أضواء
محمد علوي عبدالرحمن باهارون
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 13 .. ص 10
رابط العدد 13 : اضغط هنا
مقدمة:
يعد القرنان الحادي عشر والثاني عشر من القرون التي امتدت اليها آثار الحركة العلمية في حضرموت في القرن العاشر الهجري، وظهر على الساحة العلمية العشرات من العلماء الفطاحلة في شتى فنون المعرفة الإنسانية.
ويعد الإمام المجدد عبدالله بن علوي الحداد (1044- 1132هـ) من أبرز الحضارمة ظهورًا في تلك الحقبة، وكان مشهورًا في أقطار العالم أكثر من شهرته في بلده وإقليمه الحضرمي، وهو من أشهر علماء العلويين الحضارمة، كان له دور في التعليم والإرشاد والإصلاح بين القبائل، وكان من أبرز العلماء الذين واجهوا الأفكار الإباضية والزيدية التي أرادت أن تجتاح حضرموت، وتجد لها أرضًا خصبة على ترابها، ولكن ذلك الإمام بعلمه وتقواه وورعه استطاع أن يصرف الحضارمة عنهم بما ألفه من مؤلفات علمية قيمة ناقش في بعضها تلك الأفكار العقدية بفكر العالم الواعي ولسان المرشد الداعي حتى استحق بأن يلقب بـ(شيخ الإسلام، وقطب الدعوة والإرشاد).
وفي هذه الدراسة نبسط الحديث عن أهم آثاره العلمية والاجتماعية، مستعرضين جهوده في ذلك، وجهود تلاميذه الذين ازدانت بهم الديار الحضرمية والدوعنية والساحلية بما قاموا به من جهود في القضاء والتعليم والإرشاد والإمامة والخطابة والإفادة.
وقد جاءت هذه الدراسة في ثلاثة مباحث، وخاتمة، على النحو الآتي:
أولًا: الإمام الحداد ونزر يسير من حياته وأثره الدعوي في حضرموت:
كان ميلاده سنة 1044هـ، بمنطقة (السبير) من ضواحي مدينة تريم، ونشأ بها تحت رعاية والده السيد علوي بن محمد الحداد، وأمه الشريفة سلمى بنت عيدروس بن أحمد الحبشي، مع إخوته عمر وحامد وأحمد في بيئة علمية لا تنجب إلا فحول الرجال، وقد تحدث عنه مترجموه بأنه كان صاحب ذكاء وقاد وفطنة، وله المجاهدات العظيمة، وهو في سن الصبا، وفوق ذلك كان كفيفًا فقد بصره بمرض الجدري، وهو ابن أربع سنوات، ولكن عوضه الله عنه بقوة الحافظة والذكاء والفطنة وبنور البصيرة.
في ربوع الغناء تريم وبين مساجدها وزواياها المتعددة شب وترعرع الإمام الحداد تحفه العناية الإلهية، في البكرة والعشية، وقد تلقى علمه على عدد من شيوخ تريم في تلك الحقبة المباركة.
وتظهره الأيام علمًا من الأعلام متصدرًا للتدريس في مدينة تريم ومتنقلًا بين مناطق حضرموت للدعوة إلى الله بقوله وفعله وقلمه، ووفد إليه الطلاب من شتى مناطق الجزيرة العربية وغيرها للكرع من معينه الرقراق، ولم يستفد منه من أبناء تريم إلا أشخاص معدودون.
ورغم شهرته العلمية في الآفاق إلا أنه كان مهضومًا في مجتمعه لا يرى له أي فضل حتى كانوا يسمونه بالعيْوَرْ أي الأعمى، ولكنه لم يكترث لذلك فقد نصح وعلّم وأرشد حتى استحق أن يطلق عليه (قطب الدعوة والإرشاد)، وما زالت كتبه تقرأ وتتداول مثبتة للناس أنه جدير بذلك اللقب، فقد انتشرت كتبه العلمية ليس في حضرموت فقط بل في شتى مناطق العالم في إفريقيا وإندونيسيا والهند، وترجمت إلى اللغات الأعجمية كالإندونيسية والإفريقية والإنجليزية وغيرها، وخصص لها في مكتبات أوروبا وبالتحديد في باريس جناحًا خاصًا بها مطبوعة ومخطوطة كما أخبرني شيخنا الداعية السيد حسين بن عبدالقادر بلفقيه رحمه الله تعالى.
كما قام الإمام الحداد بتثبيت القواعد وترسيخها للطريقة العلوية الحضرمية التي عناها بقوله:
والزم كتاب الله واتبع سنة واقتد هداك الله بالأسلاف
أهل اليقين لعينه ولحقه وصلوا وثم جواهر الأصداف
راح اليقين أعز مشروب لنا فاشرب وطب واسكر بخير سلاف
هذا شراب القوم سادتنا وقد أخطا الطريقة من يقل بخلاف
فقد قام بترتيب أدعية خاصة تقرأ بعد المغرب والعشاء وتعرف بـ(راتب الحداد)، وهو مجموعة من الأذكار والأدعية النبوية والتوسل بأسماء الله الحسنى استخلصها من كتب السنة المتعددة، وصاغها في أسلوب تصوفي، انتشرت في شتى بلاد العالم العربي والإسلامي، وما زالت تقرأ إلى اليوم.
ومنها أيضًا (الورد اللطيف)، الذي يقرأ بعد صلاة الفجر والعصر، و(حزب النصر)، الذي يقرأ بعد الظهر، وغيرها من الأدعية والأوراد.
وكانت وفاة الإمام الحداد بتريم في ذي القعدة سنة 1132هـ، عن عمر ناهز التسعين عامًا، وقد مضى من وفاته ثلاثمائة عام وما زال ذكره يتردد على الألسنة وكتبه تقرأ في المجالس، وقصائده تنشد في المحافل والمجالس، وما ذاك إلا لإخلاصه في تأليفها ونظمها([1]).
ترجم للإمام الحداد جميع من تحدث عن حضرموت في القرن الثاني عشر، ومنهم تلميذه النجيب العلامة الحبيب أحمد بن زين الحبشي، ومما قاله في ترجمته:
»كان في العلوم والمعارف البحر الذي لا ساحل له، بلغ رتبة الاجتهاد في علم الإسلام والإيمان والإحسان، وهو المجدد في هذه العلوم لأهل هذه الأزمان، وذلك ظاهر من حيث طريق الظاهر جلي، ومن حيث طريق الباطن يعرفه أهل ذلك المقام العلي… وكان رضي الله عنه أخذ من الاستقامة والاتباع لجده المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحظ الأوفر، والنصيب الأكبر، وكان آخذًا بالعفو آمرًا بالعرف معرضًا عن الجاهلين، وقد وقع له من الوقائع في العمل بهذه الأخلاق الشريفة ما لا ينضبط، وقد رأيت منه من ذلك الشيء الكثير مع تأخر انتسابي إليه وصحبتي له… وكان في الزهد في الدنيا والتوكل على الله في أعلى غاياتها وأسنى نهاياتها، ولا يبالي بإقبال الدنيا وإدبارها، بل يبادر بالإنفاق في الحال من غير إمهال، وإذا ظهر على الناس قحط زاد في الإنفاق وتوسع في إدخال الإرفاق.. وكان في رفضه لشهوات الدنيا بالمقام العالي، وكان شديد الرجاء في الله تعالى والخوف منه سبحانه غزير الدمعة، وهذا مقتضى التحقق بمقام محبة الله تعالى، إذ من لازمه الخوف والإشفاق، وإلا فإني سمعته كثيرًا يقول: أغلب أحوالنا صدق الرجاء وحسن الظن في الله تعالى بالنسبة إلينا وإلى جميع المسلمين، لكن أعطينا لسان الخوف رحمة بالخلق، إذ هم كثيرو الاغترار بالملك الجبار.. وكان يتكلم على الأحاديث النبوية بالكلام الحسن العجاب مما لا يوجد في كتاب، وكذا الآيات القرآنية من حيث العلوم الظاهر والفهوم اللدنية مما تقر به العيون، ولا وقع في الأفكار والظنون، من السر المصون، والعلم المضنون به على أهل العقول والظنون. وكان في العبادة والمجاهدة مقدم فرسانها لم يعرف أنه صلى منفردًا، ولا ترك قيام الليل« ([2]).
