ملف
أ. هاني عبود الغتنيني
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 13 .. ص 72
رابط العدد 13 : اضغط هنا
• أولًا / نبذة عن حياة الشاعر:
هو الشاعر عبود بن عمرو بن علي بن عمرو بن علي بن مزغوف الغتنيني.
من مواليد منطقة سرار إحدى قرى مديرية الريدة وقصيعر بمحافظة حضرموت عام 1904م تقريبًا.
تلقّى تعليمه الشرعي عن الشيخ عبيد بن عوضة -رحمه الله- حين كان إمامًا لمسجد سرار، ثم درس بعد ذلك على يد الشيخ عمر بن محمد بن طاهر باحميد، ومن بعده عن الشيخ برهان بن عبدالكبير باحميد -رحمهما الله-، وكان التعليم آنذاك يرتكز على القراءة والكتابة، وقراءة القرآن الكريم، وتعلّم العلوم الشرعية، ويتم بدافع ذاتي ورغبة من المتعلم، وكان الشاعر عبود بن عمرو مجدًّا، عالي الهمّة، فنال حظًا وافرًا من العلم، ونشأ نشأة صالحة منذ نعومة أظفاره .
تفتّـقت موهبته الشعرية وهو دون العشرين من عمره، وكان سريع البديهة ذكيًّا فطنًا، فجادت قريحته بشعر عذب رصين متين، ودخل ميدان الشعر إلى جانب كبار شعراء عصره، ومما نقله الرواة جلسة على الحفة في عسد الجبل مع الشاعر حيمد بن الغطف الغرابي، وهو شاعر كبير في مكانته وسنه حينها، والشاعر عبود بن عمرو لم يبلغ العشرين. واستطاع مجاراة ابن الغطف باقتدار ونال إعجابه وشهادته، وهي مساجلة جميلة وطويلة، نقتطف منها شاهدنا:
يقول حيمد بن الغطف الغرابي:
يا صغير السن وقّـف بانتساير عالحقيقة في القعيدة
جبر ما بيني وبينك بانتساير عند حكمان
جواب عبود بن عمرو:
جبر حيمد لي تعنّى بانصفّي ما على قلبه يريده
با نخلّي الحوض صافي كان شي شوكة وميزان
قال حيمد بن الغطف:
نا بغيتك لا محلي في ربوع الحصن بامدك قليده
بانتساير عالحقيقة ما بغينا مال بهتان
جواب عبود بن عمرو:
ما تهوّبت الثقيلة ما تعبر الحيد إلا النجيدة
ساعدونا يا صحابي يوم نا دولة وسلطان
وصدقت فيه فراسة حيمد بن الغطف الغرابي، فأخذ عبود بن عمرو مقاليد حصن الشعر المشقاصي، وأصبح شاعر ثعين وعموم المشقاص، واسمًا لامعًا في سماء شعرها.
سافر الوالد عبود بن عمرو الغتنيني إلى السوا بلاد أفريقيا حل منفي شبابه للعمل هناك؛ حيث كانت وجهة المسافرين لطلب الرزق في ذلك الوقت، ولا ندري مدة مكثه فيها غير أنه من عادتهم أن يمكثوا سنوات في تلك البلاد ويعاودوا السفر إليها، وكان الوالد عبود بن عمرو الغتنيني يجيد اللغة السواحلية، ومن طريف ما يروى أنه لما تفرغ للتدريس في منطقة سرار، كان أحد الطلاب يجيد اللغة السواحلية؛ إذ نشأ هناك عند والده، فكان الطلاب إذا أرادوا الاستراحة طلبوا منه أن يكلم الوالد فيطلب منه الاستراحة بالسواحلية فيأذن لهم.
وفي أثناء إقامته بالسواحل كان يحضر مجالس الشعر التي يقيمها أهل هذه المناطق في أرض الغربة، يعبّرون بها عن شوقهم وانتمائهم، فلم يكن بعدهم عن وطنهم ليقطع صلتهم به وبتراثه وفنونه، فقد نقلت لنا جلسة على الحفة في السواحل جمعته بالشاعر عوض بن السبيتي.
قال عوض بن السبيتي:
وسيل الحميمة لي ظواكم عسى السوم جابر
ولا شربت الجربة تقبل لها من قصب وسبول
قال عبود بن عمرو:
معنا سواقي لي تردن سيول العوابر
رحبت بالصادر وكلا ضوا عندنا مقبول
توصلت يا زين الدرايش خيار المناور
وصولك من منيبار والا من الهند واسطنبول.
ولما استقر به المقام في سرار أخذ في تجديد مسجدها الجامع، وأمّهم فيه، وأقام فيه الجمعة، وكانوا من قبل يصلّون الجمعة في جامع الريدة، كما قام بالتدريس، فجعل من بيته مدرسة لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، فأقبل إليه الطلاب من سرار والقرى المجاورة، واستفاد منه الكثير، وتخرّجت في مدرسته دفعات عدَّة، حملت القلم، ورفعت لواء العلم في وقت ساد فيه الجهل وتفشّـت الأمية. كما كان مأذونًا شرعيًا يتولى عقود النكاح وعقود البيع والشراء.
وفي هذه الأثناء كان يعمل في مزرعة له جنوب سرار، وعند حلول موسم الصرب يشترك مع بعض أصحابه في تجهيز الجريف، فيعمل في البحر طيلة هذا الموسم، وهو موسم مهم لأبناء هذه المناطق.
أما في موسم الخريف فينتقل الى عسد الجبل حال معظم بيت غتنين، فيقيمون فيها قرابة الشهرين؛ ليتصلوا بأموالهم هناك، ويشرفوا عليها؛ إذ كانوا يملكون أجزاء واسعة في ذلك الوادي الفسيح، ولهم فيه حصن مشهور، وناحية يسكنونها تسمى (زحر بيت غتنين)، أو الزحر على يمين الداخل إلى وادي عسد.
