسًا لحزب الشعب الاشتراكي، وانتخب محسن العيني أمينًا عامًا له. أخذ هذا الحزب ينادي بنفس المبادئ المعهودة: الاستقلال للجنوب اليمني، والانسحاب البريطاني من كامل أراضي شبه الجزيرة العربية، والوحدة مع شمال اليمن، والتخلص من السلاطين، والإنجليز، والأحزاب السياسية العدنية، وحزب الرابطة والكف عن عدّهم ممثلين للشعب؛ وكان الأصنج يضع عقيدة البعث المتمثلة في (وحدة – حرية – اشتراكية) على رأس شعارات حزب الشعب الاشتراكي. وما لبث الحزب أن فتح فروعًا له في عدد من الدول العربية وفي لندن وطور علاقاته في هذه المواقع، وأيضًا في الدول الآسيوية والأفريقية، ثم بدأ يفكر في رفع مسألة الجنوب اليمني إلى منظمة الأمم المتحدة.
وعليه فإن السنوات الأولى من عقد الستينيات شهدت حضورًا طاغيًا للمؤتمر العمالي وذراعه السياسية حزب الشعب الاشتراكي أكثر من باقي الهيئات السياسية في الجنوب اليمني. وهناك عاملان ساهما في نيل حزب الشعب الاشتراكي تلك المكانة المتقدمة، أولهما تأييد أنصار المؤتمر العمالي الذين أبرزوه هم أصلًا إلى الوجود. وفي مقابل ذلك أيد الحزب الطبقات الدنيا في نزاعاتها الخاصة بالعمل، ودعم فكرة العروبة وشكّل تنظيمًا فعالًا يقوم على قيادة ذات خلفية ثقافية مناسبة، وعلى جماهير غير ماهرة ولكنها تخضع لهرمية مُحكمة. والعامل الثاني هو أن المؤتمر العمالي كان قادرًا على أن يؤدي أدواره التي رسمها هو لنفسه بطريقة ثورية ومنسجمة مع مبادئه، وهو شيء لم يكن معهودًا في ذلك الوقت لدى باقي الأحزاب السياسية العدنية.
وإذا أردنا أن نلخص ما تطرقنا إليه في هذا الفصل، يمكن القول إنه قد نشأت حالة ثورية في اليمن الجنوبي نتيجة للصراعات السوسيو اقتصادية والقومية والسلطوية. وتمخضت هذه الحالة بدورها عن أوضاع معينة عُدّت أنها نقاط انطلاق أو أحجار أساس للثورة. وكان لينين قد تحدث عن الإمكانيات الثورية الكامنة في المقاومة للطبقة العليا من قبل الطبقة الدنيا وجزء من الطبقة الوسطى. وعدّ فرانز فانون أن الصراع بين السيطرة الأجنبية والتطلعات القومية للاستقلال هو سبب رئيسي من أسباب الثورة. كما أن الأسس المنطقية الاستعمارية لها أيضًا دور تخريبي. وأكد A. Tocqueville أن عملية التطور الاقتصادي تستتبع عملية تفكك اجتماعي لا تستطيع الحكومة أن تكبحها بقدر ما تميل إلى أن تزيدها تأججًا. هذه الظروف التي توافقت زمنيًا وجدت أيضًا مؤثرات أخرى أنعشتها تمثلت في فكرة القومية العربية والأفكار الاشتراكية مما أدى إلى إيجاد تلك الحالة الثورية.
على هذه الخلفية برزت تكتلات معارضة مختلفة، ساهمت في تغذيتها عوامل مختلفة ومتعارضة. وكل تكتل من هذه التكتلات كان يمتح من المؤثرات والمشاكل الخاصة التي شكلت مواقف قادته. ولذلك فإنه لم تكن الصراعات والمشاكل في مجتمع الجنوب اليمني هي فقط التي اختلفت وتنوعت، بل إن التكتلات القومية والوطنية نفسها تطورت من خلال الصراعات والتناقضات فيما بينها. وكانت النتيجة أن الكفاح من أجل الاستقلال أصبح يتقاطع مع صراع داخلي على السلطة في جنوب اليمن.