توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 11 .. ص 114
رابط العدد 11 : اضغط هنا
حكايتنا نحن العرب مع المجانين حكاية مركبة ومتناقضة؛ فتارةً نجعل منهم عباقرة ومصدرًا من مصادر الحكمة، وتارةً نشنّع عليهم ونستبشع حالتهم، ونعدها أكبر من مصيبة الموت، لهذا نقول: (لا تبك على من مات لكن ابكِ على من فقد عقله)، وحتى المثل الشهير (خذوا الحكمة من أفواه المجانين)، صِيْغَ بحذر بحيث جعل الحكمة من الأفواه وليس من العقول. وعلى أية حال فإن ظاهر المثل غير باطنه؛ فحكمة المجانين ما هي إلا مقولة صريحة تدحرجت من اللاشعور، أو من العقل الداخلي، ثم مضت بسرعة البرق دون حسيب أو رقيب.
كما أن احتساب كلام المجانين بالحكمة ما هو إلا خدعة يعزي بها (العقلاء) أنفسهم المهزومة من الداخل، فعقولهم تزدحم بالآراء السديدة، والمقترحات المفيدة، لكنهم يخادعون الناس وما يخدعون إلا أنفسهم وهم يشعرون. لكن في مجتمع العرب ومن شابههم تميل الحكمة مع الحكومة والحكام، وحيث ما مالوا تميل، والرأي المغاير لرأي الحاكم حتى إن رصع في ديباجته بالولاء والطاعة فإنه يحسب ضمن الآراء الضالة المضلة، ويصنف بأنه يطعن في رجاحة الحاكم والحكومة، وفي مساعيها الخيرة، وقد تتصاعد التهم على (العاقل) لتصل إلى خدمة أعداء الوطن، وهنا لا ملجأ له بعد الله ولا منجى إلا (قبوله) بتهمة الجنون، ثم عليه أن يخضع لتبعات ما يثبّت التهمة ليؤكد براءته.
لهذا يقول الحضارمة: (غرام يفك عليك ولا عقل يحنبك)، بمعنى: جنون يخرجك من أزمتك ومصيبتك أفضل من عقل يورطك، وتحضرنا هنا حكاية (مجنون) بني عجل مع الحجاج بن يوسف، عندما سأله الحجاج عن رأيه فيه، وهو لا يعرف الحجاج، فقال الرجل: ذاك ما ولي العراق شر منه… فقال الحجاج: ألم تعرفني؟ أنا الحجاج، وبسرعة سأل الرجل الحجاج وقال له: ألم تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا فلان بن فلان مجنون بني عجل، أصرع كل يوم مرتين… فضحك الحجاج، وقبِل بمزاجه (لعبة) الجنون..
وعند الحكام العرب عمومًا وما شابههم طالما هناك اعتراف رسمي ومجتمعي بجنونك فأنت في أمان، وكلمتك مرفوع عنها القلم، أما إذا سُجِّلْتَ عندهم من (العقلاء الأقحاح) فأنت مُتَّهم حتى تثبت غفلتك.
والأمثلة من أصناف المجانين في عالمنا العربي كثيرة، وبخاصة ممن خاضوا في الشأن العام، ووصّلوا رسائل (العقلاء) إلى الحكام بالمجَّان أو بأقل التكاليف. ففي حضرموت ظهر (الحكيم) عوض بن وبر (يرحمه الله)، المشهور بـ(عوض لعنة)، وعُرِفَ عنه الكرم في (الحِكَم)، وحتى عندما يصمت مع هواجسه الخاصة تجد البعض يستفزه لعله يلتقط ما يسره ويغيظ به الحكام، وتكمن أهمية (حِكم) عوض لعنة في أنها قيلت في مرحلة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية)؛ حيث القبضة الأمنية القوية، وحيث تقوم بعض الاعتقالات على الوشاية أو الظن. المهم عوض في تلك المرحلة برز كأنه العاقل الوحيد من حيث الجرأة على تعرية ممارسات الحكام وانتقادهم، وهكذا ففي غياب فرص التعبير عن الرأي كان عوض لعنة يتكلم نيابة عن الجميع، وصار الناس يتناقلون ما يقوله وهم يضحكون، وأظنهم كانوا يضحكون على قلة حيلتهم، وثقل بلواهم، وشرُّ البلية ما يضحك، وأحيانًا يتقوّل بعض (العقلاء) على المجانين بإحالة عبارة تحمل نقدًا للأنظمة الحاكمة على (الحكماء)، وهو شكل من أشكال المعارضة غير المباشرة لعل حكامهم يفهمون ويصلحون أو يرحلون.
وفي أواخر ثلاثينيات القرن العشرين ظهرت في مدينة المكلا شخصية (امبيروك)، الذي تفوه (بالحِكمة) في عهد السلطان صالح بن غالب القعيطي، وكانت القضية الوطنية المسكوت عنها وقتئذ هي فرض بريطانيا معاهدة الاستشارة على سلطنتي حضرموت (القعيطية والكثيرية)، وانقسم الناس إلى فريقين: مؤيد للسلطنة في تصرفاتها، ومعارض يتهم السلطان بأنه فرَّط في البلاد لصالح البريطانيين. أما (امبيروك) فكانت له لزمة يكررها بمناسبة وغير مناسبة، وهي المثل المعروف (بنتك في الصندوق وأخبارها في السوق)، وفي مناسبة استغل امبيروك وجود السلطان في مكان عام بحضور المستشار البريطاني هارولد إنجرامس، وفي حضرتهما قال: »هل سمعتم الرجل صاحب الناقة، والكلب العقور الذي سافر وأوصى بأن يكون مدة غيابة لبن الناقة للكلب العقور، ولما عاد صاحبها من سفره أراد منع الكلب من الناقة ليكون لبنها له لكن الكلب تنمّر، وهدَّد صاحب الناقة بالافتراس فخاف صاحب الناقة فتركها للكلب العقور، ثم يقول للمجتمعين هل عرفتوه«، والحكاية هذه منقولة بتصرف من كتاب (ترجمة الزعيم السيد الحبيب حسين بن حامد المحضار، صـ82- 83)، لمؤلفه حامد بن أبوبكر المحضار، ويضيف المؤلف المحضار أن السلطان صالح كان يتلذذ بسماع الحكاية لأن (امبيروك) يعبر عما لا يستطيع أن يقول مثله لإنجرامس. المهم الحكاية تثير شجون التاريخ… ومما يلفت النظر في (حِكمة) امبيروك أنه عبّر عن وجهة نظر الفريق المعارض للبريطانيين، لكنه انتقد صاحب الناقة وأظهره بمظهر الضعيف، وأنه بلا قرار.
وهكذا نحن العرب أحيانًا نتخفى وراء مجانيننا، ونفرح إذا عبروا عما يجيش في صدورنا، وما هو محبوس في عقولنا، وعلى كثرة (العقلاء) في أوطاننا فنحن أكثر شعوب العالم تمزقًا وضعفًا وهوانًا على الناس. فهل مصيبة العرب في قلة مجانينهم أو في كثرة عقلائهم؟
يا قوم… أطلقوا العنان لعقولكم… يا ناس [وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا].