ملف
بورح سبيتي بن دري المطري
يعد شعر الختان ركيزة مهمة في معرفة بعض جوانب الهوية المشقاصية، وذلك لما تحتويه تلك القصائد من دلالات اجتماعية وثقافية.
فعند استجلاء بعض القصائد والوقوف معها كثيرًا يظهر ذلك الملحظ بجلاء، والحق يقال إن قصائد الختان بحاجة إلى دراسة أوسع وأشمل حتى يخلص الدارس إلى نتائج مرضية وأوثق رصانة.
ومع قراءتي للكثير من تلك القصائد رأيت أن أفكارها متفقة ومواضيعها متحدة وليس هناك فرق إلا من حيث التنوع في الطرح أو الإطناب في بعض الوصف والمسميات.
وهل هذا التنوع في الطرح مقصود لذاته، أو أن هناك أمورًا لا بد من ذكرها في هذه القصائد المطولة، أو أنه من باب الاستطراد الذي لا بد أن يكون في هذه القصائد حتى تطول أكثر وأكثر، ليتسنى للشخص الذي يجلس على منصة المختنة أن يقضي كل وقته وهو مشغول بإلقاء القصيدة التي بدورها تسيطر على مشاغله الفكرية، ومشاعره الحسية.
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 13 .. ص 65
رابط العدد 13 : اضغط هنا
– طريقة الختان:
يجلس الشاب الذي يريد أن يختتن على مكان مرتفع نسبيًا، عبارة عن رضم أحجار بحجم سرير تقريبًا، ويطلق عليها (المقعَـدَة)، ويوضع بينه وبين الحضور ساتر، فلا يرون منه إلا صدره فما فوق، ويكون في يديه (جنبيتان) يحركهما باستمرار عند إلقائه للقصيدة في أثناء الاختتان، يذود بهما شعر رأسه يمنة ويسرة، ويكون متفاعلًا مع القصيدة، فلا تظهر على صفحات وجهه علامات الجزع والخوف، فمجرد أن تُرى منه أي حركة وإن كانت يسيرة يعيب بها، كغض الطرف، أو العض على الشفة تألمًا.
من بين الحضور شاعر، وضيفته الحكم بين المخاتين، فمن جاد وصبر وأظهر شجاعة امتدحه وأثنى عليه خيرًا، ومن بدت عليه علامات الجزع والخوف ربما عابه وذمّه.
والقصائد التي تُلقى في هذه المناسبة وهذا المهرجان تسمى (قصائد الختان)، وترتكز هذه القصائد على بعض الأمور، التي قد لا تخلو منها قصيدة واحدة، أشير إليها ولو بشيء من الإيجاز:
– ذكر الترحيب بالضيوف:
يستهل الشاعر قصيدته بدعاء الله سبحانه بأن يوفق الجميع، وأن ييسر الأمور ويذلل الصعاب؛ لأن هذا الحفل وهذا المهرجان قد توافد إليه الناس من قرى متفرقة، ومناطق بعيدة.. فترى الشاعر أحيانا يصور لنا الكم الهائل من البشر، حتى إن المكان قد ضاق بهم، كم قال العيص بن دري:
واليحي معا سع فيه لكوك(1) وميات
وفي قصيدة لشاعر آخر يقول فيها
وت نقلوا له الجهين عينت القوام
مخملين وسكوت وكافين الكلام
وبعد الترحيب بهؤلاء الناس يأخذ كل شخص موقعه ومكانه المناسب بحسب درجته، وموقعه من قبيلته ويبتدأ بتقديم واجب الضيافة.
– ذكر القهوة:
يبدأ في تقديم واجب الضيافة، وأول ما يقدم للضيوف القهوة العربية الأصيلة التي لها من الطقوس الشيء الكثير. وقبل ذلك يطنب في ذكر صفاتها والمكان الذي جلبت منه، وأنها متوفرة عند المضيف بكميات كبيرة. ومن ثم يبدأ في وصف تجهيزها، بداية من طحنها والطريقة المتبعة في ذلك، ثم يأتي على صفة الوعاء الذي تغلي فيه وهو الوعاء المصنوع من نحاس (عبرية) فتوضع فيها القهوة مع مستلزماتها من بزار وهيل.. يقول أحد الشعراء في قصيدة ختان:
البن من جبل يافع إن تقل لمن سوام
والبن لهو فاضي(2) مكانه بيخدام
المناحيز(3) يترادوا والصبر بي رجام(4)
والبن عامل عجر(5) مو من عضد رام(6)
ديّر يا المديّر والدياره تبا فهام
واردف عا الخرمان وعا هيل الحكام
– ذكر الحصن:
وهو أحد الأمور المهمة التي لا بد من وجودها في الكيان القبلي. وبناء الشاعر لهذا الحصن قد يكون حقيقة، وقد يكون ضربًا من الخيال، ولكل شواهده في تلك القصائد، فمن النوع الأول قول الشاعر سعيد بن دري في قصيدة ختان طويلة تزيد على مائة وخمسة عشر بيتًا:
بنيت حصن الوازع عا فلع الصبر
عا نحو تريمشه(7) حيث ضركها(8) يخر
عا فوق شقبون حيث ذاك يكفر(9)
خذوا عا ساسه سنة وستة شهر
فهذا الحصن الذي أشار إليه موجود على أرض الواقع وهو (حصن شقبون)، وقد وصف موضعه وحدده بدقة.
