نقد
د. طه حسين الحضرمي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 13 .. ص 53
رابط العدد 13 : اضغط هنا
يحيل مصطلح الفضاء الروائي على مقاربة نقدية لم تتبلور في الدراسات الشعرية أو السيميائية في مجال النقد الحديث ناهيك عن الدراسات السردية الحديثة التي لم تخصص أية مقاربة وافية ومستقلة للفضاء الروائي بوصفه ملفوظًا سرديًا له حضوره المتميّز، وعنصرًا من بين العناصر المكونة للنص. في حين كان للزمن الروائي حضورٌ بهيّ في الدراسات السردية([1])؛ لهذا لا نجد نظرية مستقلة للفضاء الروائي في تحليلات السرد الأدبي التي صبت جلّ اهتمامها في منطق الأحداث ووظائف الشخصيات وزمن الخطاب([2]). ولكن هذا لم يمنع وجود مجموعة من الأبحاث التنظيرية التي قام بها نخبة من نقاد السرد. بيد أنها لا ترتقي إلى تشكيل نظرية متكاملة عن الفضاء الروائيّ. بل هي مجرد خطرات بحثية اجتهادية ذات منحنى جانبي غير واضح([3])؛ لهذا لا نجد نظرية قائمة بذاتها في الفضاء السردي، وإنما هو سبيل في بحثها ما زال -بعد- لم يستقم، وسبل أخرى ما زالت قيد التهييء، ويتمثل التوجه الأكثر حيوية في هذا الصدد، في ما أسماه جاستون باشلار بشعرية الفضاء([4]). يرى آيزنزفايگ أنه ينبغي أن نعود بمفهوم (الفضاء) إلى دلالته الأولى، وبهذا سيكون فضاء النص، هو البيت، والمزرعة، والعمق، والدائرية – الموصوفة والمسرودة والمشخصة لفظيًا([5]). ثم يؤكد على أن هذا المستوى من المعنى يعُدّ بمنزلة »كنه منطقي، ملتحم ودال، يبدو لنا ذا أولوية، ولو في نطاق شكل أدبي بعينه على الأقل« ([6])؛ لهذا يذهب إلى أن أغلب الأعمال المكرسة لدراسة (الفضاء الأدبي) يمكن تصنيفها إلى فئتين([7]):
الفئة الأولى: تجهد هذه الفئة في إعطاء مفهوم الفضاء دلالات كثيرة، ما عدا دلالته البدهية.
أما الفئة الثانية فيغيب عنها أننا لا ندرك الفضاء إلا من خلال نص، من جمل وكلمات، مع كل ما يستتبع هذا الأمر على صعيد بنية هذا الفضاء وفهمه.
مما ينبغي إدراكه أن هذه الأبحاث المبثوثة ضمنًا أو تصريحًا في كتابات هؤلاء الدارسين لا تقدّم مفهومًا واحدًا للفضاء، فمنها ما يقدّم تصورين أو ثلاثة ومنها ما يقتصر على تصوّر واحد([8])؛ لهذا كان لمفهوم الفضاء عند الدارسين تجليات أشتات يمكن حصرها في الآتي([9]):
أولًا: الفضاء الجغرافي:
وهذا المفهوم يحيل على الحيز المكاني في الرواية، ويُطلق عليه عادة الفضاء الجغرافي([10])، وقد استخدم كثير من الدارسين هذا المفهوم -وما زالوا- بمسمى (المكان الروائي) ميممين بهذا المفهوم تجاه مكان الحكي التي تتحرك فيه شخصيات الرواية، وبهذا لا يكون هنا تغاير -في نظرهم- بين الفضاء والمكان متمسكين بالجذور الفلسفية لمفهوم الفضاء الذي يتشكّل بوصفه بعدًا جوهريًا من أبعاد الكائن، ويذهب آخرون إلى ضرورة الفصل الحاد بينهما، مؤكدين على ضرورة تصحيح خطأ الترجمة الشائعة، داعين الناقد العربي إلى ضرورة الانتباه إلى (فَرقِ الهواء) القائم بين الفضاء والمكان([11])، وبإنعام النظر في المصطلحين (الفضاء والمكان) يتضح أن بينهما عمومًا وخصوصًا. فالمكان بالمفهوم الجغرافي جزء من الفضاء الروائي لا ينفصل عنه، فليس بالإمكان الحديث عن فضاء روائي دون الحديث عن فضاء جغرافي؛ لهذا وقف حميد لحمداني([12]) موقفًا وسطًا بين ذينك التيارين حين ميّز بين المصطلحين (الفضاء والمكان)، فهو يرى أن التمييز يُعدّ ها هنا ضرورة([13]). فيذهب إلى أن الفضاء شُمُوليٌّ؛ لأنه »يشير إلى المسرح الروائي بكامله، والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقًا بمجال جزئي من مجالات الفضاء« ([14]). وعلى وفق هذا المفهوم يتضح أن المكان مكوِّن من مكونات الفضاء الروائي، لا يكتمل الفضاء دونه.
