أضواء
يسلم صالح سالم بن دهاس
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 27
رابط العدد 14 : اضغط هنا
الصراع بين أفراد الأسرة الحاكمة في الدولة الكثيرية على الحكم:
إن من أقوى الأسباب التي أضعفت الدولة الكثيرية، هو الصراع بين أبناء السلطان بدر بن عبدالله بوطويرق وأحفاده على الحكم في الدولة، ولعل أبرز هذه الصراعات والمنازعات على السلطة والوصول إلى الحكم وأخطرها هو الانقلاب على حكم السلطان الشرعي، إذ شهدت الدولة الكثيرية حالات من هذا النوع، والذي يعد سابقة خطيرة في تاريخ الدولة الكثيرية، وكان أول انقلاب في تاريخ هذه الدولة هو انقلاب السلطان عبدالله بدر بن عبدالله بن جعفر الكثيري على والده السلطان بدر بوطويرق في 23 ربيع الأول 976هـ/ 1568م، ولم ينته الموقف عند هذا الحد، وتستقر أمور هذه الدولة الكثيرية، بل فتح الباب على مصراعيه؛ لتدخل الدولة الكثيرية في دوامة صراعات لم تنته إلا بنهاية هذه الدولة.
ففي حكم السلطان عبدالله بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق الكثيري تأجج الصراع بين أفراد الأسرة الحاكمة، وكان أٌقوى المعارضين([1]) للانقلاب على والده السلطان بدر بوطويرق منذ بداية عهد السلطان عبدالله بن بدر أخوه جعفر وقد تحالف معه الأمير مسعود بن ناصر، وعمل على تحريض المهرة ضد أخيه السلطان عبدالله بن بدر، واستمرت الصراعات والحروب بين السلطان عبدالله بن بدر من جهة، وأخيه جعفر والأمير ناصر والمهرة من جهة أخرى مدة من الزمن إلى نهاية حكم السلطان عبدالله بن بدر، وكان لذلك الأثر السلبي الذي أثقل كاهل الدولة الكثيرية بالنفقات المادية والبشرية، فقد خسرت الدولة أعدادًا من القادة والأمراء والعسكريين من القبائل المتحالفة، ومنهم آل كثير، وبخاصة أن هذه الحروب تتطلب المزيد من تجهيز الحملات المختلفة على المهرة، أو التصدي لغارات المهرة المتحالفة مع جعفر بن عبدالله والأمير ناصر بن مسعود. ومن معارضي السلطان عبدالله بن بدر أخوه عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق، ولم يتردد السلطان عبدالله بن بدر في سجنه عندما لمس منه أول عمل يسيء إليه، وظل عمر بن بدر في السجن حتى وفاة أخيه السلطان عبدالله بن بدر (985هـ/ 1577م)، فقد تحفظ عليه الأخير خوفًا من معارضته الشديدة.
وبعد وفاة السلطان عبدالله بن بدر نشأت الصراعات وتعمقت، فقد تولى بعده ابنه جعفر بن عبدالله بن بدر بوطويرق (985هـ/ 1577م)، واستمر في الحكم حتى قتل سنة (990هـ([2])/ 1582م) من أحد معارضيه في الحكم، ليتولى الحكم بعده ابنه عبدالله بن جعفر بن عبدالله، إلا أن حكمه لم يستمر بسبب خروج جده السلطان عمر بن بدر من السجن الذي تولى حكم الدولة الكثيرية بالقوة؛ إذ انتزع الحكم من عبدالله بن جعفر سنة (996- 1021هـ/ 1587- 1612م)([3])، وتميزت مدة حكمه بشيء من الاستقرار، واشتهر السلطان عمر بن بدر بالعدل، وكان وافر العقل كثير العدل، وكانت سيرته مرضية.
ولعل من أسباب الصراع واحتدامه بين أفراد الأسرة الحاكمة على الحكم أن الدولة الكثيرية تفتقر لنظام معين تحدد من خلاله الشروط اللازمة لتولي السلطان الحكم، وأيضًا تفتقر لنظام يحدد تعيين ولي العهد.