ومن الضرب الثاني قول العيص بن محمد بن دري:
بنيت حصن الوازع عا الحيد سلّات(10)
عاصبر الحادي(11) سنن(12) الخليلات(13)
فهذا المكان لا يوجد به حصن، وهذا الوصف يستحيل أن يبنى عليه حصن.
والشاعر عند حديثه عن الحصن يتطرق إلى ذكر الجهة أو الشخص الذي تولى بناء الحصن وموقعه الآمن، وتصميمه على أعلى مواصفات الجودة، ولربما تطرق إلى ساكنيه، كما قال أحد الشعراء، والذي يغلب على ظني أنه من شعراء المعراب، يقول:
بنيت حصن الوازع عا شي من دقام
عا دائر خريدة حيث الماء يقسام
الباني ذي بناه من جيد الهيام
لي طلعه قصر سدكه عا لحام
فيه من قالب لغة جعدة وبني يام
حكاهم ما تفهمه لن كان الوهام
فهو يشير إلى وجود أناس غرباء، يستعصي على السامع فهم لغتهم، مما يلجأ البعض إلى التخمين على المعاني باتباع إشارات اليد وغيرها مما يمكن الاستعانة بها على فهم مرادهم.
– ذكر الغيث:
الحديث عن الغيث، وتخيلات المواقع والأماكن التي أصابها المطر، والوديان التي فاضت سيولها، وقوة المطر وتأثيره على البلاد والعباد يعد إحدى ركائز قصيدة الختان. جاء في إحدى القصائد هذا الوصف الجميل والرائع لهطول الأمطار وكيف عمت البلاد وما يعقبها من سيول، يقول:
وحي(14) يا كريم بصر برق يعلاق
عاخيّل سحوق(15) ما هم ساحاق
منثورات الخرين قدي عرف المساق
اشتبكن كما الملح عاحل عرّاق
ذيه فيهن راعد غارقين غرّاق
والطش(16) إن تقل واق
البرق تحت القزع حايقول مشراق
الشويكل(17) عا يقلب والوادي عاينضاق
– ذكر الجمل:
وهو وسيلة التنقل وأداة الحمل، وبما أن البدوي يتتبع مواضع القطر ووجود الكلأ، ينتقل من مكان لآخر فلا بد من وجود مطية قوية تحمل الزاد ولا تهم بُعد المسافة ووعورة الطريق، فوجود هذا الحيوان عنده بهذه الصفات يعدو مكسبًا أي مكسب، يقول أحد الشعراء يصف هذا البعير:
اني الهاج متغمّر عيهدر سوام
انتقض به الذخيرة من ذيه عليهم كدام
الحمولة تجي ثمان والعلو عليه رزام
وبلاده قده يعرفها سيئون وشبام
الشقشقة(18) كما الخيل عا السعفة ضام
– ذكر الوعل:
رمز الفخر والعز والشموخ، وعنده ذكره يقول (عزيت بسويدان) والعزوة يقصدون بها المرجعية أو هو من يلتجئ إليه الشخص عندما يستدعي الأمر ذلك، ولفظ سويدان كما أنه يطلق على الوعل كذلك يطلق على الجمل، لكن في قصائد الختان يراد به الوعل، ثم يبدأ في عد صفاته، فقد يصف لون بشرته وعظم رأسه، وطول لحيته وغيرها من الصفات التي جبل عليها، وبعدها يصفه بالسرعة، وشدة الحذر، وأنه لا ينزل إلى منخفضات الأرض بل هو دومًا على شراف الجبال وحيودها، ويأكل من الشجر والنبت الذي ينبت في أعالي الجبال، قال أحد الشعراء يصف هذا الوعل:
عزّيت بسويدان تيس حوبة ذعر
يذعار لمن الفتيلة يتكنّش(19) لاحذر
من تيوس الكرامين ف القهيلة(20) وت عيخر
يستاطى قبا مخامر(21) فيها عيذكر
الركد(22) مرشوخات(23) والقن ما عيثغر
قنّة كما الصوب(24) ساط(25) وبيقشر
اللغب(26) عينة(27) السيوف لاهم ما جفر
القانص ما حاجه رد منه قهر
لحيته كما الثيرة(28) حيث فيها وقر
الشاعر ينهي قصيدته بالحديث عن الوعل، بعد أن يذكر جل صفاته، وكما أشرت آنفًا أن هذه القصائد محتاجة لمزيد بحث، وليس من نافلة القول أن أذكر أني ذات يوم دُعيت لحضور محاضرة لأستاذنا الكبير عبدالرحمن الملاحي -رحمه الله رحمة الأبرار- وكانت المحاضرة (مقارنة بين ترنيمة الشمس وقصائد الختان)، ترنيمة الشمس، أحد النقوش القديمة ما قبل الإسلام. وكانت المحاضرة جد قيّمة أوضح فيها أستاذنا الملاحي وجوه الشبه والتقارب بين تلك القصيدة التي ألقيت وبين ذاك النقش القديم، مما يدلك على توغل تلك القصائد التاريخية في القدم.