وهناك توطدت علاقته بكثير من وجهاء تلك المناطق وشعرائها ومن يفد إليها من سكان الساحل المشقاصي؛ حيث كانت عسد الجبل حينها ملتقى لأبناء المشقاص من مختلف المناطق، يجمعهم موسم الخريف، ويحصل بينهم التعارف والتآلف، ويلتقي الشعراء والسمّار في جلسات الشعر والسمر في تلك الليالي الجميلة، وبخاصة في مناسبات الزفاف والأعياد، ويتبارى الشعراء في إبراز بديعهم وما تجود به قرائحهم من كلمات.
وفي هذه الأجواء المفعمة بحب الشعر الرصين وعشق الكلمات العذبة تعرف جمهور الشعر عن كثب على شاعر المشقاص عبود بن عمرو الغتنيني، كما عرفته ساحات الزوامل وجلسات الشعر في كل أنحاء المشقاص شاعرًا بليغًا فيّاض القريحة غزير المعاني عذب الألفاظ، فسار شعره على الألسنة، وذاع صيته، وانتشرت أشعاره، ولعلو مكانته في الشعر صار يقصده الناس للإجابة عما ورد إليهم من قصائد؛ فقد جاءه مثلًا عبدالله البساري بقصيدة للشيخ علي بن حسن باعباد فرد عليها، وأرسل الشاعر عيظة بن الطير الجمحي قصيدة إلى المقدم حمد بن سعيد بن قتيب فورد بها على الوالد عبود بن عمرو ليجيب عنها وغيرها كما في ديوانه.
وكان ذات مرة في جلسة على الحفة مع جماعة من الشعراء، منهم بن علي عامر اليافعي، فجاء إليه رجل بينه وبين زوجته شقاق، وطلب منه قصيدة في ذلك، فقال له تريد قصيدة لتراضيها أم غضب وقناعة، فقال غضب وقناعة، فقال الوالد:
ولعاد برجع * لو قال ألفين كر* ما لنت يا قلبي لو با يلين الحجر
بنساه من بالي * يا من شنانا شنيته لو سقانا عسل جردان
وكان الشاعر عبود بن عمرو -رحمه الله- معتدًا بقومه يفخر بهم، ويشيد بتاريخهم وأمجادهم، يسند موهبته الفذة تاريخ مشرف لقبيلته (بيت غتنين)، هذه القبيلة العريقة التي تحظى بسمعة حسنة، وتقدير لدى القبائل المشقاصية، فقد كان لسانها الفصيح المعبّر عن مآثرها والمدافع عنها في زمن ساد فيه الصراع القبلي، فاجتمع بذلك تألق الشعر وشموخ التاريخ، كما اجتمع في شعر عبود بن عمرو رقة الزهد والصلاح، وبلاغته وجماله وصلابة الغتنيني وشجاعته وجرأته، فهو القائل للشيخ سالم بن برهان باحميد ابن شيخه هذا العتاب الرقيق:
بو عمرو قال الفتى صادق من الصادقين
مشهور معلوم وجميع العرب دارييـــــن
نا با تكلم وهاظ الرأس ما هو منيـــــــن
والي يسقّــي ذبوره والذي مزمنيـــــــن
وســـــــرار فيها أسرار الأولياء ساكنين
وزرعها الهيل والكادي وعود البنيـــــن
شوفه شفاء القلب وثماره دواء العاشقين
والشيخ قل له يفنّد في الذي هو هويـــن
يا للي ذكرت العدالي والحجز واللويــــن
كم من جمل في المحط والرأس ملقي ونين
ما تهوب العوش ضاري عا حمول الرزين
لولا الحرم والشروع الماضية الوافييـــــن
ما با رضي بالمذمـــــة فرّح الشانييــــن
وهو القائل في موضع آخر:
وسرار فيها شاربين المسكرة قل للهلالي ما ربح من غارها
ولما حصل نزاع على آبار في الحافة بين الكثيري والغتنيني، قال الشاعر كعموم العليي وهم حلفاء الكثيري:
قل للغتنيني يفتكر يشاور صحابه والبدد
كانه مطامع في البيار قل له يتقنع من عسد
فرد عليه عبود بن عمرو بقوله:
ذلحين يا لهاجس نشد .. ويقول بو عمرو الفتى عا لهافية ما با سجد
ما شل ذي ما ينتقــد .. يوم العضيدة شابكه وعلى القوايم معتمــد
وسلام عا جمع البــدد .. عا شجر الثعين صلاح الروم لي ناره وكـد
وعسد معي مسراح جد .. مسراح من زام الكفر وبدر عاده ما وجد
ما با تقنّع من عسد .. نخزي عليها بالخموس والكيل من روس العدد
وخرج بيت غتنين ذات مرة في طردة، ومعهم شاعرهم عبود بن عمرو حتى وصلوا إلى أطراف المهرة فاسترجعوا إبلهم وصفّوا في تلك المنطقة، فقال:
قال الصليب ابن الصليب يا من معه دحن الوعل بايوردونه عالطليب
سرّحـت ما نا مستهيــب وتوسليــت المسكـــتي للخصم قطاع النصيب
فساروا يتزملون بها حتى وصلوا منطقة العيق، فاستوقفهم، وقال:
ندّخت من بحر الغزير** بحر المراكب والفلوك** والشحن من عود الكسير
عدّيـت شامـر بالكبير** عدّيــت مانا مستهيـب ** بين الشريحـي والكثــير
وعندما يتعرض بيت غتـنين وشاعرهم لاستفزاز من شاعر ما يكون الرد قويًا ومفحمًا، يعتمد الشاعر في مثل هذه الحالات على الكنايات والاستعارات الجميلة التي تضفي على شعره رونقًا وتزيده إبداعًا، ولم يكن من شأنه الفحش في القول وتجاوز حد الأدب، فقد قيل له مرة والمقصود قبيلته:
بو ثــــريا لــك حنيــن ليشه لا الزمن قلب والوقــات مقلبين
كأنك من مطر صحين كأنك من مطر كنان لا برقت من العين
فيذكر الشاعر أنه كان لهم شأن فيما مضى ولم يعد كما كان فرد عليه:
لا الصناعة من تقين بايتفـــاقد الخــلل قبل لا العـوار يبيــن
القسـي ما عاد يليــن يقطع من غير مسن في العلوب الراسيين
أي: أنه كما كان قويًا لم يدخله لين، وعلى عادته في القطع حادًا ماضيًا لا يفتر، ولا يحتاج إلى صقل (سن).
