أ. د. طه حسين هُديل
كان للتواصل التجاري والعلمي بين حضرموت بمختلف مدنها وقراها وأوديتها ومدينة عدن في العصر الإسلامي دور كبير في توافد العديد من أبناء حضرموت إلى هذه المدينة التاريخية القديمة، لغرض العمل في أسواقها التجارية العريقة، أو الالتحاق بإحدى مدارسها أو مساجدها العتيقة التي ذاع صيتها في ذلك الحين في اليمن وخارجها، ومما لا شك فيه أن حصول الحضارم على غايتهم في عدن دفع ببعضهم إلى البقاء والاستقرار فيها، والعيش بين أهلها بعد اختلاطهم بهم عن طريق التزاوج والمصاهرة، أو الشراكة في المال والعمل والتعليم، وشكل من بقي في عدن عماد المجتمع العدني، وفئة أساسية فيه، إضافة إلى غيرهم ممن سكنها، لما ورد ذلك في بعض المصادر التاريخية التي عاصر مؤلفوها هؤلاء الحضارم، واختلطوا بهم في أثناء وجودهم فيها، ويعد المؤرخ الكبير ابن المجاور الدمشقي واحدًا من بين أهم الكتاب الذين عاشوا في عدن مدة من الزمن ليست بالقصيرة، واختلط بأهلها بمختلف فئاتهم من علماء وتجار وعمال وموظفين وطلاب وغيرهم، فأخذ في وصف الحضارم من بين هؤلاء على أساس أنهم هم السكان الأصليون لعدن، إضافة إلى غيرهم من الأقوام والأجناس التي عاشت في عدن؛ حيث عدَّ أن من ارتبط بعدن وعاش فيها وانتمى إليها بعمل أو دراسة أو رزق فهو من سكانها الأصليين، على الرغم من التنوع العرقي الذي كانت تعيشه هذه المدينة الضاربة جذورها في التاريخ.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص 32
رابط العدد 12 : اضغط هنا
وقد بلغ من قوة انتماء بعض أهل حضرموت وغيرهم ممن جاءوا إلى عدن واستقروا فيها أن يضيفوا اسم عدن إلى أسمائهم، لتصبح صفة يتميزون بها عن غيرهم؛ حيث يعدّون عدن هي انتماؤهم الثاني بالانتماء المناطقي، وفي دراستنا هذه تظهر لنا بعض الأسماء التي تلقب أصحابها باسم العدني لقوة ارتباطه وانتمائه لهذه المدينة العريقة، ولتميزه عن غيره من سكانها، وممن ذكر بذلك من الحضارم العدنيين في المدة موضوع الدراسة -على سبيل المثال لا الحصر-: الفقيه شمس الدين علي بن عمر بن عفيف الهجريني الحضرمي العدني (ت 830هـ/ 1426م)، والقاضي جمال الدين محمد بن مسعود باحميش الحضرمي الشافعي العدني (ت 871هـ/ 1466م)، والعلامة جمال الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد بن علي بن عبدالله بافضل الحضرمي التريمي العدني الشافعي (ت بعد: 898هـ/ 1492م)، والفقيه الإمام الحبر الشيخ جمال الدين السعدي الحضرمي العدني (ت 903هـ/ 1498م) وغيرهم الكثير.
وقد شكلت التجارة، والبيع والشراء، واستثمار الأموال من بين أهم الأهداف التي دفعت الحضارم إلى التوافد إلى مدينة عدن للعمل فيها، ولما سمع عنها، ناقلين معهم العديد من المنتجات والسلع الحضرمية لترويجها في أسواق عدن، فضلًا عن بعض عاداتهم في البيع والشراء، والموازين والمكاييل الحضرمية المختلفة التي أصبحت من بين أهم المكاييل في الأسواق العدنية، وتعد مدة حكم الملك العزيز سيف الإسلام طغتكين بن أيوب (579- 593هـ/ 1183- 1196م) من أكثر الحقب التاريخية التي انتعشت فيها التجارة الحضرمية في عدن، بعد وصول العديد من السفن التجارية من موانئ حضرموت المختلفة لا سيما ميناء الشحر إلى ميناء عدن، وقد خضعت تلك البضائع للإجراءات الجمركية المتعارف عليها في فرضة ميناء عدن، من رصد لتلك السلع في دفاتر مخصصة لمثل هذه الأمور، وأسماء مستورديها، لتحديد ما يفرض عليهم من عشور تجارية يحددها مشايخ جمرك عدن، وعلى الرغم من المعاملة التي كان يواجهها التجار الحضارم من قبل عمال ميناء عدن ومشايخ جمركه؛ فإن ذلك لم يمنعهم من الاستمرار في السفن إلى عدن عبر مينائها التجاري، مما دفع الأمر ببعضهم إلى الاستعانة بالملك العزيز طغتكين بن أيوب الذي كان كثيرًا ما يطلب مشايخ الفرضة للاستفسار عن سبب تأخير رصد بضائع التجار الحضارم وجمركتها، مطالبًا إياهم بسرعة تخليصهم جمركيًا وإخراجهم وبضائعهم من الفرضة إلى الأسواق العدنية.