ويقول عنه الأستاذ المحقق محمد ضياء شهاب: نادرة الدهر وعلامة العصر، ذو الأعمال الجمة، والآراء البارزة الباقية، والآراء الحصيفة.. كان عابدًا مذ كان صغيرًا فصارت العبادة تخامر روحه، شغوفًا بمختلف العلوم، يميل إلى الأدب والشعر، وهكذا ما زالت ترتقي به معارفه، وتسمو به مداركه حتى أصبح لا يجارى ولا يشق له غبار، فبلغ رتبة الاجتهاد، ذا موهبة نادرة وعبقرية خلابة. ألف كتبًا كثيرة ما زالت إلى الآن منتشرة متداولة، طبع الكثير منها عدة طبعات، وانتفع به خلائق، سواء أكان انتفاعًا مباشرًا أم غير مباشر، كان قوي العارضة، متين الحجة، وتخرج على يديه الكثير من رجال العلم([3]).
ويقول عنه الأستاذ عمر أبوبكر باذيب في شرحه المختصر لراتبه الشهير: »«تصدر للدعوة إلى الله في بلده تريم وفي عموم القطر الحضرمي، وانتشرت دعوته الإرشادية وقيامه بنصرة السنة المحمدية في كثير من الأقطار، فاستفاد من تلك الدعوة المباركة الجم الغفير. وصلح مجتمعه كما صلح به غيره، وما ذاك إلا بتوفيق من الله سبحانه، لما كان عليه الإمام الحداد من ورع وتقوى وزهد، مع علم ومعرفة وعمل وحسن نية، مع صلاح اعتقاد وحسن ظن بالمسلمين.
اهتم كثيرًا بإصلاح مجتمعه حاكمًا ومحكومًا، عالمًا ومتعلمًا، وكان له في تبصير الجاهل بأمور دينه أسلوب حكيم ترى ذلك في كتبه الدعوية الإرشادية المنتشرة، حتى اشتهر بأسلوبه ذاك وأطلق عليه بحق (قطب الإرشاد).
ألف من الكتب النافعة الكثير، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط. وترجمت بعض كتبه النافعة إلى اللغات: الإنكليزية، والفرنسية، والملايوية، والإندونيسية، والسواحلية، والتركية، والأوردية (الهندية)([4]).
للإمام الحداد مجموعة من المؤلفات النثرية والنظمية التي بلغت الآفاق، وسارت بها الركبان، وانتشرت في البلدان، ومن تلك المؤلفات القيمة:
ويمتاز أسلوبه الكتابي في عباراته وجمله بل معانيه بقوة ورصانة وبلاغة ووضوح، وإذا كان معظم كتاب عصره وبلغاء زمنه قد يذهبون إلى السجع وينساقون مع المحسنات اللفظية ويرونها أقرب إلى القلوب وأعذب في السمع، فإن المترجم له قد جانب السجع المكلف، فهو قلما يجري على لسانه إلا ما يأتي عفوًا من القول، وجاءت به السليقة فمعظم همه في معنى ما يقول ليأخذ السامع إلى الغاية السامية من روح العبارة وسمو المعنى في أسلوب سهل ممتنع وألفاظ قريبة الأخذ. إذا شرح موضوعًا علميًا فصله بما يفهمه العامي كما يفهمه طالب العلم، ومع ذلك فهو يربأ بنفسه أن يترك العامي على جهله، والطالب المبتدئ في حيرته فقال: »وينبغي للشيخ والعالم إذا سأله مريده أو تلميذه عن شيء يضر علمه أو لا يألفه فهمه أن ينظر، فإن عرف من حال السائل أنه إن أخبره بعدم أهليته لا ينكسر قلبه انكسارًا يضره في دينه، ولا ينفر منه نفرة يعرض بها عن مطلوبه فليخبره، وإلا فلتنزل له في جوابه إلى حد علمه وفهمه«([5]).
وقد أثنى عليه وعلى مؤلفاته علماء حضرموت ومصر والحجاز وغيرها من الأقطار، يقول العلامة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء سابقًا في مقدمته لكتابه النصائح الدينية: »انتصب لتربية المريدين، وإرشاد السالكين، فقصده الناس من أكثر الأمصار، ونفع الله به في غالب الأقطار، وارتحل وتنقل في البلاد، للدعوة والإرشاد ونشر العلم بين العباد، وكان مؤلفًا واضحًا في عبارته، قويًّا في أسلوبه محققًا في بحثه، مدققًا في نقله، واضح الحجة، باهر المحجة، فياضًا في البيان، يدعم بحثه بآيات من القرآن وبالأحاديث النبوية، والأقوال المأثورة عن الأئمة، وينتزع من دخائل النفوس ووساوس الصدور كل شبهة، ويعالج كل نزعة، حتى لا يبقي مقالًا لقائل، ولا جوابًا لسائل« ([6]).
أولًا: دوره الإصلاحي في مجتمع حضرموت:
للإمام الحداد دور إصلاحي لا يستنكر في نشر الأمن والسلام والفضيلة بين المجتمع الحضرمي بشتى أطيافه، كان كثير الاهتمام بشؤون المجتمع عاملًا للإصلاح، يكاتب الأعيان والحكام والسلاطين، يرشد وينصح وينتقد ما عليه بعض الناس مما لا يرضي الله تعالى، كما ينتقد الجهلاء والمغرورين من أي طائفة أو طبقة كانوا، لا يسكت على كظمه بل ينتقد بعض المتصوفة الذين تخالف ظواهرهم الشرع الشريف، له آراء قيمة وجريئة أودعها كتبه ومكاتباته، وكثيرًا ما يوجه أعماله للإصلاح بين القبائل المسلحة المتخاصمة كتدخله في الإصلاح بين آل العمودي عندما احتدم النزاع ودخلوا في عراك مسلح. لم يكن السيد الحداد كذلك فقط، بل كان يرشد الزراع في شؤون الزراعة، وهو شخصيًا يملك مزارع ويربي الدواجن، هذا بجانب إكرامه للمحتاجين وسخائه للقاصدين والطلبة والأقارب، يربي الأيتام وينفق عليهم من ماله، بل يحث أرباب الأموال على الإنفاق على الفقراء والمشاريع الخيرية وتشييد المساجد والسقايات وغيرها([7]).
شارك الإمام الحداد مضطرًا في المجال السياسي من أجل وطنه وشعبه، رغمًا عن أنه مكفوف البصر، وليس في أيام شبابه فحسب بل في كهولته وشيخوخته، فكان يكتب توجيهات لبعض السلاطين الكثيريين كعمر بن علي بن عبدالله، ومحمد بن بدر، ولبعض معاونيهم.