ومع أن شعره كالنسيم العليل رقة، وكالشهد حلاوة إلّا أنه إذا نيل من قومه، فإنه ينقلب إلى بحر هائج متلاطم الأمواج لا يقوم له شيء، فعندما كان في مساجلة مع أحد الشعراء يعمها الصفو والهدوء؛ إذ بدرت من ذلك الشاعر كلمة أخفضتهم فكان الجواب:
موجه وخضير قلب .. وذلحين صدق الشان .. كل شاره فيها خب
عاده لي فصل زيب .. وانته عارف السفــر .. وتربـّـن الخشــــب
وخضير اسم يطلق على البحر.
وعبّر بالبحر في مناسبة أخرى لكنه هذه المرة طغت أمواجه وصار أكثر قوة وهيجانًا بإحساسه برياح مصاحبة للسحب الممطرة، ويكون البحر أشد اضطرابًا في هذه الحالة ليستقبل سيلًا قادمًا إليه، فقد قال أحد الشعراء واصفًا نفسه بالسيل محذرًا من أمام:
ضويت من صيق عكل .. من هو عاطريق السيل .. يتوحز لا معزل
فقابله البحر:
بحـر الحيـــوس رقل .. يـــوم عايــن المخــال.. وطهوب النو قبل
لا تحسبني بيت جفل .. صافي ومسقاي بميس .. وحديدي مي فتل
وقد وصفه شاعر آخر بالبحر فأصاب وهو يقصد قومه فقال:
ذا ورى خضير كذي .. ذا ورى خضير عموم .. اتشور وتملي
فكان الجواب أن أشاد بقومه وتاريخهم المشرف مذكرًا أن الغني يبلغ ما يريد:
من ضماره بايكفي . . . لي قدّم لي عذار ويشكي من قل الشي
المضمّـــر والغني . . . بي تبلّغ حيث يريد وحباله با تضفــــي
وعند زيارة السلطان القعيطي للريدة الشرقية، وفد عليه صف بيت غتنين في من وفد من قبائل المشقاص يتزملون بقول شاعرهم عبود بن عمرو:
وبديت بالفرد الجليل * وعلى الصـوايب دلّنا يا ربنا وأنته دليـــل
وجّهت والمورد سبيل * شوكـة على قبّـانها عالحق واقف ما تميل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يالقبـــــولة ملّش طويـــل * وعلى الشروع البالغة من كالها بايستكيـــل
عادي مطوّل في الجميـل * وعلى الوثور السابقة عندك ونا عندي قبيل
فجعل قبيلته في مصاف الدولة ومقابلة لها مشيرًا إلى المعاهدة بين الغتنيني والقعيطي، والتي أنهت صراعًا بينهما دام سنوات، وهي أول معاهدة للدولة القعيطية في المشقاص كما يقول الملّاحي.
ومع أن الشاعر -رحمه الله- قد طرق في شعره موضوعات شتى على ما هو معهود لدى شعراء عصره، فإنه قد توسع في إدخال المعاني الإيمانية والزوامل ومقدمات قصائده مع التزامه ذلك في غالبها بما يجعله متفردًا في هذا الجانب، فقد جعل ساحات الزوامل تردد معاني الثناء والتبجيل للخالق العظيم، ونبيِّه الكريم، وأطنب في هذا الأمر وأكثر، وديوانه خير شاهد على هذا يقول في إحدى قصائده:
بابــدي ونا في رجـــاك . . . يا إلهي يا قــــوي . . . ومــــــدور الفــــلاك
ما حد غيرك في الملاك . . . والصلاة على النبي . . . ما نا في الرسالة شاك
ويقول في قصيدة أخرى:
بابـــــدي والله كبـــر . . . يا مزين السماء بالكواكب والقمــــر
صلوا عالنبي حضر . . . له محبة فالقلوب والخواطر به تستر
وقد قضى في التعليم والإصلاح والحضور الشعري، وفي عام 1972م سافر إلى مكة لحج بيت الله الحرام بصحبة ابنه الشاعر عمرو عبود الغتنيني، وحج معهم في هذه السنة الشاعر الشيخ كرامة بن عمرو بن حماده الثعيني فترافقوا معًا وأكرم بهم من رفقة!
