نقد
أ.د. مسعود سعيد عمشوش
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص 57
رابط العدد 12 : اضغط هنا
ثانيًا: خطية السرد في سيرة الحبيب علي بن حسن العطاس الذاتية:
أ- سرد الولادة وعلامات النبوغ المبكر:
تُعد (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) آخر الكتب التي ألّفها الحبيب علي بن حسن العطاس، وبما أنه سبق له أن مارس السرد بشكل واسع في كتبه السابقة لا سيما في (القرطاس في مناقب الحبيب عمر بن عبدالرحمن العطاس) و(المقصد إلى شواهد المشهد). فطريقة السرد التي وظفها في كتابة سيرته الذاتية تفصح عن قدرته الفائقة في استخدام مختلف تقنيات السرد التي نجدها في السير الذاتية الحديثة، بما فيها تلك التي تهدف إلى إثارة فضول القارئ. وبشكل عام نلاحظ أن مؤلف (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) يُخْضِع السرد في نصه لمنطق التسلسل الزمني، بدءًا من يوم الولادة، في سنة 1121هـ، ثم مرحلتي الطفولة والصبا، ثم الرشد حتى المدة التي سبقت وفاته عام 1172هـ. لكنه في كل مرحلة لا يسرد كل الأحداث التي عاشها، بل يختار تلك الأحداث التي يرى أنها تشكل المحطات الرئيسة في حياته، والتي يحاول من خلالها أن يفسر نجاحه، وما سبَّب له هذا النجاح من جذب للحساد والخصوم، وهجرات متواصلة. وفي الجزء الأخير من النص قام المؤلف بتكريس فصلٍ لسردِ عددٍ من الأحداث التي تبرز الأذى الذي تعرض له من خصومه وحساده وأضداده، وذلك ليدافع عن نفسه من التهم التي وجهوها له. وخصص فصلًا آخر للحديث عن حكايته المثيرة مع الكتب. واختتم كتابه بسرد بعض الأحداث التي تتجلى فيها علاقته المتميزة بكل من والدته، والحبيب أحمد بن زين الحبشي.
من المعلوم أن معظم نصوص السيرة الذاتية العربية القديم تعطي اهتمامًا كبيرًا بالنسب، وعادة يستطرد مؤلفوها في الحديث عن أنسابهم، ويضمنون نصوصهم تراجم طويلة لآبائهم وأجدادهم وشيوخهم، وأصبح هذا التقليد مُتَّبعًا في معظم السير الذاتية للمتصوفين. لكن بالنسبة للحبيب علي العطاس فهو يكتفي، في (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) بإيراد شجرة النسب التي تصله بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يتوسع كثيرًا في نص سيرته في الحديث عن مناقب أبيه وأقاربه، ربما لأنه قد كرس كتابًا سابقًا لذلك الغرض، ويحيلنا مرات عدة إليه؛ فهو يكتب في ص40: »وقد حررت ذلك كله في صدر كتابي المسمى (القرطاس في مناقب العطاس) فليراجعها من أراد الوقوف عليها، ولا سيما في السلسلة في مناقب العطاس المنظومة المصونة، والخزانة المختومة المخزونة، التي أودعتها آخر فصل في لباس الخرقة، وهو منقولة من الديوان المسمى (قلائد الحسان في فرائد اللسان)«. أما والدته فقد كرس لسرد علاقته بها صفحات طويلة من نص سيرته الذاتية.
إضافة إلى ذلك لا يخفي الحبيب علي بن حسن العطاس تحفظه على المبالغة في الحديث عن الأنساب، إذ يكتب: »يُذم ذكر الأنساب المتفاخر بها إلا لمعرفة ما توجه إليها من الحديث »تعلموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم«، وأما من قصد بذلك امتثال قوله تعالى: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] فلا أرى بذلك من بأس بل له فيه ممن سبقه الأساس«، ص3.
وبعد الإشارة الموجزة إلى نسبه يسرد المؤلف بالتفصيل اللحظات الأولى من حياته، ولا يكتفي بذكر يوم ولادته، ليلة الجمعة في شهر ربيع الآخر عام 1121هـ، بمدينة حريضة، بل يضيف: »وقالت لي الوالدة رحمها الله: إنك وجدت وقت أذان العشاء، فكان سقوط رأسك مع أول التكبير من الأذان«، ص9، ونلاحظ أنه عندما يواصل الحديث عن الأيام الأولى من ولادته يربطها بعدد من العلامات المبكرة لنبوغه، وأولها عدم قبوله الرضاعة خلال السبعة الأيام الأولى من ولادته، فيقول: »فأُخْبِر بذلك جدي الوالد الحسين بن عمر، فقال: إن لهذا لشأن، وإن هذا الولد إما أن يموت صغيرًا عاجلًا، وإما أن يسلم ويكون من الأولياء«. وقالت له والدته رحمها الله: »ولما أردنا أن نحلق رأسك أول مرة كان ذلك يوم غير يوم الربوع من أيام الأسبوع، فقال جدك عبدالله بن حسين: خلوا حلاقته اليوم، واحلقوا له بالربوع، لعل الله أن يجعله من العلماء، قالت ففعلنا ذلك ولازمنا الحلاقة لرأسك بالربوع«. وقالت له الوالدة أيضًا: »ووقعت المراجعة بيننا وبين جدك عبدالله المذكور حين أرادنا تسميتك، فقال: نسميه عليًّا، فقلت بل نسمِّيه فلانًا، وذكرت اسمًا آخر، وربما ذكرت له شيئًا من كلام النساء، كقولهن: (سمِّي علي واصبري)، فقال: علي ويحمل صميلين، فاتفق بعون الله حصول الصميلين المذكورين وهما: رعيدان والمصهر«. والصميل هو العصا التي يحملها الرجل لتدل على الوقار والعلم. وسنأتي على بعض الكرامات التي حصلت للمؤلف بفضل (رعيدان) عند حديثنا عن الأحلام والكرامات في (سفينة البضائع وضمينة الضوائع).
ونلاحظ أن الحبيب علي بن حسن يركز على علامات النبوغ المبكر كذلك عند سرده لأحداث مرحلة الطفولة؛ مثلًا، يحكي لنا أنه عندما كان في نحو السادسة من عمره حضر حفل المولد في هينن، ويكتب: »فجلسنا في طرف المجلس عند الأولاد الصغار، وكان حضر ذلك المولد رجل معروف بالولاية، ظاهر النسك والعبادة، يقال له عوض بن عبدالله حيسي، من آل زبيد أهل هينن الذين يقال لهم آل علي بن سالم، فلما قاموا في المقام الذي يقومونه في أثناء المولد، جعل الرجل يتواجد ويدور في الحلقة، ثم خرج من بين الحاضرين وأقبل عليَّ من بين هؤلاء الصغار الحاضرين واحتملني على عاتقه ودخل بي وسط الحلقة، وجعل يدور بي على رأسه والطيب يفوح منه، وقد سقطت خودتي، ثم إنه سقط فتلقاني بعض الناس. وكان قبل ذلك لا يعرفني لصغر السن، فلما كان من الغد سأله بعض المحبين للسادة أهل البيت؛ وقال له: أتعرف من ذلك الولد الصغير الذي حملته ودرت به في المقام؟ فقال: لا أعرفه إلا أنني رأيته قطعة نور تتلألأ في ظلمة الليل من بين أولئك الصغار. فقال له السائل: ذاك علي بن حسن بن عبدالله بن حسين بن عمر العطاس. فقال: إن طال بك العمر فسترى له شأنًا عظيمًا ومقامًا فخيمًا، وسيبلغ مقام جده عمر بن عبدالرحمن العطاس. فلله الحمد والنعمة، [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، [ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ]«، ص13.
ومن علامة النبوغ المبكر التي يذكرها المؤلف (حمرة عينه) التي لاحظتْها جدَّته وهو في الثالثة من العمر وربطتها بوفاة أبيه، ويروي ذلك نقلًا عن أمه، قائلًا: »وأخبرتني الوالدة فاطمة بنت أبي بكر… فلمَّا رأتْ جدتك عائشة ما فيك من حمرة العين، الدالة على الفحولة عند كل ذي قلب وعين، مدَّتْ يدها إليك كالباكية على ابنها والدك الحسن، بأنها كوشفت بأنه سوف يمرض ويموت وتعيش أنت يتيمًا، وهي تقول عين اليتيم حمراء«، ويضيف المؤلف »فائدة: الحمرة في العينين من علامات النجابة في الرجل، على قدر ما أقيم فيه من العمل الصالح، وهي أشهر علامات نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم«، ص14- 15.
وتُوُفِّي والده فعلًا سنة 1124هـ، وهو لم يتجاوز الثالثة من العمر، وقد سرد لحظة احتضاره بألم وإيجاز على النحو الآتي: »ثم إن الوالد الحسن بن عبدالله بن حسين توفي وأنا صغير جدًّا، قبل سن التمييز والتدبير، بحيث إني ما عرفته المعرفة الحقيقية، ولا أتقن من حياته إلا يوم وفاته، فإنه لما حصلت عليه تعبة الموت [الاحتضار] كرهت ذلك وحزنت عليه جدًّا، بحيث إني أجد ألم ذلك إلى الآن. وكنت مشفقًا من ذلك غاية الإشفاق حتى توفي رحمه الله، فلما توفي حصل اللطف من ذي اللطف الخفي، وزال ذلك الشاغل وكفي، وذلك في شهر رمضان المعظم وأظنه سنة 1124«، ص10- 11.
ومن علامة النبوغ المبكر التي أولاها الحبيب علي بن حسن اهتمامًا خاصًا في (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) الذاكرة القوية، أي القدرة الفائقة على الحفظ التي تميّز بها منذ الصغر، والتي يسميها هو: ملكة الحفظ. وتذكرنا تقنية تراسل الحواس التي تعمل بها ذاكرته، تلك الطريقة التي تحدث عنها الروائي الفرنسي مارسيل بروست، في روايته (البحث عن الزمن المفقود)، التي ألفها في مطلع القرن العشرين.
فمثل مارسيل بروست الذي يربط استعادته لذكريات الطفولة بطعم الكعكة المبللة في الشاي، التي كانت تقدمها له جدته عندما كان صغيرًا، يؤكد الحبيب علي بن حسن أنه، هو أيضًا، كان يربط بين ذكرياته والطعم والصوت الرائحة، إذ يقول: »وكلما سمعت قصيدة حفظتها، أو صوتًا كذلك أو مأخذًا أو سماعًا أو مولدًا أو أي صوت كان. وكنت أحفظ والحمد لله بالصوت وبالريح [الرائحة] وبالطعم، مثال ذلك إذا جرت قصة أو قُرِئ كتاب أو غير ذلك مع صوت أو رائحة معروفة أو طعم، ثم أعيد ذلك الصوت أو تلك الرائحة أو ذلك الطعم مثلًا بعد عشر سنين، أتذكر ما قيل فيه وما قرئ معه«، ص23.
ولا شك في أن تلك الذاكرة الخارقة قد ساعدته على تضمين نص سيرته الذاتية كثيرًا من ذكريات الطفولة بأدق تفاصيلها، ولن نبالغ إن نحن قلنا إن ملكة الحفظ تلك كانت حقًا: (ضمينة الضوائع). وحامدًا لله على تلك النعمة كتب المؤلف: »من نعم الله عليَّ أن آتاني ملكة الحفظ من فيض فضل المفضل المفيض، فكنت أحفظ بحمد الله ما لا أقدر على وصفه ولا وصف نصفه ولا نصف النصف، وأذكر كل ما حفظته وزمن الحفظ ذكرًا واضحًا لا شك فيه، وكلما نظرته عقلته وعلمته ثم حفظته وإلى الآن، فسبحان خالق الإفهام والحوافظ والأذهان. وحين دخلت العلمة [الكتّاب] وأخذت في قراءة القرآن العظيم، فكل من رأيت عليه أثر النجابة في القراءة تمنيت بلوغ مرتبته، وقلت متى أكون مثل هذا«.
وقد وظّف الحبيب علي بن حسن، الذي كان كثير القراءة وواسع الاطلاع، ملكة الحفظ تلك في اكتشاف بعض السرقات في المصنفات الأدبية أو الفقهية التي كان يقرأها، فهو مثلًا يكتب: »ومنها أني كنت بحمد الله إذا قرأت الكتاب يبقى ما فيه في بالي ولو بعد مدة، نثرًا كان أو نظمًا، وإذا قرأ القاري عليَّ مثلًا في كتاب، وفصل القراءة مدة عشر سنين ثم جاء يقرأ ثانيًا، قلت له وقفت في الفصل الفلاني والسطر الفلاني، وآخر قراءة لك في منزل كذا وبحضور فلان وفي ساعة كذا، وكنت إذا طبقت الكتاب وأردت نكشه [تصفحه] ثانيًا أقول للذي يفتح الكتاب، إن الكلام المطلوب في صفحة نمور الفلاني. وكنت إذا قرأت في الكتاب الرفيع [دقيق الخط] تتكون في نظري حروف كتابته كأنها العيدان الجليلة، بحيث إني أراها من بعد، وكنت إذا قرأت مثلًا كتابًا ثم قرأت كتابًا آخر قد نقل صاحبه، أعلم من أين نقل وأدري بما عزاه، وما لم يعز ما نقله منه إلى مصنفه، وأرى بعضهم والعياذ بالله قد ينقل بابًا أو فصلًا أو مسألة مثلًا بجوابها من بعض المصنفات ولا يعزوها إلى مصنفها، وهذه هي السرقة، ورأيت الكثير من ذلك في مصنفات الشيخ دعسين الأموي لا سيما شرح الملحة له، وشرح القصيدة التي للبوصيري التي يقول في أولها :إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن على كل ما قدمت مسئول. فإنه نقل في الكتابين من (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)، للشيخ الحبر الإمام عبدالله بن يوسف بن عبدالله الأنصاري، بغير عزو [فصولًا كاملة] شرحها يطول، حتى سمعت أن مولانا الحبيب عبدالله بن علوي الحداد، لما قرئ عنده كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر)، وسمعه ينقل مثل هذا بغير عزو لأهله قال: »شف شف شف«، بنهر وإنكار لقلة العزو، وكنت إذا سمعت بذكر الحفاظ من السلف، وعلمت ما منّ الله به عليهم، أقول الحمد لله الذي قال: [بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ]«، ص157.
