نقد
أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص 46
رابط العدد 12 : اضغط هنا
ما أعجبَ الثّقافةَ في حضرموت!
تملأ كتبُ التّصوّف والتاريخ والفقه جنباتها، ويضمر فيها ما سوى تلك من صورها وكأنْ لا وجود لها فيها. وإنّ لما ذكرنا من صور الثّقافة فيها أثرًا سلبيًّا على مجالاتٍ إبداعيّةٍ أخرى كثيرةٍ فغدت أسيرتَها، وتحكّمت في هُويّتها حتّى خبا وهجها وأوغلت في التقليد والاتّباعيّة والاجترار، ولم تتماسَّ مع جمر التجديد ومحرّكات الإبداع.
وخذ على ذلك مثلًا الشّعر في حضرموت تجد أنّ كثيرًا من المنشغلين بالفقه أو التصوّف أو التاريخ أو ما إلى ذلك من صنوف المعرفة ذوو باعٍ في نظم الشعر على النحو الذي يتصوّرون. فهل وضعت أشعارهم على المحكّ النقديّ ليعرف شداة الأدب غثَّها من سمينها، وتجديدها من تقليدها؟ لم يحدث شيءٌ من ذلك.
ومن عجبٍ أنّ كلًا منهم معجبٌ بصنيعه كما كلّ فتاةٍ بأبيها معجبة. وثمّة فرقٌ كبيرٌ بين الإعجاب بالشيء وبين تقويمِه وتقييمِه نقديًّا. وهو ما لم نعرفه في حركة الثقافة والأدب في حضرموت بعدُ.
هذه قضيّةٌ تستوجب درسًا، ولذلك سنسعى إلى معالجتها من خلال النظر في صنيع بعضِ أعلام الشعراء في حضرموت لننظر في جدلية التقليد والتجديد في أشعارهم.
سيقول قائلٌ:
ولماذا النظر إلى هذه المسألة من خلال الأعلام؟
لِمَ لا ننفذ إليها في عمومها وكلّيّتها؟
وهذا صنيعٌ درجت عليه دراساتٌ نقديّةٌ كثيرة.
وأقول: إنّ المنهج العلميّ يقتضي ذلك. وهذا من باب معرفة الكلّ من خلال الجزء.
فعالم النبات لكي يدرس الشجرة لا يجلبها كلّها إلى معمله وإنّما يستأنس ببعض أغصانها وأوراقها لمعرفة أسرارها كلّها من بعد.
ومن رام إدراك الهُويّة الثقافيّة لمجتمعٍ مّا لا يمكنه فِعْل ذلك إلا من خلال تتبّع جزئيّاتِ مكوّناتِ بنيتِه الثّقافيّة حتّى يستطيع تشكيل البنية الكلّيّة لتلك الثقافة المهيمنة على ذلك المجتمع.
وناقد الأدب لا يصل إلى حكمٍ جامعٍ غيرِ مانعٍ في أدب أديبٍ ما إلا بعد أن يقتل مفردات أدبه بحثًا وفهمًا فَيَصِلُ إلى هذا التكوين الكلّيّ لرؤيته النقديّة لأدب فلانٍ أو فلانٍ من شعراء هذا الأدب أو ناثريه.
في حضرموت شعرٌ كثيرٌ، ومنه الفصيح وهو الذي يهمّنا في هذا المقام، ومنه العاميّ وهو لا يشغلنا هنا ولعلّه يكون موضوع حديثٍ آخر.
لكن ما مدى الإبداع في المنجز الشّعريّ في حضرموت منذ ابن شهاب حتّى أقرب الشّعراء عهدًا بالممارسة الشّعريّة؟
هذا سؤالٌ تطول إجابته وتتنوّع على حسب موقف المجيب ورؤيته للموضوع، ومدى استعداده للإحاطة بأبعاده بعيدًا أو قريبًا، من المنظور الموروث للإبداع الشّعريّ. لكن لا ضير من تلمّس بعض جوانب إجابته من خلال النّظر في المنجز الشّعريّ لأعلامٍ من الشّعراء في حضرموت وهم الذين عُرِفوا بالاتّباعيّين أو وُسِموا بهذه الصفة.
هذا اقتراحٌ قد يحبّذه بعضهم، لكن مَنِ المختارُ هنا للبدء به للنظر في شعره؟ لتكن البداية بالأستاذ الكبير السيّد محمد بن أحمد الشّاطريّ، فقد كان فقيهًا ومؤرّخًا وأصدر ديوانين، فهل يمكن أنْ يعدّ شاعرًا في الشّعراء؟
كلا. ليس الشّاطريُّ بشاعرٍ، وعلاقته بالشعر كعلاقة جدّتي بالإبداع الإلكترونيّ.
أليس هذا حكمًا جائرًا؟ نعم ليس جائرًا؛ لأنّ صلة الرجل بالشعر بعيدةٌ، وإنْ أحكم نظم العَروض وصاغه في جملٍ ووصله بأغراضٍ هي في الأصل مقولاتٌ كبرى ابتدعها المتأخرون ولم يأبه لها عباقرة الشّعراء.
سيقول قائلٌ: أَلَمْ يكن له إنجازٌ في الشعر؟ أَلَمْ يُخرِجْ للناس كتابًا منه تحلّى بمقدّمةٍ دبّجها شيخُ الناثرين في عصره الأستاذ محمد بن هاشم؟ أَلَمْ يقع الديوانُ موقعَ القبول عند بعض الدارسين؟
أقول عن ذلك كلّه: بلى. ولكنّنا ندرك أنّ ثمّة بونًا شاسعًا بين (كلامٍ موزونٍ ومقفّى)، وبين (كلامٍ فيه تخييلٌ ويفوح منه عبير الشعرية).
إنّ ما اشتمل عليه كتاب الشّاطريّ الموسوم بـ(ديوان الشّاطريّ)، وديوانه الثّاني الموسوم بـ(القطوف الجنيّة) من قصائد تتضمّن كلامًا موزونًا مقفّى لكنّه مغسولٌ من التخييل، وبريءٌ من الشعريّة. أفلا يُعَدُّ مثل ذلك الكلام نظمًا؟ ولأزيد الأمر بيانًا أضرب لك مثلًا شاهدًا، لعلّ قلقًا في نفسك يهدأ أواره ويروى عطشه. اسمع إذًا. قال:
جئنا إليك وأنت أكرم نادي لنقيم فيك مواسم الأعيادِ
جئنا إليك لكي يحيّي بعضنا بعضًا تحيّة ألفةٍ وودادِ
ولكي نصوغ من التهاني كل ما جلب السرور وبلّ قلب الصادي
وندير كأسات السرور فتنعش الأرواح حين تدبّ في الأجسادِ
جئنا إليك لأنّك القصر الذي أمسى وأصبح مركزًا للضادِ
ألا ترى أنّ الكلام هنا واقفٌ عند حدّ الصفر لا يكاد ينبعث عنه أصبعًا؟ أفترى في كلامٍ تلك صفتُه شعريّةً؟ وما الشّعريّة؟ أليست خرقًا للمألوف، وخروجًا من المواضعة إلى الاتّساع؟ وأين هذا الكلام -وأمثاله في ديوانه لا يكاد يحيط به حصرٌ- من الانزياح ومنظوره الأسلوبيّ عند علماء الشّعر في الأوّلين والآخرين؟
إنّ ابن شهاب (أبو بكر بن عبدالرحمن) لأشعرُ من الشّاطريّ بمعيار عصره، وبشرط الإبداع لديه. فلكم تفنّن في صناعة القصيدة، وجاء بمطربٍ وعجيبٍ، والشّواهدُ شواهدُ، وقف معي على واحدٍ منها دلّ عليه العجل ولم يستنبطه الرّيث والمهل. قال:
أتذكر إذ هصرتَ بفود سلمى وكانت من عُقاب الجوّ أصعب
فمالت مثل بدرٍ في ظلامٍ على غصنٍ على رملٍ مكثّب
ورمت عناقها فبكت دلالًا وكفكف دمعَها الكفُّ المخضّب
ولم تلبث بأن أدنت جناها وأولتك المؤزّر والمنقّب
هنا ينبثق النّصّ من ثنايا نصوصٍ، بعضها معلومٌ بالفعل، وبعضها معلومٌ بالقوّة. لكنّك لن تخطئ قدرة بنيتها اللغويّة على خلق تخييلٍ ملامسٍ لشرط الإبداع في عصره، ومن هنا تميّزه من شعر الشّاطريّ على تقادم ابن شهاب في الزمان.