إن مما لا شك فيه أن مثل هذه الصراعات تولد الضغائن والأحقاد ليس فقط بين أفراد الأسرة الكثيرية الحاكمة بل تتجاوز ذلك إلى قبيلة آل الكثير كلها مما يسبب تصدع القبيلة، ويمتد أثره إلى اختلاف القبائل الحضرمية، وأيضًا تحالفها، وتترك أثرها السلبي على عسكر الدولة الكثيرية.
بعد وفاة السلطان عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق الكثيري سنة (1021هـ/ 1612م) بالشحر تولى الحكم بعده ابنه عبدالله بن عمر، الذي استمر في الحكم ثلاث سنوات، ولكن هذا السلطان أول حاكم حضرمي يترك الحكم ويعزل نفسه وينزع امتيازاته في الجاه والثروة والسلطة، واختار بلاد الحرمين ليتفرغ للعبادة بالقرب من الحرم المكي والحرم المدني، وخلع نفسه عن الحكم سنة (1024هـ/ 1615م)، وسلم الحكم لأخيه السلطان بدر بن عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق الكثيري([4]).
بدء تدخلات أئمة اليمن من الزيدية في الوصول إلى حضرموت:
بدأ أئمة اليمن من الزيدية يسعون للوصول والدخول إلى حضرموت، وأخذوا يتدخلون في شؤون الدولة الكثيرية بشكل عملي، وفي مدة تولي الإمام المؤيد محمد بن الحسن بن القاسم (1029- 1046هـ) أرسل كتبًا إلى سلطان الدولة الكثيرية في حضرموت وأعيانها، وفي هذه المدة كان يحكم حضرموت السلطان بدر بن عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر الكثيري بوطويرق.
ابتدأ ذلك التدخل من (1024هـ/ 1615م)، ولكن هناك من ردَّ على رسائل الإمام المؤيد الزيدي، ومن الذين ردوا عليها ردًا صريحًا الشيخ العلامة علي بن عبدالله العيدروس المتوفى (1041هـ/ 1631م)، الذي رفض الإذعان لطاعة الإمام، وأن سلاطين حضرموت وأهلها متمسكون بمذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والفروع المذهب الشافعي، الذي يختلف عن مذاهب الزيدية وبخاصة تلك الفرقة الشيعية الاثني عشرية الذي ينظر إليها علماء حضرموت وأهلها أنها فرقة مبتدعة وضالة، فهي تتبنى العقيدة الإمامية([5]).
وحصر الإمامة في ذرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأهل العلم في حضرموت ومنهم علماء العلويين، فهم كغيرهم من سكان حضرموت من أهل السنة والجماعة([6]).
وظل أئمة اليمن الزيدية خلال هذه المدة ينتهزون كل فرصة للتدخل في شؤون الدولة الكثيرية؛ ليتمكنوا من تحقيق أغراضهم، ويمدُّوا نفوذهم إلى حضرموت، وإدارتها سياسيًا وماليًا وإداريًا، وفرض مذهبهم على أهلها([7]). لم تكد قدما السلطان بدر بن عمر تستقر في حكم الدولة الكثيرية سنة (1024هـ/ 1615م) فبدأ تبادل الرسائل والمكاتبات مع إمام اليمن الزيدي، وكان مخلصًا في ولائه للزيدية شديد التعلق بهم، وأخذ يكاتبهم، وأشيع عنه اعتناقه للمذهب الزيدي، فازدادت الهوة اتساعًا والحالة حرجًا، حتى خطبوا للإمام في وادي حضرموت والشحر وظفار وغيرها، وعظم ذلك عند أهل حضرموت، واستمر السلطان بدر بن عمر في مكاتبته للإمام بنوع من المجاملة ظنًا منه أنهم سيكتفون بذلك([8]).
ولكن تغيرت سياسة بدر بن عبدالله بن عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق الكثيري إلى إبعاد الزيدية عن التدخل في شؤون الدولة الكثيرية، والوصول إلى الحكم؛ للحفاظ على استقلال حضرموت، فأخذ يعد العدة لذلك ويجمع آل الكثير والشنافر، ويعقد جلسات سرية، وكان هوى آل كثير وميلهم مع أولاد السلطان عبدالله بن بدر، إضافة إلى ذلك نفور أهل حضرموت منه بعد أن أشيع عنه ميله للمذهب الزيدي، وذكر الإمام في خطبة الجمعة في عهده، ورأى السلطان بدر بن عبدالله الفرصة، فطلع الحصن سنة (1056هـ/ 1646م) مع جماعة من آل كثير، وألقى القبض على عمه بدر بن عمر وابنه محمد المردوف في الحصن بسيئون ليتولى حكم الدولة الكثيرية([9])، ويعد هذا الانقلاب الثاني في تاريخ الدولة الكثيرية ليترك آثاره السلبية على حضرموت.