كما يتحدث الحبيب علي بن حسن العطاس عن قدرته الفائقة على حفظ الشعر وهو ما يزال صبيًا، وحتى قبل أن يكمل حفظ القرآن، ويروي أن جده حينما اكتشف ذلك قال له: »احفظ القرآن والعلم واترك الشعر في هذا الوقت، وعائدته لك [أي بإمكانك العودة للشعر]«، ص30، ويضيف: »وقبل ذلك، كنت إذا سمعت القصيدة مرة أو مرتين حفظتها في الغالب، فحفظت من ذلك جملة لابن علي المذكور وغيره مما كنت أسمعه عنده من المسمعين والحداة والناشدين، رجالًا ونساءً. وكان بأي آلة كان، ومن أي من يحضر عنده، أكان من الرجال أو من النساء أو الولدان«، ص30.
ويعكف الحبيب علي بن حسن على حفظ القرآن ويكمله بسرعة، يكتب: »ويسّر الله الكريم لي حفظ القرآن العظيم مع تفاسيره الحديث والقديم. فلما حفظت القرآن أتاني وعد شيخي بالشعر، فكان نظمه عندي أهون من شرب الماء البارد في الهجور«، ص32.
وعلى الرغم من امتلاكه لتلك الذاكرة القوية، فإننا نلاحظ من خلال قراءتنا لسيرة الحبيب علي بن حسن، أنه حينما بات يمتلك مشروعًا واضحًا في التأليف شعرًا ونثرًا، حرص على أن يكون معه في مقامه وترحاله شخص يقوم بتدوين ما يمليه عليه وكمية من الورق. نتبين ذلك خلال زيارته، سنة 1150هـ، للشيخ عيدروس بن سالم بن عمر الحامد في عينات، الذي قام ليجلب ورقًا وناسخًا لتدوين إحدى قصائد الحبيب علي بن حسن، الذي قال له: »الناسخ معنا وهو كاتبنا الولد أحمد بن سعيد بادكوك، والبياض معنا«، ص33.
ب- سرد التكوين العلمي:
وبعد عرض علامات النبوغ، يشرع الحبيب علي بن حسن العطاس في سرد بعض الأحداث المهمة التي وقعت له عندما انتقل إلى بيت جده عبد الله هو وأمه وإخوانه وأخواته بعد وفاة أبيه. وقد استطرد بشكل خاص في الحديث عن ارتياده بعض الكتاتيب (العُلَم) في حريضة عند الشيخ سالم بن علي باعنتر، وفي هينن عند الشيخ عمر باحوّاقه. وعلى الرغم من الذاكرة القوية التي يمتلكها فقد تحدث عن المصاعب التي واجهته حينما أراد حفظ القرآن في تلك الكتاتيب، وأكّد أنه لم يتمكن من القراءة بيسر في المصحف الشريف إلا في بيت جده عبد الله بن حسين. وتذكرنا الطريقة التي يصف بها صعوبة حفظه للقرآن في (العُلَم) الطريقة التي استخدمها طه حسين، في كتابه (الأيام) حينما وصف ما لقيه من صعاب مشابهة عندما كان أبوه يرسله لحفظ القرآن في الكتاتيب.
وقد تحدث الحبيب علي بن حسن عن تجربته الأولى مع المعلمين قائلًا: »كنا نجد الأمر منهم لنا غاية الاشتغال، ونفرح بغياب المعلم وعدم وجوده وغفلة الأهل، وربما تعمدنا التخلف واستسهلنا أمر الضرب لخفتهن وثقل المجيء والمراح من عُلمة إلى عُلمة، وذلك من غير أن نحصّل شيئا مدة، ثم جاء الفتح في ذلك؛ فبينما أنا جالس في دار سيدي الوالد عبد الله رحمه الله أنظر في مصحف من غير معرفة للاستخراج للكتاب [قراءة الكتاب] فإذا أنا أعرف وأقرأ الكتاب، فقرأت فيه تلك السورة وهي [بسم الله الرحمن الرحيم. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ]«، ص12.
ويذكر الحبيب علي بن حسن أنه خلال مدة إقامته في بيت جده عبد الله كان عليه أن يبدأ يومه بممارسة بعض الأعمال العضلية في المراعي والحقول، ويؤكد أن أعمال الزراعة والرعي مرنته على الرياضة والعزيمة والصبر على شظف العيش، والقدرة على تحمل متاعب الأسفار والتنقل في طرق جبلية وعرة، وفي ظل ظروف معيشية صعبة، ووسائل مواصلات بدائية، وقد سرد ذلك قائلًا: »وحين قدرت على الخدمة عند الوالد عبد الله بن حسين بن عمر، استخدمني في الخلا [الحقول] والرعي أول النهار، وإذا طلعت البلد خرجت مع الأخدام إلى البئر ننزح الماء للبيت وللمواشي، وهي بئر شطون [عميقة] تقارب الخمس والخمسين أو الستين قامة، وكل واحد من أهل البلد معه زانة [حبال رفع المياه من البئر] وذلك لأنه لا يمكن تحسيب الآبار، وهذا من شدة الوقت وطول السنين والقحط الشديد. فكنت أكابد هذه الرياضة طول النهار مع العري الذي لا يكاد يحصل لي معه إلا الثوب الواحد الذي هو الإزار، وإذا أردت حضور الدرس بعد صلاة العصر عند الوالد حسين استعرت مسدرة [قميص] من بعض الصغار حتى أخرج. ثم بعد المدرس نخرج إلى الخلا بالغنم وللفخطة [تلقيح النخل] وللحطب«.
ثم يعود الحبيب علي بن حسن العطاس إلى استكمال سرد تكوينه العلمي، وتحديدًا الجانبين الفقهي والصوفي، وذلك برعاية جده وشيخه [جد أبيه] حسين بن عمر العطاس، الذي شجعه على قراءة أمهات كتب الفقه والتصوف المتداولة في تلك الفترة، على الرغم من أنه لم يبلغ حينها الرابعة عشرة من العمر. ويؤكد الحبيب علي أن ذلك قد سبب بروز عددٍ من الحُسَّاد الذين حاولوا ثني جده من الاستمرار في تدريسه مبادئ التصوف، وقد شرح ذلك قائلًا: »وقد كنت لما ختمت القرآن العظيم على المعالمة المذكورين رحمهم الله تعالى، كما تقدم قريبًا، أمرني الوالد حسين بالقراءة في العلم الشريف، والحمد لله الحمد لله الحمد لله، قرأت عليه (بداية الهداية)، للإمام حجة الإسلام الغزالي، و(الأذكار) للشيخ محيي الدين النووي، وكتاب (الفصول المهمة)، لابن الصباغ المالكي، وحصلت لنا بحمد الله بشارات جميلة، وإشارات جليلة، ونفحات جزيلة، من سيدنا وشيخنا الوالد الحسين المذكور، نفع الله به، وذلك أنه لما أمرني بالقراءة في شيء من الكتب المذكورة، حصل من بعض الدَرَسة الملازمين إنكار في ذلك، وقالوا إن علياً صبيٌّ صغير، ولا قده حله [حينما يأتي الأوان] يقرأ في الكتاب المذكور، وقالوا من تصوّف ولم يتفقه فقد تزندق، ظانين أن من قرأ في كتاب من كتب الصوفية فقد صار من جملة الصوفية، أو من قرأ في كتاب من كتب الفقه فقد صار من الفقهاء، وهيهات، إنما الصوفي من صفا باطنه من الغش والحقد والحسد وسيئ القول والعمل والنية والمعتقد، وإنما الفقيه العالم بأحكام الشرع، هو الذي يخشى الله ويتقيه، [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]، [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ]. واستمر منهم الإنكار ثلاثة أيام، وخشيت أنا أن يصدقهم شيخنا، فلما كان اليوم الرابع غضب عليهم غضبًا شديدًا، وقال لهم: هه هه هه، بماذا عرفتم أن عليًّا ما هو حله يقرأ في تلك الكتب، وتكلم بكلام فيه من الثناء على المملوك ما لا يمكن ذكره، فلله الحمد والثناء، وقد كرهت كلام أولئك المنكرين أولًا لما ابتدأوا يتكلمون، ولكن لما حصل بسببه ما حصل من الثناء من شيخنا، حمدتهم، فجزاهم الله خيرًا من حساد، لقد كانوا سببًا في حصول هذا الخير الجسيم، من هذا الإمام العظيم، وقد قال الله تعالى: [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]«، ص27.
ويروي المؤلف أن الصبي علي بن حسن لم يكتف بدراسة كتب الفقه والتصوف عند جده وشيخه حسين، الذي ربطته به علاقة روحية مميزة، بل إنه لم يتردد في أن يطلب منه تلبيسه (الخرقة الصوفية) وهو في نحو الثالثة عشرة من العمر. وقد ضمن مؤلف (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) وصفًا حيًّا لطقوس تلبيس الخرقة الصوفية في تلك الحقبة في حضرموت، وقد سردها على النحو الآتي: «ثم بحمد الله حصلت الإشارة من شيخنا الحسين المذكور على لسان بعض المحبين له ولنا، المنسوبين إليه، إن طلبت تلقين التوحيد وتمكين عصبة الحبل المتين السديد الشديد، فقال لي ذلك الإنسان جزاه الله خير الجزاء من الإحسان: اطلب من حبيبك حسين تلقين الذكر ولباس الخرقة الصوفية، ففرحت بكلام ذلك الإنسان توفيقًا ولطفًا من قديم الإحسان وعظيم الامتنان، وقلت لشيخنا: أريد منك تلقين الذكر ولباس الخرقة أو كما قلت، فقال أتقدر أن تصوم ثلاثة أيام؟ فقلت: نعم. فأمرني بصيام ثلاثة أيام فصمتها وذلك في أيام الصِبا وسنّي ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، وهي أيام زمان عنيد وقحط شديد في بلد حريضة خاصة، وكان فطوري من عنده تمرًا من تمر (حَجِرْ)، لأن التمر لا يوجد في تلك السنة المُجدِبة، فكنتُ إذا كان آخر العشية آتي إلى عنده فأجده قد خبأ لي الفطور تحت مُصلّاه […] فلما عبرت تلك الثلاثة الأيام وجئت إليه بأمره في اليوم الرابع وقت صلاة الضحى قبل أن يصليها، أمرني أن أغتسل وأنوي به غسل التوبة، وقال صلِّ بعده ركعتين وانوها ركعتي التوبة. ففعلت ما أمر به في مصلى البيت الشرقي من بيوت داره بحريضة، ثم جئته وهو في بيته النجدي، فوجدته حين فرغ من صلاة الضحى، وجلس متربعًا ووجهه إليَّ وأنا مستقبل القبلة، وتحته الجودري [الفراش] المذكور أولًا، فوضع يده على رأسي ولقنني كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعلمني النفي والإثبات، وقال لي قلبك ها هنا في شقكَ الأيسر فإذا نفيت بلا إله فالتفت إلى شقك الأيمن وإذا أثبتَّ بالله فالتفت إلى شقكَ الأيسر الذي فيه قلبك، ووضع إصبعه الشاهدة على قلبي، فالحمد لله والشكر لربي وأبي، [أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ]، [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]. وألبسني طاقيته ثم أخذ مني الطاقية التي على رأسي فوضعها على رأسه، وقال أنت منّا وإلينا أو قال منّا وفينا وهذا إلا زيادة، فلله الحمد الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، وهذا مع صُغر السن منّي إنما هو بجاذب العناية السابقة من الله تعالى على يد كبير أهلي«، ص37- 39.
ج- سرد الدفاع عن النفس:
لقد أشار الحبيب علي بن حسن العطاس إلى أن علاقته المتميزة بجده وشيخه حسين بن عمر العطاس كانت سببًا في تكالب الحساد عليه، لا سيما من بين أقاربه وزملاء الدراسة. لذلك لن نستغرب أن يضطر، بعد وفاة جده إلى مغادرة مسقط رأسه حريضة إلى الهجرين، ومنها إلى بضة ثم إلى الغيوار. وسبق أن ذكرنا أن من أهم الأسباب التي دفعت الحبيب علي بن العطاس إلى كتابة سيرته الذاتية الرغبة في الدفاع عن نفسه من كيد الحساد والأضداد الذين حاولوا تشويه سمعته وأجبروه على ترك مسقط رأسه: حريضة. ولا ضير أن نكرر هنا ما صرّح به في بداية نصه، حينما كتب: »وسأذكر في هذه الترجمة بعضًا مما حصل لنا من الأذى والعنا ليتأسى ويتعزى من وقع له شيء من ذلك [الذي وقع] لنا، كما تعزينا وتأسينا بالسلف الصالح من أهلنا قبلنا مما وقع لهم من أضدادهم، وقلنا: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ]«، ص42.
