أضواء
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 10
رابط العدد 14 : اضغط هنا
موضوع الوثائق
تسجل هذه الوثائق صفحة مفصلية من تاريخ حضرموت المعاصر، وبخاصة اللحظات الأولى لظهور سلطة جديدة على أنقاض حكم سلطنتي حضرموت القعيطية والكثيرية، وعرفت هذه السلطة في الأدبيات التاريخية (باللجنة الشعبية العليا) بوصفها جزءًا لا يتجزأ من (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل)، وقد امتد حكم هذه اللجنة (74) يومًا بدأ من 17 سبتمبر1967م إلى 30 نوفمبر 1967م، هو تاريخ إعلان استقلال الجنوب، وصارت حضرموت بموجب ذلك محافظة من محافظات (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية)، وحظيت باعتراف دولي وعربي، وخلال مدة حكم (اللجنة الشعبية العليا) ظل أمر حضرموت معلقًا من حيث غياب الهوية الرسمية العربية والدولية لها، وقبل ذلك كله كانت الشؤون الخارجية للسلطنتين تحت الإشراف البريطاني بموجب معاهدات الحماية التي أبرمتها مع السلطات البريطانية في عدن، لهذا لم يكن للسلطنتين هوية رسمية مستقلة في المحافل العربية والدولية إلى أن اختفت من الخارطة السياسية، وعلى هذا الحال ترحَّل الوضع في مدة حكم (اللجنة الشعبية العليا) كما سبقت الإشارة.
وقد يبرز هنا تساؤل مشروع وهو لماذا لم يمسك (الثوّار) الحضارمة بزمام الأمور ويعلنون حضرموت جمهورية مستقلة؟ وفي رأينا هناك اعتبارات تجعل من فكرة إعلان الاستقلال الحضرمي ضعيفة للغاية، منها أن حكام حضرموت الجدد يمثلون نبتة متدفقة من فكرة العروبة التي تدحرجت ككرة الثلج من جمهورية مصر العربية (الناصرية)، وترسخت في عقول ذلك الجيل على صعيد الوطن العربي، ثم إنهم -أي حكام حضرموت- من الناحية التنظيمية ينضوون ضمن تنظيم (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل)، وبهذا كانوا ينظرون إلى المسألة الوطنية أو القطرية بوصفها نوعًا من الخيانة للمشروع العربي (الحلم). بمعنى آخر كانت عندهم فكرة الوحدة العربية متقدمة على فكرة الدولة المحلية أو الوطنية. إضافة إلى ذلك فإن حكام حضرموت الجدد على الرغم من مصدر تماسكهم فكرة وحدة الجنوب على طريق فكرة الوحدة القومية العربية -كما ذكرنا- فإنهم في داخلهم لا يمثلون كتلة منسجمة في ذاتها بحيث تستطيع تشكيل مواقف سياسية مشتركة، أو تتخذ قرارًا استراتيجيًا مغايرًا.
وكما دونت هذه الوثائق الإجراءات المبكرة للحكم الثوري الجديد في الأيام الأربعة الأولى لوصول (الثوّار) لسدة الحكم، فإنها سجلت آخر فصول السلطنة القعيطية وانهيار أركانها، وهذا يجعلنا نضع السؤال الآتي: هل نحن أمام فعل ثوري يستدعي بالضرورة إطلاق لفظة (التحرير) ذات الدلالة الواسعة أم لفظة (السقوط) التي تحيل عادة إلى أحداث دراماتيكية أو هو انقلاب أو تسليم (اضطراري) لرموز النظام السابق لصالح الجديد؟ هذه التساؤلات والخوض في تفاصيلها ستجرنا إلى موضوعات خارج سياق هذه الوثائق، لكنها مهمة لتحديد المصطلحات بدقة وضبطها دون الانجرار لمصطلحات ذلك العصر المشحونة بالانفعالات، ومع هذا قد نلجأ في هذه الدراسة لاستخدام مفردات تلك المرحلة كلما اقتضت الضرورة؛ بوصفها مفردات ترسخت في الكتابات الأدبية، والصحفية، والثقافة الشعبية المعاصرة لها، واللاحقة.
وتَأْمَلُ هذه الدراسة قدر المستطاع تجاوز طريقة التوثيق (المَتْحَفِي) لتلك الوثائق إلى محاولة القراءة التاريخية المنهجية. ربما سيقول قائل إن زمن الوثائق حتى تاريخه (نوفمبر 2019م) اثنان وخمسون عامًا، وهي مرحلة من الناحية النظرية مثالية للدراسات التاريخية، لكن الصعوبة تكمن في تداخلها بشكل أو بآخر مع اللحظة الراهنة، فمعظم شخوص تلك المرحلة البارزين ما يزالون على قيد الحياة، بل بعضهم له تأثير محدود في مجريات الواقع الراهن، من هؤلاء: السلطان غالب بن عوض القعيطي – (المناضلون) علي سالم البيض – حيدر أبوبكر العطاس – خالد محمد عبدالعزيز – خالد أبوبكر باراس – سعيد العكبري – أحمد مبارك بلعفير – عبدالرحيم عتيق، وآخرون، وفي اعتقادنا أن الحضور (البيلوجي) لهذه الرموز لا يمنع القراءات التاريخية لتلك المرحلة، ولا سيما عند دراسة وثائقها وتحقيقها ونشرها من داخل هذه الوثائق وليس من خارجها.
منهج النشر:
وثائق هذه الدراسة عبارة عن نسخ أصلية مصورة بالماسح الضوئي (السكنر) من الأرشيف الإداري لـ(جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) في مدة حكم (اللجنة الشعبية العليا) المنبثقة عن (الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل)، وقد حصل عليها (مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر) مع وثائق أخرى هدية من الدكتور عادل صالح اليماني، ويبدو من خلال تسلسل أرقامها باللون الأحمر كانت محفوظة مع وثائق أخرى في ملف واحد، ومن تاريخ صدورها والموضوعات التي تناولتها نستنتج أنها من أقدم الوثائق التي تعود لتلك المرحلة، وقد تم اختيار هذه الوثائق في هذه الدراسة لوحدتها الموضوعية والزمنية.