وإن يكن ذاك حال الشّاطريّ مع ابن شهابٍ وهو سابقٌ عليه فكيف به إذا وازنّا بين شعره وبين شعر الحامد مثلًا؟ وإنّما الشّاعرُ الحامدُ. ولن أقيم لك مثل هذه الموازنة هنا حتّى لا أزيد الأمر ضِغْثًا على إبّالة، ولكنّي أدع أمر الموازنة للأذكياء من الأدباء متكِئًا على ذوقهم وسعة بصيرتهم في تدبّر الحال وتفنيد القضيّة.
لقائلٍ آخر أن يقول: ألا ترى أنّ شاهدًا واحدًا لا يكفي دليلًا على براءة ديوان الشاطريّ من الشعر؟ لعلّ تلك الأبيات كبوةُ جوادٍ. وأبادر بالرد: أيّ جوادٍ؟ وأيّ فارسٍ؟ لقد نظر الأستاذ ابن هاشم نظراتٍ في شعر الشّاطريّ وطاف ببعض معانيه فأثنى في المظانّ التي ينعدم في مثلها الثناء، وسآتيك ببعض شيءٍ من ذلك. خذ مثلًا حديثه عن الحكمة في شعر الشاطريّ، واسمعه يقول: »ولم يكن ديوان الشاطريّ بالذي يغفل نصيبه من الحكمة فقد يمر هاجسه عند تطوافه من آونة إلى أخرى بحظيرة الحكمة فيعلق به منها ما يعلق صفوًا عفوًا«. وضرب على ذلك مثلًا هو قول الشاطريّ:
فذو العلم إن لم يستفد من علومه فلا فرق بين العارفين ومن عموا
وذو المال إن لم يعطه مستحقّه فلا تمتروا في أنه سوف يندمُ
ولا خير في مالٍ وإن كان واسعًا إذا لم يكن يجدي العباد ويخدمُ
وكل امرئ ما منه خير فإنّه كما قال بعضُ الناسِ ثورٌ معمّمُ
الحكمة في الشعر فكرٌ يترقرق على سطح القصيدة. والأصل أنّ الشاعر ينشغل بما يرتعش في الوجدان من رقيق المشاعر والأحاسيس عن الحكمة وأشباهها، لكنّ شعراء كامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس وغير هؤلاء من الشعراء أرسلوا الحكم في أشعارهم فترقرقت ليّنة، وانسابت هيّنة فجاءت صورةً من صور البلاغة في الشعر. يقول امرؤ القيس من قصيدة:
أرانا موضعين لأمر غيبٍ | ونسحر بالطعام وبالشرابِ |
عصافيـرٌ وذبـّانٌ ودودٌ | وأجرأ من مجلّحـة الذئابِ |
وما أكثر من مضوا وحالتهم كحالة امرئ القيس حين قال:
وقد طوّفتُ في الآفاق حتّى رضيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
وأبو نواس هو القائل:
إذا امتحن الدّنيا لبيبٌ تكشفت له عن عدوٍّ في ثيابِ صديقِ |
وقل مثل ذلك في كثير من أبيات هذين الشاعرين وغيرهما تناثرت الحكم في مجمل أشعارهم فتلألأت كالنجوم لتباعدها واحد عن الآخر، في حين خبا وهج كثير من أمثال شعراء وصفوا بالحكمة لتراكمها في القصيدة الواحدة كما في شعر صالح بن عبدالقدّوس في العصر العبّاسيّ. ومن هنا كان اهتمام النقاد والبلاغيّين بما أرسله أولئك الشعراء من طبقة امرئ القيس من حِكَمٍ وأمثال، وعدّوها صورة من صور التّفنن وتحسين الكلام.
تجري الحكمة في أبيات امرئ القيس هنا على النسق الاستعاريّ من حيث خلق التماثلُ شعريّةً لافتة.
وهي تجري في بيت أبي نواسٍ على النسق الدلاليّ الذي يلد المعنى من ثنايا التضاد.
أمّا في أبيات الشاطريّ فتجري في إطار الوعظ ولا غير.
ومن هنا تضمّخت أبيات امرئ القيس وأبي نواس بأريج الشعريّة في حين تعطّلت الطاقة الإبداعيّة في أبيات الشاطريّ فانحصرت في دائرة القصد الدلاليّ ولم ترق إلى مستوى الإيحاء.
ومع ذلك دع الأستاذ ابن هاشم فقد كتب مقدّمةً وضعها صاحبُ الديوان في أوّله لتكون معبرًا إليه، (ولكن حديثًا مّا حديثُ الرواحل)، وأعني الأكاديميّ الذي عدّ الشاطريّ (آخر الإحيائيّين المجدّدين الكبار)، وضع ما شئتَ من خطوطٍ تحت الصفتين الأخيرتين فهما تشفّان عن الموقفٍ الفكريّ – حتّى لا أقول الإيديولوجيّ – للّناقد، وهو موقفٌ يكثر الجدال فيه لتقاصر النصّ عن بلوغ هذا المستوى أعني التجديد. ومن عجبٍ أنّك تقرأ قوله اللاحق في ثنايا السطور فإذا هو يقرّ بـ(أنّ الشاعر ذو رؤية تقليديّة غالبة)، فمن أين جاءه التجديد إذًا؟ سيقول – وقد قال – من جهة الموضوع. وتلك حجّة يردّدها عددٌ من الباحثين حين يعرضون لمسألة التجديد في الشعر الحديث. ولستُ أعدّ الموضوع في الشعر تجلّيًّا تجديديًّا قطّ، وسأضرب لك مثلا، هذا الطللُ، موضوعٌ قديمٌ مذكورٌ في قصائد الجاهليّين، وغدا صورةً مكرورةً في أشعار من تلوهم في أدوار التاريخ حتّى وُصِفَ من استخدموه في أشعارهم بالتقليديّين، لكنّنا حين نقف على صورة الطلل عند شاعرٍ مثل إبراهيم ناجي أو شاعرٍ مثل أحمد عبدالمعطي حجازي تجد أنّ الموضوع التقليديّ غدا صورةً للتجديد ظاهرةً. والعلّة في هذا هو طرائق استخدام اللغة وأساليب تشكيلها في النصّ، فبها وحدها يكون الشاعر مجدّدًا لا بالموضوع.
وهذا قريبٌ من نفي التجديد من خلال استخدام الألفاظ العصريّة في الشعر والابتعاد عن الغريب الحوشيّ الذي أنس به الأوائل فساغ في أشعارهم. فلقد يقول بعضهم في وصف شعر الشاطريّ إنّه لجأ إلى المأنوس من مفردات العصر فشاعت فيه، وليس هذا بشيءٍ أيضًا. لأن العبرة هنا بالسياق الذي وضعت فيه المفردة فإن كان مباشرًا أنتج دلالة قصدية هي إلى النثر العاديّ أقرب. وإن كان السياق محوّلا أنتج دلالة إيحائيّة وهي أدنى صلةً بالشعر. وما قرأت في شعر الشاطريّ ما يحشره في زمرة المجدّدين لا من جهة الموضوع ولا من جهة المفردات. وحسبه ما صنع، فذلك أقصى ما تستطيع الوصول إليه قدرته في الكتابة الفنيّة، وأنّى له بسواها؟
هذا واحدٌ من شعراء الاتباع في حضرموت وتلك صورة شعره. أمّا الثاني فهو الشيخ عبدالله بن أحمد النّاخبيّ وله ديوانٌ موسومٌ بـ(ديوان شاعر الدولة). وسأنظر في الديوان من حيث هو كتابٌ. وليعجب من أراد العجب. إذ كيف يكون النظر في الديوان من حيث هو كتابٌ؟ لكنّ الوقوف على مقولات الحداثيّين الذين يفتّقون الأسئلة فيصنعون منها نظريّاتٍ ومقولاتٍ نقديّةً يدلّنا على أنّهم سعوا إلى الاستفهام عمّا يجعل من النصّ –وهو ملفوظٌ، شفاهيّ أو كتابيّ سيّان– كتابًا. فتحدّث (جنيت) عن المتعاليات النصيّة، وجعلها خمسًا، وكان ثانيها أو ثالثها ما أسماه “النصّ الموازي”، وضمّنه جملةً من العناصر المكوّنة لبنيته، منها الغلاف الأماميّ وما احتوى عليه من عنوانٍ للكتاب وموضع اسم المؤلّف والصورة المختارة للغلاف، والغلاف الخلفيّ وما احتواه من أشباه ذلك، ثمّ انتقل إلى الصفحات التالية للغلاف فتحدّث عن الإهداء ومقدّمات الكتاب إنْ كانت من صنع المؤلف نفسه أو من تأليف آخر، ووصف ما اشتملت عليه من رؤى نقديّة تصلح أنْ تكون مداخل لقراءة النصّ المشتمل عليه الكتاب، ثمّ أوجب الوقوف على عنوانات الفصول إن كان الكتاب نثرًا، أو عنوانات القصائد إن كان الكتاب شعرًا… إلى آخر ما أشبه هذا ودنا منه، وقلّب هيئة الكتاب وشكله على كلّ الاحتمالات والصور الممكن تجلّيها فيه حتّى يصل من ذلك كلّه إلى الحديث عن هُويّة النصّ المتضمّنة في الكتاب. وهو في كلّ ذلك لم يعزل هذا (النصّ الموازي) عن بقيّة عناصر متعالياته النصّيّة وإنّما عدّه بعضَها، وإنْ خصّه بكتابٍ كاملٍ أسماه –كما في ترجمته– “عتبات”، مثلما خصّ من قبلُ “جامع النّصّ” بكتاب.
