أ. هاني عبود الغتنيني
(التفتُّ مباغتًا.. صعقتُ وأنا أرى هيفاء ملتفَّة بعباءة أنيقة يكاد جسدها الممشوق يتمرد عليها) تقف حيالي في زهو بالغ.. أنعمت النظر في (صفحة وجهها الصقيل) (بقسماته المتحفزة) اكتنفني إحساس بنشوة عارمة وأنا أسمع (خطوات الهيفاء المتمايسة بجرأة متحدية) تقترب إليَّ وكأنما أيقظتْ شعورًا كامنًا في أعماقي السحيقة. أبحرت على استحياء في تفاصيل وجهها المفعمة بالجمال، وتسمرت عند عينيها الواسعتين الزاخرتين بالحكايا والأسرار.. انقطع حبل الوصل بصوت محبب من الأديب المبدع مسعود الغتنيني:
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص 42
رابط العدد 12 : اضغط هنا
-إنها (ناهية) مجموعة قصصية للقاص والروائي المتألق الأستاذ سالم العبد، هززت رأسي موافقًا – نعم إنها (ناهية) بجمالها الفريد وجرأتها المعهودة.
لقد كنا في مجلس القاضي الأديب العامر بفنون المعرفة، والتي نتفيأ ظلالها إلى حين من شطحات الأزمة المتغولة في بلادنا… ناولني (ناهية)، وعند إجالة النظر في صفحاتها قلت له: إن الكاتب يعتمد في تركيب جملته السحرية على (الصفة أو النعت كما يسمى أحيانًا) فاقترح كتابة هذا الملحظ، فأعارني (ناهية)، وربما شيئًا من همته العالية المتدفقة.
وها أنا أسجل انطباع قارئ اكتفى بالنظر في وجه (ناهية) دون الغوص في أغوارها فلذلك أهله. ولسنا بحاجة للتعريف بالكاتب فهو قامة أدبية سامقة معروفة في الساحة الأدبية. أما مجموعته القصصية (ناهية)، فهي تضم ثلاث عشرة قصة قصيرة، ترفل في حلل من اللغة المؤنقة والتصوير البديع الذي يجعلها تضج بالحياة والحركة، تمتد أحداثها من شوارع فرانكفورت ومقاهي برلين مرورًا بمدن شامية لتستقر في شوارع المكلا عند (بسطة الخامر) و(القصر السلطاني) معرِّجة على (غيضة الرزفة) في المشقاص قبل أن تنتهي في حي باعبود في قصة (ناهية) التي ختم بها وبها سمَّى مجموعته.
المجموعة بمجملها تعبر عن أنماط وصور للحالة الإنسانية، واختلاف طبيعتها وسلوكها باختلاف الشخوص والأمكنة وتماهيها معها، وتطورها شعوريًا وسلوكيًا في كل طور، وتبدو تجلياتها في جوانب عدة ومظاهر متعددة تلمح خلالها مقارنات ومقاربات واقعية متقابلة… فمن التوجس من الفيتناميين الذين دخلوا كالقطيع الهائج إلى الإغراق في الضحك معهم، ومن وحشته من مشهد المقبرة العتيدة التي تطل عليها نافذة السيدة ميرلي إلى التغيير الهائل الذي طرأ على المقبرة؛ إذ تدثرت بغطاء كثيف من الورود، مرورًا بانتقال البناء من الطين إلى الحجر في ظل استغلال جشع من شيخ الحجار، وما تزال تقلبات الطبيعة البشرية تبرز من موقف إلى آخر لتبلغ ذروتها حين انخلست الفتاة (ليلى) عن اسمها لتأخذ اسم (صابرين) في طورها الآخر. وقد سجلت المرأة حضورًا مترفًا في هذه المجموعة على اختلاف بيئتها الممتدة من بلاد (السماء الداكنة والنبع البارد) إلى (مناطق الشمس الملتهبة). وتنساب اللغة جميلة رقراقة من قصة إلى أخرى منسجمة مع مكان القصة وشخوصها، ناقلة لثقافة المكان لتصل إلينا نفثات من اللهجة المكلاوية الجميلة في قصة (ناهية) التي اتخذها قنطرة لبث رسائل معينة، وللكاتب قصة أخرى بعنوان (ناهية 2)، نشرت خارج المجموعة، ويبدو أنها رمز للمكلا وما تتعرض له من ظلم وتهميش. والرمزية في المجموعة تبدو قريبة وﻻ تذهب نحو الغموض المجدب.