ولتيسير قراءة الوثائق قمنا بإعادة كتابة نصوصها إلى جانب نشر أصول الوثائق، وقد أفردنا لكل وثيقة تعليقًا خاصًا بينّا فيه ظاهر الوثيقة ومضمونها، مع الربط بين موضوعات الوثائق والمقاربة بينها؛ ليتسنى وضعها في سياقها التاريخي كلما اقتضت الضرورة. وحرصنا على دراسة الوثائق من داخلها، وتجنبنا الخوض في تفاصيل التاريخ إلّا بالقدر الذي يوضح مضمون الوثائق، وبعض مفرداتها.
(نص الوثيقة الأولى)
المكلا
بتاريخ 12 جماد ثاني 1387هـ
موافق 17 سبتمبر 1967م
المكرم قائم الدولة بلغيل وشحير المحترمين
بعد التحية..
أفيدكم بأن الجبهة القومية قد استلمت السلطة صباح هذا اليوم بتعاون وتأييد القوات المسلحة والشعب. والحالة عندنا هادئة ولم تطلق حبة رصاص. الوفد الذي يحمل هذه الرسالة سينقل لكم التفاصيل. اللجنة الشعبية المنبثقة عن الجبهة القومية هي الآن المسؤلة عن الوضع عليكم الاتصال بها في أي شيء تريدونه.
اعتمدوا الرسالة الموجهة من الجبهة القومية باعتبارها السلطة الشرعية للبلاد عليكم التعاون مع ضباط اللواء وشباب الجبهة القومية بخصوص رفع الأعلام وتوزيع البيانات وحفظ الأمن وشرح الموقف للمواطنين
توقيع
السكرتير الإداري
التعليق:
تُعبّر هذه الوثيقة عن آخر خطوط الارتباط بين السلطنة القعيطية المتداعية، وحكم (اللجنة الشعبية العليا) المتصاعد، لهذا نلاحظ من الناحية الشكلية حيادية ترويسة الخطاب، فقد استبعدت عن عمد الإشارة إلى الهوية الرسمية التي عادة ما يكتب على رأس كل خطاب (الدولة القعيطية الحضرمية)، أو (سلطان المكلا والشحر)، أو (دار المستشارية)، أو أي جهة رسمية، كما لم يحمل الخطاب مسمى اللجان الشعبية، أو الجبهة القومية، واكتفت بتحديد المكان (المكلا)، ومما يعطيها الصفة الاعتبارية توقيع السكرتير الإداري للسلطنة، فهو هنا مارس دورًا مزدوجًا حددته مشاورات أعضاء الجبهة القومية مع لجنة الطوارئ التي شكلها السلطان غالب القعيطي لإدارة السلطنة في أثناء سفره إلى جنيف، وعندما تم الاتفاق بين لجنة الطوارئ ورجال الجبهة القومية على تسليم الحكم وتسلُّمه اتفق على احتفاظ السكرتير الإداري بمنصبه مؤقتًا لتصريف الأعمال، وليكون حلقة الربط في إدارة عملية تسليم السلطة للحكام الجدد.
وتوضح الوثيقة من خلال نقاطها المحددة سلاسة انتقال الحكم من يد نواب السلطنة القعيطية وقوامها في المقاطعات إلى اللجنة الشعبية، ونلحظ هذا الانتقال من ذيل الوثيقة التي ورد فيها الجهات المرسلة لها نسخ من هذا الخطاب إلى نواب ألوية السلطنة القعيطية، وقد ترك اسم اللواء أو المقاطعة فارغًا في رأس الوثيقة، وكتب بخط اليد -كما هو موضح في أصل الوثيقة- اختصارًا للجهد، فقد طبعت بآلات الطباعة التقليدية المعروفة وقتئذ. لكن الجدير بالإشارة توقيت الخطاب وتزامنه مع لحظة إجبار السلطان غالب بن عوض القعيطي على مغادرة السفينة التي أقلته من جدة إلى المكلا، وهي لحظة فارقة في تاريخ حضرموت المعاصر، ويلاحظ في الخطاب أنه حمل توقيع السكرتير الإداري للسلطنة (عيسى مسلم بلعلا)، فهل كتب الخطاب قبيل وصول سفينة السلطان أم بعد مغادرة السفينة وحسم أمر السلطان والسلطنة؟ وعلى أهمية التوثيق التاريخي لهذا اليوم الحافل بساعات نهاره ومسائه، فإن برقية إشعار الوصول غير المتوقعة التي أرسلها السلطان لاستقباله مع ضيوفه في وقت قد حسم أمر التسليم والاستلام للسلطة والتحركات المتسارعة لمنع دخول السلطان المكلا تجعلنا نظن أن الخطاب كُتب ضمن خطة استلام الحكم التي كانت تسابق الزمن.
وتعطينا هذه الوثيقة إشارة في غاية الأهمية تحسب لصالح مرونة الحكام الجدد، فالخطاب جعل من كبار رجال السلطنة هم الذين يمهدون الطريق لعملية التسلُّم الآمن للسلطة في المقاطعات، بعد أن حسم في العاصمة المكلا. وصيغ الخطاب بلغة دبلوماسية فهو لم يشر إلى عزل النواب والقوام بشكل مباشر ربما لأن هذا ليس من اختصاص السكرتير الإداري المحسوب على السلطنة لكنه يؤكد بهذه الصفة على شرعية اللجان الشعبية العليا، ويطلب منهم تمكينها، بمعنى آخر الخطاب يشير ضمنًا إلى نهاية شرعية النواب، وأنه بقي عليهم -ربما هذه آخر مهمة رسمية لهم- استقبال رجال الحكم الجديد، وتسليمهم مقاليد الأمور، وشرح الوضع للمواطنين -حسب نص الخطاب- ثم انتظار مصيرهم المتوقع.
وقد حمل الخطاب إشارات تطمينية، وصيغ بعناية تتسق مع الانتقال السلمي للسلطة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال العبارات الآتية:
والإشارات أعلاه تدل على أن صوت العقل هو الذي ساد عملية انتقال السلطة لا سيما في اليوم الأول من حكم اللجان الشعبية، وهذه التطمينات كانت ضرورية للحكام الجدد، وللنواب معًا. بالنسبة للحكام الجدد وحتى لو كانوا يضمرون نوايا غير إيجابية فإن استلام السلطة تمثل أولوية عندهم، أما نواب الألوية والقوام فهم بحاجة أكثر إلى كلمات الأمان؛ لأنهم في تصنيف (الثوار) من القوى الرجعية وعملاء للحكم الإنجلوسلاطيني، وهو تصنيف أقرب ما يكون إلى التهمة التي تستدعي المحاكمة والمساءلة، وتشير الوثيقة إلى خطاب آخر موازٍ من الجبهة القومية موجه مباشرة إلى النواب والقوام يؤكدون فيه شرعيتهم، وهو ما سوف نتناوله في الوثيقة الثانية من هذه الدراسة.
