نقد
أ.د. مسعود سعيد عمشوش
مقدمة
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 99
رابط العدد 11 : اضغط هنا
يحتوي الأدب العربي القديم على عدد كبير من النصوص التي يرى الدارسون اليوم أنها تدخل في إطار فن السيرة الذاتية (أو الترجمة الذاتية)، منها (كتاب الاعتبار) لأسامة بن منقذ، و(المنقذ من الضلال) للغزالي، و(التحدث بنعمة الله (لجلال الدين السيوطي، و(النكت العصرية في تاريخ الوزراء المصرية (لعمارة اليمني، و(التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا). ولا شك أن تلك النصوص العربية تتضمن كثيرًا من ملامح السيرة الذاتية كما قعّد لها الناقد الفرنسي فيليب لوجون، وهو ما دفع عدداً من الباحثين الأكاديميين الأمريكيين إلى التأكيد بأن هناك من الغربيين من “غالط” حينما زعم أن كتابة السيرة الذاتية فنٌّ غربيٌّ في المقام الأول، وقد ذكر أولئك الباحثون أن الدافع الرئيس لكتابة السيرة الذاتية عند العرب في الماضي يكمن في الرغبة للامتثال لأمر الخالق بالتحدث بنعمِهِ؛ [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، وذلك بهدف تحفيز القارئ على الاقتداء بهم وبسلوكهم الحميد، في حين أن الغربيين كانوا يكتبون سيرهم الذاتية رغبة في الاعتراف بأخطائهم وتحذير القارئ منها.
وفي الحقيقة بإمكاننا رصد كثيرٍ من أوجه الاختلاف بين السير الذاتية الغربية والسير الذاتية العربية القديمة، لا سيما تلك النصوص التي ألفها أشخاص يقتربون قليلًا أو كثيرًا من التصوف، مثل تلك الكتب التي ألفها الغزالي والسيوطي والعيدروس، وكذلك كتاب (سفينة البضائع وضمينة الضوائع)، الذي ضمنه الحبيب علي بن حسن العطاس سيرته الذاتية، والذي اطلعت عليه في صيف عام 2016، في المخطوطة رقم 2495 مكتبة الأحقاف للمخطوطات بتريم، قبل أن أعثر على نسخة مطبوعة منه.
وقد اخترت أن أقدم -في هذا المؤتمر- دراسة للكتاب لأنني لمست أنه يتضمن سيرة ذاتية فريدة في الأدب العربي القديم؛ فبعكس السير الذاتية الأخرى فقد استطرد مؤلف (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) كثيرًا في الحديث عن طفولته وزوجاته وعائلته بجرأة يندر أن نجدها في الأدب العربي القديم، كما أنه يتميّز باستخدامه الواسع لتقاليد الكتابة العربية في العصور المتأخرة، مثل استخدام العامية، والسجع، والمزج بين النثر والشعر، والتوسع في استخدام التناص مع القرآن الكريم والحديث النبوي.
في الجزء الأول من هذا البحث ستتم دراسة مدى تطابق كتاب (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) مع المعايير العامة لفن السيرة الذاتية، وفي الجزء الثاني سأتناول بنية الكتاب بوصفه نصًا سرديًا استذكاريًا استعاديًا، وفي الجزء الثالث سيتم التركيز على دور الأحلام والكرامات في هذه السيرة الذاتية، أما الجزء الأخير فقد خصصته لرصد بعض الأبعاد اللغوية والفنية التي تميّزت بها (سفينة البضائع وضمينة الضوائع).