وقد عزم الشاعر عبود بن عمرو على ألَّا يقول الشعر بعد عودته من الحج كما أخبرنا بذلك الشيخ كرامة بن حمادة، وفعلًا انقطع عن ميدان الشعر بعد أن حلّاه بأبهى الدرر والجواهر وسار بأقواله الركبان، وقد ترك للشعر جماعة من الشعراء يقومون بمهامه في مختلف المناسبات والأحوال، وفي ذلك يقول الشاعر أحمد بن سعد بن الخليسي الغتنيني مخاطبًا عبود بن عمرو:
بوعمرو يا شيخ البلاد * باكسيك بز المشعبي لي هو على الدنيا وجاد
ما بيت شدّك عالحواد * ومعي دواسر باركة لي تجيك عاطلبه وكاد
فأجاب عبود بن عمرو:
نا حضرت في زام العناد * واليوم تخفيفي معي وأمّا الثقيلة عالنجاد
ما بيت قصّر ذا المواد * أما الزمان السابقي ضاري نسقّي به قواد
ولم يقل الشعر بعد هذا إلّا مرات معدودة ولأسباب خاصة، فمن ذلك عندما قدم عليهم صف الثعين مع شاعرهم الشيخ كرامة بن حمادة الثعيني بقصيدة على حرف (الصاد)، فأجابه بعضهم بقصيدة ليست على الحرف نفسه لصعوبة هذه القافية، ولأن أكثر الشعراء كانوا أميين فرد ابن حمادة بقصيدة يطلب منهم استدعاء الصانع الماهر في صناعة الشعر ووكيله والقائم على خزائنه فقال:
بالحقــــائق ما تختــــــص . . . يمحــــن لا نكد الخو لا تنكـــد ونتغــــص
لا شي في الحساب نقـص . . . يوفيه وكيل المال لا هو في الخزائن رص
فأرسلوا الى الوالد عبود بن عمرو فجاء متكئًا على عصاه حتى وقف أمام الصف وأنشأ يقول:
وكلامــــك له محـــــص . . . حيا من هدف وجاء لا هو بالضمير خلص
ما شي في الوهوم نقص . . . ليشه لا الزمــــن قلب والفتيلـــــة عالمقص
فقال ابن حمادة مثنيًا على الشاعر عبود بن عمرو ومكانته في الشعر:
ماهر في الصنع ختص . . . قدم من حبوب اللول صب الفضة فوق الفص
الفضـــايا عا تغــــتص . . . عــــد وازر من قصـــب وشواغي متمــــتص
لقد كان للشاعر مكانة مرموقة في ربوع المشقاص، مشهودًا له بالتقدم والفضل، وكان ذا قدرة فائقة على صوغ الجملة الشعرية، فأتى شعره جزلًا، وألفاظه جميلة منتقاة لا حشو فيها ولا زيادة عما يقتضيه المعنى، ومعانيه غزيرة مع ما تضفي عليه الصور البلاغية التي يجيد استخدامها من رونق وجمال، ويتدفق شعره عن طبع وسرعة البديهة، مع ما كان عليه الشاعر من خلق حسن وزهد وصلاح، فلاقى قبولًا حسنًا عند الناس، وثناء عاطرًا، وتلك عاجل بشرى المؤمن .
ولنأخذ ما قاله فيه أبرز رجالات الشعر والأدب، وهي شهادة معتبرة معتد بها؛ لأنها صدرت من أهل هذا الشأن:
• يقول الشاعر الشيخ كرامة بن عمرو بن حمادة الثعيني معلقًا على ما عرض عليه من أشعار الشاعر عبود بن عمرو التي تم جمعها: »إن الوالد عبود بن عمرو هذا الموجود غير كافٍ من بحره الزاخر في وقته ومع طول عمره الزاهر بالعطاء، وما يذكر الناس عنه بأنه شاعر المشقاص جميعًا، وشاعر غتنين وعموم ثعين ومن يسكن بجوارهم، وإني حزين على ما فرط من إنتاج نبعه الصافي ومهارته في صناعة الشعر، وإنني غير مقتنع بهذه النتف، ولا أعتبرها إلا رشة من محيط زاخر«.
وهذه شهادة لها قيمتها من مثل الشيخ كرامة بن حمادة، وهو من هو في الشعر والأدب.
إن مما يدعو إلى الحزن والأسى لدى المهتمين بالشعر أن لا يصلنا من شعر الوالد عبود بن عمرو إلا القليل، وإنّ ضياع شعره وشعر غيره في ذلك الزمن لخسارة كبيرة للأدب المشقاصي والحضرمي عمومًا .
• يقول عنه الكاتب والأديب المعروف سالم العبد: »كان شاعرًا مطبوعًا حكيمًا ورعًا شهمًا كريمًا لا يجود الزمان بأمثاله إلا في ما ندر«.
• يقول الشاعر سعيد سالم بلكديش عندما سئل عن شعراء المشقاص: »حسب ما سمعت وقرأت وهذه من وجهة نظري الشخصية إن عبود بن عمرو كان المتميز فيهم، مع الشيخ علي بن حسن باعباد«.
وافاه الأجل في ليلة الإثنين تاريخ 19 ربيع الأول عام 1406 هجرية الموافق الأول من ديسمبر 1985م، بعد حياة حافلة بالعطاء .
له من الأبناء اثنان عمرو بن عبود الشاعر المعروف، وسعيد بن عبود، ومن أحفاده الشاعر عبدالرحمن سعيد الغتنيني رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته .
• ثانيًا: قبسات من أنوار الحكمة في شعره:
الحكمة نور يؤتيه الله من يشاء من عباده، تضيء قلوبهم وتجري على ألسنتهم، ذلك أنهم أقوام عمرت قلوبهم بخشية الله ومحبته، وجوارحهم بطاعته، فاستنارت بصائرهم بنور الحكمة.
فالحكم نصائح ذهبية، وخلاصة التجارب البشرية، ولباب العبر المصوغة في نظم درر ينتفع بها أولو الألباب، ويسترشد بها إلى الصواب .
والحكمة وضع الشيء في موضعه بإحكام، فعند الحكماء لكل مقام مقال، ولكل حادث حديث، ولذلك رأينا الشاعر العربي الحكيم يعد لكل حالة ما يناسبها فيقول:
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
وكل كلمة دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة، وهي من حيث صياغتها الأدبية عبارة بليغة موجزة تحمل معاني عميقة يستضاء بها في تقلبات الحياة ومنعطفاتها، وأولاها بهذا وأحكمها أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي جوامع الكلم، فالحكمة كلها في اتباع وصاياه وأخلاقه وآدابه.
وتاريخنا وأدبنا العربي يزخر بالحكم الرائعة والأقوال الجميلة؛ إذ هو منبع الحكمة ومعدنها، ومصدر البلاغة وموطنها، وكذلك تراثنا غني بالحكم نظمًا ونثرًا، والتي تصطبغ بطابع البيئة والحياة الخاصة بهذه المنطقة بكل جوانبها، وتظهر عليها بصمتها الثقافية واللغوية.
وكثيرة هي الأمثال والحكم التي تتردد في مشقاصنا العزيز، ويستشهد بها في المواقف المختلفة، ولئن كانت الحكمة تأتي في النظم والنثر، فإن الشعر هو مظنة وجودها، فهو منبتها الذي تزهر فيه.
