شخصيات
حسن أحمد باجوه الجوهي
إن الشعر العامي يتمتع بمزايا، ويختص بخصائص، جعلت منه الوريث الشرعي للشعر الفصيح، ولذلك أصبح هذا الشعر محط اهتمام الدارسين في التراث العربي. وفي دراستنا هذه سنتحدث عن شاعر عامي من أبناء ريدة الجوهيين ألا وهو الشاعر سعيد عبدالله باجوه الجوهي، الذي خلف لنا إرثًا شعريًا على قلته غير أنه يثبت لنا وبما لا يدع مجالًا للشك أننا أمام شاعر جميل وحكيم، فقد أصبحت غالب قصائده التي قالها أشبه بالتراث؛ فالكل ينسبها إلى نفسه، وبعضهم ينسبها إلى شعراء آخرين على مستوى محافظة حضرموت، ولعل ادعاء عدد كبير من الشعراء بأحقية هذه القصائد دليل قاطع على شاعرية هذا الرجل وإبداعه، لكن لم يبق من شعره سوى الشيء القليل جدًّا، وهذا القليل هو على فن واحد من الفنون الشعرية التي تشتهر بها حضرموت، ألا وهو الزامل الشعبي.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 12 .. ص 98
رابط العدد 12 : اضغط هنا
وسنقوم في هذا المقال بنشر هذا النتاج القليل لهذا الشاعر، ونبدأ بإحدى قصائده الشهيرة، التي كانت تفتتح بها (إذاعة المكلا) أحد برامجها المتعلقة بالشعر الشعبي هذه القصيدة هي:
الهرج له عدله وله ميزان
من قبل ما يخرج من الحلقوم
وان قد خرج عتبه على الإنسان
مثل الظرف لاقارب التبشوم
يأتي هذا المقال من أجل إنصاف هذا الشاعر، والتعريف به، ومن أجل إزاحة الغبار عن هذه الجواهر الثمينة، التي بالرغم من تقادم الزمن عليها فإنها ما زالت تحتفظ بجمالها ورونقها، ومن أجل حفظها من الضياع والنسيان. فالذين يحفظون قصائد الشاعر باجوه غالبهم قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، ولم يبق منهم إلا قلة قليلة يمكن عدهم بأصابع اليد الواحدة.
للشاعر باجوه العديد من القصائد الذائعة الصيت؛ فقد أصبحت بعض قصائده أشبه بالأمثلة التي يتم ترديدها بين الناس، فإلى يومنا هذا ما زالت مستمرة وبخاصة في مديرية ساه لارتباط الشاعر القوي بها وبأهلها الذين تربطهم به علاقات جيدة. وهذا أول قصيدة يتم بها افتتاح الزامل قصيدته التي يقول فيها:
يا لغمرة اتجلي من الجلبوب
بحزر طلوع الفجر من مبداه
باشوف بن صبره وحيد النوب
والزاحمة لي هي تقابل ساه
وله العديد من المساجلات مع صديقه الشاعر بن عمر صالح باوزير نذكر على سبيل المثال لا الحصر هذه المساجلة التي حصلت في ريدة الجوهيين عندما قام أحد أفراد العائلة التي تتسلم زعامة القبيلة (التقدمة) بإزاحة ابن عمه من هذه الزعامة وتنصيب نفسه بديلًا عنه، وقد انقسم الجوهيون على قسمين: أحدهما مؤيد للمقدم الجديد، وكان من ضمن المؤيدين الشاعر بن عمر صالح باوزير. والآخر معارض، وكان من ضمن المعارضين الشاعر سعيد باجوه الجوهي. وبحسب العادة المتبعة لدى القبائل حينها من إجراء زامل تنصيب للمقدم الجديد، فقد قاموا بزامل احتفالًا بتنصيب المقدم الجديد، وقد افتتح الزامل الشاعر بن عمر صالح باوزير مفاخرًا ومشجعًا للمقدم الجديد ومتوعدًا كل من يعارضه بالفشل قائلًا:
اليوم حللنا حصاة الواقعة
حلت وقدها تركمة فوق الجبل
من بايزاوعها حرام إن زاعها
يا طارحين الساس من فوق الحذل
فانبرى له الشاعر سعيد باجوه من بين الصفوف قائلًا:
عالشمس غمره يا أهل ليات الظرف
والشهر عاده ما تبين لي وهل
فرعون ما يصلح أمام الشافعي
وإن حد يجادلني يسن مني جدل
ولم يقتنع الشاعر بالرد الأول فأردف قائلًا:
الحكم يرجع ليك يا قاضي زبيد
الحكم حكمك والشريعة والقضاة
شهرين للشيطان يفعل ما يريد
ومن عمل مثقال ذره با يراه
وقد صدقت توقعات الشاعر باجوه، فبعد مرور شهرين على تنصيب المقدم الجديد تم الاتفاق بين الجوهيين على أن تعود الأمور إلى وضعها السابق بإعادة التقدمة إلى المقدم السابق.