أولًا: (سفينة البضائع) والمعايير العامة لفن السيرة الذاتية:
في مفتتح نص (سفينة البضائع وضمينة الضوائع)، وقبل أن يشرع في تبيان الأسباب التي دفعته إلى كتابته، يعترف الحبيب علي بن حسن العطاس بأن ما يكتبه هو سيرته الذاتية، ويحدّد الخطوط العامة لمشروعه على النحو الآتي: »تكون كواميخ المائدة، تحتوي على تاريخ مولدي وذكر منشأي ومحتدي، وأذكر فيها إشارات إلى ما يسّره الله الكريم لي، ووفقني له من الأخذ في تعلُّم القرآن العظيم، ثم طلب العلم الشريف الكريم على سيدنا وشيخنا الوالد الحسين ابن سيدنا الوالد عمر جزاهم الله عنا خيرًا. ثم كذلك على يد ولديه: الوالد الجد عبدالله وأحمد ابني الحسين وغيرهما ممن أخذت عنهم أو زرتهم، وقد أترجم اختصارًا لبعضهم، وأذكر تعديد أجزاء من جزائل نعم المولى التي أمرنا بذكرها، وندب إلى التحدث بها، ونفى التمكن من إحصائها. وأذكر هجرتي من بلدي حريضة إلى بلد الهجرين ثم إلى بضة وغيرها، المشيرة إلى الاقتداء بالسلف الصالح. وأذكر جماعة ممن أدركتهم وزرتهم أخذت عنهم من صلحاء الزمن، مع الإشارة الوجيزة إلى اليسير الدال على الكثير من مناقبهم، وشكر بعض أهل الخير الذين حصلت لنا منهم المؤاساة والمعاونة والمظاهرة والمناصرة والمؤازرة، المشار إلى الندب إليها بقوله تعالى: [أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ]، وبقوله عليه الصلاة والسلام: »لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ«. والتعريف ببعض الأخبار الموجبة للاعتبار والتذكار، المشار إليها بقوله تعالى: [فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]«، ص7- 8.
ثم يشرع الحبيب علي بن حسن العطاس في عرض الأسباب التي دفعته إلى كتابة سيرته الذاتية، وأولها: الانصياع لأمر الله، وذكر »نعم المولى التي أمرنا بذكرها، وندب إلى التحدث بها، ونفى التمكن من إحصائها«. ثمّ عاد وربط هذا الانصياع بالرغبة في شكر الله على نعمه، مبينًا ذلك قائلًا: »اعلم أن التحدث بنعمة الله تعالى هو أصل الشكر الذي هو أصل الذكر، وبه حصل الأمر في قوله تعالى: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]«، ص130.
وحرص العطاس على تبرير إقدامه على كتابة السيرة الذاتية اتباعًا لِخُطَى عددٍ من رجال الدّين الذين سبقوه في كتابة تراجمهم، قائلًا: »وقد سبقني إلى مثل ذلك جماعة من السلف الصالح؛ منهم الإمام مالك بن أنس، الأصبحي نسبًا، المدني بلدًا صاحب المذهب المشهور، ومنهم الشيخ عبدالله بن أسعد بن علي اليافعي، ومنهم الشيخ إسماعيل بن أبي بكر المقري، والشيخ عبدالرحمن بن علي الديبعي، والشيخ عبدالقادر بن شيخ العيدروس باعلوي، وغيرهم«.
ومن أهم الأسباب التي دفعت الحبيب علي بن العطاس إلى كتابة سيرته الذاتية الرغبة في الدفاع عن نفسه ضد (الحساد والأضداد) الذين حاولوا تشويه سمعته وأجبروه أولًا على ترك حريضة، المدينة التي ولد بها، ثم إلى مغادرة الهجرين إلى (بضة)، ومنها إلى منطقة الغيوار التي أسس فيها (المشهد)؛ فهو يكتب: »وسأذكر في هذه الترجمة بعض ما حصل لنا من الأذى والعنا ليتأسى ويتعزى من وقع له شيء من ذلك [الذي وقع] بنا، كما تعزينا وتأسينا بالسلف الصالح من قبلنا، مما وقع لهم من أضدادهم، وقلنا: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ]«، ص42.
ومن دوافع كتابة السيرة الذاتية عند الحبيب العطاس والمرتبطة بالرغبة في الدفاع عن النفس: الخوف من تشويه سيرته من قبل حاسديه وأعدائه، ويبيّن ذلك قائلًا: »الزمان قد فسد وغلب على غالب أهله الغباوة والحسد، حتى انقلد باب التعريف بالخير والدلالة عليه وانسد، فمالوا إلى دفن الفضائل ونشر المساوئ والرذائل، وغير ذلك من الأسباب الموجبة لذلك«، ص2. ويضيف أن »هذا الشيء مما لا يتم غالبًا إلا على لسان صاحبه؛ لأنه أدرى بحقيقة أحواله، ودقيقة أفعاله وأقواله ونوائبه… كما سيتضح لك مما ستسمعه من إيضاح خفيات المسالك وشرح الأحوال التي لا يملك شرحها غير مالكها مالك، وفي الآية [وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير]«، ص3.