ونقف معًا أيها القارئ الكريم في ظلال الحكمة وأفيائها الوارفة مما قاله والدنا الشاعر المعروف عبود بن عمرو الغتنيني –رحمه الله وأعلى درجته- لنقطف من ثمراتها اليانعة ما نتزود به في دروب الحياة ونتمثّله ونمتثل به، فالشاعر مكثر من الحكمة عن بديهة وإلهام، تنساب في دواخل شعره كالنسيم العليل، المحمل بشذى الأزهار، ويتدفق كالنهر العذب الرقراق، لا يرى فيها أثر للتكلف والصنعة التي تعيق تدفق الشعر وانسيابه، وسنتناول بعضًا من تلك الحكم منتزعين لها من سياقها، والتي هي أجمل ما تكون فيه خشية الإطالة، على أمل أن يستفاد منها قيمًا وأدبًا ويكون فيها دافع للارتقاء نحو الأفضل.
وإليك أيها القارئ الكريم شذرات من تلك الحكم:
• حكم تتعلق بالاجتهاد والهمة وعلو النفس:
من ما سرى ليل ما صبح مع القافلة.
هذه الحكمة تحث على الجد والمثابرة، وتصور الكسول الخامل كالنائم حين تنطلق القافلة ليلًا قاطعة الفيافي والقفار لتصبح وقد وصلت إلى مقصدها، بينما يصبح الذي آثر النوم والكسل في مكانه الذي بات فيه، وشتان ما بين الفريقين، وهذا يجعل المرء يسعى مجتهدًا ويتحمل المشاق والصعاب ليحقق أهدافه، وعلى أصحاب الهمم وطلاب المعالي أن يضعوا هذه الحكمة نصب أعينهم .
ونفس هذا المعنى يحمله قوله:
كلف على الساقين والمبعد يجي
ولعاد تهوب في المزاحم والعقاب
غير أن البيت الأول تظهر فيه مقارنة بين القافلة السايرة والمتخلف عنها، وفي الثاني تتوجه النصيحة لبذل الوسع في الوصول إلى الهدف البعيد ماشيًا على القدمين، وكلاهما مشهدان مألوفان في قطع المسافات حينها .
ما حد يحذف صبر لي حصاته ما تغشاه
الصبر هو الجبل الشامخ الذي لا تضره ولا تضيره رمية رجل ضعيف بحجر صغير، كما لا يضير ذوي الرفعة والمكانة تطاول الأقزام، ولا تنقص من قدر الكرام سفاهات اللئام، ونأخذ من هذه الحكمة احترام أهل المكانة والشرف ومعرفة الفضل لأهله وإنزال الناس منازلهم، وألا يزيدنا حذف الصغار إلا إصرارًا وسموًا .
وقوله (ما حد) تعبير مشهور متداول في النهي عن فعل الشيء بصيغة النفي وقوله (لي حصاته ما تغشاه) مبالغة في إظهار ضعف الرامي للجبل ومعنى (ما تغشاه) لا تتعدى مكانه ولا تتجاوزه .
لكن تسديد المسايل لا خير
سيد الحكام السد في عرض وطول
يشير إلى أن التقريب والصلح خير وأفضل مع ما ينطوي عليه من أخلاق كريمة، كالصفح والتسامح والتنازل للآخرين، وإذا وجد الصلح فلا حاجة للحكم، بل الصلح هو سيد الأحكام في طول البلاد وعرضها، ويشد السمع هذا الهمس الجميل الذي يضفيه السين وأخواتها على النص وكأننا بكبير قوم يصلح بين متخاصمين.
ماشي معك عذر في قولة غبي ما فهم
ما قلت خالي وجبر الخال زايد حرم
وهذا يقال في اللوم والعتاب، فقد نفى العذر عن المخاطب مستبقًا له؛ حيث لم يبق معه إلا أن يعتذر بقلة الفهم وعدم الانتباه، وهذا أيضًا غير مقبول منه، وهو رجل يعرف بالذكاء، ويعرف ما يجب عليه وكان الأجدر به أن يحفظ مقام الخال الذي اشتهر القول عنه بأن (الخال والد)، ففي البيت الأول التخلي عما لا ينبغي، وفي الثاني النصح بالتحلي بما ينبغي قوله، ومع عدم قبول الشاعر لهذا العذر في هذا الموضع نجده يعتذر به لدفع اللوم عن رجل آخر فيقول:
غشيم سالم تهاون والغبي قد يزل
وهذا ينزل على أنه يحتمل من الشخص ما لا يحتمل من غيره، وهذه الحكمة يمكننا إيرادها للتخفيف من وطأة التقصير والملامة .
وتأمل براعة الاعتذار ورقة الاستعطاف لهذا الرجل الذي أكثر عليه في اللوم، وحمل عليه التفريط، وكيف اعتذر عنه بثلاثة أشياء في هذه العبارة الوجيزة، وجعلها مقاطع في هذا البيت على هذا النحو المعبر (غشيم سالم)، (تهاون)، (والغبي قد يزل) .. وقوله (الغبي قد يزل) من استخدام قد للتكثير كقول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
القبولة كسبنا من له عمل ما يمل
قد لي عوايد في المطراد بيّت وظل
يفخر الشاعر بما تتضمنه (القبولة) من شهامة ونخوة ومروءة، ويقول إنها تصلح لنا وتوافقنا (كسبنا)، وإننا جديرون بها ونشأنا عليها وألفناها، وأكد أنهم مستمرون على ذلك لا تثنيهم الصعاب، فختم بهذه الحكمة الرائعة (من له عمل ما يمل)، وكأنه قرأ قول المتنبي: لكل امرئ من دهره ما تعودا
من توسق في الثقيل ما يبالي بالتعب:
هذه الحكمة تحث من دخل في أمر من المكارم أن يتمه، ومن بدأ عملًا عظيمًا أن يعلو بهمته ويكمل ما ابتدأه ولا يلتفت الى المتاعب والمشاق، فمن أراد أن ينال الشرف والسؤدد فلا تثنيه عن مراده المصاعب ولا يبالي بالعقبات، وقوله (توسّق) أي حمله قال في مختار الصحاح (وسق الشيء أي جمعه وحمله).