وتسمح لنا هذه الوثيقة أن نتخيل مفارقات المشهد السياسي في صباح يوم السابع عشر من سبتمبر 1967م، فبينما كانت سفينة السلاطين تشق عباب البحار والمحيطات بعيدًا عن السواحل الحضرمية وقد زادت حمولتها بالهموم الذي أثقلت كاهل ركابها من السلاطين لفراق الأوطان وضياع الجاه والسلطان، وعشرات التساؤلات التي لن تجد إجابات، كان شباب الجبهة القومية يغادرون سواحل المكلا ويشقون الشعاب والوديان في طريقهم لفتح المدن والبلدات بخطاب من تسعة أسطر، وبهذا فنحن أمام يوم من أيام التاريخ الحضرمي المعاصر في نهاره شرقت شمس على قوم، وغابت على آخرين في قصة من التاريخ بدأت في بدايات ذلك اليوم لكنها لم تنته.
(نص الوثيقة الثانية)
الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل الرقم ج ق/ ل س ع / 10/ 15
حضرموت التاريخ 16 جماد ثان 1387هـ
اللجنة الشعبية العليا الموافق 20 سبتمبر 1967م
المكرم قائم الدولة بالغيل وشحير المحترم
تحية…
نفيدكم أن الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل قد استلمت السلطة يوم 17/ 9/ 67م وقد أيدتها القوات المسلحة الوطنية وجماهير الشعب وأصبحت اللجنة الشعبية المنبثقة عن الجبهة القومية هي السلطة الشرعية وعليكم الاتصال بها في أي شيء وعليكم التعاون مع شباب الجبهة القومية في المنطقة حول رفع الأعلام وتوزيع البيانات وتوعية الناس عن الوضع الجديد وحفظ الأمن والنظام وسيقوم حامل الرسالة بتعريفكم عن الأشخاص الذين يمثلون الجبهة القومية في المنطقة. أخبارنا هادئة. وكلنا أمل أن يسود الهدوء بقية أنحاء البلد. تعاونوا مع شباب الجبهة القومية لاستتباب الأمن وعدم السماح بأي عمل تخريبي وكونوا على اتصال بالمكلا في حالة حدوث أي شيء وشكرا
الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل – حضرموت ختم
التعليق:
تضعنا هذه الوثيقة في حيرة تاريخية وبخاصة إذا قورنت مع الوثيقة الأولى من هذه الدراسة، فمحتوى الخطابين متقارب، فهل وصل الخطاب الموجه من السكرتير الإداري (عيسى مسلم بلعلا) إلى النواب والقوام؟ أم آثر الحكام الجدد إعادة توجيهه لتحديد جهته الاعتبارية الثورية بعد أن كان الخطاب الأول لا يحمل أي إشارة رسمية عدا توقيع السكرتير الإداري، وحمل في طياته إشارة إلى أن هناك خطابًا موازيًا بقوله: (اعتمدوا الرسالة الموجهة من الجبهة القومية)، وعلى أية حال فتاريخ الخطاب يعود إلى (20 سبتمبر)، أي اليوم الرابع من حكم (اللجنة الشعبية العليا)، وربما كان أقل توترًا مما قبله وأقوى سيطرة على الأوضاع، ومع هذا كان يومًا حافلًا بالأعمال، وهو ما سيلاحظ عند قراءة بقية وثائق هذه الدراسة.
وعلى أهمية تحديد حركة الخطابات ومدى وصولها وكيفية العمل بها فإننا في هذه الدراسة سنكون معنيين أكثر بقراءة نصوص الوثائق من داخلها كما سبق أن ألمحنا، وبالعودة إلى نص الوثيقتين نجد هناك خطابًا مركزيًا إلى النواب والقوام لتسليم السلطة، كُتب بصيغة إدارية أقرب ما يكون إلى الإجراء الروتيني وليس الثوري مع بعض التغيرات في نص الوثيقتين، ففي الأولى بدأت بصيغة المفرد (أفيدكم) أي السكرتير الإداري. أما الثانية فتغيرت إلى صيغة الجمع (نفيدكم) أي باسم (اللجنة الشعبية العليا). كما ورد في نص الوثيقة الأولى: (.. استلمت الجبهة القومية صباح اليوم 17 سبتمبر)، في الوثيقة الثانية (استلمت الجبهة القومية يوم 17 سبتمبر)، وتقارب نص الوثيقتين حد التطابق يدل على أن المصدر الموجه واحد وهو طبعًا الطرف المنتصر، واللافت في الوثيقة الثانية تضمينها الترويسة التي تدل على صفتها الرسمية الجديدة (الجبهة القومية – اللجنة الشعبية العليا – حضرموت)، وتعميدها بختم الجبهة القومية.
ومن الملاحظات التي تخص بنية النص: في الوثيقة الأولى جاء (عليكم التعاون مع ضباط اللواء)، وهذه الإشارة لم ترد في الوثيقة الثانية، ويبدو أن النص الأول مطلوب في حينه وتم مناقشته عند تعليقنا على الوثيقة الأولى، أما في الوثيقة الثانية فقد استبدل عليكم التعاون مع شباب الجبهة القومية وتكرر ذلك مرتين، وهذا يدل على تنامي ثقة الثوار في أنفسهم منذ اليوم الرابع لحكمهم وسيطرتهم على زمام الأمور.
ومن خلال الترقيم المرجعي لهذا الخطاب نستنتج أن بدايات الأرشفة والتوثيق بدأ العمل بها، وأنهم يعتمدون على تقاليد إدارية ترسخت في السلطنة، ساعدت على تماسك الحكم الجديد وانطلاقه، والحقيقة أن بعض رجال اللجنة الشعبية حصلوا على مستوى مرتفع من التعليم وفرته لهم السلطنة القعيطية ذاتها، وامتلك البعض منهم خبرة إدارية؛ إذ كان أكثرهم موظفين متوسطين في الجهاز الإداري للسلطنة من السلطنة.
