أضواء
أ.د. محمد بن هاوي باوزير
على هامش الندوة العلمية لمركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر المعنونة بـ(المظاهر الحضارية العسكرية التقليدية في حضرموت)، المقامة في مدينة شبام التاريخية بتاريخ (27- 28 أكتوبر 2018م)، وفي أثناء وجودنا في وادي حضرموت وفي طريق عودتنا إلى المكلا قمنا بزيارة بعض المدن والأماكن والمواقع الأثرية والتاريخية، وأهمها واحة ريبون العتيقة وبقايا مستوطنتها الأثرية، وذلك في يوم الإثنين (29 أكتوبر 2018م)، ويرافقنا في الزيارة بل كان مرشدنا فيها الأستاذ رياض أحمد باكرموم، وهو من أبناء دوعن والمدير العام للهيئة العامة للآثار والمتاحف والمخطوطات بحضرموت، وزرنا خلالها بعض المدن والقرى والمواقع الأثرية.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص27
رابط العدد 12 : اضغط هنا
في رحاب بعض المواضع الدوعنية العتيقة:
في طريق عودتنا من شبام إلى المكلا عبر الدروب الدوعنية قمنا بزيارة بعض المواقع الأثرية والتاريخية، ومنها قرية المشهد للسيد علي بن حسن العطاس (ت 1160هـ/ 1747م) المتوفى فيها وبها مشهده الذي تقام له زيارة سنوية في شهر ربيع الأول من كل عام، ومن أبرز معالم المشهد قباب العطاس الثلاث وتابوته الخشبي المزخرف، وقد تعرضت هذه القباب في عام 2015م لمحاولات الهدم والطمس.
كذلك مررنا بالهجرين بوابة وادي دوعن، وهي من المدن التاريخية التي يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، وبها العديد من الآثار التاريخية. ومنها إلى بلدة صيلع التاريخية، التي ربما يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، وذكرت بعض الروايات التاريخية أن بلدة صيلع بناها بدر أبو طويرق الكثيري سنة 941هـ، وأسكن فيها آل محفوظ وآل باداس، وتقع صيلع على ارتفاع شامخ يصل إليها اليوم ساكنوها عبر عقبة، عمل على شقها وسفلتتها أحد أبنائها الخيرين، ومن أعلى عقبة صيلع تشاهد العديد من مدن وادي دوعن وقراه… إنها صيلع إحدى مناطق الهجرين التاريخية بالوادي الجميل بالقرب من أطلال دمون، ومنها ورد الخبر على امرئ القيس بمقتل أبيه حجر الكندي فقال:
أتاني وأصحابي على راس صيلع | * | حديث أطار النوم عنى فأفعما |
فقلت لنجلي بعدما قد أتى به | تبين وبين لي الحديث المجمجما | |
فقال أبيت اللعن عمرو وكاهل | أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما |
وعلى طول الطريق كنّا نشاهد بانوراما بديعة لمناظر أودية دوعن وأشجار النخيل الكثيفة، وكذا المباني الدوعنية التقليدية، وفيها المصانع أو القصور التقليدية البديعة كقصور آل العمودي في قيدون وصيف، وآل بقشان الحالكة في خيلة، التي تربط بين وادي دوعن ومدن ساحل حضرموت، وصولًا إلى منتجع حيد الجزيل المكوَّن من 24 شاليهًا، وبُني على الطراز المعماري التقليدي الحضرمي (عمارة الطين)، وهي آخر محطة لنا في وادي دوعن في طريقنا إلى المكلا، ومن هناك كنا نشاهد المنظر البانورامي البديع لبطن الوادي، الذي تتوسطه قرية حيد الجزيل (وبحسب الروايات إن عدد سكان القرية 17 نسمة تقريبًا، وعدد الأسر ثلاث أسر، ويقال إن عدد الإناث أكثر من الذكور في القرية). وبعد استراحة الغداء في منتجع حيد الجزيل واصلنا السير إلى المكلا، وفي اليوم الثاني الثلاثاء 30 أكتوبر غادرنا إلى عدن.
وبعد هذه الجولة الممتعة في رحاب بعض المدن والقرى والمواقع الدوعنية التاريخية نعود إلى موضوعنا وهو:
واحة ريبون:
وهي من المواقع الأثرية التاريخية المهمة في حضرموت، تقع أطلال مدينة ريبون أسفل وادي دوعن، وكانت ريبون في الماضي مركزًا زراعيًا واسعًا في الوادي ومزوَّدة بشبكة وتقنية ري معقدة.. وقد زارت هذه الموضع عددٌ من بعثات التنقيب الأثرية، ومنها البعثة الفرنسية، والبعثة اليمنية – السوفيتية، وقد اكتشفوا الكثير من المعالم واللقي الأثرية، وعلى سبيل المثال: عددًا من المباني الدينية (المعابد)، والعثور على الكثير من النقوش الوثائقية، والقطع الفخارية، بل يعد هذا الموقع هو الأكثر غنى بكمية الفخار المصقول جيدًا، ذات اللون البرتقالي الفاتح، غير أن الأصبغة الحمراء هي الأكثر انتشارًا، وقد شاهدنا كميات كبيرة من كسرات الفخار متناثرة هنا وهناك، وأخذنا عينات منها.