والهاج له عادات إذا تحمّل هدر
ما يهمر المطلع ولا هاب النزول
الهاج هو الجمل القوي، وكنّى به عن الرجل الذي يتحمّل ويركب الصعاب في سبيل العزة والشرف حتى صار ذلك عادة له، فسهلت أمام همته العقبة الكؤود.
ومن لا يحب صعود الجبال .. يعش أبد الدهر بين الحفر
ولا يصل الرجل الى مرتبة الشرف والسؤدد إلّا بتحمّل المكاره
لولا المشقة ساد الناس كلهم .. الجود يفقر والإقدام قتّال
وفي معنى ما تقدم جاء قوله أيضًا:
ما تهوّبت الثقيلة ما تعبر الحيد إلا النجيدة
ما يعرف القول الصليب إلا الصليب
أي أن الرجل ذا المكانة والقدر يدرك معاني الشهامة والرجولة، ويحفل بها لمناسبتها مقامه وعلو نفسه، أما غيره فلا يعيرها اهتمامًا ولا يبالي بها؛ لأنه ليس من أهلها.
• حكم تتعلق بالتوكل والرجاء:
الخير واصل والشدائد با تهون:
هذه العبارة الحكيمة تحث على التفاؤل بل تغرسه في النفوس غرسًا بهذه الصيغة الجازمة النابعة من نفس ملؤها الثقة بالله وحسن الظن به وصدق الرجاء في فضله الواسع، وهذا ما عرف به الشاعر -رحمه الله-، ولذا جاءت العبارة وكأنه يرى الخير ماثلًا أمامه مقبلًا إليه، والشدائد تتلاشى أمام هذه الثقة العظيمة، وهذا المعنى الجليل يذكر بقول الشاعر:
وإني لأرجو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع
ومن دقائق البلاغة تعبيره عن الخير بالاسم (واصل) الدال على الثبوت والاستمرار، وعن الشدائد بالفعل (باتهون) الدال على التنقل.
وموضوع التوكل والاعتماد على الله تعالى ورجائه وحسن الظن به تتردد كثيرًا في ثنايا قصائده، من مثل قوله في قصيدته المطولة جوابًا على الشاعر الشيخ علي بن حسن باعباد رحمه الله:
ويسرك الحال ريض في الوطن حيث حل
الرزق يأتي به الرحمن كثرًا وقل
نحن عباده وفي التصريف تحت الوكل
الملك لله لا بغا شيء لحد يسّره
يقرر أولًا وحدانية الملك لله المالك لكل شيء، ثم وحدانية التصرف في هذا الملك بما تقـتضيه إرادته وحكمته، فييسّر لكل مخلوق ما أراده له، فالملك ملكه، والأمر أمره، وينبغي للعبد أن يتوجه برجائه إليه، فهو الكريم الجواد الذي لا يخيب من رجاه، وإذا أراد بأحد خيرًا فلا راد له (لا بغا شيء لحد يسّره)، وفي كلمة يسّره من اللطف والرقة ما يجعلها تشير إلى قوله تعالى: [وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ] [الطلاق: 3].
وبديت بك يا إلهي مكتلف يا نظير
عبدك على باب جودك مو على باب غير
يقول بو عمرو ما نقبض بحبل القصير
قابض بحبل القوي راجي من الرب خير
بدأ الشاعر -رحمه الله- بذكر الله وصفاته العلى، والثناء عليه كعادته في ابتداء قصائده؛ حيث تفيض فواتح قصائده بمعاني الإيمان والتوحيد، ويختمها كذلك، وهي ظاهرة جلية يلتزمها الشاعر، ويتوسع فيها، وهي نابعة عن إيمان وصفاء روحي فطري بعيدًا عن الهالات والتفلسف، ولذا يكون لها شأن آخر عند ذوي العرفان ومنازل الايمان، وهؤلاء يجدون بغيتهم في شعره -رحمه الله-، كما يجد طلاب التاريخ والأدب ضالتهم فيه.
فقوله (وبديت بك يا إلهي)، فيه من المخاطبة والنداء والإضافة ما يوحي بالقرب وعظم الصلة بالله، ثم ذكر بعدها صفتين عظيمتين تناسبان المقام مكتلف يا نظير، فالمكتلف المدبر للأمور المتكفل بأرزاق العباد، والنظير الذي يراعي أحوالهم ويرى حالهم.
ورسوخ هاتين الصفتين في النفس يجعلها أكثر اعتمادًا وتوكلًا على الله، ويفتح لها باب الرجاء في جوده وكرمه مهما كانت الأحوال، ولهذا قال بعدها (عبدك على باب جودك مو على باب غير)، يتوسل إليه بالعبودية والخضوع، واقفًا على بابه الكريم الذي عم بجوده كل موجود، هذا الباب الذي من قرعه يوشك أن يفتح له فيغمره بفضله وإحسانه.
والخضوع والذلة له هي غاية العزة والرفعة، وأما الطمع في المخلوق فهو غاية الذلة والحرمان، لذا قال (مو على باب غير)، أيًّا كان هذا الغير كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه »لا يرجو امرؤ إلا ربه ولا يخافنّ إلا ذنبه«.
وكلمة (مو) في اللهجة المشقاصية كلمة نفي بمعنى ليس، وأظنها أخذت من (ما هو)؛ لأن بعض أهل المشقاص ينطقونها (مهو)، وبعد هذا البيت الذي أظهر فيه رجاءه في جود الله وكرمه، واعتماده على من تكفل بأمور عباده، أخذ يمثل هذا المعنى ويصوره في صورة ظاهرية محسوسة فقال:
يقول بو عمرو ما نقبض بحبل القصير
قابض بحبل القوي راجي من الرب خير
فشبه الاعتماد على غير الله تعالى من المخلوقين والنظر إليهم بمن يمسك حبلًا قصيرًا لا يوصله إلى مبتغاه ولا يغني شيئًا، وذكر أن هذا ليس من عادته ولا ينبغي فعله، وإنما عادته التمسّك بحبل الله القوي المتين المتصل بالسماء، و(القبض) شدة إمساك الشيء باليد، ومع هذا القبض نجد أن القلب مفعم بالرجاء راجٍ من الرب خيرًا، وبهذا يكمل معنى التوكل الاعتماد على الله بالقلب مع الأخذ بالأسباب، والتعبير بالحبل عن السبب والوسيلة مناسب للسعي في طلب الرزق، وهو سبب القصيدة واستخدام الحبل بهذا المعنى ونحوه، وارد في اللغة كما قال تعالى: [إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ] [آل عمران: 112] أي بإعانة.