لعلّ سائلًا يسأل: وهل في هذا الدرس وأشباهه جدوى؟ وأجيب: لا شكّ في جدواه إن أحكم المتعرّض لها طرائقها، ووعى الغايات منها. فالأشدُّ أهميّةً أنْ يدرك العاملُ بهذه الطرائق المنهجيّة صلة عناصرها بعضها ببعضٍ، وإن رأيتُ كثيرين يتناولون واحدًا من تلك المتعاليات فينشغلون به دون سواه مع أنّ صاحب (النظريّة) قد بناها جزءًا جزءًا حتى اكتمل بين يديه بناؤها. وإذا كان قد أخذ في تفصيل عنصرٍ دون عنصرٍ فلا يعني هذا أن نصنع صنيعه وقد اكتملت أجزاء الصورة أمامنا. فمن الأجدى أن نتفاعل معها من حيث هي بنيةٌ كليةٌ وليست عناصرَ مفرّقةً أشتاتًا. لكنّها تتطلّب وقتًا طويلًا حتّى يحيط مَنْ عمل في ضوئها على نصٍّ ما بجميع جوانبها وأبعادها. ثمّ مِنْ أين لنا النصّ الذي يستوعب كلّ تلك الأبعاد في هذه (النظريّة)؟ وهذا حقٌّ.
على أنّ السؤال الذي يشغلني الآن هو: ما الذي يمكن أن يقال عن ديوان الناخبيّ من حيث هو (كتابٌ)؟ وهنا سنحاول أن نربط بين مكوّناتِ النصّ الموازي فيه وهُويّتِه الإبداعيّة.
أوّل ما يلفت المتلقّي هو صورة فوتوغرافيّة للقصر السلطانيّ ذي الصلة الوثقى بالمعمار الهنديّ، وقد تمّ التركيز في تصويره على الجزء الشرقيّ منه الذي كان يمثّل سدّة العرش. ألا يتماهى هذا مع الوصف الذي حرص الشاعر على إثباته لنفسه على الرغم من تقادم العهد به وهو (شاعر الدولة)، و(شاعر السلطنة القعيطية في جنوب اليمن)؟
ألا يدلّ هذا على ذوبان ذات المبدع وتعالي ذات (الدولة والسلطنة) بكلّ ما تمنحه هذه المفردة من دلالاتٍ سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة؟
فهل في هذا ما يؤذن للشاعر بأن يتغنّى بعواطفه ومشاعره ورؤاه الذاتيّة؟
هل فيه ما يهيئه للتغنّي بالوطن وهو أكبر من الدولة، والسلطنةُ حالٌ متحوّلة فيه؟
هل سيجوز له الخروج على الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة والثقافيّة وحتّى اللغويّة ما دام شاعرَ الدولة وشاعرَ السلطنة؟
وأنّى له الإبحار في عوالم التخييل ما دامت القيود تحيط به من كلّ الجهات؟
ألا ينبئك هذا –أو بعضُه– عن الهُويّة الإبداعيّة التي ستواجهها في الديوان؟
على أنّنا قبل ذلك سنقف عند صفة (الشيخ) التي تسبق اسم المؤلّف. وفي العرف اللغويّ تستخدم تلك الصفة لوصف الرجل عند بلوغه من الكبر عتيًّا لأنّها مرحلةٌ في العمر، أو يوصف بها عند اتساع علمه لأنّها درجةٌ في العلم، أو بوصفه مفزعَ القوم عند تحمّله أعباء قبيلته لأنها منصبٌ في الهرم الاجتماعي للتكوين القبليّ. وإن الصفتين الأوليين لصيقتان به، وأما الثالثة فلا. وفي كلتا الصفتين الأولى والثانية ما يتماهى مع الهُوية الإبداعية للديوان.
فمن جهة العمر فإن الله سبحانه قد مدّ في عمر الشيخ وبارك أيامه حتّى تخطّى مرحلة الشيخوخة بكثير. ونشر الديوان وهو في هذه المرحلة من العمر -طبع الديوان طبعته الأولى عام 2001م- وإنّ لها سمتها الاجتماعيّ الذي يتناقض مع سمت الشبيبة. فإذا كان من خصائص الشبيبة الاندفاع والتحرر من القيود والانقلاب على الأعراف الموروثة في معركةٍ تغلّب الوجود على الماهيّة فإن من خصائص الشيخوخة الالتزام بالأعراف واحترام القيود والسدود والحدود حتى ليبلغ بها الحال إلى أن تخترع لها قيودًا وسدودًا وحدودًا إنْ لم تجدها أمامها كابحةً أهواءها، وملجمةً شهواتِها، ونزقَ رغباتِها. ولهذا أثره في توجيه قصائد الديوان نحو هُويّةٍ إبداعيّةٍ بعينها. وحسبك هذه الإشارة، فاللبيب يفهم بها.
أما من جهة العلم فعلم الشيخ علمٌ دينيٌّ يغلِّب الفقه وعلومه على كل شيء سواه. فهو أدخل في باب الفقهاء الذين نظموا قصيدًا موزونًا ومقفّى. وحديث النقد القديم عن هؤلاء وسمات ما نظموا ليس بخافٍ على قارئٍ. ولهذه الصفة أثرها في تعيين الهُويّة الإبداعيّة للديوان كأثر الصفة الأولى تمامًا بتمام.
لقد تقاصر الناخبيّ وأمثاله من شعراء الاجترار -بلغة مارون عبّود- عن احتذاء صنيع كبيرهم الذي سبقهم على درب الإبداع الشعريّ فجلّى من حيث قصّروا ولم يبلغوا حدّ التصلية. وما كبيرهم هنا إلا ابن شهاب، ودع عنك (شوقي) فقد كان فارس المضمار الذي لا يضاهى في إبداعه، وفق شرط مدرسته، ومعيار زمانه، ومكوّنات لغته، فلم يرق مرقاه واحدٌ من هؤلاء. أقول هذا على الرغم من محاولة الشيخ احتذاء صنيعه وهيهات. لقد انتصر شوقي للشعر وإن ظل وفيًّا للقصر ومكارمه عليه:
أأخون إسماعيلَ في أبنائه ولقد ولدت بباب إسماعيلا
وبقي معتزًّا بعلاقته بالقصر، فقال:
شاعرُ العزيز وما بالقليلِ ذا اللقبُ
هذا ما افتتح به مسرحيّته (مجنون ليلى) وفيها خروج على أعراف مدرسته كما يدرك العارفون.
