حديث البداية .. البحر.. البليغ المُشْكِل
حديث البداية
د. عبدالقادر باعيسى - رئيس التحرير

المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 4
رابط العدد 14 : اضغط هنا
مع أن البحـر منفتح على الفـراغ المطلـق فإنه يمنح النفـوس الطمأنينة وهي تحمل إلى فضاءاته جوعها الصامت إلى الحبيب والمال والسفر والعلو. إنه أحد مقامات الامتلاء في واقعنا الاجتماعي قلما التفتنا إليه، يشرف بنا على أنفسنا حين نتأمل فيه، فنذهب إليه، ونذهب منه إلى أنفسنا ، وكتلته المائية المتموجة تجعلنا أكثر تماسكًا روحيًا ونفسيًا وثقافيًا، فالعلاقة بيننا وبينه لا تخفى، سواء كانت علاقة فنية مجردة، أو علاقة علمية، أو علاقة حسية مباشرة، أو حتى علاقة ترفيه عابر. هو ثابت فينا ثبوت المتداول اليومي للغتنا ، وأكلاتنا الشعبية السمكية، وإيقاعات حياتنا. ينبض بالحيوية والصرامة، ويتصاعد فينا مواويل وحكايات تصلنا بالأفلاك والنجوم والشمس والقمر حيث يتصل بها، فتنبثق عنه وعنا أحوال غريبة ومفاجئة أحيانا من الوجد والرقة، وهو أفق معرفي ترد عبره الثقافات، لذلك هو أكثر تجددا وأكثر تراثية أيضا، يولد في من أحبوه أخلاقا إنسانية نادرة. فالبحر إنساني جدا.. عدو للمجاعات والمجاملات، يمنح البطولة، ويثبت التميز، ويبسط ثوبه كل يوم لتعبر عليه قوارب الفقراء المليئة بالتعب، يملأ نفوسنا بروح المغامرة ، أو قل روح التوحد معه، وكم استجاب لإحساسنا الجماعي، وبأي عمق كان.
البحر بليغ مشكل أدبًا وفكرًا وتأملًا، وأعدل ما يكون مزاج البحر هو أن تبالغ فيه، بأي شيء شئت، بقوتك، بإبداعك، بخبرتك.. فالكتابة والتعامل معه لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد كأمواجه. لكنه قد يرمي بكل العواطف والأحاسيس الإنسانية التي قيلت فيه، وبكل قصائد الشعراء، وخبرات أمهر الملاحين، فحضوره بخيره وشره شيء فريد ووحيد، وخطره كامن تحت طواعيته، ننوه به، ونخشى من ملابساته ومفاجآته.
من هذا المنطلق خصصنا له حيزًا في هذا العدد، وسنبدأ من العدد القادم (الخامس عشر) في بث استرسالات عنه من أحد أبرز عشاقه في ساحل حضرموت، ابن روكب الوضيئة الأستاذ عمر خميس بامتيرف، فانتظرونا والبحر.