يتجلى الفضاء الجغرافي في الرواية في عدة أشكال، منها ما له صلة بالمكان الروائي الذي يحيل على مرجعية واقعية أو خيالية، وهذا موضوع درسه نقاد السرد في باب التقنيات. ومنها ما له صلة بالدلالة الحضارية للمكان المتخيل كما هو عند جوليا كريستيفا. ومنها ما له صلة بلغة العلاقات المكانية المنبثقة من العلامات اللغوية كما هو عند يوري لوتمان. وبهذا يبحر الفضاء الجغرافي في فضاء التشكيل والتأويل، بيد أن هناك »مَن يعتقد أن الفضاء الجغرافي في الرواية يمكن أن يُدْرَسَ في استقلال كامل عن المضمون، تمامًا مثلما يفعل الاختصاصيون في دراسة الفضاء الحضري، فهؤلاء لا يَهُمُّهم من سَيَسْكُن هذه البنايات، ومن سَيَسِيرُ في هذه الطُّرق، ولا ما سيحدث فيها، ولكن يهمهم فقط أن يدرسوا بنية الفضاء الخالص«([15]). ولكن جوليا كريستيفا([16]) في حديثها عن الفضاء الجغرافي لم تجعله منفصلًا عن دلالته الحضارية؛ لأنه حينما يتشكّل من خلال العالم القصصي يحمل معه جميع الدلالات الملازمة له، والتي تكون عادة مرتبطة بعصر من العصور إذْ تسود ثقافة ما أو رؤية خاصة للعالم. وهو ما تسميه (اديولوجيم) العصر([17])، ولذلك ينبغي للفضاء الروائي أن يُدرس دائمًا في تناصّيته، أي في علاقته مع النصوص المتعددة لعصر ما أو حقبة تاريخية محددة؛ وبهذا ينبغي أن ينظر للفضاء الجغرافي بوصفه معبِّرًا عن نفسه من خلال أشكال معينة ومتخذًا معانيَ متعددةً بحيث يؤسس أحيانًا علة وجود الأثر، لا بوصفه عنصرًا لا يُكترث به؛ لهذا يسعى الروائيّ جاهدًا إلى تزويدنا دائمًا بحد أدنى من الإشارات (الجغرافية) سواء أكانت هذه الإشارات نقاط استرشاد لإطلاق خيال القارئ، أم كانت استكشافات منهجية للأمكنة([18]).محاولًا بذلك خلق نوع من العلاقة بين المكان بوصفه تجربة معاشة انطولوجيًا([19]) وبين المكان الفني الذي يمثل انزياحًا وانحرافًا للغة المستخدمة عن دلالاتها المألوفة([20])، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه بـ(الصدق الوقائعي)([21]) المتمثل في الصدق في التفصيلات النوعية المتعلقة بالفضاء. بيد أن هذا المكان المتشكِّل فنيًا الذي أخذ شرعية وجوده من المكان المعاش يختلف اختلافًا بينًا عنه. فالمكان الانطولوجي يتشكّل فيزيائيًا. في حين يتشكّل المكان الفني لغويًا. وأي جمع بينهما بحجة التطابق يعدّ جمعًا تعسفيًا يلغي به القارئ كلَّ مكونات اللعبة الفنية. ومسألة التطابق هذه بين الواقع والفن تحيل على ما يُسمى عند الواقعيين بالانعكاس التي قوّض البنيويون أركانه حينما ميزوا بين العمل الفني والواقع. وقد كان الشاعر الألماني (جوته) يسخر من التصوير الحرفي للواقع؛ »لأن الحقيقة في الفن والحقيقة