وفي الوقت نفسه، كانت سفن بعض التجار الحضارم تنطلق من ميناء عدن إلى بعض مناطق الثقل التجاري في أفريقيا وغيرها، بعد أن شكلت عدن وميناؤها مصدر ثروة لتجار حضرموت في ذلك الوقت، ومن أشهر هؤلاء التجار الذين ورد ذكرهم في المصادر التاريخية، محمد بن عبدالرحمن باحنان الذي عاش في عهد السلطان الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل الرسولي (803- 827ﻫ/ 1400- 1423م)، واشتهر بتجارته الواسعة في عدن وأملاكه التي بلغت أفريقيا، بعد أن وسع تجارته إليها بإرسال السفن التجارية المحملة بأنواع البضائع والسلع إلى موانئ الحبشة وغيرها.
وتورد لنا المصادر التاريخية أسماء العديد من التجار الحضارم الذين انتقلوا إلى عدن للعمل في التجارة، وأصبحوا من بين أهم أبنائها الذين عملوا على انعاش اقتصادها تجاريًا وصناعيًا، وممن يذكر بذلك: التاجر عبدالله بن أحمد باراشد الحضرمي، الذي كان معاصرًا للأمير عثمان الزنجيلي (ت 583ﻫ/ 1187م )، حتى إنه يذكر له بعض الأعمال الخيرية في مكة، كترميم السبيل الذي أنشأه الزنجيلي للخارج من باب الشبيكة في صوب طريق التنعيم على يمين المار إلى العُمْرة، فذكر أن من عَمَرَ هذا السبيل بعد الزنجيلي تاجر حضرمي من أهل عدن يعرف بأبي راشد، ويعد هذا التاجر الحضرمي من أشهر تجار مدينة عدن في عصره، وبلغ من حبه لهذه المدينة إلى أن يرتبط بأهلها بعلاقات صهارة وتزاوج مع بعض أبنائها الذين تزوجوا من بناته، ويذكر بامخرمة أن والدته هي من سلالة هذا التاجر الذي يشير إلى أنه جده من أمه التي كانت تسمى فاطمة.
ومن التجار الحضارم أيضًا الذين انتقلوا إلى عدن وجمعوا بين العلم والتجارة والزراعة العلَّامة محمد بن سعد بن محمد بن علي بن سالم المعروف بأبي شكيل الأنصاري الخزرجي (ت 760هـ/ 1358م)، الذي يبدو أنه كان له دور كبير في انعاش الحياة الاقتصادية في عدن، والتاجر عبدالله بن محمد بن علي بن العفيف اليمني العدني، الذي عمل بالتجارة بعدن مدة من الزمن، كما عمل ابنه الفقيه أحمد (ت 817هـ/ 1414م) بالزراعة إضافة إلى العمل بالتجارة.
وعلى أية حال، فقد كانت التجارة من بين الأمور التي دفعت العديد من أبناء حضرموت للانتقال إلى عدن والإقامة فيها فترات متفاوتة بين طويلة وقصيرة أو إقامة دائمة، حتى أصبحت أسواق هذه المدينة موقعًا لبيع السلع التجارية الحضرمية، التي كانت تستورد بين وقت وآخر من قبل التجار في عدن، ويعد القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي من أكثر القرون التي انتعشت فيها أسواق عدن بالضائع الحضرمية المختلفة، مثل:
وكيفما كان الأمر، فلم تكن العلاقة التجارية بين حضرموت وعدن محصورة في إطار التبادل التجاري فقط، بل وصل الأمر إلى أن يتم التعامل في أسواق عدن بالمكاييل والموازين التي كانت معترفًا بها عند أهل حضرموت في المدة موضوع الدراسة، وترصد لنا بعض المصادر التاريخية أسماء لعدد هذه المكاييل التي عرفت في أسواق عدن، مثل:
وكيفما كان الأمر، فقد أدى رأس المال الحضرمي دورًا كبيرًا في إنعاش الاقتصاد العدني في ذلك الوقت، وبرزت العديد من الشخصيات الحضرمية التي كان لها الأثر الكبير في ذلك، من أصحاب رؤوس الأموال، وترصد لنا المصادر التاريخية أسماء لبعض هؤلاء التجار والملاك الذين امتلكوا أموالًا وأملاكًا مختلفة في مدينة عدن، أمثال: التاجر والثري أبو الحسن علي بن محمد بن حُجْر بن أحمد بن علي بن حُجْر الأزدي الهجريني الحضرمي (ت 685هـ/ 1286م)، الذي يذكر أنه كان عالمًا وتاجرًا من أصحاب الثروات والأملاك والعقارات الواسعة في مدينة عدن، ومن الملاحظ أنه كان وكيلًا لبعض السلع التجارية التي كانت تباع في أسواق عدن، مثل: الأرز، والزعفران، والعطارة وغيرها، لهذا أصبح من كبار التجار الذين أنعشوا تجارة عدن -خلال المدة موضوع الدراسة-، وقد بلغ من سعة أملاكه إلى أن يمتلك حوانيت ومحلات عديدة في عدن، وبيوت سخر بعضها لاستقبال الضيوف والمنقطعين والوافدين إلى عدن، وأصبحت تجارته وما تجني منها الدولة من أموال زكوية مصدرًا من مصادر دخلها السنوي، فضلًا عمّا تجنيه الدولة من أموال الضرائب التي كانت تقدر على السلع التجارية الواردة لتجارته، ولمحلاته التجارية التي انتشرت في أسواق مدينة عدن، مع حرصه على أن تكون تلك الأموال حلالًا في مصادرها.