وعودة إلى المقارنة بين النصين، ففي نص الوثيقة الأولى جاء: (اعتمدوا الرسالة الموجهة من الجبهة القومية)، وفي الثانية المباشرة (سيقوم حامل الرسالة بتعريفكم عن الأشخاص الذين يمثلون الجبهة القومية)، هذا التكرار في نص الوثيقتين يجعلنا نعيد التساؤلات من قبيل: من حمل الخطاب الأول؟ وهل فعلًا كانت هناك حاجة لخطاب جديد ولا سيما أن اللجنة الشعبية كانت تستعد لخطاب ثوري بخصوص نواب وقوام السلطنة القعيطية؟ وهو ما سوف نتناوله في الوثيقة الثالثة من هذه الدراسة.
(نص الوثيقة الثالثة)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللجنة الشعبية للجبهة القومية تاريخ 16/ 6/ 1387هـ
المكلا – حضرموت الموافق 20/ 9/ 1967م
قرار بإعفاء النواب
بسم الله وباسم الشعب قررت اللجنة الشعبية العليا للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل ما يلي:
والله ولي التوفيق
اللجنة الشعبية العليا للجبهة القومية
المكلا – حضرموت
التعليق:
أول ما يلفت النظر في هذه الوثيقة إذا ما قورنت بسابقتها التباين في الطرح، فبينما اتسمت الوثيقة الثانية بالمرونة وابتعدت عن أسلوب الأوامر المباشرة في خطابها لنواب السلطنة وقوامها، فإن هذه الوثيقة تقدمت في طرحها وقوة قرارها وصيغت بأسلوب يمكن وصفه بالثوري، وبما أن الوثيقتين مؤرختان في (20 سبتمبر)، أي صدرتا في اليوم الرابع للحكم الجديد فهذا يدفعنا لطرح التساؤلات الآتية: ما هي الدواعي لإرسال خطابين مختلفين في مضمونهما في يوم واحد؟ وهل أرسلت الوثيقة الثانية أم استبدلت بالثالثة بعد طباعتها؟ يبدو لنا وبالنظر لخصوصية المرحلة وسرعة حركتها أن الثوار في اليوم نفسه حسموا أمرهم وموقفهم من رجال العهد القديم وذلك بتنحيتهم عن المشهد وإفساح المجال للجان الشعبية في المقاطعات لتصير هي صاحبة القرار، ومن خلال قراءتنا لنص هذه الوثيقة نلاحظ الآتي:
اتسم الخطاب بالحزم ورغم أن لفظة الإعفاء دالة على التنحية فهي أقل وطأة في مدلولها من لفظة العزل، وهذا الأسلوب (الحازم المرن) يعكس سلمية انتقال السلطة كما قلنا، ثم إن (رجال الحكم القديم) لم يظهروا أي شكل من المقاومة دفاعًا عن السلطنة التي يمثلونها، وحتى عندما أقدمت سلطة (اللجان الشعبية العليا) بسجن بعض هؤلاء النواب والقوام كإجراء احترازي، فهذا في تقديرنا يدخل في باب تسخين العهد الجديد وتلبيسه لباس الثورية، وليحمل رسالة مباشرة وغير مباشرة بأنهم (سلطة اللجنة الشعبية العليا) سلطة حقيقية تستطيع اتخاذ القرارات الصارمة لاستتباب الأمن وفرض الأمر الواقع وبخاصة أن في أطراف السلطنة القعيطية ظهرت معارضة مسلحة لكن سرعان ما تمت السيطرة عليها.
ومن خلال استعراض نقاط القرار نجده يتضمن ترتيبات محددة ملازمة لعملية الإعفاء تتعلق بنقل صلاحيات النواب إلى اللجان الشعبية ومن ضباط الألوية الذين أسند إليهم التوقيع على قرارات اللجان الشعبية ولا غرو في ذلك فالمؤسسة العسكرية ممثلة بكبار قيادتها وأيضًا قيادة جيش البادية الحضرمي الذي كان له وضع خاص في منظومة الحكم في عهد نظام الاستشارة البريطانية صاروا بموجب اتفاقية تسليم السلطة بين لجنة الطوارئ التي أسسها السلطان غالب قبل سفره إلى جنيف في أغسطس 1967م وممثلين عن الجبهة القومية ضمن قوام اللجنة الشعبية العليا، أي أنهم صاروا شركاء في السلطة الجديدة، واحتفظوا برتبهم ومناصبهم العسكرية لحين من الدهر قبل أن يقلب الثوار عليهم ظهر المجن، ويدخلون في خانة العهد البائد.
وإذا عدنا للجانب الشكلي للوثيقة وبمقاربتها بما قبلها نلاحظ عدم الثبات في المسميات للجهة الصادرة في ترويسة الوثيقة مع ما جاء في ذيلها، فبعد أن كان التحديد الاعتباري للخطابات يبدأ بـ(الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل) نجد تغيرًا في الترتيب إلى: (اللجنة الشعبية للجبهة القومية)، بينما في ذيل الخطاب أضيفت كلمة العليا بعد كلمة الشعبية للجبهة القومية، أما الختم فكان واضحًا في تحديد الترتيب الهرمي (الجبهة القومية ثم اللجنة الشعبية العليا)، ونحن هنا لا نبحث عن صيغة خطاب مثالي في وضع استثنائي وإنما تقصد هذه الإشارة معرفة مدى رسوخ السلطة الجديدة من خلال نظرة فضولية على التفاصيل الدقيقة في لحظة كان المهم عند الحكام الجدد المتن وما يتضمنه من أوامر وقرارات.
شَرُف رأس الخطاب بكتابة البسملة، أما الديباجة فكانت (بسم الله وباسم الشعب)، ولأننا نهدف من هذه الدراسة إلى استنطاق هذه الوثائق التاريخية فلا ضير من التوقف مع بعض الألفاظ ومناقشتها بحيادية، من ذلك إصدار القرارات باسم الشعب، وأن استلام الحكم جاء بتأييد الشعب، في بداية (الثورة) كان هذا الطرح على جانب كبير من الصحة، فغالب الأهالي وقتئذ في حضرموت مع التغيير بمفهومه العروبي لكنهم في الوقت نفسه لا يحملون موقفًا سلبيًا اتجاه الحكم السلاطيني، ولهذا أقحم (الشعب) بوصفه مصدر شرعية الحكام الجدد، ثم إنهم باسم (الشعب) والشرعية الثورية مرروا كل قراراتهم واجتهاداتهم الخاصة، وعلى هذا وفي مراحل أكثر تشددًا صنفوا المعارضين لهم بأعداء الشعب، وهم أي الحكام الجدد ليسوا بدعًا بالنسبة للبلدان العربية التي شهدت تغيرات ثورية بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مرحلة الاستقلال الوطني بعد خروج الاستعمار القديم من معظم أرجاء الوطن العربي، ومعروف في غياب النظام الديمقراطي السليم يتمترس النظام الاستبدادي العربي خلف الشعب ويحكم باسمه، وقد يجرنا هذا الاستعراض إلى تعريف مفهوم الشعب ومحاولة ضبطه ومدى واقعيته بوصفة كتلة عاطفية في المجتمع العربي ببنيته الاجتماعية التقليدية لكننا سنكتفي بهذه الإشارة.