في الطبيعة لا يمكن أن يكونا شيئًا واحدًا، فليس النسخ عملًا فنيًا«([22])، وإنما هو مدخل للفن لا أكثر، ولكن الطريقة الفنية الأكمل، أو الأسلوب كما يسميها (جوته) هي «الطريقة التي تستند إلى أسس ثابتة وعميقة من المعرفة، إلى جوهر الأشياء ذاته الذي نستطيع أن نتعرف عليه في صورة مرئية وملموسة، وتأتي قوة التعبير الحقيقية في الفن من أن الفنان حين يصور شخصًا رئيسيًا يخضع لهذا التصوير كل ما عداه، فانتباه الناظر يتسمر على ما هو أساسي، وينشأ من خلال ذلك انطباعه عن الكل»([23]). وهذا ما ينطبق على المكان الروائي بوصفه تشكيلًا لغويًا يحيل في عمومه على مرجعية فيزيائية، يجعل القارئ ينظر إليه بوصفه شيئًا محتمل الوقوع، أي أنه يُوهَمُ بواقعية ما يقرأ، وفي هذا إشارة إلى عدم «انقطاع وانعدام الصلة مع المكان المعاش، فثمة تقاطعات يشترك فيها المكان الفني مع المكان الفيزيائي، وإلا فمن الصعوبة بمكان أن يتحكم القارئ بتأويله أو تفسيره، فهذه الوظيفة المرجعية أو الإيهامية للمكان الفني في معظم الأشكال الفنية وأنماطها هو الذي يتيح للقارئ أن يتواصل مع هذا العمل الفني أو ذاك ولو في الحدود القصوى من التواصل»([24]). فمن هنا يأتي أهمية تشخيص المكان في الرواية؛ لأنه يجعل من الإيهام بأن أحداث الرواية قريبة من الواقع، فيربط القارئ بينها وبين المكان الذي تجري فيه هذه الأحداث، وهذا أمر منطقي؛ لأن »أي حدث لا يمكن أن يُتَصَوَّر وقوعه إلا ضمن إطار مكاني معين، لذلك فالروائي دائم الحاجة إلى التأطير المكاني«([25]). هذا الأمر يجعل الروائي أحيانًا يقوم بفرض حدود مكانية دقيقة جدًّا على سير الأحداث([26])، لتعينه على هذا الإيهام بالواقع، وقد أعطى هنري ميتران([27]) مثالًا لهذا الصنيع ببلزاك الذي يصف شوارع حقيقية تجعل القارئ يقوم بعملية قياس منطقي، فما دامت هذه أحياء، وشوارع حقيقية، إذن فكل الأحداث التي يحكيها الروائي هي كذلك تحمل مظهر الحقيقة؛ لهذا تميّز الواقعيون بحساسية مفرطة تجاه المكان، فاستخدموا كل حيلهم التصويرية، وحاولوا اكتساح عجزهم عن خلق عالَم محسوس بجعل القارئ يعايش هذه الأمكنة من خلال عالَم الأحلام، أو حتى اضطراره بعدّ هذه القصة خرافة يجهل الأمكنة التي تجرى فيها حوادثها، في حين أن »التقديم الهيّن للقارئ يمكن أن يشير إلى إعداد دقيق للأثر قام به الروائي وإلى عناية مدققة للأشكال المحسوسة واهتمام بالمنطق و(إحساس بالمكان) يقربه من الرسام، وبصورة أكثر مباشرة فإن (قراءة) رسم مأخوذ من رواية يكشف أيضًا في صميم مكان شامل، عن وجود أمكنة متنوعة تشكّل فيما بينها علاقات تتعلق بالتناظر أو بالتناقض، وبالجاذبية والتوتر أو بالنفور«([28]).