وتتابع تدخل أئمة اليمن في شؤون الدولة الكثيرية، والدخول إلى حضرموت وكان السلطان بدر بن عمر في الحبس (1058هـ/ 1648م) أخذ يكاتب الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن الحسن القاسم، وأنه سلم له أمر حضرموت من جانبه، فكتب الإمام إلى السلطان بدر بن عبدالله بن عمر بسرعة إخراج عمه السلطان بدر بن عمر من السجن([10])، واستمر في مكاتبته السلطان بدر بن عبدالله، وطلب منه أن يولي عمه على ولاية ظفار، وكانت لهجة المكاتبات بين الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن الحسن القاسم والسلطان لا تعدو حد المجاملات، وكان السلطان بدر بن عبدالله بن عمر يراوغ ويماطل في التنفيذ في الوقت نفسه ويظهر الطاعة للإمام المتوكل، ولكنه يبطن له غير ذلك حتى أوفد الإمام المتوكل إلى السلطان مندوبه صالح بن حسين الذي ألح عليه في إطلاق سراح عمه السلطان بدر بن عمر من السجن حينها استجاب السلطان بدر بن عبدالله إلى إطلاق عمه من السجن وتوليه ولاية ظفار([11]).
إن الصلات الودية التي نشأت بين الإمام المتوكل والسلطان بدر بن عبدالله لم تستمر إلا زمنًا يسيرًا حتى تغير الموقف تمامًا، وحدث ما لم يكن بالحسبان، وذلك بمطالبة أخيه جعفر بن عبدالله بن السلطان بدر بن عبدالله بولاية ظفار التي سبق أن أعطيت له، وتولى أمرها بعد الإفراج عنه من السجن بعد وصول السلطان بدر الحكم، وكيف وافق الإمام على انتزاع ظفار وتسليمها للسلطان بدر بن عمر بن عبدالله بن بدر وصارت الأمور بالاتجاه الآخر، وبالاتفاق بين الأخوين يتجه جعفر أخو السلطان بدر إلى ظفار، واستولى عليها وقتل ابن عمه بعد اشتباك قواته المؤلفة من آل كثير مع قوات عمه الذي فر هاربًا بحرًا إلى عدن ثم إلى ذمار، فلجأ إلى الإمام مع ولديه محمد وعلي([12]).
م يبدأ الإعداد سنة (1065هـ/ 1654م) لإرسال جيش من الإمام المتوكل إسماعيل بن الحسن القاسم إلى حضرموت بقيادة أخيه الصفي أحمد بن الحسن، وتعد هذه المرحلة الأخيرة من تدخل أئمة اليمن الزيدية في شؤون الدولة الكثيرية واحتلالها حضرموت بغزو الجيش الزيدي مناطق حضرموت المختلفة سنة (1070هـ/ 1659م)، الذي هزم جيش السلطان بدر بن عبدالله، ثم ولي السلطان بدر بن عمر الكثيري حكم حضرموت من قبل الإمام المتوكل إسماعيل بن الحسن القاسم([13])، بدخول جيش الإمام المتوكل إسماعيل بن الحسن القاسم، ورغم المقاومة ورفض الغزو بقيادة السلطان عبدالله بن بدر بن عمر بن بدر فإن جيش السلطان عبدالله بن بدر وحلفائه انهزم مما أدى لسقوط الدولة الكثيرية.
وعين السلطان بدر بن عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق الكثيري من قبل الإمام، واستمر في الحكم، وتميز بالولاء والطاعة للإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم، وبعد وفاة السلطان بدر بن عمر بن عبدالله سنة (1073هـ/ 1662م) عين من قبل الإمام ابنه محمد المردوف الذي أصبحت حضرموت تعاني ظروفًا مختلفة، وتمر بأسوأ أحوالها، واستمر محمد المردوف في الحكم سبع سنوات، وتوفي سنة (1080هـ/ 1669م)([14]).