ومن اللافت حقًا أن الحبيب علي بن حسن العطاس، حينما يدافع عن نفسه، لا يشعر بأي حرج في وصف معاناته والأفعال السيئة التي مارسها ضده كثير من الناس، بمن فيهم أقرباؤه وتلاميذه ومريدوه، بل إنه قد كرّس، لهذا الغرض، فصلًا كاملًا من سيرته الذاتية، يقول في مفتتحه: »فصل فيه تعزية وتسلية وتولية وتقوية لمن ابتلي بعقوق أصحابه وأولاده وجحدان الحقوق من أضداده وحساده ونسيان الجميل وإظهار القبيح من جيرانه وأهل بلاده. اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، إنا نعوذ بك ممن يستر الجميل ويظهر القبيح«. وبالفعل، يأخذ دفاع الحبيب علي بن حسن العطاس عن نفسه، في أحد أهم أبعاده، شكل فَضْحِ سلوك أعدائه من خلال عرضه بالتفصيل، وذلك بغرض إقناع القارئ بسوء تصرفهم وتبيان ظلمهم له، وتبرير رد فعله تجاههم.
ومن الواضح أن الحبيب علي بن حسن قد ركـّز فعلًا على فضح المنافقين والمتلونين من حساده، لكننا نسارع ونؤكد أن ردود فعله تجاه سلوك أضداده لم تكن أبدًا عنيفة أو متهورة، بل إنها كانت دائمًا هادئة ومهذبة ومتسامحة. فهو يمتنع عادة عن الإساءة الفعلية لمن ارتكب جرمًا في حقه. وفي الغالب ينحصر رد فعله تجاه من يُسيء إليه في فضح تلك الإساءة وسردها في ثنايا سيرته الذاتية. كما أنه حرص على عدم ذكر مرتكب تلك الإساءة إلا فيما ندر.
فهو يذكر، مثلًا، أن هناك عددًا كبيرًا من أعدائه من سكان حريضة والهجرين وغيرهم كانوا قد أخذوا عنه القراءة في كثير من الكتب ثم انقلبوا عليه. »منهم رجل خطيب في مسجد الجامع متوسم ظاهره بالخير والعبادة، وقد قرأ عندنا كتاب (بداية الهداية) وغيره. و[مع] انتسابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتظاهره بأعمال الخير وإمامة الجامع والخطبة صار من أكثر الحاسدين وأنكر الجاحدين وأكبر المعاندين لنا على أمور الدنيا والدين؛ فابتدأ أولًا بالمهاجرة والمناكرة والمقاطعة والمدابرة، حتى إنه يومًا، لمّا أبصر بعض أصحابي قد وضع كراسة في طبق جلد دويل وجده خلي من الأوراق لا يُحتاج إليه إنما هو منبوذ في المسجد، وكان يقرأ فيه عندنا في المسجد أيضًا، فلما رآه قال على سبيل التنقيص والمناكرة والمجادلة بالباطل: ما لكم أخذتم أطباق المسجد وهي موقوفة؟ لا يصح لكم أخذها. فهممت بجوابه لقوله: إنما هي موقوفة على المسجد ونحن نقرأ فيه. ثم بدا لي ترك جوابه فتركته حتى قام بغير جواب مني«، ص115.
وتتجلى طريقة الحبيب علي بن حسن المتسامحة تجاه الحساد والحاقدين في تعامله مع جارة له اتهمته بالشعوذة حينما كان يقيم في الهجرين، وقد سرد الحادثة على النحو الآتي: »وكذلك كانت لنا جارة من أهل الهجرين، وكانت تكثر الأذى لنا، وربما رأت كثرة الناس إلينا من كل محل فتقول: إنما سبب هذا لأن السيد صاحب أسماء وطلاسم وعطوف وصروف، فلما بلغنا قولها السوء قلنا: لو كنا نجيب على مثل هذا القول لقلنا لها: لو كنا نتعاطى شيئًا مما ذكرتيه من هذه الأشياء لفعلناها لك ولأمثالك من أعدائنا الساعين في دائنا وإيذائنا، وإنك جار الدار ونحن أحوج أن نفعله لإطفاء ما فيك من تلك النار وإبراد حرِّك وشر كلماتك التي هي أشر من الشرار، لو كنا نفعله لكنا نفعله لك مكافأة لشرِّك لأنك من جيران السوء الموعود بهم كل مؤمن في حديث: »«ما كان مؤمن ولا يكون إلى يوم القيامة إلا وله جار يؤذيه«، ص118.
ويستطرد الحبيب علي بن حسن كذلك في الحديث عن أحد جيرانه الحساد الحاقدين المنافقين من بلدة الهجرين، قائلًا عنه: »ومن جملة ما منّ الله عليّ في بلد الهجرين أنه جعل أهل البيوت المحيطة ببيتي من أشد الناس عداوة لي، حتى أن بعضهم كان في الظاهر -والله المطلع على السرائر- كان من المنسوبين إلى الخير، حتى إنك إذا رأيته قلت هذا من الذين سيماهم في وجوههم من أثر السجود ومن حملة القرآن ومن قوّام المساجد، ومن الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ومن ضعفاء المسلمين العميان المنورين، ومن المعلمين الذين هم أخيار العالمين، ولكنه لما كان من جيراني كنت أرى منه غاية القبض والحقد الذي هو منع الود الذي هو الدليل على البغض«، ص122.
وبعد أن يروي الحبيب علي كيف أن هذا الرجل الحاقد قد غضب عندما رآه يُبعد حجرًا من وسط الطريق، وأرسل إليه كتابًا يتهمه فيه »بالتصرف في بعض ألفاظ خطب المسجد«، يذكر أنه قد اضطر، هذه المرة، إلى الاستنجاد بأجداده للدفاع عن نفسه والانتقام من ذلك الرجل، ويقول: »ولما كانت الليلة الثانية من وصول كتابه إلينا رأيت [في المنام] كأن مسجد الجامع مليء من سلفنا آل باعلوي وفيهم شيخنا الوالد الحسين والوالد محسن بن حسين، وكأني بينهما أقول لهما: هذه نسخة الخطبة فانظروا فإن وجدتم فيها شيئًا مما ذكروه فاللوم عندي، وإلا فخذوا لي بثأري منه. فاتفق بعد ذلك أن هذ الرجل الجافي سار إلى حضرموت [ما يزال كثير من أبناء وادي دوعن والساحل يخصصون اسم حضرموت على وادي حضرموت] في نزاع بينه وبين قرابته، فلما بلغ بلد سيئون اصطاب [أصيب] مركوبه وذبحه، ثم قالوا لنا بعد ذلك إنه بعد ذلك سار إلى تريم للزيارة، فقلنا حاش الله إنه يحصل له قبول وهو يؤذينا ويتجرأ علينا، فلما رجع أصابته غدة كغدة البكر ومات، وسار واحد من الذين كلفوه أن يكتب لنا ذلك الكتاب إلى مكة -وهو قد قرأ علينا في كتاب (منهاج الطالبين للنووي)- واستخلف من الكل واستحل من الكل إلا نحن، فلما توسط البحر غرقت السفينة التي هو فيها، فغرق مع من غرق من أهلها. لا حول ولا قوة إلا بالله«، ص123.
ويبيّن لنا الحبيب علي بن حسن العطاس، من خلال سرده لتفاصيل علاقته بأخيه من الرضاعة أحمد عوض بن سلمة، كيف أن أعداءه يسعون إلى الإساءة له، أحيانًا بطريقة مباشرة، وفي بعض الأحيان من خلال إيذاء من حوله من مريدين وتابعين، فهو يكتب: »بعد مسير [السيد ياسين] بيوم أو بيومين إذ بأحمد بن سلمه قد أقبل إلينا وقال: إني أريد التوبة والانقطاع إلى الله عندكم، وأريد ان أحلق الوفرة. وكانت عليه وفرة وشفرة، وكان قبل ذلك يقرأ القرآن، ويأتي إلى عندنا في بعض الأحيان، لأنه قد حصل له رضاع من والدتنا في حال كونها ترضعني، فلما كبر بقي ذلك الاتصال حاصل معه، فكان آخر ذلك لو دام، ولا حول وقوة إلا بالله، فأمرته عند ذلك أن يحلق الوفرة وألبسته كوفية، ولازم مجلسنا من ذلك الوقت، ولم يفارقنا إلا لضرورة. فلما رآه والده أقبل علينا وانقطع إلينا وقع منه ما يقع من مثله من البشر الجاهل، وحصل منه كراهية لذلك، وساعده علينا بعض الشناة لنا، وقالوا: ما يصنع ابنك عند هذا السيد؟ يقطعه من حوائجه، ثم لا ينفعه بعد ذلك آخر الوقت ولا يغني عنه شيئًا، فكبروا عنده ذلك، فكبر علينا منه الأذى، فقلنا له: ما معنا عون عليك ولا على الذين تكلموا علينا إلا حسين بن عمر، فعند ذلك حصل له مثل الأدب، وسكون. ثم إنه لازمنا في أول الأمر ملازمة حسنة، بصدق ومحبة صافية أكيدة لله وفي الله، بحيث إنا لا نشك في إنا لو قلنا له نريد نبيعك في السوق لم يراجع. وكان أول أمره من أهل الفضل والصلاح والأوصاف الجميلة الملاح، يواسينا بنفسه وماله، وله جد واجتهاد في العبادة، واستخلفناه في إمامة المسجد الجامع لمّا هاجرنا من بلدنا حريضة إلى بلد الهجرين الآتي ذكر هجرتنا إليها، فقام أول مرة أتم القيام مع تعليم القرآن للصغار من السادة وغيرهم لله تعالى من غير مكافأة منهم، بل وصل الأذى إليه من آبائهم، ثم إنه آخر الوقت لمّا أشرقت أنواره وذاعت بالخير أخباره تزامروا عليه وأخرجوه من إمامة المسجد حسدًا لنا وبغيًا علينا، وعدوانًا وظلمًا من غير موجب، وما ذاك في الحقيقة إلا [أذى] لنا وليس له، ولقد كابد أسلافنا من مثل هؤلاء أعظم مما كابدناه نحن من بن سلمه ومن غيره، فلنا بهم أسوة وفيهم قدوة، إنها سنة الله التي خلت في عباده. ولن تجد لسنة الله تبديلًا. ثم إنه والعياذ بالله في آخر أمره ظهر منه الارتداد، وترك الامتثال وخلع ربقة الوداد، ودخل في زمرة الحساد، وغمرة أهل العناد، وذلك مكتوب في سابق علم الله المقدر ما يشاء على عباده من إشقاء وإسعاد، أو تقرب وإبعاد، فأدبر عنا وترك الإقبال علينا. ثم إنهم بعد ذلك أحبوه وأرجعوه إلى وظيفة المسجد لما تحققوا من تركه لنا وتركنا له. ثم كان آخر أمرهم معه أن أخرجوه وزوّلوه [نفوه]. والعياذ بالله من أهل تالي الزمان، الذين لا خير فيهم ولا أمير لمن يستكفيهم الله. وهو السميع العليم»، ص56- 58.
ويتحدث الحبيب علي بن حسن في سيرته الذاتية عما تعرض له من استهزاء وسخرية وجحود وتشكيك في أثناء إقامته في حريضة، وذلك من قبل حساده وأعدائه الذين زعموا أن المطر انقطعت عنهم بسبب إقامته بينهم، وربطوا بين نزولها ورحيله منها إلى دوعن للاستسقاء عام 1152هـ، فقال: »بلغني أن بعض الحساد قال وأنا بدوعن في تلك الزيارة قبل أن أرجع إليها [إلى الهجرين]: كرامة يوم راح السيد [يقصدون الحبيب علي بن حسن] من البلاد وقعت الرحمة لنا. كما قال فرعون لموسى [اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ]. فانظر رحمك الله إلى هذا الجفاء العظيم، واللؤم والعقوق، من هذا الآثم اللئيم، نحن في خبب وجهد واجتهاد بالدعاء والتوسل وترتيب قراءة الفاتحة للأنبياء والأولياء في جميع النواحي، صلوات الله عليهم، على الجمع والتعديد حتى من الله الكريم بالإجابة، وهؤلاء يقولون ما قالوا. قال تعالى: [فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ]. وقال عز من قائل كريم: [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ]، وقال تعالى: [وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]، وقال تعالى: [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا]«، ص143 و144.