ثانيًا: الفضاء النصي:
وهو الفضاء الذي تشغله الكتابة بوصفها أحرفًا طباعية على الورق، ويدخل في إطار هذا الفضاء تصميم الغلاف، ووضعية المطالع، وتنسيق الفصول، وتحولات الكتابة المطبعية، وتشكيل العنوانات، وكل ما له صلة بالكتابة النصية بوصفها مادة. كان الروائي الفرنسي ميشال بوتور من أشد الدارسين اهتمامًا بهذا الفضاء، وذلك في كتابه (بحوث في الرواية الجديدة)([29])، مع التنبه إلى أن هذا النوع من الفضاء قد يكون ذا دلالة في سير أحداث الرواية مثل (الكتابة المائلة)، التي استخدمها بعض الروائيين لتمييز كلام الغير، وقد أدرج أوسبنسكي([30]) هذا النوع من الخطاب في إطار تأثير كلام الغير في كلام الراوي (الكلام المنقول) على المستوى التعبيري، ومثل (التأطير) الذي يسميه بوتور بـ(الصفحة ضمن الصفحة)([31]). يلجأ الروائي إلى هذا الأسلوب لإعادة التأثير الذي أحدثه إعلان أو كتابة ما رآها البطل، فيقوم بإحاطة »هذا المقطع بإطار له قيمة الورقة البيضاء، سواء أكانت بحجم بطاقة الزيارة، أو بحجم إعلان ضخم، أو بحجم صفحة من كتاب، وقد تكون هذه الورقة البيضاء منظمة تنظيمًا كافيًا بحيث لا تحتاج إلى إطار«([32]). وقد أسهم التطور التقني للطباعة في مساعدة الرواية ذات الأصوات المتعددة وذات الأزمنة المتداخلة والمتشظية عالَميًا وعربيًا. كما نجد ذلك في بعض أعمال وليم فوكنر. مع التأكيد على أن الطباعة لا تكتفي بتشكيل النص بوصفها مكانًا قابلًا للإبصار على الورق، بل تعمل على إيصاله بأصواته المتعددة وأزمنته المتداخلة بشكل جليّ، فقد ساعد تنوع الحروف الطباعية غسان كنفاني على إنجاز روايته (ما تبقى لكم) عبر الشكل الجميل التي أنجزها فيه([33]). كما لجأ إلى مثل هذه التقنيات صنع الله إبراهيم في غير واحدة من رواياته مثل (نجمة أغسطس) باستخدام الحروف ذات ثخانة كبيرة تُسمّى في مصطلح الطباعة (حروف سوداء) للدلالة على الاسترجاع. في حين استخدم حروفًا ذات ثخانة معتادة تُسمّى (حروف بيضاء) للدلالة على التزامن. ثم تطورت تقنياته فيما بعد باستخدام (الكولاج)([34]) كما في رواية (ذات) و(شرف). بيد أن الورق الطباعي بوصفه مكانًا لتجليات الرواية، لا شأن له؛ إذا ما قيس بالمكان التخييلي الذي تحيلنا الرواية إليه([35]). وفي إشارات بوتور الذكية إلى الفراغ أبحر البنيويون في حديثهم عن شعرية البياض وشعرية السواد ولكن في غير هذا المجال.