وفي شعر شوقي رفرفةٌ في عوالم التخييل تنبئ عنها لغةٌ توغل في الإيحائية وفق شرط الإبداع في عصره، قال:
مضنى وليس به حراك لكن يخفّ إذا رآك
ويميل من طربٍ إذا ما ملت يا غصن الأراك
إنّ الجمالَ كساك من حلل المحاسن ما كساك
ونبتّ بين جوانحي والقلب من دمه سقاك
هنا يندغم المجاز الاستعاريّ، وهو أدخل في المرئيّ، بمكوّناتٍ بديعيّةٍ ذات بُعدٍ إيقاعيّ مسموعٍ يتمثّل في التصدير وفي الإعنات وما أشبه هذا ودنا منه. وإن في البيت الأخير نظرًا عميقًا إلى قول الشريف الرضيّ:
يا ظبية البان ترعى في خمائله ليهنك اليوم أن القلب مرعاكِ
ومهما اتّصل الحديث عن الشعر والشعراء في حضرموت بهذا الشاعر أو ذاك فإنّ ممّا لا مراء فيه أنّ الحامد هو الشاعرُ بلا شبيه أو مضارع.
على ضوء ما سلف يأتي سؤالٌ هو: ما الذي نجده في نصوص الديوان حين نشرع في قراءتها؟ دعنا إذًا نقرأ نصًّا نقيس به، وهو شاهدٌ، ما غاب من نصوصه الأخرى، ودال عليها. قال في مِدْحةٍ نبويّةٍ:
ما لي أرى الشرقيّ منهوك القوى مستسلمًا في منتهى الإيلامِ
جهل العواقب تائهًا في جهله لم يدر معنى النقض والإبرامِ
طوت الليالي عزّه وجلاله حتّى انزوى في ذلّةٍ وسقامِ
وأرى رجال الشرق في خلفٍ وفي لهوٍ وفي ذلٍّ وفي إحجامِ
والنصر ليس لخاملٍ متردّد في عزمه متلوِّنٍ متعامي
هذي حقيقة أمرنا ويثيرها ميلاد خير مهذّبٍ مقدامِ.
تثير لغة النصّ المقتبس مسألتين، إحداهما تدلّ عليها حكايةٌ وردت في بعض مصادر الأدب العربيّ القديم منسوبةً للبحتريّ وبعض شعراء عصره. قال البحتريُّ: »دعاني عليّ بن الجهم فمضيتُ إليه، فأفضنا في أشعار المحدثين إلى أن ذكرنا أشجع السلميّ فقال لي: إنّه يُخْلي، وأعادها مرّات ولم أفهمها، وأنفتُ أن أسأله عن معناها، فلمّا انصرفتُ فكرتُ في الكلمة ونظرتُ في شعر أشجع السلميّ فإذا هو ربّما مرّت له الأبيات مغسولةً ليس فيها بيتٌ رائعٌ، فإذا هو يريد هذا بعينه. إنه يعمل الأبيات فلا يصيب فيها ببيتٍ نادرٍ كما أن الرامي إذا رمى برشقه فلم يصب فيه بشيء قيل: أخلى«. والإخْلاء سمةٌ في أشعار الشيخ ما ذُكِرَ منها شاهدًا وما استتر غائبًا وثبت وجوده في الديوان.
تلك واحدةٌ، والثانية تتصل بلغة النصّ، والكلام فيها هنا يعمّ سواها ممّا لم نذكر. وإن من المعلوم عند علماء الدلالة أنّ للسياق صورًا منها ما هو مباشر، ومنها ما هو غير مباشر، ومنها ما هو محوّلٌ. وإنّ السياق المباشر يستخدم المفردة كما عرفتها المعاجم، وجرى عليها الاستخدام اللغويّ عند العرب. أمّا السياق المحوّل فيستخدم المفردة منزاحةً عن المواضعة، ويلعب المجاز دورًا في ذلك التحويل. يترتّب على ذلك أن المفردة في إطار السياق المباشر تنتج دلالةً قصديّةً، وتعطي بوجودها في الكلام معنى حقيقيًّا مثلما نصف الثوب ذا اللون الأزرق بأنه أزرق، ونصف المكان المتسع بأنه متسع… إلى آخر ذلك. أمّا المفردة في إطار السياق المحوّل فتنتج دلالة إيحائيّة، فتتجاوز المألوف إلى نقيضه، وهنا تتداخل الألوان مع غير موصوفاتها لتوحي بالمعنى المنشود. فهل في أبياتِ الشيخ يرحمه الله مفردةٌ وُضِعَتْ في سياقٍ محوّلٍ لتنتج دلالةً إيحائيّةً؟ أو ما في أبياتِ الشيخ من مفرداتٍ إنّما وُضِعَتْ في سياقها المباشر لتنتج دلالاتٍ مقصودةً دلّ على معانيها المعجمُ، وأكّدها الاستخدام العرفيّ للمفردات؟ وإنّه لشيءٍ من هذه الفكرة الأخيرة وصفنا أشعار الشيخ الناخبيّ وأضرابه من شعراء الاجترار في حضرموت بأنهم أقرب إلى النظم، وأمّا الشعرُ فإنّه منهم بعيدٌ.
ثالث الثلاثة وبه أختم الحديث هو “قريع البلغاء.. ومتنبّي عصره”. وأعني بذلك أبوبكر بن عبدالرحمن بن شهاب. ووصفه بهذا الوصف إنشاءٌ لغويٌّ لا صلة له بالضبط المنهجيّ الذي ينبغي أن يتّسم به كلُّ قولٍ نقديٍّ وإلا فقد عمقه، وباخت فعاليّته. وإنّ من أمثال هذه الأوصاف التي يُنعت بها ابنُ شهابٍ وشعرُه كثيرًا خطّه أصحابه في صفحات كتبهم التي غدت مراجع في شعر الرجل، ومال إليها غيرُ ذوي الاختصاص في الشعر وعلومه خلقًا ونقدًا.
وخذ على نظائرها قولَ القائل: »وفي شعر ابن شهاب […] عدّة ظواهر منها: الرّقّة، والبلاغة، والطُّلاوة، والفنّ«. كلامٌ عامّ أنأى ما يكون عن الضبط المنهجيّ الذي يقيّد المطلق من القول، ويحدّد المبهم منه، ويحول دون استحالة الحكم النقديّ إلى ألفاظٍ لا تبين عن قصدٍ. ومع ذلك هلمَّ إلى الوقوف على هذه الدّوال الأربع لنتأمّلها، وخذ أوّلها (الرقة)، ما المقصود بها هنا؟ وأين تكون؟ أفي اللفظ؟ أم في التركيب؟ ومتى يكون اللفظ رقيقًا؟ ومتى لا يكون؟ وكيف ندرك الرّقّة في الشعر؟ أمن خلال وعينا بالمعنى؟ أم بشيء في المكوّنات الصوتيّة للفظ؟ إنّ ما نحسبه جافيًا حوشيًّا قد يكون مأنوسًا في موضعه من الكلام ما دام متسقًا مع ما ائتلف به من دوالّ. ثمّ أين الدليلُ على مظهر الرقة في شعر ابن شهاب؟ هلا جاء بمثلٍ شرودٍ عن ذلك.
إنّ التعامل الحقّ مع الدوالّ في أيّ نصّ شعريّ لا يكون بنعتها بمثل تلك الصفة وما أشبهها، ولكن بالنظر فيها من خلال (المعجم)، والمقصود به هنا تكرار لفظة بعينها في نصوص شعر الشاعر تكرارًا ملحوظًا يحصره العدّ. ومن خلال (الحقول الدلاليّة)، والمقصود بها هنا أنّ مفردةً تجمعت في ثناياها جملةٌ من المفردات المشتركة في المعنى. ومن خلال دنوّ اللغة من العاميّة أو نأيها عنها. ومن خلال صلتها بالمهجور من الدّوال والمتداول منها. ومن خلال بيئةٍ بعينها، أو الاتصال بسواها… إلى آخر ما هنالك من ذلك. وبمثل هذا التناول يتمُّ تحديد الهُويّة الإبداعيّة لدوال الشعر عند فلانٍ وفلانٍ من الشعراء لا بمثل هذه الأحكام العامة.