وكان يشير عليهم في نواحي اجتماعية فيحترمون إشارته، ومن ذلك ما قرره السلطان من جمع الزكوات وتوزيعها، فأشار عليهم بترك ذلك ولم يزل بهم حتى ألفوه، وكان له مبررات في ذلك من أهمها عدم استعدادهم لوضع ذلك في موضعه الشرعي وجعلها أهم مورد لحكومة إسلامية في ميزانيتها ثم توزيعها بكميات كبيرة ومبالغ ضخمة تصرف في مجالات اقتصادية للمستحقين تحت إشراف حكومة رشيدة إلى آخر ما هنالك.
وكان قد خصص ابنه محمد للقيام بوساطات بالنيابة عنه بين القبائل وغيرهم للإصلاح بينهم، وأعده للدبلوماسية القبلية المحلية، ولما نشبت بين آل العمودي -وفيهم من يكاتبونه ويتصلون به للاستفتاء والاستشارة- نزاع مسلح تدخل بينهم الحداد، وأرسل ابنه المذكور للتوفيق بينهم فنجح، وقد زوج ابنه محمدًا عند قبيلة آل كثير، كما صاهر أحد بنيه الآخرين آل قصير التميميين، وكل هذا من أجل توثيق عرى المودة والإخاء بينه وبين القبائل المسلحة([8]).
وفي مكاتبات الإمام الحداد عدد من الرسائل التي كان يرسلها إلى سلاطين آل كثير مرشدًا ومنتقدًا وناصحًا لهم، ومنها إلى السلطان بدر بن عبدالله الكثيري رسالة جامعة تقع في (11 صفحة)، ابتدأها بسورة العصر، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم (الدين النصيحة)، أمره فيها أن يشكر الله على ما خوله من الملك والسلطان، وأن يبالغ في الشكر، ثم ذكره بقوله: »واعلم -أصلحك الله- أن الله إنما ولاك أمر عباده ومكنك في بلاده، ليختبرك فإن وجدك شاكرًا له على ما أولاك وعاملًا بطاعته فيما ولاك، متعك متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، وجمع لك بين ملكي الآخرة والدنيا، وإن وجدك غافلًا عن شكره وذاهلًا عن إقامة أمره، سلبك الملك العاجل، وحال بينك وبين الملك الآجل… والشكر الظاهر هو أن تكثر من الثناء على الله، وتعمل بكتابه وسنة رسوله، فيمن ولاك من عباده، فتحوط رعيتك بالنصيحة، وتعاملهم بالشفقة والرحمة، وتهتم لما يصلحهم، كاهتمامك بمصالح نفسك ومصالح بيتك، وتبالغ في تفقدهم، والتفتيش على ما فيه المصلحة لهم، فتنصر مظلومهم، وتغيث ملهوفهم، وتفك عانيهم وتصفح عن جانيهم، فإن الله تعالى سائلك عنهم« ([9]).
ومن مكاتبته للسلطان محمد بن بدر:
»عليكم بإضمار الخير، والعزم على العمل به في كل وقت، حسب الاستطاعة وتفقدوا أمور الرعية وانظروا في أحوالهم، وكفوا بعضهم عن ظلم بعض. وأنصفوا المظلوم وكونوا معه، حتى يستوفى من ظالمه، وافتحوا الباب وفرغوا السمع لكل من رفع مظلمة. الحذر الحذر من التغافل عن نصرة المظلوم؛ فإنها الخراب.
واصبروا على القيام بما كلفتم، والله عون لكم، وأهل طاعته معكم ما أنصفتم وعدلتم وأوصوا الذين وليتموهم جمع زكاة الفطر بالمسامحة والرفق، فإنهم ربما طلبوها ممن لا تجب عليه وضايقوه في ذلك وكذلك فرقوا منها في كل بلد ما تيسر على المستحقين ولو أمكن السكوت عن طلبها من المسلمين، لكان حسنًا وخيرًا، ولكن الخيرة فيما اختاره الله وقدره.
وعسى الله أن يفتح لكم أبوابًا من الرزق، الذي في خزائن رحمته يغنيكم به عن الرعية، وتقدرون به على التفرغ بالنظر فيما يصلحهم؛ وما ذلك على الله بعزيز.
وعليكم بالتسبب في حصول ذلك بالصبر الجميل، وأن تسيروا بالسيرة الحسنة؛ فإن الصبر أول والفتح والنصر بعده؛ ألم تسمع قول الله تعالى: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا] [الأعراف: 137]« ([10]).
ولما حاصر السلطان عمر بن جعفر الكثيري الذي نصحه الإمام الحداد بأن يضع يده في يد يافع في تدبير السلطنة وإصلاح شؤونها ورسل له رسالة إلى المشقاص، ولكنه أبى فهجم على تريم في شهر ربيع الأول سنة 1130هـ واحتل قليلًا من ديارها وحصر يافع في حصونهم، وصادر أموالهم، وطلب من الأهالي ما هو مدخر عندهم من ذخائر، وما تحت أيديهم من أموال يافع المحصورين، وبقي الحال كذلك. واشتدت الضائقة على الناس وعلى المحصورين، بل على الهاجم نفسه. ولم تأت جمادى الأولى إلا والسلطان يتطلب الرأي من عقلاء السادة. ويشير بطرف خفي إلى بغية التوسط. فكان مما أجابه به الإمام الحداد قوله: »وأما الرأي الذي ينبغي أن تأخذوا به ولعل يحصل في كل المطلوب أو بعضه فتنظر. فإن حصل سعي من أحد السادة وخصوصًا من آل الشيخ أبي بكر من غدوة أو بعده فلا بأس، وبعض الويل أهون من بعض. وإن لم يحصل سعي فجدوا على حملة واحدة فذلك أمكن وأحسن واجعلوها على أرباع البلد أو أثلاثها ويكون بعض المضايقة بالليل أولى. فإن القوم يرمون وهو قل ما يصيب بالليل. وإن وقعت الحملة مرتين أو ثلاثًا أو أربعًا فالإنسان يأخذ ويعطي ويصيب ويخطي، وهذا إن شاء الله مما يبيض الوجه عند القريب والبعيد، وأما التفرق من غير أن تصيب من المحارب شيئًا ففيه سواد الوجه وقبح الأحدوثة في هذه الجهة وفي غيرها، والحرب سجال والدهر والمشيئة لله والقدرة الظاهرة والقوة الغالبة، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
يرى الجبناء أن الجبن حزم و تلك خديعة الطبع اللئيم«([11]).
والجدير بالذكر أن الإمام الحداد كان من دعاة العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وكان ممن يميلون إلى توزيع كثير من أموال الأغنياء على الفقراء، وقد أثر عنه أنه يقول لو مكنني أهل حضرموت أو أغنياء حضرموت من أموالهم لأنفقت ثلثيها على المعوزين لعدم إخراجهم الزكاة، وكان دومًا يحمل الأغنياء تبعة (مسئولية) بخلهم على الفقراء وعدم مشاركتهم بأموالهم في المشاريع العامة، ونجد ذلك في كلامه المسمى (تثبيت الفؤاد بكلام القطب الحداد)، وكان يعكس صورة المجتمع الذي عاش فيه الحداد، ونجد خلاله كثيرًا من ميول الحداد إلى العدالة الاجتماعية في الناحية الاقتصادية بحيث تبذل كل المحاولات مع الأغنياء لتوجيه أموالهم نحو القيام بالمشاريع العامة وسد حاجة أهل الفاقة والعوز بصورة أوسع مما نجدها في كلام الدعاة الآخرين([12]).