ومن الأسباب التي يؤكد الحبيب علي بن حسن أنها وراء قيامه بتدوين سيرته الذاتية: الرغبة في تلبية طلب جماعة من علماء الحرمين الذين أعجبوا به وطلبوا منه كتابة ترجمته الذاتية ليتعرفوا عليه أكثر. ومن أهداف كتابة (سفينة البضائع وضمينة الضوائع)، التي ألفها رجل دين متصوف: سعي المؤلف للحصول على الدعاء له من القارئ، فهو يكتب: »فربما وقف على ذلك حبيب منصف فدعا لي بالرحمة، وعرف مقدار ما أوليته من النعمة«. ويقول أيضًا: »وأنت أيها الواقف على هذه الترجمة ادع لي بالمغفرة، فإن الدعاء للمؤمن من أخيه بظهر الغيب مستجاب، وتؤمّن الملائكة على دعائه وتقول لك مثله، وهذا هو السبب الباعث على تسطير هذه الترجمة«، ص2.
وأخيرًا يبدو لنا أن الحبيب علي العطاس قد أراد مثل كثير من رجال الدين، أن يوظف أحداث حياته في الوعظ؛ فهو يؤكد – كما سبق أن ذكرنا- أنه يريد »التعريف ببعض الأخبار الموجبة للاعتبار والتذكار، المشار إليها بقوله تعالى: [فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]«.
(ب) جدلية الخاص والعام في (سفينة البضائع):
خلال قراءتنا لكثير من النصوص العربية القديمة، التي تُصنَّف عادةً ضمن مدونة السيرة الذاتية، نلاحظ أن تلك النصوص تتضمن كثيرًا من الأبعاد العامة، وبالمقابل يتقلص حجم الأبعاد الخاصة فيها؛ أي أن مؤلفيها لا يتحدثون إلا فيما ندر عن شؤونهم الشخصية، ويتعلق معظم ما يضعونه فيها بالحياة العامة ومشاركتهم فيها إما بعلمهم وإمَّا بسلاحهم، أو من خلال إسهامهم في الحياة السياسية. ولذلك فضل كل من شوقي ضيف وإحسان عباس ومن تبعهم في الكتابة عن السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم تصنيف تلك النصوص انطلاقًا من السمة الغالبة عليها: سياسية أو فلسفية أو علمية أو صوفية.
ومن النادر مثلًا أن نعثر في تلك السير الذاتية التي كتبت قبل القرن العشرين، لا سيما تلك التي ألفها رجال الدين المتصوفون، استطرادات طويلة وجريئة عن مرحلة الطفولة أو العلاقة العائلية، وبشكل خاص مع الزوجات. ومقارنة بتلك السير تتميَّز سيرة الحبيب علي العطاس الذاتية بالتركيز على الحياة العائلية، وبدرجة عالية من الجرأة، إذ نعثر فيها على تفاصيل دقيقة من الحياة الخاصة للمؤلف، لا نصادف مثلها في السير الذاتية العربية القديمة الأخرى.
ومن اللافت حقًا أن مؤلف (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) لا يرى حرجًا في ذكر مختلف هفوات الطفولة، فهو يكتب مثلًا: »الصبا شعبة من الجنون، عجب ربك من شاب ما صبا. وهل بعد رفع القلم من قلم؟ أعلم [من] نفسي وأحفظ من حسي في تلك الأيام من الغرامة [شقاوة الطفولة]، التي هي على الهداية في الكِبَر أكبر آية وعلامة ما لا يحصر بعلامة، بحيث إني لو ذكرته لخزيت وخشيت من كيت وكيت، فأعذر من شيت وأعذل من شيت، فعلى ذلك حييت. ومن جملته أني قد آتي بعض السقايا المُسبَّلة للشرب، وقد ملأها القائم بها من بئر بعيدة، فأخرج وكاها [رباطها]، وألعب بالماء الذي فيها حتى لا يبقى فيها شيء، وربما تسوَّرت إلى بعض الخلوات للحويك فأسرق ما كان لهم من قصب ومواشي وما وجدته، وربما وجدت بعض الحمير قائمًا في الشارع فأركبه جاعلًا ظهري إلى رأسه فأركضه حتى يزحف [يتعب]. وأما المحاذقة والمضاربة مع الصبيان فرأسي إذن مفقّع [مليء بآثار الجروح]. وإنما ذكرت ذلك لك لئلا تلوم الصبيان عليه، مع أني أعلم أنك تعلم من نفسك ما لا أعلم، والله أعلم وأحكم، [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ]، قل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين«، ص25.