ومن اللافت للانتباه أن الحبيب علي بن حسن يلجأ كثيرًا للشعر ليعبّر عن باطنه وآلامه ومعاناته، وكذلك ليدافع عن نفسه من حساده وأعدائه بطريقة هادئة. وقد اعترف هو بنفسه بذلك في نصه، وذلك في تقديمه لإحدى قصائده الشعبية التي ضمنها سيرته الذاتية، حيث كتب: »اعلم أن من جملة ما نقوّي به جاش النفس ونسلّيها ونعزّيها به إذا ورد علينا الأذى، الذي هو من المضرات والقذى، ننظم الأبيات والحِكَم المُسلِّيات، حتى إن الحبيب عمر البار لما سمع قولي المار في أول هذا المضمار، حيث أقول من الأشعار:
وخرجت من بلدي فرارًا منهم فوجدتهم خُلِقوا بكل بلاد
قال قولك هذا ينسِّم عليك، وقد صدق، فمن جملة ذلك قولي حين رأيت إدبار وانفضاض بعض من حولي مع الدين واللين المأمور به أفاضل النبيين….
بني مغراه قلبي وُحِل يا أهل المعاني وصبري من شغوبي كمل والجسم ضاني
وفكري حار في وقتنا وقت الشواني من صاحبته وبالغت في وده جفاني
ومن شنفت له كاس حلوا صرف هاني جنا لي في الجزاء من حدج خس المجاني
ومن شيّدت حصنه بيدي واللسانِ هدم ما قد تقدم برجله من مباني
زمان العق فيه انبذل البر فاني ولا تسهن كفى خير من رجل أو غواني
ولو عديت ذي باعدوا بعد التداني وعادوا بعد ما دارسوني في المثاني
وطلبوا عندي العلم واستسقوا دناني حسبت آلاف رجعوا لحُسّادي عواني
ولكن حسبي الله وتدبيره كفاني إليه أرجع ومنه الفزع والكل فاني«، ص119- 120.
وفي قصيدة أخرى تحدث عن علاقته بأقربائه وقال فيها:
« إن شاهدوا حسنه أرخوا دونها الأستـار
وأن شاهدوا سيئة أبدوها على الحضـار
وان شاهدوا نعمة أذكوا من حسدهم نار
دائـم وحـذف البـلاء منهـم إلــى مـثـواي
ولا تجينـا المصائـب غـيـر مــن قـربـاي».
د- سرد حكايته المثيرة مع الكتب: (إنما هي عَشْقَة وهوى ومحبة):
دأب معظم مؤلفي السير الذاتية في التراث العربي على تضمين نصوصهم عرضًا طويلًا لنتاجهم العلمي، أي الكتب التي ألفوها، وأسباب تأليفها والتقريظات التي كُتِبت فيها. والحبيب علي بن حسن كرس فصلًا كاملًا من (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) للكتب، لكنه لم يتحدث كثيرًا فيه عن الكتب التي ألفها، بل سرد فيه حكايته المثيرة مع الكتب منذ نعومة أظافره، لعبًا وقراءةً وعشقًا واستلافًا. فبعد أن ذكر أسماء الكتب التي ألفها، شرع في الحديث عن تعلقه منذ الطفولة بالكتب، وأولها القرآن الكريم، وكيف إنه كان يجعل لعبه على هيئة كتب، وكيف ينفق مصروفه اليومي لشراء بعض أوراق الكتب، وخاطب القارئ قائلًا: »اعلم أني كنت والحمد لله من أول النشوء مولعًا ذا نشوة بقراءة القرآن، وما والاه من المصاحف والكتب والمساجد والزوايا والختوم والحضرات والموالد وجميع محامد الخيرات، فكنت بتوفيق الله تعالى ولطفه من حين ميّزت وعرفت أخب [أجري] دائمًا، لقصدها أدُبُّ، وعن أهلها أذب، وذلك لفرط الولاية، وشرط الحب، حتى أني ربما خرجت إلى الخلاء وأنا في سن نحو الخمس السنين فأخرج ورق العِشَر الأصفر [العشر، بكسر العين وفتح الشين، نوع من النبات ينتشر في جنوب الجزيرة العربية، وله أوراق كبيرة وعصارة بيضاء تشبه اللبن لكنها مُرَّة وحارَّة وحارقة وتستخدم في دباغة الجلود]، وأشكّه [أرصه] في خيطين على هيئة تكعيب أوراق المصاحف والكتب حتى أني جمعت منه مثل غلظ المجلد الكبير الضخم وربما تصفحته متلذذًا بذلك على هيئة القارئ، وربما جعلته في إبطي مثل ما يفعل حملة المصاحف والكتب، وربما رآني بعض الناس وقد جعلته في إبطي ولبن العِشَر يقطر من الورق فيصيب باطن بطني، فنهاني عن حمله ويقول إنه ربما جرح بدنك إذا فعلت ذلك«، ص160.
ويروي المؤلف كيف أن تعلق الطفل علي بن حسن الشديد بالكتب جعله يفضل إنفاق مصروفه اليومي في شراء بعض أوراق الكتب التي كان رفاقه يسرقونها من كتب أهلهم، وذلك على النحو الآتي: »وكنت ربما إذا كان بيدي شيء من القوت [المصروف] جاءني بعض الصبيان بأوراق، وربما كان يسرقها ذلك الصبي من بعض مصاحف أهله فأشتريها منه بذلك القوت الذي معي، وربما أهله علموا وأتوا إلى أهلي يطلبونها فيجدونها وقد غيرتها بكل عطف ورقة أو ورقتين«، ص161.
وحينما كبر الحبيب علي بن حسن زاد تعلقه بالكتب، ولفت انتباه كل من حوله، ولم يتردد بعض الناس عن الإفصاح له عن استغرابه بسلوكه ذلك، وسرد الحادثة قائلًا: »فلما حصل بحمد الله تعالى لي الفتح في الطلب، واستقوى داعي الرغبة، كنت لا أشبع من مطالعة الكتب، ولا من المذاكرة في العلم، ولا من زيارة أهل الخير والتردد إليهم في أي مكان كانوا، وذلك مع شدة الاعتقاد وحسن الظن، حتى قال لي بعض الناس -وكان لا يأتي إلا ويجدني في قراءة أو مطالعة أو مراجعة أو تأليف أو مقابلة-: ما أصبرك على هذه الكتب! فقلت له: يا فلان ما هو صبر إنما هي عشقة وهوى ومحبة ونهم ومقه، ربما قلت: وفي الحديث منهومان لا يشبعان، طالب العلم، وطالب الدنيا«، ص161.
ويؤكد الحبيب علي بن حسن أنه لفرط تعلقه بالكتب وقراءتها، كان لا يسافر إلا ومعه كمية كبيرة منها يخصص لها جملا أو جملين من رواحله، وكتب: »وكنت إذا سافرت إلى مكان، أي مكان، أستصحب معي منها [أي من الكتب] التي لا بدَّ لي منها، إما الحمل وإما الحملين، دون ما أستغني عنه مما أتركه في البيت، حتى قالت لي الوالدة فاطمة بنت الشيخ أبي بكر بن شيبان رحمها الله تعالى: يا علي إذا جئت إلى عندنا، إلى بلد هينن، ومعك هذه الحمول من الكتب فأحسن أن تجعلها ظاهرة في أواعي رؤوسها مفتحة، لأن أهل البلد إذا شاهدوك وقد أقبلت بالحمول ربما ظنوا أنها من متاع الدنيا الذي لهم الرغبة فيه. فنضحك من ذلك، فكانت الوالدة تقول ذلك على سبيل المزح والمباسطة«، ص161.
ومن الواضح أن الحبيب علي بن حسن كان قارئًا استثنائيًا للكتب في عصره. وقد وصف اتساع قراءاته قائلًا: »وقد طالعت والحمد لله جملة من الكتب المصنفة، في فنون العلوم المؤلفة، مما لا يحصى ولا يستقصى. [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]. [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]. [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]. [وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] ربي زدني علمًا. ولا تظن أني عددت شيئًا مما يعد، ولا حددت بعض البعض مما يحد، من نعم الله السوابغ الجزيلة علينا وعلى الناس [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ] على عاجل منها ولا آجل، ولكني اختصرت واقتصرت في هذه الترجمة، على ما نظرت وسطرت من الفضائل والفواضل، [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]«، ص153.
وعلى الرغم من شهرة حضرموت بخزائن كتبها (مكتباتها) الكثيرة منذ تلك الحقبة، فإنها لم تستطع أن تلبي احتياجات هذا القارئ النهم الذي لم يخف معاناته وتذمره من شح الكتب في مدينته حريضة بشكل خاص. لهذا كان عليه أن يسعى لاستلافها أو مقايضتها من مختلف قرى حضرموت ومدنها، ساحلها وواديها. وقد كرس أكثر من عشرين صفحة من سيرته الذاتية (136- 154) لسرد المصاعب الجمّة التي لقيها عند سعيه للحصول على بعض المراجع الأدبية واللغوية والفقهية. ويؤكد أن الحسد وعدم تعاون أصحاب المكتبات، لا سيما في مدينة تريم المشهورة بعلمها ومكتباتها، لم يسهّلا حصوله على الكثير من الكتب. وبدأ حديثه عن تلك المعاناة قائلًا: »إني لما طلبت العلم حسبما حققته فيما تقدم، وكانت الجهة الكسرية والحضرمية والدوعنية، خصوصًا بلد حريضة ونواحيها قليلة وجود الكتب التي يحتاج الإنسان إليها في فنون العلم، وإن وجدت مع آحاد فغالبهم من الحساد الذين يضنون ويمنعون الماعون، وخصوصًا أهل حضرموت [أهل الوادي]، وخصوصًا أهل تريم، ومن والاهم ومن جالسهم ومن والاهم من جهة أهل الكسر ودوعن«، ص136.
ويسرد لنا الحبيب علي بن حسن كيف إنه اضطر في بعض الأحيان إلى البحث عن كتابٍ بعينه في مختلف قرى حضرموت ومدنها، ولم يعثر عليه إلا بالصدفة وبعد جهود مضنية. هذا ما حدث له مثلًا حينما حاول الحصول على نسخة من كتاب (طبقات الصوفية الكبرى) للشعراني، وقد حكى ذلك على النحو الآتي: »ومنها أني طلبت من بعض أهل العلم من أهل حضرموت المناصب، كتاب (طبقات الصوفية الكبرى) للشعراني، وهي عنده في جلدين، فأنعم بها لي وتعلل بواحد من أجزائها [قائلًا إنها] عند إنسان، أعاره إياه، وأوعد بإرساله إلينا عند وصول الجزء المذكور، ثم ذاكرته بكتاب من حريضة إلى حضرموت [وادي حضرموت]، فأجاب بأنا قد نوينا إرساله إليكم وتراه يصلكم، فأرسلت له رسول معنّى، لأني به معنّى، فاعتذر عنا، فلم نلبث إلا أيامًا قليلة وتوفي صاحب الكتاب فجأة، فذكّرت وارثه، وأرسلت له كتابًا ونبهته على قوله في كتابه: قد نوينا إرساله إليكم، وقلت له: من حقك إن ترسل إلينا الكتاب لتمام ما نواه والدك، فاعتذر علينا من إعارة الكتاب، فلما سرنا إلى الشحر في سنة 1163هـ، اتفقنا بالحبيب الحسين بن علوي بن جعفر مدهر… وسألناه عن (طبقات الشعراني الكبرى) المذكورة، فقال هي عندي في جلدين، وهاكم إياها، فحين وقفنا عليها إذا هي طبقات المناوي، وهي أيضًا طلبنا وضالتنا الضاوي، فعبرنا فيها، وهي أجمع وأوسع من طبقات الشعراني، بسبب أنه متأخر بعده، وهو في العلم له مساوي، وترجمه فيها بأحسن التراجم والفتاوى. فلما كان بعد مدة سرنا إلى وادي عمد فاتفقنا بالحبيب علوي بن عبدالله الكاف باعلوي، فسألناه عن (طبقات الشعراني) المذكورة، فقال هي عندي وهاكم إياها، فهي إلى الآن عندي في سنة 1169هـ منذ سنة، فتقبل الله من أهل الفضل، وسامح أهل البخل، بمنه وكرمه، فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة، ومعطي خيري الدنيا والآخرة، إن أعطى فلا مانع، وإن منع فلا معطي«، ص144.
ويضمّن الحبيب علي بن حسن الفصل المخصص بالكتب من سيرته وصفًا دقيقًا لطريقة تعامل الحضارم مع الكتب في القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر للميلاد). ويبيّن لنا أنهم عادة ما يحتفظون بها في صناديق يطلقون عليها (الخزائن)، وحينما يتوفّى العالم الذي قام بجمعها يعينون لها ناظرًا ويوقفونها في الغالب للقراءة العامة. وهناك استثناءات كثيرة يقدم الحبيب علي بن حسن إحداها على النحو الآتي: »ومنها أني جئت إلى بعض الخزائن أستعير من أصحابها بعض الكتب، وهي أربع خزائن، وقد مات العلماء من أهلها وما بقي إلا أهل جهلها. [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ] فقلت لهم هاتوا كتاب الفلاني وكتاب الفلاني، إلى تسعة كتب، وهاكم تسعة مجلدات قباضة لكم حتى أرجع حقكم، فقالوا: قد منعنا فلان وفلان من أكابر السادة وأنت تكون كماهم، فقلت لهم: أما أنا فلا بأس، ولكن مثل هؤلاء الذين ذكرتم أنكم منعتم منهم ماعون الكتب المذكورة ما لقيتم خيرًا في أنفسكم بمنعهم، وقد كنت في أول الطلب [طلب العلم] جئت إلى هذا المكان وعلى هذه الخزانة رجل قائم من الصالحين، وذلك في زمان جدي وشيخي ووالدي الحسين بن عمر، وكان هذا الرجل من أهل الخير وسلامة الصدور، وقد كان جدي عبدالله -بن حسين بن عمر العطاس- وصاني أن آتي له بكتاب (مشكاة المصباح في شرح العدة والسلاح في أحكام النكاح)، مع صغر سني، قال لي: يا ولدي ما لك حاجة بالنكاح، وعادك ما شبرمت [لم تصل سن البلوغ]، فقلت له إنه للوالد عبدالله، وعجبت من غاية غفلته مع كبر سنه ومنصبه، فأعطاني الكتاب«، ص147.
