توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 13 .. ص 114
رابط العدد 13 : اضغط هنا
في مسيرة الحركة الشعرية في بلاد العرب قيلت قصائد خلدت أسماء أصحابها مقارنة ببقية أشعارهم، وصارت تتناقلها الأجيال وتتذوق معانيها، وفي السياق ذاته نجد أحيانًا بيتًا شعريًا يشتهر من قصيدة يمثل علامة بارزة لهذا الشاعر أو ذاك، وقد يضيع اسم قائله، والنماذج كثيرة في عالمنا العربي، وفي حضرموت إذا نسي الحضارمة الشاعر الشعبي المكلاوي سعيد فرج باحريز وشعره (ت 1987م)، فإنهم لن ينسوا قصيدته التي من أشهر أبياتها:
بغيت الصدق والواقع سبولة خير من مقلع
ونخلة ما تعشي الضيف قعرها لا تخليها
والقصيدة لها قصة مشهورة في مدينة المكلا فقد ارتجلت في سياق مساجلة شعرية في بداية سبعينيات القرن الماضي، عندما صارت حضرموت محافظة من محافظات (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) بعد زوال سلطنتيها القعيطية والكثيرية في عام 1967م. كان الشاعر باحريز في الطرف الذي يحن لحكم السلطنات، وخلاصة فكرة بيت (السبولة): أن التمسك بالموجود على قلته أفضل من التطلع إلى القادم على كثرته، وبعودة إلى لغة النص أراد باحريز القول: إن السبولة الصغيرة المثمرة -يرمز بها السلطنة القعيطية- أفضل من المقلع، وهو غرسة النخلة قبل إنتاجها للبلح (التمر)، وهو هنا كناية عن الجمهورية الجنوبية الناشئة.
تجدر الإشارة إلى أن فن المساجلات الشعرية الشعبية في حضرموت يعتمد في أغلبه على الرمز، وهو مساحة يستطيع الشعراء توصيل مواقفهم وانطباعاتهم تجاه أحداث عصرهم، ويتسم بثيمات تكاد تكون معروفة عند عامة الناس لهذا يتفاعلون معها ويصطفون مع هذا الشاعر أو ذاك بحسب النظرة إلى واقع زمانهم ومتغيراته، ولأن المزاج العام في مدينة المكلا تغير تجاه نظام الحكم الثوري الجمهوري ما بعد السلطنات لأسباب لا مجال هنا لذكرها، فإن قصيدة باحريز سجلت الموقف المعارض من النظام الجديد الذي برزت إشارات عن ابتعاده عن بعض شعاراته، وتوجهاته المعلنة، وقد استطاع باحريز بموهبته الشعرية التعبير عن هواجس الناس وتوجساتهم، لهذا انتشرت كلماته في أوساطهم انتشار النار في الهشيم كما يقال، ثم تجاوزت قصيدته لحظة الموقف والغضب والحنين إلى أن صارت أيقونة في الثقافة المحلية وحكمة ما يزال يرددها الأجيال بين فينة وأخرى، وهم يلتمسون طريقهم في رحلة الحياة الطويلة، وعند لحظات التوقف أمام تحديد الأولويات واتخاذ القرارات المناسبة تجاه المواقف الصعبة والمآلات الغامضة، وبيت باحريز الشعري قريب من المقولة المشهورة (عصفور في اليد خير من عشرة في الشجرة)، لكن مفردات باحريز الذكية المعجونة بالمفردات المحلية تغلغلت في الوجدان الحضرمي وأضحت عنوانًا لمواقف سياسية، ومما أعطى للقصيدة قبولًا مجتمعيًا أنها توشحت بموقف الشجاعة لإلقائها في مواجهة طرف يمثل الحكم بهيبته ومهابته وقتئذ.
لكن النظام الثوري في الجنوب تطلع إلى أبعد من النخلة، وبخاصة عندما أعلن النهج الاشتراكي العلمي بالنسخة السوفيتية، وتوسع مفهوم الوطن المنشود عنده ليعم أرجاء المعمورة، وذلك تصديقًا لمفهوم (الأممية البروليتارية)، التي يتسق مع البيان الشيوعي المشهور (المانيفستو)، الذي دعا عمال العالم للاتحاد وتأسيس دولتهم العالمية، وتجاوزت هذه الشعارات العملاقة بمسافات ضوئية (سبولة) باحريز (ومقلعه)، وعندما فشل مشروع الأممية البروليتارية في عقر داره هرول الحكام في جنوب اليمن في وحدة مع شماله، وذلك في سياق تاريخي ارتبط بالتنشئة القومية والحلم العربي الكبير لجيل خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وأمام بريق اللحظة وضجيج العواطف غابت حكمة باحريز التي تدعو للتريث وتحث على عدم القفز على المراحل، لهذا لم يمض وقت طويل حتى تكشفت هشاشة تلك الدولة، وضعف أساسها، وندم المتسرعون.
وقد نبهت هذه التجربة المريرة -التي وصفها بعض ساسة الجنوب بالكمين التاريخي- أهل الجنوب إلى ضرورة العودة إلى وضعية (النخلة) بحسب استعارتنا لرمزية باحريز، ولا سيما بعد حرب صيف 1994م، وفي حضرموت تجدد الجدل القديم في هذه الأيام بين أنصار السبولة وأصحاب (المقلع)، فهناك من يرى الخيار الأفضل أن تكون حضرموت دولة مستقلة وأن هذا سيبعدها عن حلقات الصراع التي اكتوت به خلال نصف قرن كانت في معظمه في موضع الضحية أكثر منه في موضع القرار، بينما يرى أصحاب (المقلع) أنها ستكون أقوى ضمن الجنوب الذي ارتبطت معه بتجربة أقل مرارة، وأنها بحسب سياق الأحداث وتلاحقها وتداخلاتها صارت مع الجنوب في سفينة واحدة ومصير مشترك.
وإذا حيدنا مناسبة القصيدة وبيتها المشهور ربما سيقول قائل: إن دعوة باحريز تميل إلى الجمود وتتعارض مع فضاء التطلعات المشروعة والآمال المحفزة لحركة التاريخ وتطور المجتمعات، ونحن لا نرى ثمة تعارضًا خاصة إذا قرئ النص من داخله وحسب سياقه، وبمنطق: لكل مقام مقال.
وهكذا ستظل قصيدة باحريز حاضرة في مجريات الحياة اليومية في حضرموت، وسيتأملها الباحثون عن الحقيقة؛ لأنها أصيلة في الحكمة لا سيما عند أولئك الذين يستلهمون العبر من تجارب التاريخ، ويتفكرون في حركة حاضرهم ومشكلاته، ليتجنبوا المتاهات، وحتى لا يكونوا فريسة للندم في ساعة لا ينفع فيها الندم..