(نص الوثيقة الرابعة)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللجنة الشعبية العليا للجبهة القومية
المكلا – حضرموت تاريخ 16/ 6/ 1387هـ
الموافق 20/ 9/ 1967م
قرار بإلغاء وظيفة السكرتير الإداري
باسم الله وباسم الشعب قررت اللجنة الشعبية العليا للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل ما يلي:
والله ولي التوفيق
اللجنة الشعبية العليا للجبهة القومية
المكلا – حضرموت
التعليق:
تتسق هذه الوثيقة مع سابقتها من حيث حسم اللجنة الشعبية العليا أمرها وإمساكها بزمام الأمور، وممارسة الحكم، واتخاذ القرارات، وبهذا نحن أمام حالة تاريخية واحدة، وقد ذكرنا في الوثيقة الأولى من هذه الدراسة أن قادة الجبهة القومية في حضرموت أبقوا على منصب السكرتير الإداري لرمزيته في منظومة الحكم في السلطنة، وبغرض تنفيذ آخر مهمة رسمية له وهي إتمام عملية التسلُّم والتسليم للسلطة في السلطنة، ولتصريف الأمور العاجلة.
ولما تحيله عادة لفظة (السكرتارية) من وظيفة إدارية ذات مهام محددة تجعل من الضرورة بمكان توضيحًا سريعًا لمكانة هذا المنصب الرفيع في السلطنة القعيطية، التي لم تشهد طوال تاريخها الهيكل الحكومي الإداري الحديث من حيث مسميات رئيس الوزراء، أو رئيس الحكومة، أو مناصب الوزراء والوزارات، إنما ظهر فيها فقط منصب الوزير وهو يشرف على مصالح أو نظارات السلطنة التي يحمل المسؤولين فيها لقب ناظر أو رئيس مصلحة أو إدارة.. وأشهر من حمل هذا اللقب ثلاثة وزراء من أسرة آل المحضار ابتداء من السيد حسين بن حامد المحضار، ثم ابنه أبي بكر، ثم حفيده حامد بن أبي بكر، وهو ما يمكن وصفه بعهد الوزارة المحضارية للسلطنة القعيطية.
وبعد توقيع السلطنة القعيطية لمعاهدة الاستشارة 1937م مع بريطانيا ممثلة في المقيم البريطاني في عدن خضع هذا المنصب لتغيير في التسمية ضمن تغييرات كثيرة قام بها المستشار البريطاني هارولد إنجرامس لتطوير المؤسسة الإدارية المدنية والعسكرية للسلطنة، من ذلك استبدال منصب لقب الوزير بالسكرتير، وكان أول من حمل هذا اللقب عز الدين الدرزي لمدة ستة أشهر تقريبًا، ثم السكرتير مسلم بلعلا، ولكن اقترن لقب السكرتير بالزنجباري من أصل عماني (سيف بن علي البوعلي 1939- 1950م)، وأعيد لقب الوزير 1951م في عهد الوزير القدال سعيد القدال (1950- 1957م)، وفي اعتقادي أن المستشار البريطاني اختار بعناية هذا اللقب حتى لا تكون هناك نِدِّيَّة بين مقام المستشار، ومقام الوزير؛ لأن لفظة السكرتير تحيل إلى مرتبة إدارية أقل من مرتبة الوزير، ومعروف أن إدارة الاستشارية البريطانية لحضرموت أسندت بعض الوظائف الرفيعة لشخصيات عربية وغير عربية (مسلمة) ليكونوا أداة طيعة بيدها، وهؤلاء يعنيهم المنصب بوصفه وظيفة، لهذا لن تكون لديهم تحفظات تجاه المسميات والألقاب.
وكان آخر من حمل الوزير هو السيد أحمد محمد العطاس (1964- 1967م)، وترك سفره إلى الخارج في منتصف مايو، أي قبل (سقوط) السلطنة بأربعة أشهر فراغًا في منصب الوزارة، وأسند مهامه إلى نائبه عبدالرحمن سعيد بازرقان، وكان شخصية إدارية أكثر منه رجل دولة، وفي غياب مكان الوزير ورمزيته في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ السلطنة ظهر منصب السكرتير الإداري بوصفه مسؤولًا كبيرًا في مجمع الدوائر الحكومية للسلطنة، التي كانت تسمى (السكرتارية)، نسبة لمنصب السكرتير السابق (الوزير).
وهكذا صار السكرتير بحسب الظروف وقتئذ منزلة بين المنزلتين، فهو أقل من منصب الوزير وأرفع من درجة النائب؛ لهذا لاحظناه بموجب الاتفاقية الأولى في هذه الدراسة يوجه الخطابات لنواب السلطنة وقوامها يعلمهم بتطورات الوضع بعد مغادرة السلطان البلاد، ويطلب منهم تسليم الحكم للجبهة القومية، ولأهمية هذا المنصب في حينه جعل السلطان من السكرتير الإداري (عيسى مسلم بلعلا) عضوًا في لجنة الطوارئ التي أنيط بها إدارة شؤون السلطنة في أثناء سفر السلطان إلى جنيف – كما سبق أن ذكرنا-.
ولهذا ليس غريبًا أن تشمل عملية الإزاحة السكرتير الإداري بموجب قرار هذه الوثيقة جنبًا إلى جنب مع قرارات أخرى إزاحة بقية رموز السلطنة المدنية وبخاصة نواب الألوية، صحيح لم يشر القرار إلى إعفاء السكرتير الإداري بأسلوب صريح كما هو حال قرارات النواب، إنما نص على إلغاء وظيفة السكرتير الإداري لما تحمله من رمزية كبيرة للسلطنة القعيطية.