تنامي نفوذ العسكر من يافع في حضرموت ووجوده:
منذ عهد السلطان بدر بن عبدالله بوطويرق، أصبح عسكر يافع في جيش الدولة الكثيرية([15])، وما آلت إليه الأمور من أحداث ونشوء الصراعات واحتدامها بين سلاطين الأسرة الكثيرية الحاكمة؛ لتعطي فرصة ليمارس العسكر من يافع الدور الفاعل والمؤثر في أحداث الدولة الكثيرية ليستغلوها لتعزيز وجودهم وتقوية نفوذهم.
إن ضعف السلاطين وقصر همتهم وقلة هيبتهم، وصيرورة الأمور من سيء إلى أسوأ، مع نمو نفوذ العسكر من يافع وهيمنتهم، وأصبح لهم كلمة مسموعة، فعندما حدث الانقلاب الثاني من قبل السلطان عبدالله بن بدر بن عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر بوطويرق الكثيري على عمه السلطان بدر بن عمر سنة (1058هـ/ 1648م) -وسبقت الإشارة لذلك- طلب الأمير عنبر أحد القادة والمقربين من السلطان الحماية من يافع فكلموا له السلطان الجديد عبدالله بن بدر، فأعطى الأمان للأمير عنبر وبعدها اتجه إلى عينات([16]).
وبحكم العلاقة التي تربط الشيخ أحمد بن الحسين بن أبي بكر بن سالم (صاحب عينات)، والشيخ أبي بكر هرهرة اليافعي وزياراتهم المتبادلة، وكان للشيخ ابن أبي بكر بن سالم دور في يافع، ففي سنة (1112هـ/ 1700م)، وصل الشيخ أبوبكر هرهرة إلى حضرموت، ودخل سيئون، وطلع إلى حصن سيئون؛ ليقابل السلطان عيسى بن بدر بن عمر بن بدر بن عبدالله بن جعفر الكثيري، ثم سار باتجاه عينات، وعند العودة قابل عيسى بن بدر في حصن سيئون، وزار الشيخ أحمد عمر باعباد نائب المنصب بالغرفة، بهدف توثيق العلاقات بين الطرفين([17]).
وتواصلت زيارات يافع إلى حضرموت، ففي سنة (1113هـ/ 1701م) وصل إلى حضرموت الشيخ عمر بن صالح هرهرة، وكان يرافقه خمسون رجلًا من يافع ومن آل القعيطي، ورتب هذه الزيارة إلى مدن حضرموت شبام، والغرفة، وسيئون، وتريم، وعينات، وقابل الشيخ أحمد بن عمر باعباد في الغرفة الذي أكرم ضيافته هو ومن معه، وقابل السلطان عيسى بن بدر في سيئون فأحسن استقباله، وأكرم ضيافته.
وأقام السلطان بدر بن السلطان محمد المردوف بن السلطان بدر بن عمر، في تريم احتفالًا بقدوم الشيخ صالح بن عمر هرهرة، ونظم له استقبالًا رسميًا يليق بكبار الشخصيات، وبخاصة إذا عرفنا أن السلطان بدر بن محمد المردوف تزوج على أخت النقيب عبدالله بن همام قائد الحماية (الرتبة) لحراسة السلطان في تريم، ثم زار الشيخ أحمد بن الحسين بن أبي بكر بن سالم، وجلس أيامًا في عينات([18])، ووصف بعض المؤرخين الحضارمة أن هذه الزيارة ليست عادية، ولا يقتصر هدفها على زيارة الشيخ ابن أبي بكر([19]) بقدر ما هي تؤسس لنشاط مستقبلي ليافع في حضرموت، ففي مدة حكم السلطان بدر بن محمد المردوف بن بدر بن عمر، الذي بدأ بسياسة جديدة تتميز بالموازنة والمرونة مع الأئمة الزيدية لا تهدف بالقطيعة والنفور من الإمام الزيدي، ولا تعني هذه السياسة الجديدة الانسجام والطاعة والولاء للإمام([20])، بل أخذ ينتهج سياسة يهدف منها إعادة ترتيب الوضع السياسي في حضرموت وحلمه باستعادة مجد الأجداد وبخاصة جده السلطان بدر بوطويرق، وكان يعتقد أن بإمكانه الاستفادة من عسكر يافع لتحقيق غايته، وقد وقع تحت تأثير الشيخ أحمد بن الحسين بن الشيخ بن أبي بكر بن سالم الذي أشار عليه بالاستفادة من العلاقة مع الشيخ صالح بن عمر هرهرة، وأيضًا بتأثير صهره عبدالله بن همام أخي زوجته.