ومن الواضح أيضًا أن الحبيب علي بن حسن قد دخل، في مرحلة تكوينه العلمي في حريضة، في منافسة للحصول على بعض المراجع المهمة مع أحد هواة الكتب الذي عُيّن ناظرًا على إحدى مكتبات المدينة، والذي اكتفى بتسميته بالبخيل. وقد سرد معاملته مع ذلك البخيل على النحو الآتي: »ومنها أني جئت كذلك إلى بعض الخزائن الموقوفة بنظر بعض البخلاء المانعين الماعون، المصلين وهم لاهون، [الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ]، فأعطاني الجزء الأول من كتاب (شرح صحيح مسلم) الذي فيه المقدمة العظيمة التي على كل علم من علوم الحديث مترجمة، فأخذت في قراءته حتى أتممته، وطلبت الثاني منه فامتنع من إعارته، ثم جئته مرة ثانية وطلبت الجزء الأول من كتاب (القاموس المحيط في ما ذهب من كلام العرب الشماميط)، فأعطاني الجزء الأول منه وهو أربعة أجزاء بخط حسين مليح، وسرت من بلده إلى أخرى، فإذا به قد وصل خلفي وقال: هات الكتاب الذي أعرتك إياه، فإنه مما لا تسمح نفسي بمفارقته، فقلت له: إنه وقف آل فلان وأنا أعرفهم، إنهم غير ذلك الإنسان، فقال: لكنه بيدي وأنا أحق به من أهله ومن غيرهم، وكانت عنده جملة من الخزائن لأهل هذا الكتاب المذكور، ولغير أهله، هي وخزائن أخرى بنظره بحيث أن هناك عدد عدة شيء لا يحصى من الكتب الموقوفة والمملوكة لهم ولغيرهم، وأخذ الكتاب مني عدوانًا وظلمًا وحسدًا وبغيًا وشحًا وبخلًا بما لا يملكه وإنما هو مهلكه، فحينئذ قلت: اللهم سلط عليه من يأخذها منه كما أخذ هذا الكتاب هو مني، فقام عليه في الآن رجل صالح من أولاد أهل الخزائن، وأخذها خزا منه وهو غير زائن، فلم أدري إلا وهذا الرجل الصالح من الذين أخذوها منه قبل أن أعلم بذلك، يكتب لي أن أطلب ما شئت من هذه الكتب، وربما سمى لي بعضها مما لا أعلم باسمه. ومنها أني جئت إلى بعض الخزائن أطلب شيئًا من الكتب فلم أجدها؛ لأنها قد أخذها هذا الرجل البخيل المتقدم ذكره فلم يبق إلا جلد واحد وهو الذي عليه البار، وهوي كتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)، المشار إليه في خطبته بقول مؤلفه: فهاك كتاب تشد الرحال فيما دونه، وتقف عنده فحول الرجال ولا يعدونه، فأخذته فإذا هو طلبتي، وفيه قضاء حاجتي، وهو عندي بحمد الله إلى الآن«، ص144- 145.
هـ- عناصر التشويق في سرد (سفينة البضائع):
ومن اللافت حقًا في سيرة الحبيب علي بن حسن العطاس أنها تحتوي على سرد مفصل لحوادث كان المؤلف شاهد عيان لها أو مشاركًا فيها، وذلك في مراحل مختلفة من عمره، ويبدو أن الهدف الرئيس من ذلك السرد ليس إبراز مناقب المشاركين في تلك الحوادث فقط، بل السعي الواضح إلى إضفاء شيء من التشويق على نص السيرة الذاتية، وشد انتباه القارئ وتشجيعه على مواصلة القراءة، وذلك بأسلوب لا يخلو من الحركة والحوار الحي، بل ومن الظرافة والفكاهة. فهو مثلًا يكتب:
»رجعنا إلى ذكر شيء من أحوال الوالدة والأخوال. مرة أخرى وأنا صغير في سن التمييز بحريضة، مررت في بعض الأزقة برجل شيبه وهو جالس وبه من الجوع ما لا يطيق على القيام معه، فقال لي: سلم على الوالدة وقل لها يقول فلان إن الناقة خبطته، إشارة إلى شدة الجوع، وهذه مقالة عند أهل الجهة الحضرمية يتداولونها كناية عن شدة الزمان، فلما طلعت إلى عند الوالدة وبلغتها كلامه قامت وملأت عتوة من التمر المليح وقالت: قم إلى عند الرجل وأعطه إياه، وقل له تقول لك الوالدة: اطرد الناقة بهذا. فخرجت في الحال، فوجدته لم يقم من مكانه، وأعطيته التمر ففرح به. وكان صنوها الشيخ سهل بن أبي بكر -وهو خالي- من الصلحاء الفضلاء العلماء الحلماء النبلاء الكملاء، صاحب معروف ومعرفة وطاعة وحسنات ومكارم أخلاق حسنات، فمن جملة ذلك أنه يواسي الضعفاء والمساكين، ويواصل المضطرين والمحتاجين، حتى إنه كان رجل يقال له عبدالله بن لهيج من أهل بلد هينن، قد كبر سنه ووهن عظمه فانطرح في سقيفة الجامع كالملقي الناجع، فكان الخال سهل المذكور ربما أرسلني إليه بالتمر، أنا والصنو صالح وهو أكبر سنًا مني، فوجدناه مرمي على ظهره، فقال: واحد منكم يرفدني وواحد يلقمني، فتعاونا حتى أقعدناه، وكنت أنا الذي أرفده وأمسك ظهره مع شدة الثقل منّه عليَّ، وصالح يلقمه التمر المفحوس، فكان صالح ربما يصغّر الصيم، فأسمع الشيبة يقول: كبّر كبّر، يعني الصيم، فنطعم المذكور حتى أكله جميعه، ثم تعاونا على اضطجاعه كحالته الأولى. ومرة كنت ألعب مع الصبيان تحت بيت والدي وشيخي الوالد حسين بن عمر في بلد حريضة في ذلك السن، فجاءت عجوز يقال لها فاطمة وهّاسة، وكان شيخنا في ذلك اليوم قد ذبح ثورًا وقسمه على الضعفاء، فقالت لي العجوز: خذ المحملة واطلع بها إلى عند أبيك الحسين، وقل له: تقول لك وهّاسة: هات قسمها من اللحم، وقل له إن العمر طال، وإني ضجرت من الحياة وأريد الموت، فادع لي به، وكانت من طول عمرها قد طلعت لها لحية، فكأني أنظر إليها، وهو لحية لطيفة وشايبة، فطلعت إليه وبلغته كلامها، فضحك منه، وأمرهم أن يعطوني لها اللحم، فخرجت به إليها. فرحم الله الجميع، ونفعنا ببركات أعمالهم الصالحة، ونياتهم الحسنة الناصحة«، ص8.
وفي سياق حديثه عن الكتب وتحديدًا عن كتاب (الأزرق في الطب)، يسرد المؤلف بشيء من الجرأة حادثة يقصد منها الفكاهة، وذلك حينما يكتب: »ومنها أنه بينما أقرأ في كتاب الأزرق المذكور إذ دخل علينا الشيخ الصوفي أحمد بن الشيخ علي باراس وقال: ما أرى لهذه الكتب المصنفة في الطب ونحوه شيئًا من الفائدة، والنفع والضر من الله. هذا معنى كلامه، ثم وصلنا بعد قوله هذا إلى دواء البحة في الصوت في الأزرق، وكانت به، فقال: انقل هذا لي، فنقلته له، وكذلك أنكر علينا في ذلك محمد بن أحمد بن حسين العطاس، وكان كبير الحال من الصوفية المجاذيب، فعارضني [التقى بي صدفة] مرة خارج من عند الوالد أحمد فقال كالمستخف: ما قرأتم اليوم في الأزرق؟ فأردت أن أكيله بصاعه، فقلت له: قرأنا أدوية ما يقوي الذكر الضعيف للجماع. فقال: وتحفظ منها شيئًا الآن؟ فقلت: نعم. فقال: اكتبه لي فإني في طلب ذلك. فكتبته له، وقرأت عليه ما لا يحصيه إلا الله، وذلك في مدة نحو ثلاثة عشرة سنة صباحًا ومساء، وما بين ذلك«، ص155.
ثالثًا- واقعية السيرة الذاتية ودور الأحلام والكرامات في (سفينة البضائع):
من المعلوم أن السيرة الذاتية، مثل الرواية، تعتمد النثر والسرد الاستذكاري. ويكمن أهم اختلاف بين الرواية والسيرة الذاتية في أن الأولى تروي أحداثًا تظل ذات طبيعة خيالية مهما كانت درجة شبهها بالواقع، أما السيرة الذاتية فهي في الأصل، تروي حياة المؤلف كما عاشها في الواقع، وهذا يعني أنها تروي أحداثًا واقعية. وقد أكد فيليب لوجون في تعريفه للسيرة الذاتية على أنها »سرد نثري استذكاري يحكيه شخصٌ واقعيٌّ عن وجوده الخاص، عندما يركز على حياته الفردية وخصوصًا على تاريخ شخصيته«. ومع تسليمنا المطلق بأن (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) تعد نصًا يحتوي على جميع المعايير اللازمة لتصنيفه ضمن مدونة السيرة الذاتية العربية القديمة، علينا أن نسارع ونؤكد أن هذه السيرة الذاتية تتضمن سردًا لحشدٍ كبيرٍ من الأحلام والكرامات التي قد تتجاوز بطبيعتها الواقع من وجهة نظر بعض النقاد. وفي رأينا أن (سفينة البضائع) تقترب، في بعض الأحيان، من السير الذاتية لبعض أعلام التصوف الإسلامي، مثل الحكيم الترمذي، وأبي شامة المقدسي، وجلال الدين السيوطي، الذين أعطوا دورًا كبيرًا للأحلام والكرامات في نصوصهم، إلى درجة أنه قد يصعب في بعض الأحيان رسم الحد الفاصل بين الواقعي وغير الواقعي في تلك النصوص السير – ذاتية.
ومن المعلوم أن الحبيب علي بن حسن العطاس قد حرص على لبس الخرقة الصوفية وهو في الرابعة عشرة من عمره، وذلك على الرغم من أنه لم يكن مطلقًا يميل إلى العزلة، بل كان رجل عمل، ولا يؤمن إلا بالعمل والعلم المرتبط بالعمل، وقد أكد ذلك في مطلع الفصل الذي كرسه للكتب، إذ قال: »علّمك الله وإيّانا ما جهلناه، ووفقك وإيانا للعمل بما علمناه، ورزقنا وإياك للإخلاص فيما تعبدناه، ومنَّ عليك وعلينا بالرضا والقبول فيما أخلصناه. إنّ الدنيا كلها هباء إلا العلم، والعلم كله هباء إلا ما عملت به، والعمل كله هباء إلا الخالص لوجه الله تعالى، والخالص كله هباء إلا ما تقبله الله ورضيه«. ص159.
أ- الأحلام:
لا شك أن الحبيب علي بن حسن العطاس، الذي كان عاشقًا متميزًا للكتب والقراءة، ومهتمًا بالكتب الطبية المنتشرة في عصره، قد قرأ شيئًا عن الأحلام وتفسيرها. ويحتوي نص سيرته الذاتية سردًا مسهبًا لأنواعٍ مختلفة من الأحلام. فهناك مثلًا الأحلام (التنبؤية) التي يقدمها بوصفها إنذارات أو إرهاصات لما حصل بعد وقوعها، ويمكن أن تعكس نوعًا من قوة الحدس والصفاء الروحي عند المؤلف، منها تلك الأحلام المرتبطة بخسوف القمر أو سقوط الكواكب قبيل وعند وفاة الأولياء والصالحين الذين يحظون بمكانة عالية عند المؤلف.
مثلًا بمناسبة وفاة العلامة أحمد بن زين الحبشي ليلة الجمعة السادس عشر من شهر شعبان عام 1144هـ، كتب علي بن حسن في سيرته الذاتية: »ولما كان الليلة التي توفي بها سيدي الإمام غلام الساعتين الحبيب أحمد بن زين الحبشي، وهي ليلة الجمعة سادس عشر شعبان المعظم عام 1144 هجرية، وذلك فجأة بعد صلاة الجمعة، رأيت في النوم وأنا ببلد هينن كأني أنظر إلى القمر في وسط السماء وهو في غاية التمام، وكأنه خرَّ إلى مثناة [وسط] حضرموت حتى توارى في الأرض، فلما أصبحت كنت كالمستشعر بخبر يأتي بوفاة حبر مشهور، فإني جربت هذه الرؤيا وهي رؤيا سقوط القمر إلى الأرض وانكسافه في الأرض، بموت عالم شريف جامع بين العلم والولاية، وإذا رأيت في النوم سقوط بعض النجوم، مات من هو دون ذلك العالم الولي في المقام. جربت ذلك تجريبًا محققًا، ونفذت من هينن صبح ذلك اليوم إلى حريضة، فلم يرعني إلا خبر انتقاله، ونزله حيث نواله، وإنزاله مع محمد وآله، في حضرة القدس«. ص177.
