40
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص 40
رابط العدد 12 : اضغط هنا
عبدالرحمن بن عقيل كائن مشغوف بالكتب والوثائق والرسوم، فهو يتعهدها بمحبة وسخاء، قاعدًا لها كل مرصد. وهو ليس بمشغوف بها فحسب، بل مهتوف، فقد هتف عليه أحد أولياء الأثر الإنساني، ومنذئذ وعبدالرحمن نقّابة -بتشديد القاف- عن كل طريف، رصّادة -بتشديد الصاد- لكل شاردة وواردة مما يملك عليه تفكيره، ولذلك فهو يفجأ القارئ والباحث بكتاب أو بحث، تكون بصمته واضحة جلية فيه من حيث طبيعة الموضوع، أو طريقة التناول، أو استيفاء المصادر والمراجع والوثائق.
وعصامي هذا العبدالرحمن في تكوينه وتعبيد المسالك إلى حيث يجد ذاته، وبغيته، وما تقرُّ به روحه عينًا، وهو أحد (العقايلة) الأشقاء النجباء الذين نحبهم: عبدالعزيز بن عقيل وبدر بن عقيل.
وعبدالرحمن عاشق للكاميرا، وللأسفار والبلدان، محب للمدن والقرى، وله من الحكايات معها والذكريات فيها ما لعله يتحفنا بشيء منه في كتاب.
وعبدالرحمن إذ تترصده السنون، قائلة له: اشتعل الرأس شيبًا، ما زال هو ذاك العبدالرحمن الجميل، طفلًا لم تزده السنون إلا نقاءً وحسًا جميلًا بالعالم، وسخطًا على العابثين بمصائر الإنسان والأوطان.
كان كتابه عن بامخرمة رائدًا في بابه، وثنى عليه بالقنيص في حضرموت وكان مدهشًا، ثم ثلث بالإباضية في حضرموت وعمان، ولم يكن فيها جميعًا سوى باحث يستنطق الفكرة والحادثة والظاهرة والموقف، وكأنه يتقرى لوحة نادرة في أحد المتاحف العالمية التي زارها، ليس بعين السائح وإنما بعقل المتسائل المتأمل المتفكر المتفاعل.
ذلك بعض مما كتبته عن عبدالرحمن على صفحتي بالفيسبوك، صدى لما في النفس منه، وما تردد فيها من عبارته الدالة »كانت حضرموت مغلقة قبل أن تقرأ قصائد بامخرمة«، التي كتبها في إهدائه إياي نسخة من كتابه (عمر بامخرمة السيباني 884- 952 هـ حياته وتصوفه وشعره)، الصادر عن دار الفكر بدمشق.
عن حضرموت المغلقة والأخرى المفتوحة، سالت بيننا شِعاب الكلام والأفكار في لقاءاتٍ، من بعدُ، ومكالمات مطولة، ومحادثات عبر وسائط التواصل الاجتماعي. فقد كان بعين القارئ العارف الواقف على تفاصيل وصفحات مطوية من تاريخ حضرموت، ووقائع منسية أو شواخص مهملة، يرى ما يُكلِم قلبه حينًا، وما يبهج روحه حينًا آخر، لكنه كان ذلك القارئ الناقد لكل حال مائل، ومن ذاك حالة الزهو الحضرمية المبالغ فيها، التي هي تمثيل نفسي يضخ سلبياته، في مجرى التغني بالماضي، وتشكيل صورة نمطية عن السوبرمان الحضرمي، في ما يشبه حالة غسيل الدماغ المفتعلة التي لها مفعول قصيدة عمرو بن كلثوم التي ألهت بني تغلبٍ عن كل مكرمة منذ أن قالها.
كان عبدالرحمن قارئًا الماضي، بعين مستقبلية، تعيش اللحظة الحاضرة، بكل تفاصيلها، مدركًا أن هناك حضارات إنسانية اشتركت في صنعها البشرية، وأن لكل أمة، وكل شعب، وكل جماعة تراثها وفنونها وتاريخها، لكن الاستغراق في تمجيد ما مضى -وكثير مما مضي ينبغي نقده وإعادة قراءته قراءة علمية موضوعية تمسح عنه ما أضيف إليه من خرافة ووهم- واحد من أخطر عوامل الاجترار التي تفصل حضرموت عن الدخول إلى لحظة الحداثة، فكرًا وحياةً وتصورًا للعالم، فما زال المجتمع الحضرمي تقليديًا في بنيته العميقة، بينه وبين التجديد مسافة نفسية، هي من صنع من أوقفوا الزمن، بمحاذير الخوف على الهُوية، من مخاطر الانفتاح على طرائق جديدة في مقاربة الأشياء والأحياء.
»كانت حضرموت مغلقة قبل أن تقرأ قصائد بامخرمة« فهل انفتحت بعد قراءتها كما ينبغي؟ لعل محاولة الإجابة على تساؤل كهذا، مما تضع فكرة تبحث الموضوع في تجلياته المتعددة، ولا سيما الفكرية والدينية والأدبية، بمنهجية موضوعية، ضمن مشروع إعادة قراءة التاريخ والتراث نقديًا، بعيدًا عن الاشتغال على إعادة تشكيل الصورة النمطية عن حضرموت، بقراءات متهافتة يقدمها باحثون يميلون مع رغائب ذوي المال حيث تميلُ، ممن إذا بحثوا عن كتاب في التاريخ كان سؤالهم عن عناوين محددة لعلهم يجدون ضالتهم فيها عن أمجاد قبائلهم أو سير وجهائها، وإذا شخصوا إلى رموز ثقافية لم يروا سوى أسماء بعينها، لأن في منتجها ما يكرس نمطية وعيهم وسكونيته المميتة.
كان عبدالرحمن بن عقيل على النقيض من ذلك كله، لكنه كان يرى للحضارمة صورة مشرقة في وعيه، تغيم إزاءها صورتهم اليوم، وهم يلبسون أقنعة لرموز الحقيقية في التراث، ثم لا يتمثلون رؤاهم، وكيفيات جسارتهم في وضع بصماتهم الخاصة في مجالات عديدة، لا ينمازون فيها عن الآخرين، لكنهم يؤكدون بها إنسانيتهم وهي تتمثل المشرق في دواخل الروح، لا المظلم المعتم الذي يسد كل أفق، حتى كاد عبدالرحمن أن ينعى حضرمية من يتنطعون بها، محيلًا على ما في معنى الحضرمة في العربية من لحن في القول، يضيف إليه عبدالرحمن لحنهم في الفعل والعمل، إن جاز التعبير الاستعاري.
في مكتبة عبدالرحمن الشخصية وثائق وصور ومخطوطات نادرة اعتنى باقتنائها باذلًا من ماله الشخصي ما يدل على عشقه العميق لكل أثر ذي قيمة، ولعل من موجبات الوفاء له أن تكون مكتبته محجةً للباحثين، بكيفية ما، سواء هناك في الخُبر بالسعودية حيث كان مستقره ومقامه، ككثيرين من الحضارمة الذين لم يتسع لهم الوطن، أو في حضرموت حيث عشقه حد الدنف، المهم أن يظل امتداد عبدالرحمن كالنهر الهادئ الذي كان عبدالرحمن صورة مثالية له، ثم رحل بهدوء تمامًا كالنهر الذي لا نسمع صخبه، ونرى أثره.