قصة قصيرة
عمر عبدالله حمدون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 112
رابط العدد 11 : اضغط هنا
(1)
لقد تعودت على امتصاص غضب عادل -صديقي- وحالته الهستيرية المخيفة، التي اقلقتني بالفعل في البداية… لكنه مع مرور الأيام، وتكرار رؤيتي له وهو في حالته تلك، ومن ثمَّ هدوءُه التام بعد أن يفرّغ شحنات الغضب وما يستتبعها من انفعالات حادة وألفاظ وددت ألَّا يتلفظ بها، كل ذلك بدَّد حالة الخوف في نفسي رويدًا رويدًا… كنت أتحاشى سماع ألفاظ في غير محلها يستخدمها ضد أبيه للتعبير عن بغضه وكرهه لهذا الأب ولأوامره الصارمة، وإذ كان يعامله كأنه ما يزال طفلًا لم يتجاوز السابعة، وهو يقترب من سن العشرين.
(2)
كم حاولت إسداء النصيحة لصديقي عادل، بعد هدوئه من ثورة انفعالاته، بألا يكرر تلك الأوصاف التي لا يليق أن يتلفظ بها ابنٌ ضد أبيه… كنت أتفهم شعوره المؤلم، وأسباب الكراهية، والانفعال الحاد الذي يتلبسه ضد والده، تفاجأت به ذات مساء مُقمر ونحن جلوس على شاطئ بحر بلدتنا، وهو يصرخ بصوت عال وقد تلبسته تلك الحالة الهستيرية قائلًا: إنه ديكتاتور… إنه لا يعرف كيف يتعامل مع ابنٍ لم يعدْ صغيرًا… هل تعرف يا صالح آخر مهازل ذلك الأب التي ارتكبها في حقي؟”.
وسكت ملتقطًا أنفاسه، وقد بدأ العرق يتصبب من جبهته، ثم أكمل: ” إنه… إنه…”، وهنا حاولت كعادتي أن أهدئه أولًا قبل أن أتركه يسترسل في تفريغ شحنات الانفعال الحاد…
لقد تعاطفت مع حالة صديقي عادل منذ أن تعارفنا قبل سبع سنوات من هذا الموقف… لم يكن فارق السن بيننا كبيرًا، فقط ثلاث… أقصد كنت أكبره بثلاثة أعوام، ومنذ أن تعارفنا رأى فيَّ صاحبي مستودعًا أمينًا لأسراره وأحواله الخاصة، ورفيقًا يستحق أن يبث إليه أحزانه وشجونه، وكانت جُلَّ تلك الهموم والأحزان مرتبطة بمعاملة أبيه له…كان أبًا صارمًا فوق المعتاد في معاملته لأفراد أسرته، وفي تربيته لأولاده كان أبًا فيه بقايا من أسلوب تربية عهد مضى، فيه من الخشونة والقسوة وعدم مراعاة الجوانب النفسية التي يمر بها ولد في مقتبل شبابه… يتذكر عادل -كما أخبرني- كيف كان في صغره يرتعد خوفًا وهو يلهو مع أقرانه الصغار من مجرد رؤية أبيه مارًّا بالطريق خوفًا من أن يزجره أو يعنفه لاتساخ ثيابه مثلًا، مجرد رؤية من بعيد لأبيه ترعبه و”تلخبط” موقفه الذي هو فيه… ولا يتذكر أنه قد لمح في يوم ما ابتسامة على وجه أبيه تغير من ملامح التجهم والصرامة التي انطبعت في ذاكرة عادل الصغير عن ذلك الوجه، لم تختزن الذاكرة أنه في يوم ما قد سمع ضحكة لأبيه تهتز لها ذرات الهواء بين جدران المنزل، فتشع أنوار السعادة على البيت وساكنيه…
(3)
هكذا نما الطفل عادل في هذا الجو المليء بالأوامر والنواهي… وحين تجاوز سن الثامنة عشرة لم تتغير نظرة الأب إليه، بل ظل يعامله وكأنه ما يزال في السابعة أو دونها…
من إدراكي المتنامي يومًا بعد يوم، ومعرفتي بمعاناة صديقي عادل، وجدت نفسي في موقف لا أحسد عليه، فقد كان يتوجب عليَّ أن أكون ذلك الحضن الذي يلجأ إليه ليبث إليه همومه وأحزانه، وأحيانًا أخرى تطلعاته… كما كان عليَّ أيضًا أن أبذل ما بوسعي كي أخفف عنه واقع تلك المعاناة، بدلًا من أن أظل فقط كمستمع لهمومه وأحزانه.. وكم فكرت بيني وبين نفسي بأن أقدم على خطوة أتسلح فيها بالشجاعة الكافية، وأقابل والده كي أعلمه بحالة ابنه عادل وتذمره من طريقة معاملته له… وما يمكن أن يكون عليه حال الابن من الخطورة مستقبلًا إن ظل هكذا يعامله.