وحينما توفي العلامة عمر بن عبدالقادر العمودي، ليلة الأحد، العاشر من شهر رجب عام 1147هـ، رأى الحبيب علي بن حسن، الذي كان في زيارة أخرى لوالدته في هينن، حلمًا تنبؤيًا مشابهًا سرده على النحو الآتي: »فلما كان في بعض الليالي رأيت [في المنام] الناس يغفّلون ويقولون: لا إله إلا الله يا غافلين، على عادتهم إذا خسف القمر أو كسفت الشمس، وكان القمر مشرقًا، فكأني أقول الناس يغفّلون والقمر سالم ما فيه خسوف، ثم نظرت فإذا القمر مقارب الجبال البحرية التي إلى جهة دوعن وإذا هو ينزل إلى الأرض، فقلت صدق الناس ما أرى القمر إلا يريد أن يقع على الأرض، فلما انتبهت علمت إنما هذا الشيخ عمر سيموت، وكنت إذا رأيت القمر انخسف علمت أنه سيموت كبير من الأولياء أو قربت وفاته، وإن كان دون ذلك المقام رأيت كأنَّ كوكبًا سقط على الأرض«. ص65- 66.
وإذا كان ولي الله الترمذي قد حكى في سيرته الذاتية بعضًا من أحلام زوجته فالحبيب علي بن حسن يروي في نصه أحلامًا لأخيه أبي بكر ووالدته. ويبدو أنه قد أراد أن يسرد حلم أخيه أبي بكر ليفسر من خلاله سلوكه لطريق العلم والدعوة، وكثرة حساده وأعدائه؛ لذلك فهو قد حرص على معرفة تفسيره عند عمه حسين بن عمر العطاس، وقد سرد ذلك على النحو الآتي:
»إن الصنو العلامة الصوفي فخر الدين أبا بكر بن الوالد حسن رحمه الله تعالى، رأى في بعض المنامات كأن الوالد عمر بن عبدالرحمن العطاس يمشي على سبيل مستقيم وكأني أنا عن يمينه، والوالد عمر ممسكني بيده، وممسك الصنو أبي بكر بيده الأخرى وهو عن شماله، وكأن جماعة من الناس يرجمون إليه وإلينا بحجر، ولا يصيبنا منه شيء، فقلت للصنو أبي بكر المذكور ونحن ببلد حريضة: اذهب إلى الوالد الحسين وقص عليه هذه الرؤيا، فقال: كيف أرجع اليوم لأجل قص الرؤيا وأنا بالأمس فقط قد وصلت من حضرته؟ فقلت: لا بد لك أن ترجع لأن هذه الرؤيا عليها عمدة، فامتثل الأخ المذكور ورجع، فلما وصل إليه وهو ببلد نفحون، قال له بعد أن قص عليه الرؤيا: أنت وصنوك علي تسلكون طريقة الوالد عمر إن شاء الله تعالى، ولم يفسر له بقية الرؤيا، فلما كان بعد مدة من وفاة شيخنا الحسين المذكور، ظهرت علامة صدق الرؤيا، وذلك أنه حصل علينا الأذى من الجماعة الذين رآهم الصنو أبوبكر يرجمون بالأحجار إلى الوالد عمر وإلينا، فبدت فيهم العداوة والبغضاء والجفاء والقطيعة ومساعدة من يعادينا ومقاطعة من يوالينا، وذلك من غير سبب ظاهر منا، ولا دعوى ولا طلب حق لهم، وإنما هم مبطلون علينا بطلًا ظاهًرا حتى آل الأمر إلى أن هجرنا البلد بالكلية، فلم يكفهم ذلك، حتى وصلنا آذاهم بعد الهجرة من البلد، وقد أشرت بقولي شعرًا: وفررت من بلدي فرارًا منهم فوجدتهم خلقوا بكل بلادي«. ص41.
أما حلم الوالدة فالهدف منه إبراز مناقبها وقدرتها على نظم الشعر، فقد كتب: »حكت لي الوالدة رحمها الله قالت: كنت ليلة في دارنا ببلد هينن، وهي ليلة سبع وعشرين في شهر رمضان، فرأيت وأنا بين النوم واليقظة، كأن خالي عبدالله بن سهل رحمه الله، قائم، وهو يقول: أصحاب كانوا نيام* بين القطف والخيام* والليلة أمسوا قيام* ردوا عليكم سلام. قالت ثم غاب عني، وانتبهت لما يكون في تلك الليلة من ثواب القراءة والتهاليل التي يوهبها الناس لأمواتهم ليلة سبع وعشرين في رمضان، ولها نفع الله بها كلام مليح يفهمه العامة في التعريف بالخير والدلالة عليه، وتأتي به بسهولة من غير تكلف، ولها أشعار تذكر فيها أشياء قبل وقوعها، فتقع كما تذكرها، خصوصًا في أولادها، ولما ولد الصنو أحمد وكان سمينًا، فدخل يومًا على جماعة من السادة وهم في البيت، منهم الوالد أحمد ابن شيخنا الحسين نفع الله بهما، فقال ما لهذا مثل قعر المعصرة، على سبيل المزح، فلما سمعته الوالدة قالت فيه أبياتًا تذكر فيها إن أحمد هذا سوف يسافر إلى أرض الهند وأنت بحريضة، فاتفق أن الصنو أحمد حفظه الله، وأعاد النظر فيه، سافر بعد وفاة والده، إلى مكة وحج، ثم خرج إلى الأرض [أي إلى حضرموت] بسبب شيء أزعجه، وكدر خاطره، فلم تطب نفسه بالجلوس في الحرم الشريف وهو مكدر الخاطر، احترامًا لتلك البقعة الشريفة، وفرارًا بدينه، حيث إن الأمر الذي أكلفه على الخروج هو مزاحمة على شيء من أمور دينه، ففر منه فراره من الأسد، وكان ذلك بإشارة بعض المجاورين بها من أهل العلم والفضل لما استشاره الصنو أحمد في ذلك، ثم جاء إلى الأرض وأخذ مدة قريبة، بحيث إنه لم يتفق بغالب المحبين، ثم بعد ذلك سافر إلى أرض الهند، وله هناك نحو ستة عشرة سنة، أو يزيد من حال التاريخ للترجمة، وهو حفظه الله حيٌّ الآن، متعه الله بطول حياته، وقد توفيت الوالدة والصنو أحمد بالأرض المذكورة«.
ومن الأحلام التنبؤية التي لم تتحقق: سرد الحبيب علي بن حسن هذا الحلم: «وقلت مرة لشيخي الوالد حسين المذكور، أني رأيت في المنام كأني على منارة الجامع وكأني أذنت للصلاة، فقال: تحج إن شاء الله إلى بيت الله الحرام، وكأنه أخذ هذا التأويل من قوله تعالى: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ] الآية». ص40. وفي الحقيقة، عزم الحبيب علي بن حسن على أداء فريضة الحج، وبدأ الرحلة فعلًا لكنه حصل له طارئ اضطره للعودة من رؤوس وادي عمد، ولم يتمكن من الحج. ص147.
ومن اللافت للانتباه في السيرة الذاتية للحبيب علي بن حسن العطاس الربط بين الأحلام والإبداع الشعري، فهو يؤكد، في أكثر من مناسبة، أنه قد ألف أبياتًا أو قصيدة كاملة وهو في حالة المنام، كما كتب هنا: »كنت مرة نائمًا في بيتي بالمشهد فرأيت في النوم كأني في جامع بلد حريضة، وفيه جمع كثير وجم غفير من السادات وأهل الفضل وجماعة من المنسوبين إليَّ وكأني أعرض عليهم قصيدة لي من جملتها البيتين اللذين جعلتهما أول هذه الأبيات ولم أحفظ منها بعد الانتباه إلا هما. ثم انتبهت في الحال وأمليتها بتمامها وذلك في الثلث [الأخير من] ليلة الخميس خامس صفر سنة 1167 هجري. وهي هذه:
قسمًا لأنهى عن منامي مقلتي حتى تُوسّدَ في التراب عظامي
وأقوم في نفع البرية دائمًا لله والإسلام أيُ مقامِ
بالسعي فيما يستحق أمانهم من خوفهم والسُقي والإطعامِ
متطلعًا أبدًا إلى الرُتب العُلا قدمًا بأقدامٍ إلى إقدامِ
بالمال والحال المكين وبالدعاء لا انثني عن شأوها لملامِ
بخميسها وخميسها فخميسها كم في الملأ من ضيغمٍ ضرغام«.
ب- الكرامات:
إذا كان بالإمكان تأصيل الأحلام، بشكل أو بآخر، في الواقع المعاش وفقًا لمقولات فرويد وغيره من علماء النفس، لن يكون من السهل إيجاد موضع قدم للكرامات في أرض الواقع إذا نحن لم نسلِّم بدور الأولياء في منظومة المعتقدات الإسلامية، وهو ما قد يتحفظ عليه بعض المسلمين. وحسب علمنا يربط معظم رجال الدين المسلمين بين الكرامات والأولياء مثلما يربطون بين المعجزات والأنبياء. وتحتوي سيرة الحبيب علي بن حسن العطاس سردًا لعدد لا بأس به من الأحداث التي تدخل في إطار الكرامات، وسنركِّز هنا على تلك الكرامات المرتبطة بالمطر.
سبق أن ذكرنا، عند تناولنا لعلاقة الحبيب علي بن حسن العطاس مع الكتب، إنه حينما يترك مكان إقامته يحرص على أخذ كمية كبيرة من الكتب -حمولة جمل- معه للمطالعة. ويؤكد أن الله قد سهل له الحفاظ على كتبه وحمايتها من البلل في موسم الأمطار. وقد سرد ذلك في سيرته الذاتية على النحو الآتي: »وكنت والحمد لله إذا عزمت [على السفر] ومعي شيء من الكتب في أيام الغيث [المطر] اعتدت من ذي العوائد الجميلة، بحرمة صاحب الوسيلة والفضيلة، أن تلك المخيلة [السحب الماطرة] لا تصيب بالمطر البليلة ما معي من تلك الحميلة [الحمولة]، بحيث إني إذا خرجت وهي تمطر كفّت المطر حتى نصل المكان المستقر، وأن تباعد السفر فحينئذ تعود المطر بحمد الله تعالى ولطفه الخفي الذي إذا لطف به لأحد من عباده كفى وشفى، جربنا ذلك مرارًا عديدة. وربما مطرت حوالينا ووقع الفرق علينا، فلا يصيبنا من تلك السحب الماطرة إلا الظلال إذا سرنا في الهاجرة. فوالله ثم والله إنا إذا كنا في الهجور الحارة نشاهد نحن ومن معنا السحاب تظلنا وتسير في الطريق بعدنا وقبلنا وفوقنا وعن أيماننا وعن شمائلنا بحيث نشاهد ما بعدنا من جنبات الوادي، وقد شرقت فيه الشمس والظل عندنا مع تقارب جنبات الوادي. فالحمد لله والشكر لله«. ص161- 162.