ثم خذ قوله: (والبلاغة)، وقل لي: أيوجد شعرٌ يخلو منها، كائنًا ما كان معناها معجميًّا أو اصطلاحيًّا؟ وأمّا (الطُّلاوة) فليست بشيءٍ في الحديث عن الشعر وإن جرت اللفظة في مقام وصف القرآن الكريم، وليس بين القولين تماثلٌ، وأنّى يكون؟ وإنّ استخدام لفظة (الفنّ) في كلامه دليل على انعدام الضبط المنهجيّ، والاكتفاء بإلقاء الكلام على عواهنه كما يقولون.
إلى ماذا يُردّ هذا التخليط في القول؟
أوّلًا: إلى عدم الاختصاص في العلم. فليس كلّ ذي قدرةٍ على القول بقادرٍ على الحكم النقديّ. حقًّا هو سيقرأ من هنا شيئًا وشيئًا من هناك، وسيضمّ الشبيه إلى نظيره، لكن الوعي بأبعاده وخصائصه سينأى عنه. ومن هنا نكثر من الحديث عن الضبط المنهجيّ؛ لأنّه لا يتأتّى إلا لذوي الشأن والاختصاص.
ثانيًا: انعدام التقويم والتقييم النقديّين، وهما أسمى دلالات التكريم. فلقد خلا عصر ابن شهاب من حركة نقديّة تواكبه، مثلما كان حسين المرصفيّ الناقدُ يواكب محمود سامي الباروديّ الشاعرَ، ومثلما كان العقاد وطه حسين ونعيمة يواكبون إبداع شعراء المهجر أو المشرق في مصر وبلاد الشام، وكان لهم تأثيرٌ من بعدُ على الحركة الشعريّة في بلادٍ عربيّةٍ أخرى ولكن بطريق غير مباشر، وقل مثل هذا في سواها.
إن النقد المواكب للحركة الإبداعيّة يمثّل من جهةٍ تفاعلَ المعاصرين مع النصّ المبدَع، ويسهم من جهةٍ أخرى في خَلْق وعيٍ به سالبًا كان أم موجبًا. أمّا إذا عزَّ هذا النقد المواكب فإنّ المجالَ ينفسح أمام كلِّ مَنِ اقتدر على القول ليقول ما يشاء كيف يشاء.
ثالثًا: عدم القدرة على تجاوز الموروث من صور النقد العربيّ القديم، وقد غلبت عليه تلك الطريقة في التقويم والتقييم، وإن تكن به إشراقاتٌ فإنها بعيدةٌ عن أذهان الاتباعيّين الذين أولعوا باجترار مثل تلك الأحكام. وهناك أسبابٌ أخرى أدعها لذهنكم الصافي، ووعيكم العميق لتتبيّنوها.
فلنمض عن هذا لنبحثَ عن بديلٍ لهذه الأحكام في شعر ابن شهاب.
ولكي ندرك الأثر الذي أحدثه ابن شهاب في تاريخ الشعر العربيّ في حضرموت علينا أن ننظر في أشعار من ذُكِرُوا في تاريخ هذا الشعر في هذا البلد في القرن التاسع عشر الميلاديّ.
إنّ ما لا خلاف عليه أنّ كثيرًا من شعراء تلك الحقبة من التّاريخ قد ارتبط بالقرآن الكريم والحديث النبويّ وما اتصل بهما من كتب الفقه والتصوّف، ولهذه جميعًا سَمْتُها اللغويّ الساميّ، ومع ذلك فقد تقاصرت لغة أشعارهم عن مبارحة حدّ الصفر في الكلام على مستوياتٍ، منها ما يجيء من جهة نظم القصيدة وصياغتها وجودة سبك أبياتها، فما أكثر ما يتخلخل سبكُ البيت فلا يستقيم وزنًا، ويبهت معناه. ومنها ما يجيء من جهة التجربة الشعريّة، أو قل الإطار النفسيّ والفكريّ الذي ينتظم القصيدة، ويشكّل هواجسها الشعريّة. فقد غلب عليهم الوعظ، ومدح شيوخهم في الطريقة، ومدح العلم من حيث هو، والحثّ على مكارم الأخلاق والتمسك بها. وداروا في هذا الإطار ولم يبرحوه حتّى طمست التجارب، وجاء القول مغسولًا من طريفٍ يدهش، أو بديعٍ يطرب. والشواهد أكثر من أن تحصى أو يحيط بها العدّ. وانظر في الجزء الرابع من كتاب (تاريخ الشعراء الحضرميّين) للسقاف، تلقَ فيه ما يزيد على البغية، وينيف على المطلوب.
وهنا يظهر لك تميّز ابن شهابٍ منهم وإنْ ضمّه بهم عصرٌ واحدٌ، فهو من شعراء القرن نفسه لكنّه سعى إلى تحرير الشعر من تلك التجارب الساكنة فربطه بحركة الحياة من حوله متفاعلًا معها ومنفعلًا بها، فجاءت أشعاره في الأغلب الأعمّ نتاجَ هذا الصراع الذي كابده حالًّا ومرتحلًا، بين أهله وذويه أو في بلاد غربةٍ وهجرة. قال:
هل في القضيّة أن أقيم ببلدةٍ يخشى الكرامُ بها أذى أوغادِها
في الأرض متّسعٌ لحرٍّ نفسُه عصماءُ يأمن مستحيلَ كسادِها
فلتثكلِ الغنّا حلوليَ دورَها وعليَّ فلتلبسْ ثيابَ حدادِها
فسنامُ أيِّ الأرض أذهب منزلي ولي الندامى الغرُّ من أمجادِها
رفضٌ للموجود ما دام قد مسّ من كرامته شيئًا، وإباءٌ يتمرّد على المهانة والذلّ في سبكٍ متماسكٍ لا خلخلةَ في نظمه، ولا اضطرابَ في تركيبه. وكأنّه (الشنفرى) يتحدّى بني أمّه فيخاطبهم بأنْ يقيموا صدور مطيِّهم ما دام إلى قوم سواهم مائلًا:
فقد زُمّتِ الحاجاتُ والليلُ مقمرٌ وشُدّت لطِيّاتٍ مطايا وأرحلُ
وفيها:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزَّلُ
قريبٌ من هذا ما تجده في ديوانه من شعر الحنين إلى (حيّ الأحبّة والسفح)، والشوق إلى (وادي البشامات والطلح). فقد خبر لذع جمره، ووعى لواعج الأشواق في صدره حين طال به الطواف في بلادٍ أدناها في اليمن وأقصاها في تركيا شمالًا وفي الهند شرقًا.
سيقول قائلٌ: إنّ مثل هذه التجارب أو الإطارات النفسيّة هي مما عرفه الشعر العربيّ وليس فيها جديد. وهذا حقٌّ، ولكنّ قياسه بما عُرِفَ من تجاربَ ساكنةٍ محدودةٍ في شعر شعراء عصره يدلّك على الانحراف أو قل العدول الذي أحدثه ابن شهاب في طبيعة التجربة التي جاءت متصلة بحياته، وذات أثر في نفسه.
لقد أخرج ابن شهاب الشعر من الزوايا التي تهلهل نسيجُه في عتمتها الداكنة وجوِّها الرطب إلى فضاء الحياة المتجدِّد هواؤه وأضواؤه فالتحم بها في حدود ما عرف وخبر من تجارب.
يا أيّها الراكب الغادي إلى بلدٍ جرعاؤه خصبة المرعى وأبرقه
ناشدتُك اللهَ والودَّ القديمَ إذا ما بانَ من بانِ ذاك السفحِ مورقه
وشاهدتْ عينُك الغنّاءَ غادرها مخضلّةً بالحيا الوسميّ مغدقه
أن تستهلّ صريخًا بالتحيّة عن باكٍ من البعد كاد الدمع يغرقه
يثير أشجانَه فوجُ الصَّبا سحرًا وساجعُ الوُرْقِ بالذكرى يؤرّقه
له فؤادٌ نزوعٌ لا يفارقه حرُّ الغرامِ وجفنٌ ليس يطبقه
بالهند ناءٍ أخي وجدٍ يحنّ إلى أوطانه وسهامُ البين ترشقه…
فبمثل هذا التفاعل يحيا الشعر وتشعر الحياة.