واللافت في بنود القرار أن لفظة السكرتارية ترحلت من العهد السلاطيني إلى العهد الثوري بحيثيات معينة بين تأخير وتقديم فكان المسمى القديم (السكرتير الإداري)، ثم استبدل بـموجب البند الرابع لهذا القرار: (مدير مكتب السكرتارية)، إضافة إلى ذلك وردت لفظتا السكرتير والسكرتارية في البنود الثمانية لهذا القرار سبع مرات، وهذا كله يعطي مؤشرًا إلى أن لفظتي السكرتير والسكرتارية مفردتان ترسختا في مفردات الحكم في حضرموت، وأنهما تحيلان في الوعي الجمعي إلى مكانة عالية في السلطة، لهذا ألقت بثقلها على العهد الجديد لحين من الزمن.
وتضمنت البنود من 2- إلى 8 ترتيبات لملء الوظيفة الشاغرة (السكرتير الإداري) بحسب البند الأول من هذا القرار، وتم تحريك بعض الصلاحيات، مثل نقل بعض الصلاحيات الإدارية إلى السكرتير المالي، وذلك بموجب البند الثاني الذي جاء فيه أيضًا أن تحديد هذه الصلاحيات سيتم بالتفاهم بين السكرتير المالي واللجنة الشعبية أو من تخوله، وهذه الإشارة الأخيرة تدل على أن الأوليَّة عند (الثوار) وقتئذ هي إلغاء رمزية الحكم السلاطيني السابق، لكنهم أبقوا على الكادر الإداري الوسطي للسلطنة، وهذا مما ساعد (اللجنة الشعبية العليا) على تسيير الأمور بسلاسة، والثبات على إرث إداري أسهم السلطان صالح والمستشارين البريطانيين في إرسائه وتأسيسه.
والبند السابع حدد الشخصية التي أنيط بها إدارة مكتب السكرتارية وهو (السيد) فيصل بن شملان (التميمي)، وهو شخصية وطنية أدَّت دورًا في الحياة الإدارية السياسية في العهد الجمهوري خلال نصف القرن اللاحقة، وكان أقرب بما يكون إلى طبقة (التكنوقراط)، وهو وإن اختلف في مواقفه السياسية من الأطراف الأخرى لكن اتفق الكثير على نزاهته حتى وفاته عام 2010م.
ويلاحظ في هذا البند لقب (السيد) يسبق اسم فيصل بن شملان، فكان هذا اللقب لا يطلق في حضرموت إلا على من هم من آل البيت، وكان إطلاقه على غير العلويين سببًا من أسباب النزاع بين الحضارمة في إندونيسيا في عشرينيات القرن الماضي، وانتقل صدى ذلك بوتيرة أقل إلى حضرموت، والإشارة هنا ترمز من طرف خفي إلى أن رجال العهد الجديد اتسقوا مع شعارات الحرية والمساواة الاجتماعية، التي كانوا ينادون بها في أدبياتهم الثورية قبل وصولهم إلى سدة الحكم، وفي سياق متصل ظهرت عندهم مفردات مشابهة ميزت ذلك العهد، من ذلك قولهم: (الأخ – الرفيق – المناضل)، بصرف النظر عن مكانة الفرد في سلم السلطة، واجتنبوا ألقاب التضخيم، نحو: (صاحب الفخامة، ومعالي الوزير، ودولة رئيس الوزراء.. إلخ)، التي وجدت لها مكانًا راسخًا بعد 1990م، وما تزال.
(نص الوثيقة الخامسة)
بيان هام من اللجنة الشعبية العليا للجبهة القومية
لتحرير جنوب اليمن المحتل
حضرموت
أيها المواطنون الكرام. . . .
يسر اللجنة الشعبية العليا أن تشكر كافة المواطنين الذين تعاونوا معها في حفظ الأمن والنظام لتسير الحياة سيرها الطبيعي في كل أنحاء ما يسمى سابقًا “بالدولة القعيطية”، واللجنة إذ تعرب عن عميق تشكرها لكل من تعاون معها بالعمل أو أرسل لها تأييده كتابيًا أو برقيًا من مقادمة ومواطنين تطمئن كل المواطنين على سلامة ارواحهم وممتلكاتهم ومصالحهم دون استثناء من قبائل وحضر لا فرق عندنا بين قبيلي أو يافعي أو عامل فكلهم أبناء شعب واحد ولهم مصلحة واحدة وأن يافع السفلى والعليا وبني قاصد التي تسيطر عليها الجبهة القومية لا تختلف عن حضرموت التي تسيطر عليها أيضًا الجبهة القومية.
إن الحكم السلطاني قد ذهب إلى غير رجعة، وأن السلطة قد عادت إلى أصحابها الشرعيين من أبناء الشعب الأبي بفضل تعاون القوات المسلحة الباسلة والفئات الوطنية الأخرى مع أبطال الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل. وسوف تعلن اللجنة من وقت لآخر لبعض المراسيم التي ستحدد صلاحيات المسئولين، وإعادة تشكيل الجهاز الحكومي للقضاء على كل مظاهر الفساد والرشوة ومعاقبة كل من تسول له نفسه الإساءة إلى مكاسب الشعب مهما كان كبير، فلا كبير اليوم غير الشعب، ولا حكم إلا للشعب.
ونهيب بكافة المواطنين أن يكونوا جنودًا لحكم الشعب وكشف كل من يريد أن يعبث بمقدساته والإساءة إلى أبنائه. فكل مواطن يجب أن يكون رقيبًا على حقه.
إن اللجنة تعرف جيدًا كل ما يدور على الساحة وتتابع كل شيء بحرص شديد، وستعمل على ضرب الظلم والقضاء عليه سواء كان نتيجة لفساد في الإدارة أو جشع التجار الذين لا تهمهم مصلحة الشعب بقدر ما يهمهم الكسب، وسيعاد النظر في ارتفاع الأسعار. وكل ما نريد قوله إننا لا نريد أن نقدم على شيء إلا بعد دراسة وافية ليكون القرار فعالًا وسنتابع كل قراراتنا بما في الصالح العام. وإننا ننذر كل المغرضين الذين يشيعون البلبلة بين أفراد الجمهور بنشر الإشاعات المغرضة التي تستهدف الإساءة إلى ثورة الشعب وسنضرب بيد من حديد على كل من يساهم في نشر البلبلة والفوضى بطريق مباشر أو غير مباشر.
وفقنا الله جميعًا لما فيه الخير والصلاح.