ثالثًا: الفضاء الدلالي:
وهذا المفهوم يحيل على الصور المجازية وما لها من أبعاد دلالية، ويعدّ جيرار جينيت([36]) هذا الفضاءَ المظهرَ الثالثَ من مظاهر الفضائية الأدبية، وذلك على صعيد الكتابة في معناها الأسلوبي على حد تعبيره، وقد اصطلح عليه في البلاغة الكلاسيكية بالصور، وأطلق عليه فيما بعد (آثار المعنى)، ثم يفند مزاعم الذين يرون أن الكلام يتحقق زمنيًا، وذلك حين ربطوه بخاصية (أحدية الخط) في التعبير اللغوي، فبدا لهم أن الخطاب إنما يتشكّل من دوال حاضرة تقوم مقام سلسلة متتابعة من المدلولات، فهو يرى أن اللغة -ولا سيما الأدبية- نادرًا ما تعمل بهذه الكيفية اليسيرة. وإذْ لا تكون الجملة اللغوية أحادية المعنى دائمًا؛ لأنها تتضاعف باستمرار؛ بحيث نجد من الكلمات ما يحمل دلالتين معًا، فكانت البلاغة تسمي إحداهما دلالة حرفية والأخرى دلالة مجازية. فإن الفضاء الدلالي الذي ينحفر بين المدلول الظاهر والمدلول الحقيقي يلغي في الوقت نفسه خطية الخطاب. وهذا الفضاء هو بالتحديد، ما يُسمى (صورة).
يرى حميد لحمداني([37]) أن مثل هذا المفهوم للفضاء بعيد عن ميدان الرواية، وأنه ليس من الضروري أن يكون مبحثًا حقيقيًا فيما يُسمى بالفضاء، وأن حديث جينيت كان متجهًا ناحية مبحث بلاغي يدرج ضمن عنوان عام هو (المجاز). كما أن هذا النوع من الفضاء لا يقع في مجال مكاني ملموس؛ لأنه يقع في إطار مسألة معنوية.
رابعًا: الفضاء بوصفه رؤية:
يحيل هذا المفهوم على الطريقة التي يستطيع الراوي بوساطتها أن يهيمن على عالمه الروائي بما فيه من شخصيات تتحرك على واجهة تُشْبِهُ واجهةَ الخشبة في المسرح ([38]). وهذا الفضاء يدخل في عموم ما عُرف في السردية الحديثة بوجهة النظر (Point Of View) فهذا النوع من الفضاء يبيّن موقع الراوي من خلال الإحداثيات المكانية »التي يدار من خلالها السرد، من ذلك مثلًا أن موقع الراوي في العمل الأدبي، قد يتطابق مع موقع الشخصية من الشخصيات، وكأنه هو الذي يقوم بالسرد من النقطة التي تقف فيها الشخصية«([39]). ويستخدم عالم اللغويات الروسي بوريس أوسبنسكي جهازًا اصطلاحيًا يقترضه من الرسم هو (المنظور المكاني) وهو مصطلح مختلف إلى حد ما، بيد أنه يرى أن المشابهة بينهما أكثر من مجرد استعارة في هذه الحالة، والمنظور بشكل عام »هو منظومة لتمثيل مكان ثلاثي أو رباعي الأبعاد، بوساطة وسائل فنية خاصة بشكل فني معين، ونقطة الإحالة في منظومة المنظور الخطي هو موقع الشخص الذي يقوم بالوصف«([40]). فإذا كنّا نتحدث في الفنون البصرية عن »تحويل المكان الواقعي المتعدد الأبعاد إلى سطح مرسوم ذي بعدين، والنقطة الموجهة –هنا- هي موقع الفنان«([41])، فهذا الشيء يتحقق في العمل الأدبي من خلال العلاقات