ثانيًا: الإمام الحداد مواقفه وتصديه للفرق القادمة إلى حضرموت:
مما يذكر للإمام الحداد وتشهد له كتب التاريخ الحضرمي دوره الرائد وجهاده العلمي في مواجهة بعض الفرق التي اجتاحت حضرموت مثل الإباضية، والمعتزلة، والروافض، والخوارج، وقد ناقش أفكارهم وردها عليهم بأدلة الكتاب والسنة، وسعى في تثبيت عقيدة أهل السنة الجماعة في نفوس الحضارمة في مؤلفاته وترتيباته، ومنها راتبه الشهير الذي ما زال يتلى في الكثير من مساجد حضرموت واليمن وفي الهند وإفريقيا وغيرها، وسبب إملاء الإمام الحداد لهذا الراتب؛ هو خروج بعض فرق المبتدعة إلى حضرموت الذين يقولون بقول القدرية والمعتزلة، فطلب بعض الفضلاء منه، كما قال الشيخ عبدالله باسودان: »أن يملي شيئًا من الأذكار النبوية يلهج بها أهل الجهة، ويجتمعون عليها، ويجعل فيها شيئًا من العقائد الإيمانية ليحصنوا بذلك معتقدهم، خوفًا عليهم من تلبيس تلك الفرقة، ولا سيما على العوام. فأملى هذا الراتب واشتهر عند الخاص والعام، وكان ابتداء ترتيبه بالحاوي في مسجده سنة 1072هـ«. واشتهر هذا الراتب شهرة واسعة، وكانت تقرأ في مساجد حضرموت رواتب أخرى لمشايخ معروفين، فاكتفى الناس براتب الإمام الحداد وواظبوا على قراءته في مساجد مدن حضرموت وقراها، وبقية مدن اليمن، ويقرأ في الحجاز، وبعض بلدان نجد، وفي الأحساء، وفي قطر، وعُمان، وفي شرق إفريقيا في كينيا وزنجبار وغيرها، وفي شرق آسيا في إندونيسيا وماليزيا وغيرها، وفي الهند، وكذا في العراق، والشام، ومصر، والمغرب، وغيرها من البلدان([13]).
ويذكر العلامة فضل بن علوي مولى الدويلة (1240- 1319هـ) في كتابه أدلة الراتب إن سبب ترتيبه أن بعض الفضلاء من أهل حضرموت لما سمع بخروج الزيدية إلى الجهة الحضرمية في سنة 1071هـ طلب من سيدنا القطب عبد الله الحداد -نفعنا الله به- أن يملي شيئًا من الأذكار النبوية، يلهج بها أهل الجهة، ويجتمعون عليها، ويجعل فيها شيئًا من العقائد الإيمانية؛ ليحصنوا بذلك معتقدهم خوفًا عليه من تلبيس تلك الفرقة، ولا سيما على العوام؛ فأملى سيدنا هذا الراتب، واشتهر عند الخاص والعام([14]).
وقد بسط الإمام الحداد الحديث في مجموع كلامه المسمى (تثبيت الفؤاد) في مناقشة الفكر الزيدي فمن ذلك يقول متحدثًا عن الزيدية وقدومهم لحضرموت: وأول ما حصل الغَيار من مجيء الزيدية، وبقيت كالنار تزيد، ولا يدرون، وكان حصوله باختيار أهل الجهة واختيار الزيدية، وكان في الجهة عسف والزيدية مظهرين الدين، وما كانوا أهل دهاء، وأرادوا أن يولوا أحدًا منهم، فغلبوا عليهم لئلا يصير في الجهة ظلمان.. وحكاية هؤلاء في الجهة مثل حكاية بخت نَصَّر في بيت المقدس مع بني إسرائيل، إلا كل شيء على قدره، من حيث الزمان والمكان والناس، وإن كان الأمور لا بد فيها من التقدير، فلما حصلت منهم تقصيرات وذنوب، حصلت لهم العقوبات، وإن كان أولئك كفارًا، وفي تلك الأرض أولاد الأنبياء، فهؤلاء يقولون: لا إله إلا اللَّه بألسنتهم، وقلوبُهم خلية منها، وبين أظهرهم الأشراف، وأولئك قد جاسوا خلال الديار، فكذلك هؤلاء بل نزلوا في الديار، فزادوا عليهم بهذه… والدنيا كلها إلى نقص، ولكن قد ينقص في بعض الزمان الدين والدنيا، فانظر كيف صار أهل البدعة من الزيدية وأهل عمان في هذا الوقت خيرًا من أهل السنة، لما في أرضهم من الأمان، وشفقتِهم على الرعية([15]).
ويقول ناهيًا عن الكلام في الخلاف الذي حصل بين الصحابة الذي أثاروه في تلك الحقبة: وينبغي للإنسان أن لا يتعمق في مطالعة الكتب التي فيها ذكر ما وقع لسيدنا علي من الحروب كالجمل وصفّين وغير ذلك؛ لأنها توغر الصدور، ولا بد ما يمر عليه القليل منها في شيء من الكتب، وإن بُلِي العالِم بذلك واحتاج إلى النظر فيما ذكر، فليتوسط ولا يمعن، وإنما نظرنا فيه حين وصلت الزيدية إلى هذه الجهة، وسألونا عن أشياء فأجبناهم عنها، وكان في السائل منهم إنصاف، حتى إنه مال إلى ما قلناه، وَوَدَّ الإقامة عندنا، وكان من الزِّيَدَة بمكان، وكان متجردًا للأمر والنهي، وقالوا لنا: لأي شيء قَدَّمْتُم عَلَى أبيكم علي بن أبي طالب غيرَه، فقلنا لهم: هو الذي قدم غيره وفَضَّله على نفسه، فقدمناه نحن أيضًا وفضلناه لتقديمه له وتفضيله اقتداء به، فقالوا: إنما ذلك تقية، فقلنا: إنا لسنا مثله في قوته وشجاعته وصولته، فإذا فعل ذلك للتقية، فمن أقوى منه أو مثله في الشجاعة والقوة، فالتقية التي وسعته هو، تسعنا نحن أيضًا([16]).
ثم ذَكَر الصحابة وما جرى بينهم، وقال: الذين بايعوا سيدنا عليًّا من أهل الحديبية، نَحْو مائة رجل، ومن أهل بدر وأحد والمهاجرون والأنصار ولم يَتَخلف عن بيعته من الأنصار، سِوَى رجلين أحدهما كان صغيرًا، وأكثَرَ في ذلك.. ثم قال: إنما مرادنا من ذِكْر ذلك لِيَكُون في بالكم، فربما تسمعون في ما يأتي بأشياء من هذا القبيل، فلا تُنْكرونها وتَبْقون حسنين الظَّن بأصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، فالله الله بحسن الظن بالصحابة، نُوصيكم بذلك كثيرًا، استوصوا بحسن الظن فيهم، وما كان لنا مطالعة في ذلك إلا لما وَصَلوا الزيدية إلى الجهة، احتجنا إلى المطالعة فيها، فطالعنا بِقَدْر ما نحتاج إليه([17]).