واستعملته العرب في أشعارها كثيرًا فقال جرير:
بان الخليط ولو طوعت ما بانا
وقطّعوا من حبال الوصل أقرانا
أي قطعوا أسباب الوصل والمودّة.
• حكم تتعلق بالعلم والجهل:
ذا الكلام يبي تنبيه * المسائل الغزار * ما يفتيهن لا الفقيه
هذا البيت يرشدنا إلى أن بعض الكلام يشتمل على معانٍ دقيقة لا يدركها كل أحد، لذا تحتاج إلى أن يفطن لها وينبه عليها، ولا يتقن ذلك إلا من أوتي علمًا وفقهًا فيدرك منها حسب مرتبته في الفقه، ولهذا ينبغي أن تترك لأصحابها (المسائل الغزار ما يفتيهن لا الفقيه).
وقد أبدع الشاعر في تشبيه هذه المسائل بعمق البحار أو البئر العميقة التي لا يصل إلى قعرها ويستخرج جواهرها ودررها إلا من امتلك مقدرات على وإمكانات خاصة وهم أهل العلم والفقه.
حذرك لا تبع هواك كل عارف لي يفتي مي تحيّر في الشباك
تلفتنا هنا صورة العالم الخبير بمداخل الأمور ومخارجها الذي لا تتمكن شباك الجهل والحيرة من إعاقته أو الإمساك به، يقابلها صورة الجاهل العالق في الشباك، وهو يعالجها فلا يستطيع الإفلات منها، وهو إرشاد لنا لمعرفة طريق الخروج قبل الدخول في أمر ما، وبيان أهمية العلم في إنارة الطريق وعاقبة الجهل .
لي مو عارف العسل خلّط العقيق معه
العسل كناية عن الشيء الجميل من الكلام والأخلاق والعلاقات وربما الأشخاص، والذي لا يميّز جميل هذه الأشياء من قبيحها وحلوها من مرّها يعامل العسل معاملة العقيق ويخلط هذا بذاك فيفسده كما يفسد الجاهل العسل بخلط العقيق معه.
والعقيق هو الشيء مر المذاق الذي لا يستساغ، وهو أيضًا مادة مرّة المذاق جدًّا تنتجه النحل وتوجد في خليتها يعرفها مربو النحل، والشاعر أخذ المعنى من هذا فإن الذي لا يعرفه يظنه عسلًا، وهذه الحكمة تدعو إلى معرفة قدر الصفات الجميلة، ومقابلتها بما تستحق، وعدم إفسادها بما يضادها؛ فإن قليلًا من قطرات مرّة كفيلة بإفساد الكثير من العسل.
يا محسن الفقه لأهل العلم درجة زيد
(يا محسن الفقه) هذه صيغة تعجب لمدح الفقه وإبراز مكانته العالية، ولعلها تحوّرت عن صيغتها في الفصحى (ما أحسن الفقه)، ويقال أيضًا في اللهجة المشقاصية في مدح الشيء (مزينه)، أي (ما أزينه)، ثم انتقل الشاعر إلى مدح أهل العلم وبيان درجتهم العالية في الدنيا والآخرة .
(لأهل العلم درجة زيد) وهو مقتبس من قوله تعالى: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] [المجادلة: 11].
أنت خابر وضيعك والذي فيها
هذه من قصيدة أجاب بها على شاعر تعالج شكاية من أمر ما، ويبدو أن الشاعر -رحمه الله- لم تتضح له بعض تفاصيل ذلك الأمر فقال:
وان كان قصدك لثاني ما فهم معناك .. انت خابر وضيعك والذي فيها
وهذه الحكمة بمعنى قول العرب (أهل مكة أدرى بشعابها)، و(صاحب البيت أدرى بالذي فيه).
وقوله (خابر) أي عالم به من الخبرة، وهي المعرفة الدقيقة، و(وضيعك) الوضيع هو المكان الذي تضع فيه متاعك وأغراضك، وغالبًا ما يكون صندوقًا أو بيتًا، (والبيت يطلق في اللهجة على الحجرة من الطين)، وربما أطلقوا الوضيع على المتاع نفسه.
وأصلها في اللغة الوضيعة قال في مختار الصحاح: (الوضيعة واحدة الوضائع وهي أثقال القوم).
الجهل علّــــة كبيــــــرة والتهم منكره
والظن رأس الخطايا ما معك مخبره
من فعلة إبليس خلى الناس في شنتره
خلّى المياريد من بعد الصفا متكــدره
الكـــــذب زرعة كما ذرية بلا ماثره
ما حـد يذم المشاخص يا محبي دره
ذا لا ذهب والذهب أبلغ من العنبره
)الجهل علّة كبيرة) هذا أصدق وصف للجهل وأبلغه؛ فالجهل علّة تتولد عنها علل وأمراض متعددة، تفتك بالفرد والمجتمع، فما من آفة ولا بليّة إلا والجهل أساسها وأهم أسبابها، وهذه العلّة الكبيرة علاجها العلم والمعرفة.
(والتهم منكرة) أي أن إلقاء التهم على الناس خطأ عظيم فاحش لما فيه من تنقص الآخرين والإساءة إليهم وإلصاق السوء بهم لمجرد الظن، والتهم أيضًا منكرة بمعنى أنها غير مقبولة فلا ينبغي تصديقها .