تاريخ 16 جماد ثان 1387هـ
موافق 20 سبتمبر 1967م اللجنة الشعبية العليا
التعليق:
هذه الوثيقة عبارة عن خطاب مباشر من (سلطة اللجنة الشعبية العليا) إلى المواطنين في مناطق نفوذ السلطنة القعيطية أو “ما كان يعرف بالدولة القعيطية”، بحسب وصف البيان، ومعروف ما للبيانات الصادرة عن الجهات الاعتبارية من أهمية عند الدرس التاريخي لها، وهي لا تقل قيمة علمية عن المعاهدات، والخطابات، والمراسلات، والمحاضر الرسمية في استجلاء حقائق التاريخ وتحليلها، ومما يضفي فائدة على الوثائق التاريخية بشكل عام إذا حررت بتاريخ محدد؛ لأن ذلك ييسر عملية الرجوع إليها، ووضعها في سياقها التاريخي، والتاريخ ما هو إلّا حلقات مترابطة يشد بعضها بعضًا في إطار مكان واضح المعالم، والزمان.
ومعظم البيانات المهمة التي تخاطب الشعوب تحرص على الجمع بين كتابة تاريخ النشر، والرقم التسلسلي، ولأن البيان بحسب الوثيقة أعلاه لا يحمل رقمًا تسلسليًا فهذا يفتح باب الاحتمالات والتساؤلات على مصراعيه، فهل هذا هو البيان الأول (للثورة) بعد الوصول إلى سدة الحكم؟ وبما أن البيان نشر في رابع أيام حكم (اللجنة الشعبية العليا)، فهذا يجعل فرضية أن يكون البيان الأول ضعيفة فالحكم الجديد لا بد أن يوجه رسائل عامة سريعة لتوضيح مسار الحكم وتوجهاته لا سيما أن عملية انتقال السلطة اتسمت بالدراماتيكية.
وبالعودة إلى نص البيان سنلاحظ أنه لم ينص مباشرة على إعلان خبر استلُّم السلطة، وإنما تقدم بالشكر للمواطنين وتعاونهم على حفظ الأمن، وكان الغرض الأساسي من البيان هو توصيل عدد من الرسائل للأهالي، التي من أهمها:
وقبل أن نتوقف عند نقاط البيان نشير إلى إن الصياغة العامة للبيان -بصرف النظر عن الأخطاء الطباعية- تنم على تحلي كاتبيه بمستوى لافت من الثقافة والخبرة في إصدار البيانات، وفي اعتقادنا أن نقطة البيان الرئيسة هي التأكيد على المساواة الاجتماعية وعلى شراكة أبناء يافع في ثورة الشعب أو كما جاء في النص “…. لا فرق عندنا بين قبيلي أو يافعي أو عامل فكلهم أبناء شعب واحد ولهم مصلحة واحدة وإن يافع السفلى والعليا وبني قاصد التي تسيطر عليها الجبهة القومية لا تختلف عن حضرموت التي تسيطر عليها أيضًا الجبهة القومية”.
وبادئ ذي بدء تجب الإشارة إلى أن المزج بين مفردات لا تبدو متسقة من حيث النوع لغرض تأكيد النظرة إلى المساواة كما ورد في النص بين (قبيلي – يافعي – عامل)، يخفي مفردات استبعدت بذكاء حتى لا تظهر ثنائية (حضرمي – يافعي) ولفظة العامل أقحمت هنا للتمويه، واليافعيون بحسب التراتب الاجتماعي الحضرمي يدخلون ضمن فئة القبائل. ومعروف عند الدعوة للمساواة تكون المقاربات بحسب التراتب الاجتماعي، كأن نقول: لا فرق بين سيد وشيخ، وقبيلي وحضري، أو عند الوظائف والمهن نقول: لا فرق بين وزير ومدير، وعامل وفلاح، أو إثنيات (حضرمي – يافعي – عولقي – عربي – هندي – صومالي – حبشي)، ولا ريب أن الإشارة التطمينية ليافع حضرموت تدل على ظهور أصوات عدَّتهم غرباء عن حضرموت، ورأت في (سقوط) السلطنة القعيطية نهاية للحكم اليافعي لحضرموت.
وعلى أية حال فإن هذه الدعوة التطمينية غير المباشرة (ليافع حضرموت)، ستقودنا إلى قضية مهمة من قضايا التاريخ الحضرمي، وهي مكانة أبناء يافع في النسيج الاجتماعي الحضرمي وقتئذ، وما مدى الثقل (العصبوي) اليافعي في السلطنة القعيطية بحسب نظرية ابن خلدون؟
وقد شهدت حضرموت عبر مراحل التاريخ استقرار قبائل وأسر كثيرة ذابت فيها وصارت نسيجًا أصيلًا منها، ومنها يافع، ولأن الهجرة اليافعية لحضرموت -بصرف النظر عن مسمياتها- تحولت إلى سلطة على المدن والبلدات الحضرمية على حساب القوى المحلية، لهذا صارت قوة موازية لقوة القبائل الحضرمية المسيطرة على مثاويها، ولم تكن تحمل مشروعًا سياسيًا لهذا تداخلت العلاقات بين القوتين بين المصالح الاقتصادية وهي الغالبة، وبين العداء والرفض الداخلي للوجود اليافعي، ومما ساعد تأسيس السلطنة القعيطية على حساب القوى اليافعية الأخرى هو أن القعيطيين جاءوا يحملون مشروع دولة من حيدر أباد بالهند بتقاليدها الحضارية، وبأموالهم الخاصة، بعكس ما كان صائرًا من هجرات اليافعيين السابقة.
ومثل وصول السلطان صالح بن غالب القعيطي إلى سدة الحكم عام 1936م وتوقيعه لمعاهدة الاستشارة مع السلطات البريطانية الاستعمارية في عدن نقطة تحول مهمة في تاريخ السلطنة القعيطية، ففي تلك المدة تم اتخاذ إجراءات إدارية تحديثية للسلطنة، تفككت بموجبها المؤسسة العسكرية التقليدية التي تعتمد في قوامها على العناصر اليافعية، وكان ذلك بداية مرحلة من مراحل تحول اليافعيين من (طبقة) حاكمة إلى مواطنين يحكمهم قانون الدولة، وليس مراجعهم القبلية، لكن ظلت النظرة العامة تجاههم بوصفهم أهل الحكم وأصحاب الدولة، كما ظل ولاؤهم للعرش السلطاني أقوى من ولائهم للدولة التي تحمل التركيب المزدوج (الدولة الحضرمية اليافعية).