وفي الحقيقة، الأمطار في حضرموت نادرة وغير منتظمة بشكل عام، ومعدل سقوطها أكثر قليلًا في وديان دوعن وعمد والقرى الواقعة في غرب وادي حضرموت. وفي القرن الثامن عشر الميلادي كان سكان تلك المناطق يعتمدون اعتمادًا كليًا على مياه الأمطار للشرب والزراعة، وقد يضطرون للمغادرة إذا طالت فترات انقطاعها. وفي مثل هذه الحالات يدعون المولى عز وجل أن يغيثهم، مستخدمين في ذلك صلاة الاستسقاء ومختلف الوسائل التي يعتقدون في فعاليتها. ويؤكد الحبيب علي بن حسن العطاس أن كثيرًا من قصائده حازت على إعجاب معاصريه، وأصبحت وسيلة للحصول على قضاء بعض الحاجيات، لا سيما المطر، فهو يكتب: »«لما سار سيدي الوالد عبدالله بن أحمد بن حسين بن عمر العطاس إلى مكة -شرفها الله-، استصحب معه القصيدة التي مطلعها:
يا ذا الجلال والإكرام* * يا ذا الجلال والإكرام
يا ذا الجلال والإكرام* يا ذا الجلال والإكرام
يا ذا الجلال والإكرام * * يا من بالأسرار علّام
يا من علم بأمرنا تام* والنقض بيده والإبرام
فلما سمع بها الشريف الوالي بمكة وهو مسعود بن سعيد، وذلك في أيام جدب وضرورة في مكة وغلاء في الأسعار، فأرسل الشريف مسعود إلى الوالد عبدالله المذكور يقول له: اجمع كل من بمكة من السادة آل باعلوي والفقراء والمساكين وجميع أهل الحرم، واجتمعوا في مقام إبراهيم، وتوسلوا إلى الله في نزول الرحمة بهذه الوسيلة الجامعة التي أنشأها صاحبكم علي بن حسن العطاس، فاجتمعوا وشلوا بها أول يوم وثاني يوم وثالث يوم، وفي اليوم الرابع انفتح الباب وثار السحاب، ونزلت الرحمة والحمد لله الذي أجاب. ولما حصلت علينا الضائقة العامة والحاجة الطامة بجهة حضرموت والكسور والوديان في سنة 1164، زرنا مشايخ الكسور من حورة إلى هينن إلى عندل، إلى حريضة إلى الشيخ سعيد عمود الدين إلى الشيخ أحمد بالوعار، ومشايخ دوعن الجميع، ووصلنا إلى حريضة منتصف رجب، وحين دخلنا البلد أنشانا القصيدة التي مطلعها:
ضيفنا يا المحضار * * الله وضيفانك
عسى تجي الأمطار * * وتسقي أوطانك
فبينما نحن في بيت الوالد عبدالله بن سالم بن رضوان بحريضة إذ دخل علينا الوالد عبدالله بن أحمد بن حسين المذكور بعد صلاة الظهر، ونحن نستسقي على العادة بعد كل صلاة بآيات الاستغفار، ونستغفر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونتوسل إلى الله به في نزول الرحمة، ونأتي بجملة من قصائد الأولياء التي فيها الدعاء، مثل المنفرجة، وقصيد سيدي الشيخ أبي بكر بن عبدالله العيدروس التي مطلعها: (بسم الله مولانا ابتدينا). على ما أخذ:
إلهي يا كريم بحق ستة * * بحق أهل الكسا انظر إلينا
وغير ذلك، فقال الوالد عبدالله بن أحمد: لمَ لا تتوسلون بالوسيلة التي لكم والتي مطلعها: (يا ذا الجلال والإكرام) المذكورة، وقال إنها مما لا يستكفى عنها بشيء، وأخبرنا بالقصة التي وقعت له مع الشريف مسعود، وقال: شلوا بها الآن المأخذ، وتوسلوا بها، وكنّا إذا أردنا الشل بها نجعل مأخذها أربع مرات: يا ذا الجلال والإكرام. ودمنا عليها مع الوسائل المتقدمة للسلف والزيارات لقبور الأولياء والصالحين الأحياء، والاستسقاء بأهل كل بلد نأتيها، فوالله ما لبثنا أيامًا حتى فتح الله أبواب رحمته وأكرم طلابه، ومَنَّ بالرضى والقبول والإجابة، ودام الغيث سبعة أسابيع، وحصل الموسم الشبيع، حتى كان الناس بعد ذلك في الكسور والوديان يسمونها حميمة علي بن حسن، ولها طعام من الطعام المشهور بين الطعام، والحمد لله الفتاح العليم الوهاب الكريم. ولما سار صاحبنا النشّاد عبدالله عوض بابقي إلى الجهة الحجرية [نسبة إلى وادي حجر – غرب المكلا]، في أيام الخريف، أنشد بها ونزل المطر الكثير الذي يتغير منه التمر تغييرًا كثيرًا، جاءه جماعة من آل بادغار وقالوا له لا تنشد بهذه القصيدة في أرضنا في مثل هذه الأيام، فإنها تأتي بالمطر ويجيب الله الداعي الذي ينشد بها، فإذا وصلت إلى أرضك فأنشد بها«. ص33- 35.
ويورد الحبيب علي بن حسن بعض الكرامات التي حصلت له بفضل عصاه (رعيدان) الذي قام بتزيينه ببعض الأبيات الشعرية، نقشت بماء الفضة، قائلًا ص10: »أما رعيدان فلوصوله إلينا قصة عجيبة ونصة غريبة، قد حققنا شيئًا منها في قصائد من الديوان (قلائد الحسان وفرائد اللسان)، وأعجب ما شاهدناه منه أنه فر من بين رقعتين وفقع رأس إنسان وهو يجادلنا في بعض الأحوال حتى فاض الدم من قرنه هتان، وكم أشياء أخرى لا يحصيها الحسبان، ورسمنا بعض القصائد بتحلية فضة حلينا بها رعيدان المذكور ومطلعها:
يا رعيدان يا مبرك مسيرك على الناس * * فيك شيء من عصا موسى وذا النون وإلياس
ذي سببها غرق فرعون في البحر واهتاس * * أو هراوة محمد ذي جلبت كل حنداس
كسرت رأس باجهل الشقي قد بالفاس«. ص180.
وفي خاتمة الحديث عن الكرامات والأحلام نكرر قولنا إن الكرامات تقع في إطار الاعتقاد بالأولياء. ومن المعلوم أن مصادر الفكر الصوفي تؤكد أن الكرامات تُعد معيارًا لمعرفة الولي. ومع ذلك نؤكد أن معظم الأولياء لا يحبذون الإفصاح عن كراماتهم أو الحديث عنها؛ لأن ذلك يمكن أن يثير ردود فعل مختلفة. ويمكن أنْ نذكر أنّ الحكيم الترمذي حينما تحدّث عن أحلامه ورؤيته للنبي اتـُّهِم بالزندقة وسُجِن. ونقل الطوسي عن الجنيد، أحد مشايخ الصوفية قوله: من يتكلم في الكرامات ولا يكون له من ذلك شيء مثله مثل من يمضغ التبن.
وفي الحقيقة لم نقرأ أي رد فعل سلبي لما جاء من كرامات في كتاب (سفينة البضائع وضمينة الضوائع)، الذي لم يُنشر إلا قبل شهور، ولم نستطع أن نعود للنسخة المطبوعة عند قيامنا بهذه القراءة. وقد استبق مصطفى عبدالرحمن العطاس أي نقد محتمل لما جاء من كرامات في (سفينة البضائع)، وضمن كتابه (العبقري المجدد الحبيب الإمام علي بن حسن العطاس) هذا الرد: »ولا نشك في أن الكثير من أدعياء العلم، سوف يلوون رؤوسهم إعراضًا وصدًا واستنكارًا واستكبارًا من تحدث صاحب الترجمة رضي الله عنه بنعمة ربه، وقوله إن الله بعوائده الجميلة، وببركة صاحب الوسيلة والفضيلة، مدينة العلم ومصدره سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، عوّده على حفظ كتبه التي يحملها معه في رحلاته المتصلة للدعوة إلى الله ونشر العلم وإصلاح ذات البين من أن تمسها مياه الأمطار والغيوث التي يتصادف هطولها في أماكن عبوره أو إن الله يأمر واكفها بأن تكف حتى يبلغ صاحب الترجمة مأمنه ومكان وجهته، ناسين قول إمام العلم والعلماء وخاتم الرسل والأنبياء سيد الأولين والآخرين حبيبنا محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه في الحديث الصحيح (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب). وإذا كانت الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم فما الذي يحول دون الغيوث أن تكف صيبها وهاطلها للعالِم بقدرة خالق الملائكة وأجنحتها والغيوث وصيبها والعلماء وما يعلمون ويعملون. قال من عز من قائل كريم: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ]. وقال جل ذكره وتقدست أسماءه: [فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ]. حفظنا الله من عمى القلوب، ورزقنا حسن الظن وسلامة العقيدة في كل عالم عامل محب لله«.
رابعًا- الأبعاد اللغوية والفنية في (سفينة البضائع وضمينة الضوائع):
أ- اللهجة العامية الحضرمية في (سفينة البضائع وضمينة الضوائع):
(سفينة البضائع وضمينة الضوائع) نصٌّ يتوق إلى الارتقاء إلى مستوى أدبي رفيع وفق التقاليد الأدبية السارية في الحقبة التي أُلِّف فيها. والحبيب علي بن حسن العطاس عاش في القرن الثامن عشر الميلادي (الثاني عشر الهجري)، أي في نهاية العصور المتأخرة، التي تُسمَّى أحيانًا عصور الانحطاط، والتي اتّسَم خلالها الأدب العربي، في الغالب، باستخدام واسع لأسلوب السجع، والمحسنات البديعية، والأحاجي اللغوية، والمفردات العامية والأعجمية أو المولدة. فنص (كتاب الاعتبار) لأسامة بن منقذ مثلًا مليء بالكلمات العامية الشامية، والكلمات الأجنبية.
لهذا من الطبيعي ألا يتجنب مؤلف (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) كثيرًا من المفردات والتراكيب اللغوية الخاصة باللهجة الحضرمية. وهي سمة ملازمة لمعظم النصوص الأدبية والدينية والتاريخية التي كتبت في حضرموت قبل مطلع القرن العشرين. ومن المؤكد أن الحبيب علي بن حسن، الذي توفي عام 1172هـ، قد ألّف (سفينة البضائع) في السنوات الأربع الأخيرة من عمره؛ فهو يشير فيها إلى أحداث عام 1169هـ. وكان حينها لا يكتب بيده بل يملي ما يؤلفه. وربما كان أسلوب التأليف بالإملاء الشفاهي من أسباب ارتفاع عدد المفردات والتراكيب العامية في (سفينة البضائع وضمينة الضوائع).
ومن المعلوم أن اللهجة العامية تتجسد في الغالب في انزياحات معنوية أو شكلية/ صوتية (أو كلاهما معًا) عن اللغة الفصحى. ومن الواضح أن الحبيب علي بن حسن قد استخدم في نصه، الذي يتضمن حشدًا كبيرًا من الكلمات والتراكيب العامية، مختلف مظاهر انزياحات اللهجة العامية الحضرمية عن اللغة العربية الفصحى، وذلك على المستويين الشكلي (أو الصوتي) والمعنوي. وقبل أن نورد بعض الأمثلة على ذلك نؤكد أن علينا، عند دراسة العلاقة بين العامية واللغة الفصحى، لا سيما في القرون المنصرمة، أن نتحلى بكثير من الحذر والحيطة؛ إذ تبيَّن لنا أن هناك مفردات ضمنها المؤلف نصه، واعتقدنا أن ذلك كان من قبيل الاستخدام العامي، لكننا فوجئنا أنها كلمات فصحى واستخدمت في معناها المعجمي الفصيح. ففي صفحة 26 مثلًا، استخدم المؤلف الفعل (زحف) بمعنى (تَعِب، أو أُنْهِك)، وهو معناه الأول في لهجة حضرموت، ومن خلال الرجوع إلى المعاجم تبيّن لنا أن معناه المعجمي ليس التقدم إلى الأمام بدون أرجل أو بأرجل بل تعب أو أصابه التعب. والأمر نفسه ينطبق على كلمة (المثار) التي استخدمت في صفحة 24 بمعنى النهوض أو الاستيقاظ، وكلمة (السترة) التي استخدمت بمعنى الجدار في صفحة 43، وكلمة (عارضته) بمعنى قابلته في صفحة 47، و(عبرت) بمعنى مضت أو مرّت في صفحة 38، و(الخلاء) بمعنى المكان الواسع الخالي من العمران في صفحة 21. ولا شك أن ارتفاع عدد هذا النوع من الكلمات يبيّن أن عامية حضرموت (ربما مثل غيرها من اللهجات العربية العامية) قد احتفظت بثروة هائلة من الكلمات الفصيحة التي اختفت كليًا أو جزئيًا اليوم من الاستخدام الفصيح أو الكتابي.
وفي (سفينة البضائع) يرتبط الانزياح العامي المعنوي لبعض الكلمات الفصحى بالموقع الجغرافي لوادي حضرموت ووادي دوعن تحديدًا، مثال على ذلك استخدام كلمة (نجدي) بمعنى شمالي، أي باتجاه نجد، وكلمة (بحري) بمعنى جنوبي أي باتجاه البحر، و(علوَى) بمعنى أعلى وادي حضرموت و(حدرَى) أسفله.
ومن ناحية أخرى، في أثناء قراءتنا لنص (سفينة البضائع)، تبيّن لنا أن المؤلف قد استخدم الصيغة الشكلية/ الصوتية العامية الحضرمية لكثير من مفردات اللغة العربية الفصحى دون إدخال أي إضافة أو تعديل في معناها المعجمي. فهو استخدم، مثلًا في صفحة 22 (ضيفان) في مكان الفصحى ضيوف، وفي صفحة 25 (المتهوم) في مكان المتهم، وفي صفحة 31 (جفاوة) في مكان جفاء، وفي صفحة 44 (نجوّب) في مكان نجيب، وفي صفحة 123 (اصطاب) في مكان أصيب.
وهناك بعض الكلمات التي استخدمها الحبيب علي بن حسن مع انزياح عامي في المستويين الشكلي/ الصوتي والمعنوي؛ مثل (زوَّلوه) في مكان أزالوه، بمعنى: نفوه أو أبعدوه من بلاده، وذلك في صفحة 57، وكلمة (لهينا) في مكان لهونا وبمعنى وجدنا متسعًا من الوقت، وذلك حينما كتب في صفحة 31 »فقلت في نفسي ما لهينا نأكله مخبوز مفتوت فكيف نخرج إلى الخلاء نصربه؟«. ولن يكون من السهولة بمكان الجزم بأن استخدام كلمة (ريح) بمعنى رائحة مجرد انزياح معنوي لكلمة (ريح) نفسها، أو أنها انزياح صوتي لكلمة (رائحة).