يعتمد أستاذنا الكاتب البارع في صوغ قصته على اللغة المصورة ذات الإيحاءات والظلال، وله أدواته في ذلك، وأكثر ما لفتني منها تكرر الصفة أو النعت، فهو حينما يعطي اللفظ نعته والموصوف صفته لا يستخدم ما ألفته تلك الألفاظ من صفات إلا ما ندر وإنما يمنحها بعدًا آخر ودلالات أخر بصفات ونعوت يختارها بدقة فائقة لتلقي بظلالها على المشهد كله، وتبعث في النفس شعورًا بجو النص حتى يصنع من الصفة مع موصوفها صورة مستقلة، وتتكثف هذه الصور لتنسج مشهدًا ناطقًا يساهم في صنع القصة، ويجعلك تعيش أحداثها وتتفاعل معها، وللتدليل على ما ذكر نقتبس بعض الجمل من قصص المجموعة:
-(ثم وهو يفتح الباب ليندفع منه أكثر من عشرة فيتناميين داخل الغرفة كالقطيع الهائج)، فالقطيع الهائج صورة توحي بالفوضى والجلبة والذعر الذي أحدثه اندفاعهم القوي. وعندما أراد رئيس الفيتناميين أن يعتذر بدا (راسمًا على وجهه الصافي ابتسامة صغيرة وديعة)، وعندما خدعهم طافت على وجهه (ابتسامة مخاتلة هازئة أو محتقرة) ليتركهم في (دهشة ساحقة) فكل هذه الصفات ساهمت في رسم القصة وبثت فيها حياة خاصة.
-(أيكون هذا الشعور المقبض بسبب من قتامة الشقة المعتمة؟ أم ترى من آثار الرحلة الطويلة عبر المطارات المستفزة).
في هذه العبارة أربع صفات تكرس الشعور المقبض وتشخص اللحظة، ووصف المطارات بـ(المستفزة) يختزل كل ما يلاقيه المسافر من عناء داخل المطارات. وترتبط هذه الإيحاءات لتتصل بحالة (الإعياء الفظيعة):
-(وارتميت على الأريكة الخشبية العتيدة في حالة إعياء فظيعة).
-(منتصبًا بقامته المعصورة باذلًا جهدًا استثنائيًا مداريًا عرجه الطري بإمالة غير ملحوظة صاغتها مهارة فائقة تواري اعتماده الكامل على عكازه الرشيق بنقوشه الزاهية)، فهنا يكاد الكاتب أن يصف كل كلمة في هذه الفقرة، وكل صفة تنطوي على دلالات، وتشير إلى المشقة التي يتكلفها لإخفاء حقيقة العرج المحبطة في جو بهيج. وتبرز في هذه الفقرة مقابلة طريفة بين نقصه (قامته المعصورة وعرجه الطري الذي لم يتكيف معه بعد)، و(فتنة الحوريات) ويفصلهما ويؤلف بينهما التضليل المموَّه (عكازه الرشيق والنقوش الزاهية). وأختم بهذه العبارات المختارة خشية الإطالة آملًا أن أكون قد وفقت في هذه القراءة المتواضعة:
-تداخل أريج العطر النسائي مكثفًا الحضور الأنثوي الباذخ.
-اخترقت عيناه المشتعلتان الأشباح الآدمية المهرولة.
-وفيما كنت مستغرقًا في حالة الفراغ الشاهق.
-وجهها المكتنز بالبراءة.
-قفزت لحظة ارتطام الغيمة المهتاجة بقمة جبل ظبقات غارسًا قدمي الطريتين في صخوره الحادة.