ومن قصائده التي تصدق فيها توقعاته أو ما يسمى (بالتوقيه) بالمصطلح العامي، قصيدته التي توقع فيها موت ابن أخيه الثاني الذي ذهب في قطار إلى حضرموت، وتعرض القطار لهجوم من قبل عدد من قطاع الطرق، وقتل فيها ابن أخيه الثاني الذي لحق بأخيه الذي توفي قبله بعام، وقد توقع الشاعر ذلك وأعلن عنه في إحدى قصائده في أحد الزوامل في منطقته قبل أن يصل الخبر إلى منطقته حيث يقول فيها:
العام يوسف ضاع عايعقوب
وذا السنه يعقوب ضائع
وش عادني باقول في المكتوب
بلي نفش رووس الفرائع
ومعنى (بلي) هي الأبل.
والذي يميز قصائد هذا الشاعر ويطغى عليها الرمزية والصور والتشابيه المستوحاة من بيئته البدوية التي عاشها وذاق حلوها ومُرَّها.
وقد وقعت في حياة الشاعر حادثة قتل لأحد أفراد القبائل المجاورة؛ حيث قامت جماعة بقتله ورمي جثته فوق إحدى الأشجار ولاذوا بالفرار، وعثر أهل القتيل على ابنهم مقتولًا، فلم يتهموا به أحدًا، واستمروا بالبحث عن القاتل ستة أشهر، وبعدها عثروا على غريمهم، وقاموا بقتله. ففي إحدى الزوامل التي أقيمت في ريدة الجوهيين تطرق سعيد باجوه لهذا الموضوع، ولكن برمزية رائعة تثبت لنا براعته وقدرته الشعرية حيث يقول:
ستة شهر حداد يخدم في نشم
قلمه ومعول حطها راس الصفاه
لا مد شي قادي ولا قدى لحد
لما نبش من حيد بن صبره حصاه
ومن قصائده التي تزخر بالحكمة والنصح والرمزية أيضًا قوله:
من قارب المجروب يجرب
والطير يعدي من يجي له
بانوسقك يا لهيج لَبْيَضْ
في خف والَّا في ثقيلة
وقوله أيضًا:
خذها نصيحة ما بها تكذيب
يا لاطف الطف من غلام الدار
وكلاب غيضه ما طردن الذيب
ينبحن والله عالمحب والجار
ومن الصور الشعرية قوله:
الهرج له عدله وله ميزان
من قبل ما يخرج من الحلقوم
وان قد خرج عتبه على الإنسان
مثل الظرف لاقارب التبشوم
فقوله (مثل الظرف لاقارب التبشوم) تشبيه بليغ؛ حيث شبه خروج الكلمة السيئة من لسان الإنسان بالظرف، وهو خيط يصنع من شجرة الظرف، ويستخدم لتوصيل النار إلى البارود، الذي يوضع في التبشوم، والذي يقوم بالانفجار بمجرد اقترابه من النار، والعلاقة بين طرفي التشبيه قوية ومتينة.
وللحديث عن هذا الشاعر بقية.