وهنا نقع على سؤالٍ ما الذي أحدثه ابن شهابٍ في بناء القصيدة ولغتها، وتميّز به من سواه ما دامت تجاربه النفسية والفكريّة قد خالفت ما عرفوا من تجارب؟
وإنّها لجملةٌ. لنقف هنا على بعضٍ منها، وخذوا على ذلك مثلًا ما عرف في البلاغة العربية ببراعة الاستهلال، وهم يقصدون به مفتتح القصيدة وأوّل ما يطالعنا منها. ولشعراء العربيّة الأُوَل فيها بدائعُ، ولنقّادهم عنها حديثٌ طويلٌ ينظر في مظانّه، فليس ذاك ما يشغلنا، وإنّما همّنا النّظر في صنيع ابن شهاب في هذا المقام. والحقّ أنّه لم يقصّر عن شعراء العربيّة الأوائل فقارب من دنا شعره من نفسه، وحاول أن يصوغ الأبيات متحرّرًا من منوال غيره، وإن زكا من شعره في أنوف القارئين شميمٌ من عرارِ أولئك الشعراء. ففي مفتتح قصائد تتشكّل الطبيعة على غير ما ألف من حالها، فغاب المرجع واستقامت الشعريّة، بما أومأت اللغة وأشارت الدوال، كما في قوله:
ضحكت أزاهير الحدائق والربا وسرت بريّاها النعامى والصَّبا
والطَّير في عذباتها تهدي إلى أسماعنا السجع الرخيم المطربا
ودنت أوابد كلِّ وادٍ.. فالمها والعصم ترتع في المحاجر والظِّبا
والحور ترقص في الخدور مسرّةً حتّى حسبنا كلَّ خدرٍ ملعبا
وفي مفتتح قصائد أخرى يقف ابن شهابٍ على الربوع كما وقف قبله شعراء العربية في الأوّلين، فقال:
حيّ الربوع و قف بها مستخبرا وزر التي فتنت محاسنها الورى
والثم ثرى تلك الخدور.. فأنت في حيٍّ تحيّةُ غيده لثم الثرى
فلك الهنا ما عشت إن شاهدتَ من سلمى محيّاها البديع المسفرا
خودٌ محجّبةٌ كريمةُ منبتٍ لم تَدْعُ كسرى جدَّها أو قيصرا
مهما تخيّلها الفؤاد تسلّيًا شبَّ الخيالُ به الجوى فتسعّرا
لم أنس إذ يمّمتُها ومصاحبي فرسي لأظفرَ.. أو أموتَ فأعذرا
وقصدت منزلها وما غرضي سوى في أن أبادلها الحديث وأنظرا
فتنكّرت ويجوز في شرع الهوى صونًا لذي التعريف أن يتنكّرا
واستفهمت مع علمها بحقيقتي أترابَها من ذا بساحتنا عرا
فأجبن لكن بعد غمز حواجبٍ ضيفٌ ألمّ بدارنا يرجو القرا
فسمرتُ أطيبَ ليلةٍ وألذّها وعفافُ نفسي غير منفصم العرا
وطفقت أسمع مزهرًا.. وأرى هلالًا نيّرًا.. وأشمّ مسكًا أذفرا
وهنا ملحظان.
أوّلهما: يتعلّق بالفارق بين وقوف ابن شهاب على الربوع وبين وقوف من سبقوه من الشعراء. فقد وقف على ربوعٍ عامرة، ووقفوا على أطلالٍ داثرة، مما ينبئ أنّه اهتمّ (بالتكنيك) وطرائق الأداء ولم يهتمّ بمحتواها. وفي مثل هذا الصنيع يجيئك الشاعر بما يعيد إلى ذاكرتك صورًا عرفتها القصيدةُ العربية ولكنّ فيها انزياحًا عنها، ففي قوله من القصيدة عينها يصف رحلته إلى ديار ممدوحه:
وركبتُ سابحةً كأنّ دخانها سحبٌ ولمع شرارها برقٌ سرى
تفري أديم البحر ساخرة به وتدوس هامته إذا ما زمجرا
تجري بأمر الله والريح التي سرّ الإله بناره فيها سرى
تهوي هُوِيَّ الأجدل المنقضّ لا ترعى الجنوب ولا الدبور الأزورا
حتّى أتت حرم الأمان فكلُّ من حملت أهلّ ملبّيًا ومكبّرا
ونزلتُ سوحَ مَنِ النزيلُ بسوحه في ذمّةٍ من جوده لن تخفّرا…
ثمّ يشرع في مدحه كما جرى العرف الشعريّ عند أمثاله من الشعراء من الأولين والآخرين.
هنا تتماثل (السفينة) بـ(الناقة)، ويجري الشاعر على مركوبه، وهي السفينة، ما أجراه الشاعر القديم على الناقة، وهي مركوبه، لولا أنّه تحرّج عن ذبحها مثلما كان يصنع الشعراء في قديم الزمان إذا وصلوا إلى ممدوحيهم، أما هو فادخرها لحاجةٍ في نفسه. لكم أن تقولوا في ابن شهاب هنا ما يمكن قوله في الإحيائيّين من نظرائه من أن للمقروء من أشعار الشعراء العرب الأول هيمنةً على أشعارهم هيمنةً عطّلت قدراتهم على خلق عوالم من التخييل مبتكرة، فإن ذلك لكم. أترونه لهذا غدت الطائرة عند الجواهريّ (مهرًا بلا رسن) حين قال:
من موطن الثلج زحّافًا إلى عدنِ خبّت بي الريح في مهرٍ بلا رسنِ
وقد كانت عند شوقي من قبل كائنًا (نصفه طيرٌ ونصفٌ بشرٌ) حين قال:
مركبٌ لو سلف الدهر به كان إحدى معجزات القدماء
نصفه طيرٌ ونصفٌ بشرٌ يا لها إحدى أعاجيب القضاء!
هذا أمر يجوز.
لكنّ هذا الحديث الطويل منحصرٌ في الملحظ الأول فما الثاني؟ الثاني هو أن في شعر ابن شهاب تعالقًا مع شعر ابن أبي ربيعة يدلّك عليه هذا الغمز بالحواجب وما أشبهه، ناهيك بكثرة الأوانس في شعره، وتعدّد صورهنّ وما يدور بينهم من حوار وحديث. فإذا قال:
فلا ترهبي إن يفصل الدهر بيننا فمهما تدانينا استحال تنائينا
أنبأنا بقولها:
فقالت: نعم شخصان والروح واحدٌ وزوجان في الآفاق طارت معالينا
فإنّ جمالي ليس في الكون مثله ففتش جنان الخلد أو حورها العينا
وأنت قريع العلم والأدب الذي به تسحر الألباب حسنًا وتبيينا
كلانا فريد سيّدٌ في مقامه…
براعة الاستهلال إذًا خصيصةٌ في قصيدة ابن شهاب لا تجدها في قصائد من سبقوه من شعراء عصره في حضرموت. ولن أحدّثك عن (حسن التّخلّص) وهو ممتدحٌ عند النقاد الذين أخذوا بالبلاغة العربيّة القديمة، وله حضوره في شعر ابن شهاب، ولكن سأحدّثك عمّا قال به النقّاد المحدثون، وتجلّى في شعره، كحديثهم عن الوحدة العضويّة في القصيدة. فلقد أنكر كثيرٌ من النقّاد –وما يزال فيهم من ينكر– وجودها في أشعار الأقدمين ومن نظم على منوالهم من أهل العصور المتأخرة، وما حديثُ العقّاد عن شعر شوقي وما مسّ بناءه من خلخلةٍ واضطرابٍ بمنسيٍّ.
فماذا نجد في شعر ابن شهاب؟
دعونا ننظر في قصيدتين من قصائده التي أسماها بـ(الأرتقيّات) -وليست كذلك، وإنّ الأَوْلَى أن نسمّيها بـ(المحبوكات)، لعلّةٍ يأتيك نبأها لاحقًا- إحداهما “تائيّة” وثانيتهما “رائيّة”. أمّا في التائيّة فقد تماسكت الأبيات، وتسلسلت في القصيدة، كلُّ بيتٍ يقبض عنق ما تلاه غير منفصلٍ عنه، فعزّ تقديمٌ أو تأخيرٌ فيها:
تعلّلنا بذكرهم الحداةُ وتَهدينا النسائمُ أين باتوا؟
تؤمّ بنا الركائب حيَّ عربٍ لهم في كلّ نائبةٍ ثباتُ
تجارتهم به سلب الأعادي وبالألباب تتجر البناتُ
تهيّأ للسلام على المغاني فقد بدت العلائم والسماتُ
تحيّة حيِّهم تقبيل تربٍ به الغيد الخراعب راتعاتُ
ترابُ ربوعه كالمسك نفحًا تعطّره الذيول الساحباتُ
تجد في ذلك الوادي وجوهًا تخرّ لها البدور المشرقاتُ…
أمّا في الرائيّة فقد اضطرب نظمها، فاستقلّ كلّ بيتٍ على أنّه وحدة منفردة، فسهل تقديمٌ وتأخيرٌ فيها.