وبالفعل قبل أن يسرد الحبيب علي أحداث اختلافه مع حساده وأضداده من الكبار واضطراره بسبب ذلك إلى ترك مسقط رأسه حريضة، كرّس أولًا صفحات طويلة لسرد خصوماته و(مضارباته) مع الصبيان الصغار؛ فكتب مثلًا أنه حينما بلغ سن الرابعة عشرة: »كنت إذا خرجت إلى عند الصبيان للَّعب أتدبر ما يقولون، وأصارع منهم العظائم في كل طبقة من أهل الوقت، فكلما كبر السن كبرتْ منهم العظائم؛ بحيث أنها تغلّظ أربابها، فأسمعهم يقولون قال فلان لما لم أقل، وفعل فلان لما لم أفعل، وتدبرت من بعض الصبيان الخصومة البينة التي لا أصل لها من قِبلي، وذلك أني بنيت دارًا على عادة الصبيان، وجعلتها بسقيفتها، أي الضيقة [المدخل] التي يقال لها الدهليز، وأوضعتها [مستودعاتها]، ورقادها [درجها]، فلما أتممت مبناها وأخذت في محضها [تلبيسها بالطين]، وبقيت أقرب لذلك الطين من مكان بعيد، وكلما جيت بشيء طرحته وعدت إلى المكان الذي آتي به منه، فلما عدت منه وجدت بعض الصغار قائمًا عندها وقد أخربها عن آخرها، فضربته بالطين الذي بيدي في صدره فهرب مني فتعجبت من ذلك. فسبحان الله ما أخصم الخلق لبعضهم البعض، وما أشدّ ما عندهم من البغض، مع أنهم لا يخلقون ولا يرزقون«، ص22- 23.
ويتحدث الحبيب علي بن حسن العطاس كذلك باستطراد وصراحة عن زوجاته، ويضمن نصه سردًا لحوادث تبيّن نوع العلاقة التي كانت بينه وبين كل منهن. فعن الأولى سلمى التي لا تدر بلبن، يكتب: »وتزوجت أنا ببلد حريضة قبل الخروج منها بالشريفة سلمى بنت محمد بن أحمد بن حسين العطاس، فولدت ابنتين؛ الأولى تسمى شيخة وقد توفيت، ثم الثانية فاطمة، وكانت ولادتها بفاطمة المذكورة في سنة 1145هـ، ثم إنها [سلمى] كانت لا تدر بلبن لأولادها، فلبثت معي مدة حتى أزمنت بلد حريضة وحصل فيها الجدب الكثير، فقالت: عساك تسير بي إلى بلد كنينة، بلد بالشق البحري قريب من حجر، وهي الجهة التي يقال لها ميفع…. ونرجع الآن إلى ذكر مسيرنا بالشريفة من حريضة إلى عند والدها السيد الصوفي ولي الله محمد بن أحمد، فأجبتها إلى ذلك، وسرت بها من حريضة قاصدين كنينة المذكورة. فلما وصلنا بلد الخريبة أقمنا بها أيامًا عند جدها شيخنا الوالد أحمد بن حسين بن عمر، فبينما نحن ذات غداة جلوس عنده في البيت الذي هو فيه ببلد الخريبة، إذ دخل علينا الشيخ حسن بن عبدالرحمن بن عبدالله باراس وبيده ورقة، وكنت جالسًا أنا وعبدالله بن سالم بن رضوان الحريضي، وهو قريب مني، فلما ناول الشيخ الوالد أحمد الورقة وفيها خبر موت، فإنه حصلت عندي منها وحشة، فلما قرأها أعطاني إياها فإذا فيها خبر وفاة السيد محمد بن أحمد المذكور، وذلك في حدود آخر سنة 1145هـ«، ص68.