وكان تلاميذه يستشيرونه في ما يقوم به الزيدية، بعد أن تلاشت سلطة سلاطين آل كثير، وأصبح الأمر والنهي في حضرموت لهم، من إلزام المؤذنين من زيادة (حي على خير العمل) في الأذان كما هو متواتر عنهم، وأن جميع المساجد التزمت إلا مؤذن مسجد بني علوي بتريم الشيخ عبدالله بن عمر بارضوان بافضل الذي رفض ذلك([18])، ومن الدعاء لإمامهم في خطبة الجمعة فمن مكاتبته لتلميذه الشيخ أحمد بن عبدالله باوزير قال له: »وما ذكرتم من أنكم كلفتم: أن تدعو لإمام الزيدية في الخطبة، فبعض الشر أهون من كله. وليس في الدعاء له كبير محظور. ولكن المحذور إعطاء الزكاة لهم، يحكمون فيها بخلاف حكم الله ورسوله، فينبغي بل يجب أن لا تسلم إليهم، إلا بشرط أن يضعوها حيث وضعها الله. فإذا علمت هذا فلا وجه لترك صلاة الجمعة بسبب الدعاء لأهل البدعة، بل لو أم الناس مبتدع لم يجز ترك الجمعة إلا بشروطها.
وقد كان السلف الصالح يصلون خلف ولاة الجور والفسق والابتداع. ويدعى لهم على المنابر في أيامهم، ولم ينقل لنا عن أحد منهم إنكار ذلك. نعم بلغنا عن بعضهم إنكار الدعاء للظالم بالبقاء والتمكين. قال: لأن من دعا له بذلك فقد أحب أن يعصى الله في أرضه. وأما الدعاء لهم بالصلاح والهداية فلا بأس به، بل هو مستحب.
ويكفي في سقوط الكراهة التي تترتب على الثناء والدعاء لهؤلاء، وجود الإكراه لأنا ما فعلنا مختارين بل مكرهين.
وعلى الجملة: فاستشراف هذه الطائفة الطاغية إلى هذه الجهة والتفاتهم إليها مفسدة عظيمة، وبلية عميمة، وداهية دهيا، ومصيبة عظمى. فيحق لكل مؤمن أن يتوجه إلى الله على نعت الاضطرار والافتقار في دفع شرورهم، ورد ما يصدر منهم من البغي عليهم، وانعطاف ما يجيء منهم من الأذى إليهم. وهذه الأزمان لا يستغرب فيها الفتن والمحن« ([19]).
هكذا كان الإمام الحداد يأمر تلاميذه بالانقياد لما قاله العلماء وعدم المصادمة التي ربما تؤدي إلى شر مستطير وتوصل إلى ما لا يحمد عقباه، وهذا ما نلمسه في مجموع كلامه ومكاتباته فقد كان مرشدًا ومنقذًا من تلك الفتن، ولهذا تواتر عن السلف الصالح ومنهم الإمام أحمد قولهم: حاكم غشوم ولا فتنة تدوم.
ومن أولئك الزيدية الذي سألوا الإمام الحداد الشيخ أحمد بن محمد الغشم الزيدي الذي أقام مدة بمدينة تريم، قدّم له بعض المسائل التي يختلفون فيها مع عقيدة أهل السنة بتاريخ شهر جمادى الأولى سنة 1072هـ، وقد أجابه الإمام الحداد بنفس علمي أورد فيه الدليل والتعليل مبينًا له مذهب أهل الحق فمن ذلك حتى كاد أن يرجع عن معتقده كما تقدم ذكره، ومن تلك الأسئلة:
ــ ما قولكم في أفعال العباد؟
فأجابه: اعلم وفقك الله تعالى أن مذهبنا الذي نعتقده وندين لله تعالى به، أن لا يكون كائن من خير وشر ونفع وضر، إلا بقضاء الله تعالى وقدره وإرادته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعندنا لذلك من النصوص السمعية الواضحة في الكتاب والسنة ومن البراهين العقلية المسلمة عند كل ذي بصيرة ما يجل عن… وكتب أئمتنا التي ألفوها في علم أصول الدين طافحة بذلك، وهي في أيديكم.
ومذهبنا برزخ بين مذهبين: أحدهما مذهب الجبرية القائلين إن العباد مجبورون على ما يأتون ويذرون، مقهورون مضطرون في كل حال، تضاهي أفعالهم أفعال الناسي والمكره بل أفعال المجنون والنائم، وهذا المذهب يعرف بطلانه ببديهة العقل، لو لم يدل دليل على كونه باطلًا.
والثاني: مذهب المعتزلة القائلين إن أفعال العباد الاختيارية، خلق لهم. وأنهم إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا.
وأما هيئة الكسب الذي نقول به فهو شيء يعرفه الإنسان من نفسه، إذ لا يعزب عن عاقل الفرق بين أفعاله الاضطرارية والاختيارية، وأنه في الاضطرارية منها مجبور، وفي الاختيارية غير مستقل.
والذي ذكرناه من مذهبنا أولًا يجب عندنا اعتقاده والإيمان به. ولا يصح الإيمان بدونه. وهو أن كل شيء أي شيء كان، لا يكون إلا بقضاء الله تعالى ومشيئته سبحانه.
ومع ذلك فنحن نحب المطيع، ونثني عليه، ونحثه على التشمير في الطاعة، ونحذره الوقوع في المعصية. ونقول: بإثابة الله تعالى له.
ونبغض العاصي وننهاه عن المعصية، وندعوه إلى الطاعة، ونقول: بمعاقبة الله تعالى له، ونقيم الحدود، ونرفع المظالم إلى الولاة، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعد قول العاصي منا إذا قال عندما يقال له: لم عصيت؟ قال هذا بقضاء الله وقدره، من أعظم الذنوب.
والرضا بقضاء الله تعالى واجب عندنا، ومحله: أن ترضى بأفعاله تعالى جملة، وأنها فضل وعدل.
ومن الرضا عندنا: سكون القلب عند ورود المصائب في الأنفس والأموال، وحصول الشدائد من المخاوف والفاقات. والرضا بالمعاصي معدود عندنا من كبائر الذنوب.
ــ وسأله أيضًا: عمن حارب عليًّا كرم الله وجهه ونازعه من المسلمين؟
فأجابه: اعلم أن الذين باشر علي رضي الله عنه قتالهم بنفسه، بعد أن خرجوا عليه ثلاث طوائف:
الأولى: أهل الجمل، الزبير وطلحة وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وأهل البصرة خرجوا عليه بعد أن بايعوه يطالبون بدم عثمان رضي الله عنه. ولم يكن رضي الله عنه قتله ولا أمر بقتله ولا رضيه. ولكنه قبل البيعة من قتلته ولم يسلمهم، لأمر رأى في صلاح الدين واجتماع المسلمين، في ذلك الحين فلم يفطن له الخارجون عليه.
الثانية: أهل صفين معاوية وعمرو بن العاص وأهل الشام، ولم يبايعوا عليًّا وخرجوا عليه يطلبون بدم عثمان.
الثالثة: أهل النهروان، وهم الخوارج وقد بايعوه، وقاتلوا معه، ثم خرجوا عليه ينقمون تحكيم الحكمين يوم صفين، وما قاتل علي رضي الله عنه أحدًا من هذه الطوائف إلا بعد أن دعاهم إلى الاجتماع والألفة والدخول في الطاعة فأبوا.
وكلهم بغاة عندنا ومنازعون وخارجون بغير حق صريح وصواب واضح. نعم من خرج منهم وله في خروجه شبهة فأمره أخف ممن خرج ينازعه في الأمر ويطلبه لنفسه. والله أعلم بنياتهم وسرائرهم وسلامتنا في السكوت عنهم. (تلك أمة قد دخلت).
وقال علماؤنا في شأن الزبير ومن معه، ومعاوية ومن معه: إنهم اجتهدوا فأخطأوا فلهم عذر. وعلى كل حال فغاية من خرج على الإمام المرتضى من أهل التوحيد المقيمين للصلاة المؤتين للزكاة أن يكون عاصيًا والعاصي عندنا لا يجوز لعنه بعينه.