1- روّق الخمرة صرفًا وأدرْ واسقنيها في الظلام المعتكرْ
2- روّح الأرواح بالراح فما ذاق طيب العيش إلا من سكرْ
3- رقيةُ الحزن يرى شاربها نفسه مثل مليكٍ مقتدرْ
4- رقّ مرآها ومرأى جامها فهي والجامُ ضميرٌ مستترْ
5- رائد الأعين عن إدراكها قاصرٌ لولا اللهيب المستعرْ
6- رقصت في جبهة الكأس الذي صبّها حور الحباب المعتورْ
7- راحُ أنسٍ إن بدت في مجلسٍ يعبق النادي بريّاها العطرْ
فلقد يمكن أن تُقرأ على هذا النحو:
1) روّق الخمرة صرفًا وأدر واسقنيها في الظلام المعتكر
3) رقية الحزن يرى شاربها نفسه مثل مليكٍ مقتدر
6) رقصت في جبهة الكأس الذي صبّها حور الحباب المعتور
4) رقّ مرآها ومرأى جامها فهي والجام ضمير مستتر
7) راح أنسٍ إن بدت في مجلسٍ يعبق النادي بريّاها العطر
أو على هذا النحو:
1) روّق الخمرة صرفًا وأدر واسقنيها في الظلام المعتكر
2) روّح الأرواح بالراح فما ذاق طِيبَ العيش إلا من سكر
7) راح أنسٍ إن بدت في مجلسٍ يعبق النادي بريّاها العطر
6) رقصت في جبهة الكأس الذي صبّها حور الحباب المعتور
3) رقية الحزن يرى شاربها نفسه مثل مليكٍ مقتدر
فعلى أيّ نحوٍ قرأت الأبيات لن تضطرب دلالةٌ أو يهتزّ معنى. والعلّة في هذا ذاتُ صلة بتمثّل الشاعر للتجربة. ففي التائيّة امتلأ حسّه بها، وانفعل وجدانه فانبثقت لغة الشعر من ثناياها. وفي الرائيّة غلب المقروء على المحسوس الملموس من التجربة فترصد المعاني لينظمها أبياتًا في سلك قصيدةٍ.
وإنّ اللافت أسلوبيًّا في لغة ابن شهاب نزوعها نحو التشكيل الاستعاريّ، وكأنّ المفردات خيوطٌ ملوّنةٌ يشكّل منها النسّاج ما يشاء من أقمشةٍ، فيضمّ واحدًا إلى آخر في تنوّع لونيٍّ ظاهرٍ انسجامه. وكذلك تتقارب الدوالّ في هذا التشكيل اللغويّ فينسج منها الشاعر على تباعدٍ في حقولها الدلاليّة وحدةً دلاليّة ظاهرة:
عندليبُ الحبورِ بالبشر نمنمْ وهزارُ السرورِ بالسرّ ترجمْ
وجرى سجسج النسيم عليلا شافيًا للفؤاد من زعزع الهمْ
والأغاني على بساط التهاني والمثاني رخيمها يترنمْ
وعلى ذكر من نحبّ شربنا ما براح الأفراح يا صاح مأثمْ…
هنا تتداخل الحقول الدلاليّة التي انبثقت منها الدوالّ، فمن طبيعةٍ حيّةٍ (عندليب/ هزار)، وجامدةٍ (سجسج النسيم/ زعزع). ومن حالاتٍ نفسيّةٍ معنويّةٍ (الحبور/ السرور/ الهمّ/ الذِّكْر/ الأفراح…). إلى دوالّ من عالم الأصوات والغناء (الأغاني/ المثاني/ الرخيم/ يترنّم…).
وهو يشكّل من ذلك كلّه عوالم لا جلاء لها بهيئتها تلك إلا في القصيدة، ومن هنا جاء الحديث عن الشعريّة، لا من جهة غياب المرجع فقط ولكن من جهة الصّهر الاستعاريّ الذي تشكّلت منه التراكيب كذلك.
خصيصةٌ أخرى تكثر في شعره، وتتنوّع طرائق استخدامه إيّاها، وهي (بنية التجريد) خبرًا وإنشاءً في مطالع قصائده. والتجريد -كما لعلّكم تعلمون- إخلاصُ الخطاب للآخر والمقصودُ به المتكلِّم. وهو من مكوّنات (اللسان) التي انتظمت في (الكلام) فزيّنت ديباجته، ورقّقت حواشيه. ولشعراء العربيّة طرائقهم في استخدامهم إيّاه تدلّ على حساسيّة مرهفةٍ بالمعطيات الأسلوبيّة وسننها اللغويّة. وبشيءٍ من المرور العابر على قصائد الديوان يتّضح إقبال الشاعر على هذا المكوّن الأسلوبيّ في كثيرٍ من قصائده، وهاك أمثلةً تدلّ على المظهر ولا تحيط به عددًا، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. قال في صيغة الخبر:
بهندٍ كدتَ عشقًا أن تذوبا أتحسب كلَّ كاسيةٍ عروبا
ومثله:
ذهبتَ من الغريب بكلِّ مذهبْ وملتَ عن النسيب وكان أنسبْ
ركبتَ من الحماسة كلَّ صعبٍ ولم تجنحْ إلى كنسٍ وربربْ
ومن واديهما قوله في صيغة الإنشاء:
ودّعْ سعادَ وألْقِ حبل ودادها واصدر على ظمأٍ لدى ميرادها
واربأ بنفسك أن تغازلها وإن منحتك حبًّا من صميم فؤادها
ومثله:
هو الحيّ إن بلغته فاقصد الحانا وحيّ الأُلَى تلقاهم فيه سكانا
ومرّغ خدود الذّلّ في مسك تربه وحصبائه وانثر على الدرّ مرجانا
وهنا تغيب الذاتُ المتكلّمة في النصّ وتحضر في آنٍ. تغيب على مستوى الملفوظ، وتحضر على مستوى الدلالة من حيث إنّ المخاطب -متحدّثًا عنه أو مأمورًا بأداء فعلٍ- إنّما هو الذات المتكلمة أصلًا، وإنّما غيّبها الإبداع ليزيد من شوق المتلقي إلى معرفة هُويّة المخاطب، وتكون المفاجأة حين يتكشّف له عن صورة المتكلّم في هيئة المخاطب ممّا يحدث في الوجدان هزة مبعثها الإحساس بخيبة التوقّع، وانكشاف أفق الانتظار عن غير المتوقّع.
وفي شعر ابن شهاب ما يمكن تسميته بالتناص الإيقاعيّ -بلغة الدكتور علوي الهاشميّ- تمثّله قصائده التي وصفها بـ(الأُرْتُقيّات)، وهي معارضاتٌ لقصائد (درر النحور في مدح الملك المنصور) لصفيّ الدين الحليّ. ووصفها بـ(الأُرْتُقيّات) في ديوان ابن شهاب خطأ من جامع الديوان؛ لأنها (المحبوكات)، وإنّما سُمّيت بذلك لأن البيت في كل قصيدة منها حبك بين صوتين متماثلين، وذلك حين ينسخ حرف الرويّ فيبتدئ به البيت، وكأنّ آخره تكرار لأوله من جهة الصوت.
ولقد اخترع هذا النمط من الصياغة صفي الدين الحلي وتابعه فيها ابن شهاب، لكنه لم يعارضه في أوزانه، وإنما اقتنص منه تكنيك الصنعة، ثم انزاح عنه ليصوغ قصيدته على النحو الذي يراه.