ثم يستطرد الحبيب علي بن العطاس في الحديث عن زواجه من شيخة بنت خاله سهل، التي حملت له بولد سُمِع عطاسه وهو في بطن أمه، ومات بعد الولادة مباشرة، وقد سرد ذلك قائلًا: »ثم إني تزوجت ببلد هينن بشيخة بنت خالي سهل بن أبي بكر ابن الشيخ شيبان بن أحمد بن سهل، وكانت من النساء الصالحات المباركات، أمي عمتها، فولدت لي ابنًا مباركًا سُمِع منه العُطاس وهو في بطنها، شهدت بذلك جماعة من النساء منهن الشريفة فاطمة بنت السيد محمد باصرة باعلوي، ومات بعد الولادة، واسمه الحسن بن علي. وقد كنت ليلة وضعته أمه بهينن وأنا بحريضة، رأيت كأني في جامع بلد هينن، وكأن الناس قد اجتمعوا لصلاة الجمعة، وكأن الرداء الذي على كتفي وهو ثوب ريحاني سقط من على كتفي، فأخذه رجل من الموتى ولم يرده لي، فلما كان اليوم الثاني جاءني الخبر بوجود الولد وموته. ثم حملت أيضًا وولدت لي منها البنت المباركة مريم، ولقد كنت أنا وإياها ليلة مقبلين من بلد حريضة فسقطنا من ظهر البعير وسقط الحمول علينا، وهي حاملًا بها لها نحو ستة أشهر، وقلنا يتلف الحمل الذي في بطنها، فلم يضره شيء، ووضعت بها لخمس بقين من شهر القعدة الحرام سنة 1149هـ، فلما كان في بعض الليالي ونحن ببلد حريضة بعد ما رجعنا من هينن، رأيت كأن الشيخ عامر بن شيبان أقبل عليَّ وهي بيدي، وقبّل صدرها، ثم قال: أما هذه فما هي إلا شمس، فمن يومئذ لُقبت شمس«، ص69.
أما زيجاته الثالثة والرابعة فقد ربطهما بقراره الهجرة إلى الهجرين والاستقرار بها، وأسهب كثيرًا في شرح أسبابهما، وكيفية حدوث الخطبة ثم الزواج نفسه، وقد بدأ ذلك على النحو الآتي: »اتفق أنَّا تواعدنا نحن ومحبنا الشيخ محمد بن عمر بن عبدالله بن عفيف، وولد أخيه ولدنا عبدالله المتقدم ذكره قريبًا، إلى جربة عيبون التي حوّطها جدهما أحمد بن محمد العفيف، فتوافينا بها وأقمنا بها نحو ثلاثة أيام، فخرجنا ذات عشية إلى مكان مرتفع فوق المخرج الذي يفيض الماء منها، فجلسنا بالجانب القبلي تحت الجبل في مكان مرتفع، فقلت لمحمد بن عمر: إني أريد الزواج ببلدكم الهجرين. فقال: تريد شريفة؟ يعني من آل باعلوي أو غيرهم من سائر أهل البلد؟ فقلت له: إن اتفقت شريفة فهي أولى وأحق وأفضل، وإلا فمن سائر الناس، فقال إن بالبلد من السادة آل الكاف فلانة وفلانة، وذكر فاطمة بنت علوي بن محمد أم ابني محمد المقدم وهود الأكبر وشيخة التوائم، ثم ذكر علوية بنت علوي بن محمد أم ابني الحسن، فقلت له الرأي أنَّا نرد الكلام إلى أم عبدالله فاطمة بنت الشيخ وجيه كريمة الشيخ أبي بكر بن وجيه بن عبدالله بن عفيف، وكانت من ذوات العقل والدين، ومن المحبين الأودين، ولها فينا غاية المحبة والقربة والعقيدة، فأي هاتين الشريفتين اختارتها لنا فهي إياها. ثم رجعتُ أنا إلى حريضة، ورجع محمد وعبدالله إلى الهجرين، فلم نلبث أيامًا حتى وصل كتاب منهما أن فاطمة عفيفة أم عبدالله اختارت علوية بنت علوي، وأنهما خطباها لنا من أخيها شيخ بن علوي وأمها مريم بنت عبدالله بن مقيبل باعلوي، وشرطا رد الرأي إلى ابني عمها، وإن ابني عمها رغبوا فيها وإن الأمر متباعد، فاتفق أني وصلت إلى حورة فإذا بالسيد شيخ بن علوي المذكور، أخو الشريفة علوية وصل إليها في حاجة، فكلمته أنا، فقال: إن محمد بن عفيف تكلم لكم في الكريمة ولكن العيال، أعني ابني عمها طلبوها، ثم إنهم اختاروا الترك لها، فحينئذ ثبت الخبر بيني وبين السيد شيخ، ورجعت إلى حريضة، ثم نفذت إلى الهجرين، وقلت لمحمد بن عمر: كلم السادة في الزواج، بغيناه