وليس الخروج على الأئمة عندنا كفرًا بل لا يجوز عندنا لعن أحد إلا إذا علمنا أنه مات كافرًا، وأن رحمة الله تعالى لا تناله بحل كإبليس. ومع ذلك فلا فضيلة في لعن من هذا وصفه، ويجوز عندنا لعن العاصين والفاسقين والظالمين عمومًا.
وأما الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما إماما حق قد استجمعت فيهما شرائط الإمامة وكملت أهليتهما لها.
فأما الحسن فبايعه أهل الحل والعقد ممن كان في طاعة الإمام علي وذلك بعد مقتله. فلما سار إليه معاوية بجموع أهل الشام يقصد حربه. وسار هو إليه بجموع أهل العراق فحين تقارب الفريقان، نظر الحسن نظر الرحمة والشفقة على الأمة ليتم الله تعالى له ما قال جده صلى الله عليه وسلم فيه: »إن ابني هذا سيد. وإني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين«. الحديث. فعند ذلك خلع نفسه وبايع لمعاوية على أن يكون له الأمر من بعده في شرائط اشترطها. فمات رضي الله تعالى عنه قبل معاوية فجعل الأمر معاوية إلى ولده يزيد، فبايعه الناس طوعًا وكرهًا وأبى الحسين رضي الله عنه أن يبايع فعند ذلك كتب إليه أهل العراق أن يصير إليهم ليملكوه عليهم، فأجابهم رضي الله تعالى عنه إلى ذلك وسار يقصد العراق.
فكتب يزيد إلى عامله بها: عبيدالله بن زياد يحثه على حرب الحسين رضي الله تعالى عنه والوقيعة به فقام بذلك ووافقه أهل العراق عليه بعد أن بايعوا الحسين، ودخلوا في طاعته بزعمهم، فقتل هنالك شهيدًا في طائفة من أهل بيته رضوان الله عليهم.
والذي قتله والذي أمر بقتله والذي أعان على ذلك: عندنا من الفاسقين المارقين عاملهم الله بعدله أجمعين.
وليس يزيد عندنا بمنزلة معاوية فإن معاوية رضي الله عنه صحابي. وليس يترك الفرائض وينتهك المحارم مثل يزيد، فيزيد فاسق بلا شك؛ لأنه كان يترك الصلاة، ويقتل النفس، ويزني، ويشرب الخمر. وحسابه على الله تعالى.
وسأله الزيدي المذكور: ما قولكم في هذه الجموع التي نراها في مساجدكم، تنشد فيها الأشعار الغزلية بالنغمات الطيبة والألحان الموزونة؟
فأجابه: اعلم أنها ليست عندنا من الذكر ولا هي مثله، ولكنها شيء مباح وتركها أفضل. وقد أنشد الشعر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنشده وربما تمثل عليه الصلاة والسلام بالبيت والبيتين منه. وأنشد في مسجده بحضرته أنشده حسان وغيره، ويثبت الجواز بمرة إذا لم يقع النهي عنه.
وهو وإن كان لم ينشد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالألحان، فإنه مهما صح إنشاده بدونها لم يحرم إنشاده بها، حتى يدل على تحريمه دليل واضح من السنة ولم يرد ذلك.
وبعض الفضلاء الأخيار العارفين بالزمان وأهله وما هم عليه من الكسل عن العبادة، وقلة الرغبة في الخير يرى أن جمعهم على الذكر لله تعالى مع إدخال شيء فيه من الأشعار الصحيحة المعاني والمباني، مما لا بأس به لأن للنفوس ميلًا إليها، فيقودهم بوساطته إلى الاجتماع على ذكر الله تعالى، ولكل امرئ ما نوى. والمطلع على السرائر هو الله سبحانه وتعالى.
ومن ساء ظنه وخبثت طويته رأى الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، ولا أقل من الإنصاف ولا أقل من التوقف في مواطن الإشكال.
ومن لم يعرف الحق وجب عليه طلب معرفته من أهله، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو رد، وكل ما فارق هدي السلف الصالح فهو شر، إن كانت المفارقة على سبيل المضادة والمعاندة وإلا فالحق واسع. والجواز غير الفضيلة وليس الجائز كالمندوب ولا المندوب كالواجب. ونحن على بصيرة من أمرنا وهدى من ربنا وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولسنا جاهلين بأمر الدين، ولا مبتدعين فيه، ولا متبعين الأهواء المضلة، ولا متحكمين بعقولنا في دين الله تعالى، ونقبل الحق من جاء به ونرجع إليه، ولا نكابر، ولا نقلد الرجال.
فافهم ما ألقيناه إليك وأمليناه عليك من الجواب على أسئلتك. فإنه ما من كلمة من الكلام الذي أوردناه إلا وعندنا لها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أئمة الهدى أدلة واضحة حذفناها اختصارًا. وخير الكلام ما قل ودل. و[مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] [الكهف: 17].
والظاهر أنك متعصب على مذهبك، لا تقبل إلا ما وافقه ولا ترى الحق إلا فيه. فإن صح هذا فليس للكلام معك فائدة. اللهم إلا إن كنت تعتقد في مذهبك أنه حق، وأن الحق ليس محصورًا فيه ومقصورًا عليه، حتى تضلل وتخطئ من خرج عنه قيد شبر.
فإن كنت كذلك أعني لا تعتقد أن الحق مقصور على مذهبك، فللكلام معك فوائد ولأجلها وعلى رجاء حصولها أجبناك.
منها أن لا تعتقد خلو هذه الجهة عمن يعرف الحق، ويقدر على التعبير عنه ويناضل ويدافع من حاد عنه بلسانه وسيفه وسنانه وأنصاره وأعوانه حسب استطاعته وإمكانه. ولن يذم بالعجز والقصور من بذل الاستطاعة واستفراغ الطاقة.
ومنها: أنك أقمت في هذه المدينة -أي تريم- مدة وتزعم أنك تحبها، وتحب أهلها، وقد حان حين مفارقتك لها. فلا ينبغي أن تسير منها منطويًا على سوء الظن بأهلها لما رأيت منهم بزعمك، وهم أهل البيت الذين طهرهم الله تعالى، وفرض عليك وعلى سائر المسلمين مودتهم وموالاتهم. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب([20]).
بتلك الإجابات القيمة وضع الإمام الحداد الدواء الناجح على الجرح، وفند تلك الشبه والمزاعم التي يثيرها اليوم كثير من الروافض والخوارج للوقيعة في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ليخدموا بها أعداء الله باسم الدين وباسم النصرة لآل البيت والسنة المطهرة، وهم برئيون منها كبراءة الذئب من قميص يوسف.
كما كان للإمام الحداد دور بارز في التحذير من التصوف الفلسفي الذي يرمي إلى وحدة الوجود وإلى الشطح وغيره، فلهذا كانت مؤلفاته خير شاهد على ذلك كما يقول حفيده مفتي حضرموت العلامة عبدالله بن محفوظ الحداد المتوفى سنة 1417هـ: إن أهل حضرموت القدماء إنما كان تصوفهم بالزهد في الدنيا والتزام كتاب الله وسنة رسوله على غرار الأوائل الصادقين أمثال الجنيد وأصحابه. وكل عمل يعرض على كتاب الله وسنة رسوله فما شهد له أخذوا به وما خالفه نبذوه، والشاهد على ذلك كتب الإمام الحداد: النصائح والدعوة التامة والمعاونة والمذاكرة، وهو إمامهم في القرن الحادي عشر. فهل يجد المنكرون فيها ما ينكر وهي متداولة بين الجميع؟ بل إنهم قد كانوا يحذرون أشد التحذير من التصوف المنحرف المؤدي إلى القول بالباطن ونبذ الظاهر، أو ذلك الذي يؤدي إلى القول بوحدة الوجود؛ لأنهم أبعد الناس عنه. حتى لقد سئل الإمام الحداد هل تقولون بوحدة الوجود؟ قال: لا نحن نقول بوحدة الشهود يعني نشهد الله في كل شيء؛ لأن مخلوقاته دليل عليه لا أنها هو. ولهذا كانوا يحذرون من قراءة كتب ابن عربي وابن عبسين والحلاج وأصحابهم، ولهذا فإن من الظلم المقصود تعميم الحكم على التصوف والصوفية، وفيهم الصادقون الملتزمون بالكتاب والسنة([21]).