والمحبوكات منظومةٌ في ديوان صفيّ الدين الحلّيّ على عدد حروف الهجاء العربيّة، تبدأ بالهمزة وتنتهي بالياء. أمّا في ديوان ابن شهاب فعددها ستَّ عشرةَ قصيدةً، تبدأ بحرف الهمزة وتنتهي بحرف الطاء. ولا يعلم أحدٌ إن كانت ثمّة أخريات بعدد ما تبقّى من حروف الهجاء، أو أنّه اكتفى بما صنع. وهل سبب توقّفه عن النظّم على منوالها يأسه من الوصول إلى عتبات الخديوي توفيق الذي خصّه بتلك القصائد المحبوكات؟ أو أنّ مغادرته مصر إلى غير رجعة كانت هي السبب؟ ولماذا وقد مدح غير الخديوي توفيق لم يعمد إلى النظم على منوالها في مدحه أولئك الملوك والسلاطين مستخدمًا ما تبقّى من حروف الهجاء؟ لكنّ الثابت أنّ ابن شهاب حاول ترسّم خطى صفيّ الدين في نظم هذه القصائد فالتزم -مثله تمامًا- بعدد أبيات القصيدة، وهو عندهما معًا تسعةٌ وعشرون بيتًا لكلّ قصيدةٍ، وافتتاحها بمقدّمةٍ غزليّةٍ أو خمريّةٍ.
ولقد يعجب المرء من ابن شهابٍ (الحضرميّ) أن يرد دالّ الخمرة في شعره كثيرًا. ولكنّ النظر في محبوكات صفيّ الدين وما تفرّق من أبواب ديوانه يفضي إلى إدراك العلّة، ويدرك الناظر أنّ شأنه فيها لا يزيد على حدِّ ترسّم خطى سلفه. وكأنّه إذ أكمل نظمها، واستوى لديه كيانها، هزّ عطفيه، وتمثّل الأمثالَ.
على أنّ ابن شهاب وإن اجترّ صنيع صفيّ الدين في هذه القصائد فقد اجتهد في إحكام صنعتها الشعريّة، ولم يُخْلِها من نفحات الإبداع ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. هذا وديوانه لم يخلُ من قصائد شايع فيها شعراء العصور الوسطى في تاريخ الشعريّة العربيّة، وهي ما عرفت بعصور الانحدار، أو قل عصور الدول والإمارات، وفيها أكثر الشعراءُ من العبث بالشعر فاستخدموه للألغاز، أو شكّلوا منه دوائر ومربّعات ومثلّثات ورسومًا شتّى، فمزجوا بين الكلمة وخطوط الرسم، ومنهم من عمد إلى (التشريع) و(التشعيب) فكتبوا قصيدةً يُستخرج منها عددٌ من القصائد مكتملة الوزن والقافية ومستقيمة المعنى، وصنعوا من الشعر تاريخًا للوقائع فدوّنوا به أعوام حدوثها في ما عُرِفَ بحساب الجمّل. وفي شعره نصوصٌ من ذلك، ولعلّه كان يلجأ إليها تفكّهًا ولكنّ جامع الديوان لم يفرّق بين صالح شعره وفاسده، فقشّه كلّه كما وصل إليه ولم يتحرَّ أن يغربله وينخله فيبقي منه ما ينفع الشعر والشاعر، وأمّا الزبد منه فيلقي به إلى حيث ينبغي لمثله أن يُلقى.
والحقّ أنّ ديوانه لم يلقَ عنايةً عند طبعه للمرّة الأولى، ولم يحظَ بها عند طبعه طبعةً ثانيةً. ولكنّ الأمل معقودٌ في أن تعاد طباعته ثالثةً طبعةً محقّقةً منقّحةً يشرف على إنجازها ثلّةٌ من ذوي الاختصاص في الشعر واللغة، فيضبطون نصّه، ويشرحون ما أشكل على القارئ من مفرداته، وما استغلق من معانيه، ويسدّدون قراءته ليستقيم المعنى، فما أكثرَ ما يخطئ قارئوه في قراءة بعض أبيات شعره، ومن ذلك مثلًا قوله:
واقرعْ على البُخت باب الحان عن أدبٍ لعلّ يفتح عند القرع مغلقُهُ
فهم يقرؤون (البَخْت) بفتح الباء، وهو بمعنى الحظّ، وجمعه (بخوت)، وليس هذا ما قصد إليه ابن شهاب، ولا يستقيم معنى البيت على هذا النحو من قراءة المفردة وتفسير معناها. ولعلّ صوابها (البُخْتُ) بضمّ الباء، وهي الإبل الخراسانيّة، وهي معرّبةٌ، ومفردها (بُختيّ)، و(البُخّات) مقتني تلك الإبل والمتّجر فيها والعامل عليها.
ولا بدّ عند إعادة طباعة الديوان طبعةً ثالثةً منقّحةً من تنقيته من القصائد ذات النكهة المذهبيّة؛ لأنّها لا تضيف إلى روعة شعر ابن شهاب شيئًا، بل لعلّها تكسف من بهاء شمسه، وتخسف من ألق بدره. ناهيك بمقطّعاتٍ لا تمثّل بعدًا فكريًّا ولا تبرز صورةً شعريّةً سوى أنّها نوعٌ من التمرين اللغويّ الذي شغف به شعراء العصور الوسطى من تاريخ الشعر العربيّ.
أمّا تبويب الديوان على حسب حروف المعجم فصنيعٌ لم يعد لائقًا. وخيرٌ منه وضع القصائد على حسب تاريخ كتابتها، وقد دوّنها في أعلى بعض قصائده. ولا ضير من وضع عنوان لكل قصيدة، فصناعة الديوان وتشكيله كتابًا تقتضي شيئًا من ذلك. أمّا قصائده (المحبوكات) فحبّذا لو أفردت ببابٍ مستقلٍّ، فتجمع معًا في محلٍّ واحدٍ ليظهر أثرها، وتكون موضوعًا لدرسٍ مخصوصٍ.
أخلص من هذا إلى خاتمةٍ في ابن شهاب وشعره. ومجمل القول فيه إنّ للرجل موهبةً عظيمةً وطاقةً شعريّةً لا تضاهى لكنّه لم يجد الإطار النفسيّ والفكريّ الذي يشغل ما مار في وجدانه من تيقّظٍ شعريٍّ فشغله بسفسافٍ من التجارب لم يُخلق لها ولم تَلِقْ بموهبته الشعريّة، ولذلك تذهل حين تراه يصعد بك إلى ذرى عالية في عوالم التخييل حين تقرأ له قصائد من أمثال (حيّ الربوع/ هو الحيّ/ بهزّك غصن القدّ/ بشراك هذا منار الحيّ/ تعللنا بذكرهم الحداة…)، ثمّ يفجؤك حين ينحدر إلى نظم أبياتٍ جميع حروفها مهملٌ، أو جميع حروف أشطارها الأولى مهملٌ، وجميع حروف أشطارها الثانية منقوطٌ، وما أشبه هذا ودنا منه من أبيات الألغاز والتاريخ الشعريّ وما إلى ذلك.
سيقول قائلٌ: ولكنّ الشاعر هو الذي كتب ذلك، فَلِمَ نبعده وقد ذاع عنه ذلك النظم؟
وأقول: وإن فعل الشاعر ذلك فلنعدَّه ألهيةً تلهّى بها ثمّ انقضى وقتها ولا يليق به إلا نقيضها، أمّا تلك وأمثالها فلا ضير على الشعر والشاعر إن حذفت من الديوان. وإنّ من المؤكّد أنّ وجود مثل ذلك في ديوان شاعرٍ مبدعٍ كابن شهاب يثلم جمال الصورة التي أظهرها للناس إبداعه الشعريّ وفق شرط العصر ومقتضيات الإبداع فيه. فلماذا إذًا نبقي عليه وهو قبحٌ محضٌ؟ ولماذا لا نخليه منه وشعرُه الحقُّ جمالٌ خالصٌ؟
من هذا يتّضح لنا أنّ ابن شهابٍ بلغ بشعر الاجترار أقصى مداه فلم يستطع كلّ الشعراء الذين ساروا على دربه مجاراته، والنظم على منواله، فكبا منهم من كبا، وتراجع منهم من تراجع، وتوجّب الحالُ حينئذٍ البحثَ عن طرائقِ أداءٍ غير التي عرفها هؤلاء من الشعراء، وهو ما تجلّى ظاهرًا من بعدُ في شعر الحامد وأضرابه من الشعراء، ولهؤلاء ولشعرهم حديثٌ آخر في مقامٍ غير هذا المقام.