في هذه المدة القريبة. فقال محمد: هذا شيء لا يمكن من وجوه كثيرة؛ الأول إن الوقت وقت ضِيق [شدة] عند الناس الجميع، قلت له: ليس الأمر إليك وإنما الأمر إلى الله، فإن أذن الله وقبل قبلوا السادة وثبت، وإن وردُّوا فيكون الرد منه لا منهم ولا منك، فقال: صواب. وكلمهم وأجابوا مع أني لا أجد إلا بعض الجهاز وبعضه أخذناه دين من بعض المحبين، وأما الطعام وغيره من مهمات الزواج التي لا يتفق بدونها فلا نملك من ذلك كثيرًا ولا قليلًا، حتى قال محمد بن عمر هذا الزواج (دَحِسْ)، يعني يشق ويتعذر، فيسر الله سبحانه وتعالى المقاصد، وأكرم القاصد، وأكبت الحاسد، فدخلت على الشريفة المذكورة عند أهلها، وفي بيتهم، والثقل والمجلس بالنهار يكون في بيت الشيخ محمد بن عمر المذكور مع المعاونة الكاملة واحتمال الأثقال، لا سيما الماء والحطب، مع كثرة الدُّخال وأهل قيل وقال بغير نوال، فأكثر المعونة في هذه المؤونة وكل مؤونة لنا منه ومن ابن عمه أبي بكر بن وجيه بن عبدالله بن عفيف، ومن الوالد المبارك النجيب الصوفي عبود بن عفيف بن عمر بن عبدالله بن عفيف«، ص90- 92.
ومن المعلوم أن ما يميّز السيرة الذاتية عن المذكرات هو أن الأولى تركز على الحياة الخاصة للمؤلف، بينما تتناول المذكرات مشاركة المؤلف في الحياة العامة. وما دام الحبيب علي العطاس قد ركز كثيرًا في نص سيرته الذاتية على الأحداث المرتبطة بحياته الخاصة، فمن الطبيعي أن يتقلص فيها بشكل كبير الحديث عن الشأن العام. وفي نص (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) لا نتعرف على الأوضاع العامة في حضرموت في القرن الثاني عشر للهجرة إلا من خلال انعكاسها وأثرها في الحياة الخاصة للمؤلف، أو من خلال أسفاره أو احتكاكه العرضي ببعض الساسة.
وفي الحقيقة تظل قليلة المعلومات التي نجدها في سيرة الحبيب علي بن حسن العطاس عن الحالة الاقتصادية والأمنية في حضرموت في القرن الثامن عشر الميلادي (الثاني عشر الهجري). نكتشف، مثلًا، أن حضرموت كانت في منتصف ذلك القرن تمر بأيام جفاف وقحط ومجاعة واختلال أمني، وذلك حينما يذكر المؤلف أنه في إحدى رحلاته مرّ بالقرب من الهجرين، وأشار إليه رفاق السفر بالدخول إلى البلدة لكنه رد عليهم: »ما نستجري على المطلع عند أحد من الناس في هذا الضيق الشديد، فراجعوني في ذلك ولم يرجحوا ما رجحته من عدم طلوع البلد، فقلت لهم نتقدم إلى الجابية [البركة] ونسقي الراحلة، ويدور الرأي في طلوع البلد أو عدمه، فطابقوني على ذلك، فلما بلغنا الجابية وسقينا الماشية لقينا الذي مرادهم أنا نقصده عند الجابية، فصافحناه ولم يعزم علينا للطلوع للبلد، وعرفنا ضعف حاله، وبدا للجماعة صواب ما عرفه العبد وقاله، وبتنا تلك الليلة عند خادم غيل الجابية، ومعنا من الدقيق الذي كفى الجماعة، وبتنا في مشاورة من شان السروح في مخافة الغيوار أو عدمه، فرجح بعضنا الإقامة وانتظار السعف [المرافقين]، إلى أن يحصل الخفير… من ذوي الرمح والبندق والجفير، ولا تمضي فيه العير إلا بالنفير الكثير، وذلك قبل وضع المشهد المشهود الشهير بنحو خمس عشرة سنة، فقال السيد أحمد وكان مازحًا: ماذا نخاف عليه إذا سرحنا؟ إن كان هذا الخرش الذي أردنا نبيعه ولا نفق [لم يُقبل]، من شدة الزمان [الجوع] فلا مبالاة إذا أخذوه اللصان [اللصوص]، وأما الناقة فهي ناقتي ولا أكره إن لقينا جماعة من اللصان وذبحوها وأكلناها نحن وإياهم! فقلت لهم: لا بأس نسرح ونقرأ يس وراتب الحبيب عمر، فاجتمع رأينا على السروح«، ص64.