ثالثًا: تلاميذه ودورهم العلمي الدعوي والاجتماعي في حضرموت:
للإمام الحداد كثير من تلاميذ أخذوا عنه العلوم الشرعية واللغوية العقلية والنقلية، وتصدروا للتدريس وقاموا بتأليف المؤلفات، وانتشروا في شتى مناطق حضرموت الوادي والساحل واليمن وعُمان والإحساء وأفريقيا والهند وغيرها لا نستطيع أن نحصرهم من أبرزهم:
وحسبنا في هذا المبحث أن نشير إلى ما قام به تلاميذه الأفذاذ من دور اجتماعي ودعوي في مجتمعات حضرموت ساحلًا وداخلًا، فهذا تلميذه العلامة الحسين بن عمر بن عبدالرحمن العطاس يفاوض قائد جيش الزيدية الصفي بن أحمد بن القاسم عندما وفد إلى حضرموت في آخر شهر رجب الأصب سنة1070هـ انتصارًا لحليفه السلطان بدر بن عمر بن بدر الكثيري ضد ابن أخيه السلطان بدر بن عبدالله بن عمر الكثيري عندما أرسله والده الإمام عمر بن عبدالرحمن العطاس مع أخيه سالم لمفاوضته وثنيه عن المحاربة، وكتب له معهما كتابًا قال فيه »انظر إلى أهل حضرموت بعين الرحمة ينظر الله إليك بها«، فلما قرأه قال لمن عنده »إني لما نظرت إلى هذا الكتاب طرح الله في قلبي الرحمة العامة لأهل حضرموت«، ثم قال لهما: »إني أرى عليكما سيما الخلافة ومخايل النجابة، إن قبلتما مني هذه الأرض وجهتها إليكما، والله لولا ما ابتليت به من هذا الجيش لأتيت إلى والدكما وزرته«، كما نقل تلك الحادثة بالتفصيل تلميذه السيد العلامة علي بن حسن العطاس في كتابه (القرطاس)([22]).
وذاك تلميذه العلامة الكبير أحمد بن زين الحبشي يقوم بنشر الدعوة العامة في قرى وبلدان حضرموت ودوعن، وتأليف عشرات الكتب، وبعضها شرح لقصائد شيخه الحداد كالعينية، والبائية، والرائية، وقد انتشرت مؤلفاته، ومنها الرسالة الجامعة، في أقاصي البلاد، وقام ببناء العديد من المساجد والزوايا في وادي حضرموت([23]).
وهذا تلميذه العلامة محمد بن زين بن سميط ينتقل إلى شبام ويتصدر في مدارسها في زاوية ابن أحمد قرابة أربعين سنة، ناشرًا للعلوم الفقهية والحديثية والسلوكية، وترجم لشيخه في (غاية القصد والمراد)، واختصره في (بهجة الفؤاد) ولتلاميذه في (أنس الراغب)، وقام ببناء وتجديد بعض المساجد والسقايات للشرب([24]).
وكان له مع زميله العلامة سقاف بن محمد السقاف دور بارز في أيام الغزو المكرمي الخارجي على حضرموت كما يحدثنا الأستاذ محمد بن هاشم عن ذلك الدور الاجتماعي، بقوله: خرج حسن وهبة المكرمي في النصف الأخير من القرن الثاني عشر، وهو من البحرين من جهة عمان. خرج إلى حضرموت وحط على شبام حرسها الله، ومعه جيش كبير من نواحي اليمن، وطال حصره لشبام، واضطربت حضرموت لقدومه، وظل الناس في خوف شديد، وحارت العقول في شأنه، وكان الإمام محمد بن زين بن سميط العلوي يهدئ البلاد ويثبتهم، وقد كاتبالمكرمي وأحسن له الخطاب، وقال له فيه: إن الأولى لك أن تنصرف عن البلدة ما زلت مجللًامحترمًا وإلا فما يدريك ماذا يكون بعد، فرد عليه المكرمي ردًا جميلًا، وكان السيد المشار إليه كهفًا وملجأ ومنشطًا للجند الوطني، حتى قال بعضهم: لولا الحبيب محمد لاختذلنا. وكان يقول لهم اثبتوا فالأمر هين دون ما تتوهمون، ولم تطل إقامة المكرمي تحت شبام بل رحل عنها مكسورًا بعد أن هلك من رجاله العدد الكثير، واضطر إلى المصالحة بعد أربعين يومًا.
والرجل إباضي ومعه من الجند نحو الأربعة آلاف، فكان يتظاهر بنصر الشريعة الغراء، ويدعي أنه إنما جاء لمحو سلطة الطاغوت، وكان ذلك في عصر الإمامين العلويين محمد بن زين بن سميط وسقاف بن محمد الصافي، ولما أظهر المكرمي من العدل ونصرة الشريعة، كتب الإمام سقاف إلى الإمام محمد بن زين يطلب منه الدعاء للمكرمي والدعاية له، فأجابه إن يك هو على حق فإننا نكتفي في الوقت الحاضر بدعاء المنابر له، ويشير إلى قولهم: واصلح من في صلاحه صلاح المسلمين.. إلخ. ولكن المكرمي لم يلبث أن أظهر ما هو منطو عليه من الدعوة الإباضية، واندفعت جنوده في نهب الأموال، وانتهاك الحوط، وقطع السبل، وإهلاك الحرث، فانقلبت الدعاية، ونفرت القلوب منه.
ويقال إن المكرمي كان صاحب سحر وشعوذة وطلاسم، وأنه لما حط رحاله تحت شبام، وسكن في بعض بيوت السحيل، وحار في أمرها اعتزل الناس في موضع وحده، وجعل ينصب أعلامًا معه، ويتمتم بتمايم، ويسطر طلسمات لم تغن عنه شيئًا([25]).
بينما يذكر صاحب (تاريخ الشعراء الحضرميين) أن المكرمي جاء إلى حضرموت عام 1175هـ وهو نجدي بجيش جرار عسكر به في مسيل شبام الكائن في ضاحيتها الجنوبية لاكتساح حضرموت من أقصاها إلى أقصاها وإخضاعها تقتيلًا ونهبًا وعبثًا بداعي العقيدة السيئة، وحمل الحضرميين على اعتناق مذهبه الوهابي، فإننا نرى الرعب والهلع قد غمرا عموم الحضرميين نساء ورجالًا وأطفالًا.
وإذا كانت حضرموت كلها قد جبنت عن مناهضته ومنازلة جيوشه لقلة الحضرميين السلاحيين، وكثرة جموعه، وقوة بأس النجديين، وضعف الوطنيين وتخاذلهم وتفرق كلمتهم، ولم يصمد له غير السيد سقاف بن محمد السقاف متفاوضًا معه في أحد بيوت شبام بعد أن علم المكرمي مكانته ونفوذه وما زال يفاوضه لإقناعه حتى أسفرت المفاوضة عن اقتناع تام، والحيلولة بينه وبين حضرموت فيرتحل إلى نجد من غير أن يمس حضرموت بإيذاء كما تعهد لمفاوضه بذلك([26]).