كما تبين من خلال المسوحات والدراسات الأثرية أن واحة ريبون تتضمن أربع مستوطنات ضخمة، تحيط بها بقايا حقول قديمة، وشبكة ري متطورة، ومدافن كبيرة قديمة، وعدة معابد تقع قرب المستوطنات وعلى منحدرات الجبال، ويوجد في المستوطنة الرئيسة (ريبون) أكثر من ثلاثين مجموعة بناء سكنية ودينية وعدة آبار. ولعل الحفريات التي قامت بها البعثة اليمنية السوفيتية في هذه المستوطنة خلال الأعوام (1983- 1985م)، قد أعطت الكثير من المواد التاريخية الحضارية، التي تتيح البدء بالدراسة الشاملة لتاريخ مختلف جوانب حياة هذه المدينة الكبيرة في جنوب الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد والقرون الأولى للميلاد. والتي كانت بمثابة مستوطنة مركزية لمجموعة كبيرة من السكان العاملين في المجال الزراعي وشبكة ري متطورة، بل تم الكشف عن معبد في الضاحية الشمالية مكرس لآلهة الخصب عثتر (عثترم ذات حضران)، ولعل هذا يؤكد أن المنطقة خصبة زراعيًا، وأن أغلب سكانها يشتغلون في الزراعة، وأنها تمثل منطقة زراعية كثيفة السكان، وإلى اليوم تنتشر في الواحة الأراضي الزراعية.
أما نقوش ريبون فنجدها تذكر عددًا كبيرًا من أسماء سكان المستوطنة القديمة، وهناك من النقوش التي تتحدث عن الحياة الثقافية لهذه المنطقة الكبيرة المزدهرة في العصور القديمة.
بالإضافة إلى الحفريات في المدينة الكبيرة ريبون أجريت أعمال تنقيب في ضواحيها، وكانت من نتائج هذه الأعمال الكشف على عدة مجموعات أثرية كبيرة، بما في ذلك مدافن صخرية كبيرة، وأنقاض معابد آلهة حضرموت كإله القمر سين، وبقايا مستوطنات صغيرة، ومجموعة قبور أرضية.
وهكذا وبعد استنطاق مواد الحفريات الأثرية والنقوش وغيرها من المكتشفات في ريبون ودراستها قد أتاحت رسم الملامح العامة لمظهر المدينة القديمة، وتاريخ تطورها، الذي عكس -على ما يبدو- مصير منطقة حضرموت كلها خلال الحقبة الواقعة بين القرن السابع قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي. وتبين أيضًا أن المدينة قد شهدت ثلاث مراحل ازدهار، تخللها فترات ركود وانحطاط، كانت تأتي عادة بعد حروب ضارية، وحرائق كبيرة تسببت في إبادتها.
أما ما يميز واحة ريبون فإن هذه الواحة القائمة على المجرى الأسفل لوادي دوعن ربما كانت أحد المراكز الأساسية للحياة الدينية داخل حضرموت، وذلك أن أحد الملامح المميزة لهذه الواحة القديمة هو كثرة المباني الدينية فيها (المعابد)، وتحتل هذه المعابد مكانة خاصة في الحياة الاجتماعية العامة والخاصة لسكان ريبون، ولذلك أعطت البعثة السوفيتية العلمية للآثار والدراسات التاريخية اهتمامًا كبيرًا للمعابد، وكشفت التنقيبات عن معبدين للآلهة المحلية، بالإضافة إلى ذلك كشفت التنقيبات عن عدة حرم ومعابد مكرسة للإله سين متناثرة على الأراضي الزراعية والمقابر القديمة، فضلًا عن ذلك كان لكل مكان معمور في الواحة معبده المكرس للإله سين إله حضرموت الأكبر. وقد تطورت هذه المعابد من مجرد مبان من الطوب إلى مبان ضخمة على سطوح حجرية، وإلى مجموعات واسعة للعبادة، مكونة من عدة مبان، ذات وظائف متنوعة.
واحة ريبون اليوم:
بعد الانتهاء من أعمال الندوة العلمية في شبام (27- 28 أكتوبر)، ومغادرتنا شبام في طريقنا إلى المكلا، قمنا بزيارة واحة ريبون ويرافقنا الأستاذ رياض أحمد باكرموم مدير الهيئة العامة للآثار والمتاحف، وأطلعنا على بقايا الأطلال للعديد من المباني السكنية والدينية (المعابد)، ووجدنا أن الإرث الأثري التاريخي الحضرمي يستغيث وكأنه يناجينا ويستنجد بنا، يحدثنا على ما هو عليه من إهمال وتجاهل واعتداء وبسط بقصد أو بغير قصد في ظل عدم الاهتمام وخاصة تقاعس السلطات المحلية بحضرموت وتجاهلها، والأهالي وبخاصة أهل وادي دوعن.
وقد شاهدنا بأم أعيننا العديد من الآليات تنتهك حرمة الواحة، وتعمل فيها بهدف استصلاح الأراضي الزراعية، كذلك شاهدنا محاولات الحفر في بعض المواقع الأثرية بريبون ربما بهدف البحث عن الآثار.. لذلك نحن كأكاديميين ومثقفين نناشد الأهالي بوقف هذا العبث وحماية تراثهم الأثري والتاريخي والحفاظ عليه، إذا كان لا بد من الاستفادة من أراضي الواحة للزراعة فعلى الأهالي المستفيدين من أراضي الواحة أن يحافظوا على المواقع التي تحوي بقايا أثرية وإحاطتها بسياج. كما نناشد السلطات المحلية بحضرموت بالنظر في أهمية ذلك، والعمل على الحفاظ على ما تبقى من هذا الإرث التاريخي.