(والظن رأس الخطايا ما معك مخبرة) ينبّه الشاعر في معرض إبطاله للمقدمات التي أوصلت الشاعر المجاب على قصيدته إلى موقف خاطئ ويبيّن خطورة الظن السيء في إصدار أحكام خاطئة تتبعها تصرفات ومواقف وإفساد العلاقات الاجتماعية بين الناس، وبدء كل هذا وبابه الظن السيء، ولربما كان المتهم خلاف ذلك تمامًا ولهذا جعل القرآن الكريم هذا المسلك بابًا للخطأ والضلال فقال: ” ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وأمر المؤمنين باجتنابه فقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] [الحجرات: 12].
وبما أن المخاطب اعتمد على الظن الذي لا يغني شيئًا بيّن له الشاعر أن المعتمد عليه هو اليقين الذي لم يتوافر لديه فقال (ما معك مخبره).
)من فعلة إبليس خلّا الناس في شنتره(
وهنا يتناول الشاعر مصدرًا آخر للخطايا، محذرًا منه، مبيّنًا العاقبة الوخيمة المرتبة على اتباعه، ويصور آثاره السيئة في التفريق بين الناس وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم (خلّا الناس في شنتره)، أي: في تفرق واختلاف، فيبعد المرء من صاحبه والخل عن خليله، يقال في اللهجة (شنتر الشيء)، أي: مزّقه وفرّقه، ولها أصل في اللغة الفصحى، يقال شنتر الثوب، أي: مزّقه، فإبليس لا يفتأ يفسد بين الناس بشتى أنواع الكيد والمكر، فاللحمة الواحدة والاجتماع والألفة يجعلها مزقًا مبعثرة، وهي تمثيل للصورة القبيحة التي يخلّفها فعل إبليس .
(خلّا المياريد من بعد الصفا مكدّره).
وهذه صورة أخرى يرسمها الشاعر بكل إبداع لتتجلّى لنا عاقبة الاستجابة لنزغات الشيطان، فتتعظ النفوس، وتنفر من الأسباب المؤدية إليها والتي سبق للشاعر بيانها.
وهنا يبرز الفرق بين حالة الود والتقارب، والتي رمز لها الشاعر بالمنهل العذب الصافي، وحالة التنافر والتي جعلها كالمورد الكدر الآسن، وكيف يعمد الإنسان إلى المورد الصافي فيكدّره اتباعًا للشيطان.
و(المياريد) جمع ميراد ويقصد به الماء مأخوذ من المورد.
(ما حد يذم المشاخص يا محبي دره (
أي: لا ينبغي لأحد أن يفعل هذا الفعل فكيف يصدر منك؟! وهو نفي متضمن للنهي وهذا الأسلوب الجميل.
( ما حد يفعل كذا) غاية في الزجر، وهو متداول في الشعر المشقاصي.
والمشاخص جمع مشخص، وهي الجنبية المزينة بالذهب، وقد درج الشعراء على استعارة هذه الصورة للمرأة، وارتبطت بها فلا يليق بأحد أن يذم المرأة الكريمة الشريفة، ويأتي هذا المدح وإثباته للموصوف بعد أن انتهى الشاعر من إسقاط المستند الذي اعتمد عليه الشاعر المجاب عليه، فأتى على الجهل والظن وفعل إبليس، وقد سلك شاعرنا في الإقناع بحنكته المعهودة طريقة النفي والإثبات، وهي طريقة قوية بديعة .
وقوله (يا محبي دره) فيه من اللطف والرقة ما يجعل النصيحة أحرى بالقبول.
(ذا لّا ذهب والذهب أبلغ من العنبرة)
(ذا لّا ذهب) تأكيد لمدح المشاخص، وهو أسلوب حصر، فكأن الممدوح ذهب خالص، وهو أسلوب يبدو مأخوذًا من قولهم في الفصحى ما هذا إلا ذهب، والذهب من أبلغ ألفاظ المديح المتداولة، وقول الشاعر (والذهب أبلغ من العنبرة)، أي: بقيمته الجمالية والمعنوية.
• حكم في ذم العجلة واتباع الهوى
لي هي سخيفة بكّرت بثمارها
هذه الحكمة تقال في من يبدي قولًا أو فعلًا قبل أوانه وفي غير موضعه، وقوله (سخيفة) من السخف وهو الخفة وقلة العقل، وينتج عنه سوء التدبير، وعدم مناسبة المقال للمقام، والاستعجال في الأمور، فيتخذ القرار الخطأ في الوقت الخطأ، وتشبيه الشاعر هذه الحالة بالشجرة التي تخرج ثمرها قبل أوانه (بكّرت بثمارها) تشبيه رائع فبين المشبه والمشبه به مناسبة أخرى دقيقة، وهي أن مواقف الانسان تكمن بداخله كالشجرة التي تكنز ثمارها في باطنها، فإن كان سخيفًا عجولًا أخرجه قبل أوانه .
من تبع هيوظ الرأس بالميوح بعدن به
أي: من أطاع هوى نفسه أبعده عن طريق الصواب ووقع في الخطأ، و(هيوظ الرأس) أفكاره وخواطره، و(الميوح) جمع ميح وهو المسافة البعيدة.
(أو الوقت).
عي تحسّف ومظيوم لي تبع ورا الهوى وتغرنّه العزوم
نلحظ أولًا بلاغة الأسلوب في تقديم النتيجة على السبب ليسترعي الانتباه وتتطلع النفس لمعرفة ما بعده.
)عي تحسف ومظيوم) ليقال من هو؟ فيأتي الجواب: إنه المتبع لهوى النفس، وما تمليه عليه، وتزينه له، ولا شك أن من كانت هذه حاله فإنه سينقلب بالحسرة والندامة، وهذا يوجب علينا أفرادًا وجماعات أن نفكر مليًا في ما نأتي ونذر من أقوال وأفعال، وننظر إلى ما يترتب عليها من صلاح وفساد قبل الإقدام عليها.
وشبيه بهذا المعنى قوله:
حذرك لا تبع هواك كل عارف لي يفتي مي تحيّر في الشباك
هذا ونسأل الله أن ينفعنا بهذه الحكم المفيدة وأن يجعلها لنا منار هداية وإرشاد فهو ولي التوفيق.