معاني بعض المفردات:
1- لكوك: جمع لك واللك عملة تساوي مائة ألف في (إيران، والهند، واليمن)، أي ما يعادل عشرة ملايين.
2- فاضي: فَضَا الشجر بالمكان فَضْوًا: كثر، ويقصد الشاعر مهما تكن كثرته، سيجد من يقوم بتجهيزه.
3- المناحيز جمع منحاز (المنحاز): ما ينحز فيه الشيء: أي يُدَقّ.
4- الصبر بيرجام: الصبر الجبل. بيرجام، ارتجم الشيء، ركب بعضُه بعضًا، ويقصد الشاعر أن الجبل يرتج من قوة الضرب بالمناحيز، فتسقط منه بعض الأحجار.
5- عجر: جمع عجرة، وهي ثمرة السدر بعد أكلها كنواة التمر، وإذا اندق البن جيدًا فإنه يعمل مثل هذه الحبه المستديرة.
6- عضُد رام: العضد ما بين المنكب إلى المرفق، وفيه كناية على أن الذي تولى دق البن شاب فتي، والرام يقصد به الهرم.
7- تريمشه: طريق تجارة قديم تمر به الإبل محملة بالبضائع من قصيعر وما حولها إلى حضرموت الصحراء عبر هذه الطريق، تمر من تحت حصن شقبون.
8- الضرك: مجموعة حصى توضع بانتظام في مكان وعر من الطريق حتى تستوي لكي تمر عبرها الإبل أو غيرها.
9- حيث ذاك يكفر: المقصود به صاحب الحصن، ويطلق عليه حصن الكافر وحصن شقبون، نسبة إلى الحاكم الفارسي (شقبون).
10- حيد سلّات: جبل أملس مقطوع، وأصل السلت القطع.
11- الحادي: جبل في قرية تحت الطريق.
12- سنن: في الجهة المقابلة، أو قريب منه.
13- الخليلات: الخَلَلُ: مُنْفَرَج ما بين كلَّ شيئين.
14- وحي يا كريم: وحي يقصد واحد.
15- سحوق: جمع سحق، والسَّحْقُ: السحابُ الرقيقُ، والجمع: سُحُوق.
16- الطَّشُّ من المطر: فوق الرِّكّ ودون القِطْقِط، وقيل: أَولُ المطر الرَّش ثم الطَّش.
17- الشويكل: شعب أو وادي.
18- الشَّقْشِقَة: شيء كالرِّئَةِ يُخرجُهُ الجَمَلُ من فيه إذا هاجَ.
19- تكنش: يتجه يمنة ويسرة في حذر ليحدد مكان الخطر.
20- القهيلة: وادي رغدون بعسد الجبل.
21- مخامر: الخَمَرُ: ما وارى الشيءَ من شجر أو بناء أو جَبَلٍ أو نحوه.
22- الركد: جمع ركدة، وهي العلامات التي توجد على طول القرن.
23- مرشوخات: المرشخة، الواسعة، ومراد الشاعر أنهن في أحسن خلْقة.
24- الصوب: الجرح.
25- ساط: اندمل سَاطَتْ نَفْسُهُ: تَقَلَّصَتْ، اِنْزَوَتْ.
26- اللغب: جمع لغب، وهو قرن الوعل، شبهه بالسيف المسلول. اللَّغْبُ: الرَّدِيء من السِّهَام الذي لا يَذْهَبُ بَعيدًا.
27- عينة: مثل.
28- الثيرة: نبت له عيدان مدللة، تتغذى عليه الإبل، والجمع ثير.