المكانية القائمة على اللغة بين الذات الواصفة (الراوي أو الشخصية)، والمكان الموصوف، وما يميز المكان هنا هو أنه لا يدخل في الرؤية بوصفه جزءًا منها، بل بوصفه انتشارًا مجردًا -حسب تعبير ميخائيل باختين([42])– لأنه قابل للاستبدال أي بمعنى حلول مكان محل الآخر. فما يحدث في القاهرة يمكن أن يحدث في دمشق أو بغداد أو الرياض؛ ذلك أن الرؤية لا تترك آثارًا جوهرية في ماهية المكان؛ لأن الذي يهم في الفضاء هنا هو موقع الراوي وزاوية الرؤية التي تتحكم في الموصوف؛ لهذا نجد أن لموقع الراوي في هذا الفضاء في العمل الأدبي حالتين هما:
الحالة الأولى: تطابق موقع الراوي مع إحدى الشخصيات:
قد يتطابق موقع الراوي مع إحدى الشخصيات، حتى يبدو كأنه ملازم لهذه الشخصية؛ فيحتل الموقع المكاني نفسه الذي تحتله، وربما يلازمها بصورة مؤقتة أو يلازمها على طول السرد، وللراوي مظهران من حيث تبني وجهة نظر الشخصية، هما الامتزاج مع الشخصية أو مرافقتها. يتبنى الراوي في الأول كل أنظمة الشخصية الأيديولوجية والتعبيرية والنفسية، أما في المظهر الثاني فإنه يرافقها حسب دون الامتزاج بها، وفي هذا المظهر يستطيع أن يصورها ويرسمها دون الحاجة إلى استبطانها؛ وبهذا يطابقها مكانيًا حسب ويختلف معها في بقية الأنظمة.
الحالة الثانية: لا تطابق الموقع المكاني للراوي والشخصية:
في هذه الحالة لا يقابل موقع الراوي موقع أيّ من المشاركين في الحدث، وتتخذ هذه الحالة أشكالًا مختلفة منها([43]): المسح التتابعي، المسح المتحرك، نظرة عين الطائر، المشهد الصامت.
وبعد استعراض تجليات الفضاء الروائي السابقة يرى حميد لحمداني أن المفهومين الأخيرين للفضاء (الفضاء الدلالي)، و(الفضاء بوصفه رؤية) لهما علاقة بمباحث أخرى وأنهما اتخذا هنا تسمية الفضاء دون أن يَدُلا على مساحة مكانية محددة على خلاف المفهومين الأولين، اللذين يَعدّهما مبحثين حقيقيين في فضاء الحكي، بينما يرجع المبحث الثالث (الفضاء الدلالي) إلى موضوع الصورة في الحكي، والمبحث الرابع إلى موضوع زاوية النظر عند الراوي([44]). وهذا أمر يتسع فيه الاجتهاد؛ لأن الباحث يذهب إلى أن المبحث الرابع يدخل في الفضاء بدلالته على مساحة مكانية محددة على وفق مفهوم أوسبنسكي لوجهة النظر على مستوى المكان. في حين أن (الفضاء النصي) قد تدخل في صناعته أياد كثيرة -مثل رسام الغلاف والطباعة وتعديلات دور النشر- المبدع واحد منها، مما يجعل عملية تأويل تشكلها دلالةً وعلامةً تنحو منحى آخر بعيدًا عن مفهوم الفضاء بوصفه مكانًا تجري في رحابه أحداث الرواية.
الهوامش
([1]) ينظر: بنية الشكل الروائي (الفضاء – الزمن – الشخصية)، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، ط1، 1990م، ص25.