وبموجب تحديثات المؤسسة العسكرية أسس البريطانيون الجيش البدوي الحضرمي عام 1939م؛ ليكون قوة وحرس حدود للمحمية الشرقية تحت الإشراف والتمويل المباشر من المستشارية البريطانية في المكلا، ولأن معظم أفراد هذا الجيش من رجال القبائل الحضرمية، فشكل بذلك قوة عسكرية موازية للقوات المسلحة القعيطية ذات الأغلبية اليافعية وبخاصة جيش النظام القعيطي، لكن ظل ولاء جيش البادية الحضرمي بحسب تكوينه للمستشار البريطاني، وليس للسلطنة القعيطية، وقبيل سقوط السلطنة القعيطية بأقل من شهر سلمت بريطانيا جيش البادية الحضرمي لسلاطين المحمية الشرقية (القعيطي – الكثيري – المهري)، بعد أن سحبت قواتها من كل مناطق الجنوب باستثناء المستعمرة عدن، هذه الوضعية المعلقة جعلت قادة هذا الجيش ينحازون إلى الجبهة القومية في إطار فكرة دولة الجنوب القادمة بقوة، وفكرة العروبة، وهناك أسباب أخرى لا يتسع المقام لذكرها.
ومن جانب أخرى نجد قائد جيش النظام بأغلبيته اليافعية بقيادة القائد أحمد عبدالله اليزيدي يوافق على تسليم السلطة للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وبهذا صنف القائد اليزيدي عند رجال الجبهة القومية ضمن القوى الوطنية التحريرية، لكنه من وجهة النظر الأخرى وضع في قائمة من خانوا الأمانة وفرطوا في كيان السلطنة، وفي اعتقادنا أن حسابات اليزيدي المتزنة جعلته يتخذ قراره هذا الحاسم وليس الولاء للجبهة للقومية، ولم يكن يعقد النية في التفريط في السلطنة القعيطية فقد وضعته التطورات السياسية وقتئذ أمام خيارات معقدة، أخطرها خيار المواجهة ذو الكلفة العالية، ونقصد بالمواجهة هنا قيادة التكتل اليافعي الرافض لتسليم السلطة ومواجهة الجبهة القومية ومن ركب سفينتها من القوات المسلحة، وأهمها جيش البادية الحضرمي، كما أن قدرة الجبهة القومية على تحريك (الجماهير) سيعقد من قواعد الاشتباك، وسيهدد وحدة النسيج الحضرمي. بمعنى المواجهة المحتملة إن تمت ستخرج عن إطار قوات رسمية تفرض سلطة الدولة إلى قوة تقاتل بمرجعية قبلية، ولهذا عندما كتب (المناضل) عباس حسين العيدروس (يرحمه الله) في مذكراته عن سقوط مدينة المكلا بعد تسلُّم برقية السلطان لاستقباله وضيوفه في المكلا، كان القائد اليزيدي يحث على سرعة تحرك الجبهة القومية لتسلم السلطة قبل نزول السلطان من السفينة ودخوله مدينة المكلا حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وفعلًا تم انتقال السلطة دون إراقة دماء. (ينظر: عبدالقادر أحمد باكثير، مذكرات عن مراحل النضال والتحرير، ج2، ص96).
هذا الاستعراض الموجز ربما سيوصلنا إلى فهم إشارة البيان إلى يافع صراحة، وأنها وردت ليست فقط للجم الأصوات المرجفة بل أيضًا تقديرًا من اللجنة الشعبية العليا للموقف الحكيم (ليافع) باختيار ركوب سفينة حضرموت (الوطن) الراسخة، وبخاصة أنهم لا تنقصهم الشجاعة لخوض شرف محاولة المقاومة. وعلى أية حال فإن هذه الإشارة تسجل آخر معاقل يافع في حضرموت بوصفهم طبقة حاكمة، وتؤشر أيضًا إلى نهاية تاريخهم العسكري فيها بعد قرون كانت لهم فيها صولات وجولات.
أما بالنسبة لنقاط البيان الأخرى -حسب تصنيفنا- فمما جاء فيه التأكيد على (شعبية) الثورة وحكم الشعب، وعلى الموقف الشعبي المؤيد للتغيير السياسي في حضرموت، وكان ذلك الموقف -لحين من الدهر- مصدرًا من مصادر قوة (اللجنة الشعبية العليا) الحاكمة إلى أن تحولوا وباسم الشعب من سلطة إلى تسلط فارتبكت بوصلة التاريخ.
وحمل البيان بعبارات الوعد والوعيد، وهي عادة ما تتضمنها البيانات والخطابات عند الانتقال غير الديمقراطي للسلطة، لهذا حمل البيان عبارات التبشير بالتغيير والقضاء على الظلم والفساد، وخص البيان فئة التجار، أو كما جاء فيه (جشع التجار)، وحرصهم فقط على المكاسب، وهو موقف أيديولوجي اتسقوا فيه مع ميثاق الجبهة القومية وشعاراتهم التي تميل للكادحين وقوى الشعب العاملة بوصفهم أصحاب المصلحة الحقيقية للثورة.
وفي آخر فقرات البيان تضمنت إشارة للمغرضين الذين يشيعون (البلبلة)، التي ترددت في الفقرة ذاتها مرتين، ولا ريب كما يوجد مؤيدون لكل جديد هناك القوى القديمة المعارضة وهذا سنة من سنن التاريخ، والأيام الأربعة والسبعون من حكم (اللجنة الشعبية العليا) لم تكن مفروشة بالورود بل برزت أمامهم الكثير من التحديات لكن فورة التغيير، والركوب الاضطراري لبعض رموز حضرموت العسكرية والمدنية للعهد الجديد والآمال العريضة عند الأهالي في مستقبل عروبي أفضل ساعد (اللجنة الشعبية العليا) على الإمساك بزمام الأمور في حضرموت، وتقليل فرص المعارضين في التأثير على الأهالي، وإرباك المشهد.
بقي القول وثائق هذه الدراسة غطت جوانب من حكاية الأيام الأربعة الأولى لحكم (اللجنة الشعبية العليا) للجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، وما يزال أمامنا سبعون يومًا من الأحداث المتسارعة التي تستحق المزيد من الجهد لمعرفة تفاصيلها، ونأمل أن نتمكن من الحصول على وثائق هذه المرحلة (الملتهبة)، التي حددت مصير حضرموت لأكثر من نصف قرن من الزمان.