وعلى العموم فالمكرمي خارجي من الخوارج وهو ما يوصف به الإباضية والوهابية عقديًّا كما ذكره مفتو المذاهب الأربعة السنية ابن عابدين الحنفي، والصاوي المالكي، وابن دحلان الشافعي، ومحمد النجدي الحنبلي، يقول المؤرخ الطيب بامخرمة: المُكْرمي: بالضم وسكون الكاف، من ينسب إلى عسكر مكرم جماعة وبفتح الكاف وتشديد الراء طائفة من الخوارج. نسبوا إلى مكرم كذا في (الزوائد)([27]).
خاتمة:
يعد الإمام الحداد من أبرز علماء حضرموت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، وقد كان له دور فعال وكبير في مجالات الحياة الدعوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وكان له دور كبير في الإصلاح الاجتماعي في حضرموت وتكتظ مكاتبات بهذا الشأن، وكذلك مجموع كلامه المنثور، فقد كان رجلًا وطنيًا غيورًا على وطنه، مجاهدًا بالكلمة والفعل، لم يعتكف في محرابه متبتلًا بل كان يراسل السلاطين ومعاونيهم، وينصح لهم، وربما حذرهم بعواقب الأمور؛ لأنه بصلاح السلطان يصلح الدين، ويقوم بإصلاح ذات البين، وعقد الصلح بين القبائل المتناحرة في وادي حضرموت ودوعن والساحل، وربما أرسل لذلك أحد أبنائه أو طلابه، وكان يرشد الطلاب والمستفتين، فقد كان حقًّا كما ينعته أجدادنا الحضارمة (حداد القلوب).
كما قام بمواجهة الأفكار الدخيلة على حضرموت كالفكر الزيدي، المعتزلي، والفكر الإباضي الخارجي، والتصوف الفلسفي وبيّن فسادها، وحرر عقيدة أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية والسواد الأعظم من المسلمين تحريرًا مفصلًا، وختم بها كتابه الفريد المسمى بـ(النصائح الدينية والوصايا الإيمانية)، الذي ألفه عام 1089هـ.
هذا هو الإمام الحداد ذلك الشيخ الكفيف الذي سبق زمنه كما يقول عنه الأستاذ محمد التونسي في كتابه (العرب في إندونيسيا): »إن السيد عبدالله بن علوي الحداد جاء قبل أوانه، فهو شخص عظيم يجب أن يقارن بأعاظم علماء اليوم«([28]).
وهذه مؤلفات العلمية القيمة التي اشتملت على زبدة علم التصوف السني الذي كان يدعوا إليه بحاله ولسانه وقلمه، والذي أحياه أجدادنا الحضارمة وعاشوه في حياتهم اليومية القائمة على النسك والزهد والورع والخوف من الله ونقلوه إلى مهاجرهم المتعددة، وكان الإمام الحداد حاضر معهم في حلهم وترحالهم بأوراده المأثورة كراتبه الشهير الذي يقرأ بعد حزب القرآن قبيل أذان العشاء أو بعده أو بعد الصلاة مباشرة، وورده اللطيف الذي يقرأ بعد صلاة الفجر، وقصائده الابتهالية التي يلهجون بها في جميع أحوالهم (يا رب يا عالم الحال إليك وجهت الآمال فامنن علينا بالإقبال وكن لنا واصلح البال)، (ألا يا الله بنظرة من العين الرحيمة تداوي كل ما بي من أمراض سقيمة)، وغيرها من القصائد التي يتزين به ديوانه، والتي تنشد في المجالس والمناسبات المختلفة، وهي تحدو القلوب والأرواح إلى بلاد الأفراح، وبمؤلفاته الإرشادية التي تقرأ في روحاتهم العصرية.
وجدير بنا أن نختم هذه الدراسة بما ختم به الأستاذ الشاطري ترجمته للإمام الحداد بقوله: »يمتاز الحداد بتاريخ حافل بالنبوغ والحصافة والتفوق، وقد صنفت مصنفات كثيرة عن حياته المديدة السعيدة، يمكن أن يستمد منها بغزارة من أراد الكتابة بإسهاب عنه، وحبذا لو قدم من أراد شهادة الدكتوراه من أبناء هذه البلاد عن هذا الإمام« ([29]).
آملين أن نكون وفقنا فيما قصدنا من إبراز ذلك الدور الاجتماعي والدعوي لعلماء حضرموت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين.
المصادر المراجع
محمد علوي باهارون .. مدير مكتب الحامي للدراسات والنشر وخدمة التراث الحضرمي.
[1])) باهارون، الكنز المدفون في ترجمة الحبيب محمد بن هارون، ص34- 37.
([2]) المسلك السوي في جمع فوائد مهمة من المشرع الروي، ص 287- 292، بتصرف.
[3])) المشهور، عبدالرحمن محمد، شمس الظهيرة، ج2، ص568.
[4])) نزهة الطالب في روضة الراتب، ص37.
[5])) المرجع السابق، ج2، ص569- 570.
[6])) النصائح الدينية والوصايا الإيمانية، للإمام الحداد، ص3- 4، تحقيق وتعليق: الشيخ حسنين محمد مخلوف، مطبعة المدني، القاهرة.
[7])) تعليقات شمس الظهيرة، مرجع سابق، ص568.
[8])) الشاطري، محمد بن أحمد، أدوار التاريخ الحضرمي، ص324.
[9])) مكاتبات الإمام الحداد ج 1 ص 34-36.
[10])) مكاتبات الإمام الحداد، مرجع سابق، ج1 ص 92، 93.
[11])) تاريخ الدولة الكثيرية، ص130- 132.
[12])) أدوار التاريخ الحضرمي، مرجع سابق، ص327.
[13])) نزهة الطالب، مرجع سابق، ص41- 43.
[14])) أدلة الراتب، ص25.
[15])) الحساوي، أحمد عبدالكريم، تثبيت الفؤاد، ج1، ص 272- 278.
[16])) تثبيت الفؤاد، مرجع سابق، ج2، ص93، 224.
[17])) نفس المرجع السابق.
[18])) بامطرف، المختصر في تاريخ حضرموت العام، ص87، 124.
[19])) المكاتبات، مرجع سابق، ج1، ص170- 171.
[20])) النفائس العلوية في المسائل الصوفية، ص80- 83، دار الحاوي للطباعة والنشر التوزيع، ط1، 1414هـ، والمكاتبات، ج1، ص351- 360.
[21])) التوعية الدينية عن طريق الخطب المنبرية، ط1، 1418هـ، ج1، ص30.
[22])) العطاس، مصطفى عبدالرحمن، صفحات مجهولة من تاريخ حضرموت، ص95، 96، 104.
[23])) ابن سميط، محمد بن زين، قرة العين وجلاء الرين، ص39- 50.
[24])) المرجع السابق، ص س-ظ.
[25])) تاريخ الدولة الكثيرية، مرجع سابق، ص155، 156.
[26])) السقاف، تاريخ الشعراء الحضرميين ج2ص 173.
[27])) النسبة إلى المواضع والبلدان ص 604.
[28])) شمس الظهير، مرجع سابق، ج2ص 571.
[29])) أدوار التاريخ، مرجع سابق ص 336.