(4)
كان المسجد هو المكان الوحيد الذي اجتمع تحت سقفه مع الأب الذي لا يفوته فرض من الفروض جماعةً، ورغم علاقتي الحميمة جدًّا بعادل، إلا أنني كنت ألتقيه دومًا خارج المنزل، أو في الأماكن التي كانت تجمعنا… وكم حدثت نفسي بأن أفاتح الوالد بموضوع عادل في هذا المكان المليء بجو روحاني؛ حيث فيه تتخلص الذات من مشاعر الغضب، وتمتلئ بأحاسيس الطمأنينة النفسية… كنت أردد في نفسي ما أود قوله للأب… فتخيلت أنني أقول له بصوت هادئ ونظري إلى الأسفل:
” يا عمي إن عادلًا الشاب اليوم لم يعد عادل الطفل الصغير بالأمس… فلكل سن أحكامه، وله طرقه في التعامل والمعاملة… ومن هنا أعذرني إذا تحدثت إليك بما تعتقد أنه أمر لا يخصني..”.
وهنا أتوقف.. لا أستطيع كيف وبماذا سأكمل حديثي مع هذا الأب، وقد تراءت أمامي صورته وهو بحالة من الغضب الشديد… هل أستمر بقولي له إن عادلًا يشكو لي بكل ألم عن الطريقة السيئة التي تعامله بها…؟ هل أفجرها بوجهه بقولي له إنه سيكون السبب إن وصلت حالة ابنه إلى درجة من السوء لا يتمنى أي أب أن يصل إليها ولده..؟ هل أصارحه بأن عادلًا يكرهه جدًّا إلى حد تمني الموت له…؟
(5)
كلما ازداد التصميم في نفسي لمقابلة الأب، تتراءى أمامي ردة الفعل العنيفة التي أتخيل أنني سأواجهها -وحتمًا سأواجهها- وهنا قد أفقد حالة الرِّضا التي يتكرم بها عليَّ في صداقتي لابنه… وأفقد شيئًا من الاعتبار كنت أظنه يحمله لي… وكم تخيلته -وهو يستمع لما كنت أود قوله له- بوجهه العبوس وصوته الهادر صارخًا في وجهي…
” أرجوك… الزم حدودك… لا أسمح لك ولأمثالك بأن يتدخل في شؤوني الخاصة”…!!! .
(6)
” إنه دكتاتور يا صالح “… هكذا نطق عادل في تلك الليلة المقمرة، ونحن جلوس على الشاطئ، بعد أن تدخلت لتهدئته وأكمل:
” هل تعرف آخر المهازل التي ارتكبها في حقي ذلك الأب؟… لقد قرر أن يزوجني رغمًا عني ودون موافقتي خطب لي بنتًا لا أعرف من هي، ولا أعرف شيئًا عن أسرتها من تكون، بل وحدَّد موعدًا لعقد القِران… كل ذلك تم دون أن يشعرني… مجرد إشعار لم يحصل ولا أقول أخذ رأيي في موضوع يخصني.. فهل رأيت استهانة أكبر من هذه من أب لابنه يا صالح؟”.
كان هذا الموقف بيني وبين عادل قبل عدة شهور من موعد مغادرتي للبلاد في بعثة دراسية لمدة أربعة أعوام في الخارج… وقد سافرت يومها وفي نفسي غصة وألم شديدان لمغادرتي وفراقي لصديقي عادل، وهو في محنته تلك ودون أن أفلح في تخفيف معاناته…
خلال إقامتي في تلك البلاد البعيدة للدراسة في البداية، ومن ثم العمل بعد أن أُتيحت الفرصة لي بأن وجدت عملًا مجزيًا فيها، كانت الرسائل وحدها هي حبل التواصل فيما بيني وبين صديقي القديم عادل الذي رزقه الله بابن وابنة هما مصدر سعادته في هذه الدنيا، كما أخبرني في رسائله لي، ولم يبخل عليَّ أيضًا في إخباري بحالة والده الذي ما زال يتمتع بصحة عالية وهمة جبارة رغم تقدمه في العمر…
وبالأمس… بالأمس فقط تلقيت رسالة من عادل… رسالة ليست ككل الرسائل… حين كنت أقرأها امتلأت عيناي بفيض الدموع وهي تتنقل بين أسطرها… كانت رسالة فيها من عبارات الأسى والندم المقرون بالاعتذار الشديد عما صدر منه في الماضي من ألفاظ سيئة جدًّا أسمعني إياها بحق أبيه… رسالة تقطر أسطرها حبًّا وعاطفة واعتزازًا بهذا الأب الذي صوره لي عادل في السنين الماضية التي جمعتنا، شريرًا… دكتاتورًا… مفرط القسوة… كتب لي قائلًا:
” كم ظلمت أبي يا أخي صالح بتفكيري… وبكلماتي الجارحة الظالمة… لم يكن شريرًا يا صالح… لم يكن!!”
أغمضت عيني… فطفرت الدموع تنساب على خدي بحرارة… وسرحت بعيدًا إلى تلك السنين الماضيات، فتراءت لي صورة عادل بحالته الهستيرية التي أخافتني في بداية علاقتي به… وتساءلت وأنا أطوي الرسالة لماذا لا ندرك حقائق بعض الأمور إلا بعد فوات الأوان…؟؟