ومن المؤكد أن (سفينة البضائع) تتضمن عددًا كبيرًا من الكلمات الخاصة باللهجة العامية الحضرمية (وربما بعض اللهجات المجاورة لها)، التي سيصعب تحديد أصلها بسبب غياب المعجم العربي التاريخي. من تلك الكلمات: في صفحة 8 (الصيم) بمعنى التمر المهروس الذي نُزع منه النوى، وفي صفحة 21 (الفخطة) وهي مسحوق لقاح النخل، وفي صفحة 64 (الجابية) بمعنى بركة الماء، وفي صفحة 37 (العُطُب) بمعنى القطن، و(المسدرة) بمعنى القميص أو الشميز.
وفي أحيان نادرة جدًّا، وبسبب غياب الحقل الدلالي والقرينة الصوتية اللتين يمكن أن يرشدا المتلقي غير الحضرمي إلى معنى بعض الكلمات العامية حبّذ المؤلف شرح معنى بعض تلك الكلمات في النص مباشرة. مثال على ذلك كلمة (الضيقة) التي وردت في قوله: »إني بنيت دارًا على عادة الصبيان، وجعلتها بسقيفتها، أي الضيقة التي يقال لها الدهليز، وأوضعتها [مستودعاتها]، ورقادها [درجها]، فلما أتممت مبناها وأخذت في محضها [تلبيسها بالطين]..«. ص23.
وعلى الرغم من أن هجرة الحضارم إلى الهند وجزر الأرخبيل الهندي وسواحل شرق إفريقيا قد بدأت قبل القرن الثاني عشر للهجرة (الثامن عشر للميلاد) [ذكر المؤلف أن أخاه أحمد قد هاجر إلى الهند]، فلا يبدو أن تلك الهجرة قد أفرزت منذ ذلك الحين دخول عدد كبير من الكلمات المولدة، الهندية والجاوية أو الملايوية، إلى عامية حضرموت كما هو الحال اليوم. لهذا ظلت الكلمات الأعجمية أو المولدة في نص (سفينة البضائع) نادرة جدًّا. وقد حرص الحبيب علي بن حسن على شرح بعضها في نصه، مثلًا عندما يتحدث عن المعدات الموسيقية المستخدمة في تلك الحقبة يورد كلمة (القنبوس) مع مرادفها في السياق الآتي: »وكنت ربما أحضر عند الوالد الحسين إذا كان عنده بعض المُسمِّعين من الرجال أو النساء، على القصبة والطبول أو على العود الذي يقال له القنبوس، والمزهر«. ص22.
وحاول المؤلف أن يفسر أيضًا استخدام كلمة (الجودري)، لتسمية الفراش القطني الرفيع، التي كانت [وربما ما تزال] تستخدم في بعض لهجات الجزيرة العربية الأخرى لا سيما في الحجاز، والأرجح أن أصلها تركستاني، على النحو الآتي: »وأجده قد خبأ لي الفطور تحت مصلاه؛ وهو طنفس من البز الأبيض البلدي، محشو من العطب، وهو الجودري بلغة أهل حضرموت، لكن الجودري هو الذي يُرنّق بأحمر وأسود وأخضر وأصفر، وأصله أبيض، فأشتق له الاسم، أظن أنه يماثل وجه صاحب الجدري الذي تبقى آثاره في وجهه.. «. ص38.
واستخدم المؤلف في الفقرة الأولى من نص (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) كلمة (كواميخ)، وهي صيغة عامية لكلمة كوامخ، جمع كامخ، التي دخلت العربية من اللغة الفارسية بمعنى إِدَامٌ، وَيُخَصُّ بِهِ أَنْوَاعُ مُخَلَّلاَتِ الطَّعَامِ ومُشَهِّيَاتِهِ.
ب: أسلوب السجع ومزج النثر بالشعر:
أ- أسلوب السجع:
ظل استخدام السجع والمحسنات البديعية سمة ملازمة للنثر العربي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وحتى نهاية العصر العباسي كان يأتي في الغالب عفويًا وغير متكلف، وبعد ذلك شرع بعض الكُتّاب في المبالغة في استخدامه وتعقيده، وقرنوه باستخدام أنواع مركبة من المحسنات اللفظية والمعنوية، والألغاز اللغوية، وليتمكنوا من تنميقه اضطروا إلى استعمال كثير من الكلمات الجزلة والغريبة.
ومن المعلوم أن أسلوب السجع الذي ارتبط أساسًا بفنَّي الخطابة والوعظ اللذين يجعلان من إيقاع الكلام وسيلة للإقناع. وفي اعتقادنا أن الطبيعة السردية لفن السيرة الذاتية قد فرضت على الحبيب علي بن حسن استخدام أسلوب النثر المرسل في معظم أجزاء نصه المكرس لسرد أحداث حياته، وسبق أن لمسنا من خلال الاقتباسات الكثيرة التي أوردناها في هذه الدراسة من متن (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) أن المؤلف لم يستخدم أسلوب السجع إلا في فقرات محدودة وبشكل عفوي. كما أن السجع في نص (سفينة البضائع وضمينة الضوائع) لم يرتبط باللجوء إلى الغريب أو الموحش من الكلمات، ويمكننا أن نلمس ذلك في المثال الآتي: »ثم إنهم آخر الوقت، لمّا أشرقت أنواره، وذاعت بالخير أخباره، تزامروا عليه وأخرجوه من إمامة المسجد حسدًا لنا وبغيًا علينا، وعدوانًا وظلمًا من غير موجب، وما ذاك في الحقيقة إلا [أذى] لنا وليس له، ولقد كابد أسلافنا من مثل هؤلاء أعظم مما كابدناه نحن من بن سلمة ومن غيره، فلنا بهم أسوة وفيهم قدوة، إنها سنة الله التي خلت في عباده. ولن تجد لسنة الله تبديلًا. ثم إنه والعياذ بالله في آخر أمره ظهر منه الارتداد، وترك الامتثال وخلع ربقة الوداد، ودخل في زمرة الحساد، وغمرة أهل العناد، وذلك مكتوب في سابق علم الله المقدر ما يشاء على عباده من إشقاء وإسعاد، أو تقرب وإبعاد، فأدبر عنا وترك الإقبال علينا. ثم إنهم بعد ذلك أحبوه وأرجعوه إلى وظيفة المسجد لما تحققوا من تركه لنا وتركنا له. ثم كان آخر أمرهم معه أن أخرجوه وزوّلوه [نفوه]. والعياذ بالله من أهل تالي الزمان، الذين لا خير فيهم، ولا أمير لمن يستكفيهم الله. وهو السميع العليم«. ص56- 58.
وتماشيًا مع عادات الكتابة في القرون المتأخرة استخدم الحبيب علي بن حسن السجع والمحسنات البديعية في العنوان الذي اختاره لنص سيرته الذاتية (سفينة البضائع وضمينة الضوائع)، وكذلك في عناوين جميع مؤلفاته الأخرى، مثل: (القرطاس في مناقب الحبيب عمر العطاس)، و(المقصد إلى شواهد المشهد)، و(مزاج التسنيم في حكم لقمان الحكيم)، و(قلائد الحسان وفرائد اللسان).
ب- مزج النثر بالشعر:
لقد أكد فيليب لوجون، في نصه المرجعي ((L’autobiographie، أن السيرة الذاتية سردٌ نثري استعادي، ونحن هنا نسلم مع فيليب لوجون أن معظم نصوص السيرة الذاتية، القديمة والحديثة، تعتمد السرد والنثر. ومع ذلك هناك عددٌ من السير الذاتية كُتِبت شعرًا، منها سيرة الشاعر الفرنسي الكبير فيكتور هوجو الذي يقدم ديوانه الرئيس (التأملات) على أنه سيرتُه الذاتية. وفي الأدب العربي كتب محمود درويش ملامح من سيرته الذاتية في أربعة من مؤلفاته، هي: (يوميات الحزن العادي)، و(ذاكرة للنسيان)، و(في حضرة الغياب)، و(أثر الفراشة)، وقد مزج في بعضها الشعر بالنثر. ونعثر على الظاهرة نفسها عند الشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح، الذي منذ بداية هذه الألفية شرع في نشر سلسلة من النصوص تحمل كلها في عنوانها كلمة كتاب، منها: (كتاب القرية)، و(كتاب الأصدقاء)، و(كتاب صنعاء)، وتمزج جميعها بين الشعر والنثر، ويعترف المقالح أنه تناول فيها سيرته الذاتية. وفعل ذلك قبلهم كلهم الحبيب علي بن حسن العطاس، الذي -كما رأينا- ولع بالشعر منذ نعومة أظافره وحفظه قبل أن يحفظ القرآن، في سيرته الذاتية التي ضمنها عددًا من أبياته وقصائده.
والسؤال الذي يهمنا هنا هو: لماذا ضمّن الحبيب علي بن حسن سيرته الذاتية بعضًا من شعره؟
ونعتقد أن الحبيب علي بن حسن لم يلجأ للشعر سعيًا لاستعراض قدرته على النظم أو لتزيين نصه، بل نرى أنه كان يرمي من خلاله للتعبير عن باطنه وآلامه ومعاناته وانفعالاته، وكذلك ليدافع عن نفسه من حساده وأعدائه بطريقة هادئة. فمن المعلوم أن الشعر أنسب من النثر للإفصاح عن مختلف الانفعالات الشعورية العميقة بما فيها: الغضب والحب والكراهية. ويبدو لنا أن مؤلف (سفينة البضائع وضمينة الضوائع)، رغم ما يتميز به من جرأة، قد عبّر في شعره عن بعض المواقف التي لم يكن ليستطيع تناولها نثرًا. وقد رأى دويت راينولدز أن الشعر في نصوص السيرة الذاتية العربية القديمة »كان يعمل كشفرة مقبولة للتعبير عن أشياء قد لا تقبل ثقافيًا إذا تم التعبير عنها بلغة أو أفعال واضحة. وإذ إنه من غير المناسب أن يفقد الإنسان السيطرة على انفعالاته، فقد كان التعبير عن المشاعر المهتاجة نفسها في النظم يقدم بديلًا مقنعًا من الناحية الاجتماعية«، (ترجمة النفس: السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم، ص142).
وقد اعترف الحبيب علي بن حسن نفسه بذلك في نصه، وذلك في تقديمه لإحدى قصائده الشعبية التي ضمنها سيرته الذاتية، حيث كتب: »اعلم أن من جملة ما نقوّي به جاش النفس ونسلّيها ونعزّيها به إذا ورد علينا الأذى، الذي هو من المضرات والقذى، نظم الأبيات والحِكَم المُسلِّيات، حتى أن الحبيب عمر البار لما سمع قولي المار في أول هذا المضمار، حيث أقول من الأشعار:
وفررت من بلدي فرارًا منهمُ * * فوجدتهم خُلِقوا بكل بلادِ
قال قولك هذا ينسِّم عليك، وقد صدق، فمن جملة ذلك قولي حين رأيت إدبار وانفضاض بعض من حولي مع الدين واللين المأمور به أفاضل النبيين:
بني مغراه قلبي وُحِل يا أهل المعاني * * وصبري من شغوبي كمل والجسم ضاني
وفكري حار في وقتنا وقت الشواني * * من صاحبته وبالغت في وده جفاني
ومن شنفت له كاس حلوا صرف هاني * * جنا لي في الجزاء من حدج خس المجاني«.
وتحدث الحبيب علي بن حسن كذلك عن علاقته المتوترة بأقربائه في قصيدة أخرى له قال فيها:
إن شاهدوا حسنة أرخوا دونها الأستـار
وإن شاهدوا سيئة أبدوها على الحضـار
وإن شاهدوا نعمة أذكوا من حسدهم نار
دائـم وحـذف البـلاء منهـم إلــى مـثـواي
ولا تجينـا المصائـب غـيـر مــن قـربـاي
وفي قصيدة أخرى طويلة ينفعل ويفضح سلوك أقربائه ويسرد هجرته إلى الهجرين قائلًا:
قل للمغني جوابك من علـي بـن حسـن يا مرحـبـا بـالـذي هــو للـقـوافـي لـحــن
أبيـات حلـوات والسـامـع لـهـا ما فـطـن يذكر حريضة وعنـده مـن قداهـا شجـن
ويقول في قصيدة أخرى طويلة:
ولو كان يقدر قريب النسب * * يوالي قريبه رضي واستكان
ولكن إذا الله عليهم غلب * * غدوا يطعنونك بحد السنان
يودون من غيظهم والغضاب * * عدمك أو مسيرك إلى أقصى مكان
ص109.
وينفس الحبيب علي بن حسن عن الهموم التي سببها له تقلب أصدقائه وانقلابهم ضده في قصيدة طويلة، يقول فيها:
تعجبت يا ناس حد العجب من الكون ذي بالعجائب ملان
كثير المكاره قليل الطرب كثير المساوي قليل الحسان
إذا ما طلع ذا علي ذا غرب ومهما بعد ذا ترى ذاك دان
بتقدير من قد علا واحتجب وقدر ودبر وما شاء كان
وساعات بالعسر تأتي الكرب وساعات باليسر يأتي الأمان
جعل فتنة البعض من بعض صب ليعلم بها صبرنا يا فلان
وكم من صديق عدو انقلب وكم من عدو قسا ثم لان
فجل في تصاريف حال العرب وفند وسلم تهون الحزان
ولا تجعل إن حد لنفسه وهب ولافادها من قضى الله كنان
وما رأته عينك من الله وجب من الزين والشين في كل شان
خلق لك شواني وفيهم كلب يريدون ضرك على كل آن
يودون لو كنت وسط اللهب ويرضون لو تندرج في الدمان