إبداع
صالح حسين باعامر
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 110
رابط العدد 11 : اضغط هنا
…. ومنذ دخول اليوم الخامس من شهر مايو أجدني أنهض من السرير حاملًا مخدة وشرشفًا وهاتفي الخلوي، وأتخذ جزءًا من بهو غرفة مجاورة لغرفة نومي مرقدًا أعوض فيه ما افتقدته من نوم في الساعات الأولى من الليل. في الطرف القصي من البهو توجد نافذة تسحب النسمات من أمكنة بعيدة وتقذف بها داخل البهو فأتلقاها لتدفع عني الحرارة والرطوبة.. أتمدد فوق أرض البهو الذي لا يفصلني عنها سوى الشرشف، ولا أصحو إلا حين توقظني شمس يوم جديد.
كان الجو تلك الليلة أكثر حرارة ورطوبة حين خرجت إلى البهو، أنتظر ما يمكن أن تقذف به النافذة، بسطت الشرشف والمخدة، وتمدَّدت مستشعرًا نسيمات تداعب شعيرات جسدي، أغمضت عيني إلى أن تملكني النوم، وبينما أنا أحلق في عوالم من الجنان، تعتلي فضاءات لا يحدها حد، ولا تحددها جهات، ولا تصل إلى طرف لها تمسك به، أرى أنوارًا بألوان، عددها لا يحصى، هنيهة وداهمتني قوى هوتْ بي إلى عوالم سفلية ليس لها قرار. غدوت بين قوتين، القوة العليا التي كنتها والقوة السفلى التي تهوي بي إلى قيعان لا نهاية لها، صحوت على رعود تهز الكون، وبروق تحوِّل كل شيء إلى أبيض، وأمطار وسيول ورياح تجتث كل ما هو قائم. السماء والأرض تكادان أن تلتحما ببعضهما. لون يميز ما أراه عن غيره هو لون الماء. عدت إلى غرفتي لائذًا فإذا بي أجدها تستغيث بي لأخلصها مما هي فيه…. كل شيء مغمورًا وغاطسًا: السرير، المخدات، المفارش، السجاجيد، المقاعد، الراديو، التلفزيون، اللوحات، الصور، المصابيح، الستائر، الدواليب، المزهريات، مكتبي، مكتبتي….
انطفأت الكهرباء، انقطع الماء، الرياح تتحول إلى حارَّة تارة، ثم تعود إلى باردة مشبعة بالرطوبة واللزوجة. الغبار يلون المكان والزمان والماء والسماء والشجر والبشر بالأصفر، رعود، بروق، عواصف، صواعق، صمت إلا من بعض المكبِّرين، والمستغيثين، والمغيثين، وطالبي المغفرة من الذنوب التي ارتكبوها.
أطللت فلم أر سوى العدم، بالكاد أغلقت النوافذ والمنافذ والفتحات والفجوات، وأخذت أقاوم وأصارع عدوًا كونيًا لا رأس له ولا ذنب ولا طرف تمسك به. عدوًا قاهرًا كاسحًا لا يكسره سوى الاعتراف بجبروته وسطوته.
بزغت الشمس وعاد كل شيء كما كان: نسما ت عليلة، دبيب فرح، أحلام، آمال تتسلل من الفتحات والمنافذ، لا مأوى أمامي ألوذ إليه سوى لون الماء أبتني منه سكني، وأستخرج منه غذائي، وأجعله أهلي وإخوتي، زوجي وأبنائي، وطني وحياتي، وعيشي والهواء الذي أتنفسه….