ونتعرف كذلك أن سكان دوعن وأعالي وادي حضرموت (علْوَى) كانوا في تلك الحقبة يعتمدون اعتمادًا شبه كلي على مياه الأمطار بعكس سكان أسفل ووسط وادي حضرموت الذين يعتمدون على السناوة؛ وهي رفع المياه الجوفية من الآبار بالحبال والحيوانات، وذلك عندما ينقل لنا الحبيب علي العطاس هذا الحوار القصير مع أحمد بن عبدالرحمن العيدروس الذي سأله: »أما أهل تريم فإنهم ملازمون السناوة، قائلين إن أمطرت أو ما أمطرت سنينا، وأما أهل شبام ونواحيها [فيقولون] إن أمطرت وإلا سنينا، وأما أنتم أهل العلوى فإن أمطرت وإلا كيف تصنعون؟ فقلت: ونحن: إن أمطرت وإلا بكينا«.
والمرة الوحيدة التي تظهر في هذه السيرة الذاتية شخصية سياسية مهمة، السلطان علي بن جعفر الكثيري، يربطها المؤلف بوصوله ذات ليلة إلى منزل عائلة الشيخ عبد الرحمن بن عمر التي كان لديها مكتبة جُعلت وقفًا، ويريد أن يستعير منها بعض المجلدات، وتبيّن لنا الحادثة بعضًا من عادات حضرموت في تلك الحقبة. وقد سردها المؤلف بطريقة شيّقة على النحو الآتي: »فلما ضوينا [وصلنا مساءً] عندهم تمالوا في عشائنا، فقال بعضهم: هذا شريف من آل فلان، وهو يستحق الإكرام فاذبحوا له رأسًا من الغنم الذي للزاوية، فقال له الكبير منهم: نحن ما نقدر كلما جاء شريف نذبح له رأس غنم، ولكن ما حصل كفى، فكان العشاء من الخمير والروبة. فلما كان وقت العشاء وصل إليهم كتاب من السلطان علي ابن السلطان جعفر أنه مصبّح للغداء عندهم، ومعه الأمير وجملة من العسكر، فبات المشايخ طول الليل في حركة للاستعداد لهم… فما كان بأسرع ما قربوا الغداء من أعضاء الذبيحة قوام بحالها، والمغاضيف مثل السبول في تفالها [سفرة من سعف النخل]. فقلت للوالد سالم بن رضوان وكان معي: هذه كرامة الشيخ عبدالرحمن ابن الشيخ عمر صاحب الخزانة [المكتبة] لمّا أراد الكرامة لنا ساق لهم السلطان يسوقهم إليها. وحصل لنا من السلطان غاية التأدب والإكرام بحيث إنه بعد الغداء لما قالوا له المشايخ أنك تقوم إلى بيت الفلاني تظلي فيه؛ لأنه بيت فسيح وسيع رفيع، قال لهم: إن قام السيد قمنا، وإن قعد قعدنا، فقلت لهم: تقدموا وأنا آتيكم، فلما طلعت إليهم وجدتهم في فاضلة [غرفة الاستقبال] وعندهم جملة من الرشب [المداعات] يمزون بها التمباك، فجلست. فقال السلطان: مرادنا حضرة ذِكر، قلنا له: لا باس ولكن شلوا عنا هذه الرشب، فشلوها إلى مصلى في تلك الفاضلة، وجعل كل من أراد المزيز [التدخين] من المشايخ وأصحاب السلطان دخل ذلك المصلى. وكان السلطان في ذلك الأوان له أخلاق حسان، وهو بضدها الآن، فسبحان من كل يوم هو في شأن، ومن لا يشغله شأن عن شأن، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن من الأكوان، ثم إن المشايخ قدموا العشاء عشية وهو كالغداء بالسوية«، ص140- 142.