([4]) المكان والمعنى، الفضاء الباريزي في قصة Ferragus لبلزاك [131-159]، هنري ميتران، ضمن كتاب: الفضاء الروائي، مجموعة كتاب، ترجمة عبدالرحيم حُزَلْ، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002م، ص136. انشغل باشلار فيه بدراسة القيم الرمزية المرتبطة بالمناظر التي تتاح لرؤية السارد أو الشخصيات سواء في أماكن إقامتهم كالبيت والغرف المغلقة أم في الأماكن المنفتحة، الخفية أو الظاهرة، المركزية أو الهامشية وغيرها من التعارضات التي تعمل بوصفه مسارًا يصح فيه تخيّل الكاتب والقارئ معًا. ينظر: بنية الشكل الروائي (الفضاء – الزمن – الشخصية)، ص25.
([5]) ينظر: الفضاء المتخيل، يوري إيزنزويك – ت: عبد الرحيم حُزل، http://www.anfasse.org.
([8]) ينظر: بنية النص السردي، حميد لحمداني، المركز الثقافي العربي، بيروت – الدار البيضاء، ط2، 1993م، ص53.
([11]) ينظر: شعرية الفضاء (المتخيل والهوية في الرواية العربية)، حسن نجمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، ط1، 2000م، ص43.
([12]) ينظر: بنية النص السردي، ص62 وما بعدها.
([17]) المقصود بالاديولوجيم الطابع الثقافي العام الغالب في عصر من العصور. ينظر : بنية النص السردي، ص54.
([18]) ينظر: عالم الرواية، رولان بورنوف وريال أوئيليه، ترجمة نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1991م، ص92.
([19]) شعرية المكان في الرواية الجديدة، الخطاب الروائي لإدوار الخراط نموذجًا، خالد حسين حسين، كتاب الرياض، العدد (83) أكتوبر، 2000م، ص75.
([21]) ينظر: نظرية الأدب، رينيه ويليك، أوستن وارين، ترجمة محيي الدين صبحي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987م، ص222.
([22]) منهج الواقعية في الإبداع الفني، صلاح فضل، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1995م، ص89.
([24]) شعرية المكان في الرواية الجديدة، ص76.
([26]) ينظر: عالم الرواية، ص94.
([28]) ينظر: عالم الرواية، ص93.
([29]) ينظر: بحوث في الرواية الجديدة، ميشال بوتور، ترجمة، فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط2، 1982م، ص108 وما بعدها.
([30]) ينظر: شعرية التأليف، ص43.
([31]) بحوث في الرواية الجديدة، ص128.
([33]) ينظر: قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، صلاح صالح، دار شرقيات، القاهرة، ط1، 1997م، ص22.
([34]) الكولاج مصطلح استخدمه الدكتور صلاح فضل في دراسته لرواية (ذات) لصنع الله إبراهيم، الذي زاوج في روايته تلك »بترتيب صارم بين وحدات السرد القصصي ووحدات التوثيق الصحفي بتقنية تشكيلية سينمائية محدثة يمكن أن نسميها(الكولاج) الذي يعتمد على إعادة تصميم المزق الخشنة لتدخل في تكوين جمالي جديد، حيث يتم مسح ما علق بمصدرها من بقايا الاستعمال الأول وتوظيفها في السياق الكلي الجديد«. تقنية الكولاج الروائي، صلاح فضل، مجلة فصول، [332-339]، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد الحادي عشر، العدد الثاني، صيف 1992م، ص332.
([35]) ينظر : قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، ص22.
([36]) ينظر: الأدب والفضاء، جيرار جنيت، ضمن كتاب: الفضاء الروائي، ص15،16.
([37]) ينظر: بنية النص السردي، ص61.
([39]) شعرية التأليف (بنية النص الفني وأنماط الشكل التأليفي)، بوريس أوسبنسكي، ترجمة سعيد الغانمي و ناصر حلاوي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999م، ص69.
([42]) ينظر: أشكال الزمان والمكان في الرواية، ميخائيل باختين، ترجمة يوسف حلاّق، وزارة الثقافة، دمشق، 1990م، ص26.