وإضافة إلى ذلك، فلم تكن التجارة هي ما اشتهر به الحضارم المقيمون في عدن فقط، بل اتجه بعضهم إلى استثمار أموالهم في امتلاك العقارات المختلفة من: حوانيت أو دكاكين، وفنادق وغيرها، أو تعميرها وتشغيلها لتحريك الحياة العامة في عدن، بهدف توفير السكن لكل المقيمين فيها من تجار وعلماء وطلاب ووافدين ومسافرين وحجاج وعابري سبيل، وممن اشتهر بذلك التاجر محمد بن أحمد باحنان الحضرمي (ت 856هـ/ 1452م)، الذي عُرِفَ بفنادقه التي كانت منتشرة في عدن لهذا الغرض، علمًا بأن التاجر المذكور تميز بفطنته وحسه التجاري والاستثماري، الذي مكنه من امتلاك العديد من الأملاك والعقارات والأراضي في عدن ولحج وغيرها، بعد أن استغل حالة الجور التي تعرض لها الرعية في عهد السلطان الناصر الرسولي، والذي دفعت بالعديد من أهالي عدن ولحج وتجارهما إلى بيع أملاكهم وعقاراتهم بأبخس الأثمان، فانتهز التاجر باحنان هذه الفرصة لشراء جملة من العقارات، من دور وفنادق ودكاكين بتعز وعدن، وجملة من الأراضي المزروعة بوادي لحج، وقد تميز بالكرم الجم، فسخر معظم تلك العقارات والأموال للصرف على الفقراء والمساكين في تلك المناطق.
وخلاصة القول هنا، إن مدينة عدن شكلت متنفسًا للعديد من التجار الحضارم، الذين وجدوا فيها المكان المناسب لاستثمار أموالهم ومنتجاتهم المختلفة، مما ساعد على انتعاش حركة السوق التجارية بين حضرموت وعدن، التي انتشرت في أسواقها السلع الحضرمية التي ذكرناها سلفًا، مما شجع على زيادة الهجرات الحضرمية التي وصلت من مختلف الشرائح والفئات الحضرمية، لا سيما من العلماء والفقهاء الحضارم، وطلاب العلم وغيرهم ممن كانوا سببًا في نهضة عدن العلمية والفكرية.
أهم المصادر:
1- جمال الدين أبو الفتح يوسف بن يعقوب بن محمد (ت 690ﻫ/ 1291م)، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المسماة تاريخ المستبصر، اعتنى بتصحيحها: أوسكر لو فقرين، ط2، دار التنوير، بيروت، 1407ﻫ/ 1986م.
2- بامخرمة، أبو محمد الطيب بن عبدالله بن أحمد، قـلادة النحر في وفيات أعيان الدهر، ج3، إصدار وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ/ 2004م.
3- السخاوي، شمس الدين محمد بن عبدالرحمن (ت 902ﻫ/ 1496م)، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، ج5، ط1، دار مكتبة الحياة، بيروت، (د. ت).
4- ابن الغزي، شمس الدين أبي المعالي محمد بن عبدالرحمن (ت 1167هـ)، ديوان الإسلام، ج1، تحقيق: سيد كسروي حسن، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ/ 1990م.
5- الجندي، أبو عبدالله بهاء الدين محمد بن يوسف بن يعقوب (ت 732ﻫ/ 1331م)، السلوك في طبقات العلماء والملوك، ج2، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، مكتبة الإرشاد، ط2، صنعاء، 1416ﻫ/ 1995م.
6- نور المعارف في نظم وقوانين وأعراف اليمن في العهد المظفري الوارف، ج1، تحقيق: محمد عبدالرحيم جازم، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية، صنعاء، 2003م.