كل هذه المؤثرات جعلت السلطان بدر بن محمد المردوف بن السلطان بدر بن عمر يفكر بجدية بإحضار عسكر من يافع، ولتحقيق ذلك اتجه إلى يافع ويرافقه الشيخ صالح بن عمر هرهرة سنة (1116هـ/ 1704م)، وبعد ذلك عاد من يافع السلطان بدر بن محمد وبصحبته الشيخ صالح هرهرة، ومعه ستة آلاف رجل وصلوا إلى حضرموت، ونزلوا إلى تحت قرية الهجرين([21]) غرب وادي حضرموت. في هذه الأثناء من جانب آخر ظهر السلطان عمر بن جعفر بن علي بن عبدالله بن عمر بن بدر، الذي جهز قوة جيش يتكون من ألف وخمسمائة رجل، منهم مائة خيال، ومعهم عدد من سلاطين آل كثير، وآل عبدالله، وعدد آخر من آل كثير، ومعه نحو مائتين من الزيود تهدف لمحاربة قدوم يافع إلى حضرموت، فالسلطان عمر بن جعفر الكثيري يحمل العداء ليافع، ورفض وجود يافع في حضرموت، وله علاقة طيبة بالإمام ويعظم شعائرهم الدينية، وكان يميل إلى بقاء تبعية حضرموت للإمام الزيدي، وتحت قرية الهجرين دارت معركة بين الطرفين خلفت عددًا من القتلى والجرحى، وأدرك السلطان عمر بن جعفر أن الهزيمة محققة، حينها فر من المعركة متجهًا إلى سيئون([22])، وظل الاختلاف على أشده بين السلطانين بدر بن محمد المردوف والسلطان عمر بن جعفر، وفي هذه الظروف اتخذ السلطان عيسى بن بدر بن علي بن عبدالله بن عمر سيئون منطقة نفوذ لحكمه([23]). وعبر عن وضع حضرموت المؤرخ سالم بن حميد بقوله: »كثر التخالف والتنافر والتصادم بين الدولة الكثيرية البين«، وأضاف قائلًا: »واستقوت عليهم الأجانب خصوصًا الفئة اليافعية، واستولت على مماليكهم وبلدانهم، وخرجوا منها لحتى انتهت رسم الدولة الكثيرية من تلك البلاد وخصوصًا المسفلة، ولم يبق اسم الدولة إلا في محلات قليلة«. وعن حالة حضرموت السياسية أضاف قائلًا: »وفي الوقت نفسه لا تزال الجيوش تخرج إلى حضرموت من اليمن، وكذلك الحروب والوقائع بين يافع والشنافر والعوامر وبني ظنة وغيرهم«([24]).
أوضاع حضرموت المضطربة والمتوترة وإشاعة الفوضى:
في سنة (1100هـ/ 1688م) تعرضت حضرموت لأحداث غريبة عن العادات والأعراف المألوفة بين الحضارمة ومخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، وقد اشترك في القيام ببعض الأعمال المشينة بعض من أفراد أسرة السلاطين آل كثير، منهم محسن بن السلطان عمر بن بدر الذي تزعم مجموعة من آل كثير وبعضًا من الشنافر ومن العوامر وآل جابر ومن حوله، وتقوم هذه المجموعة بممارسة أساليب العنف والقوة والسطو والنهب، فعبر عن ذلك المؤرخ ابن حميد بقوله: »فلا يزالون يلعبون في حضرموت«، وتعني هذه العبارة ما تعنيه، بأن تلك المجموعة تجردت من أي اعتبارات، ولم تبال بأي وزن لتصرفاتها العبثية، فقاموا بغارة على دمون سنة 1100هـ، ومارسوا إشعال الحرائق في الدور وبعض الغرف وسلبوا الرعايا مواشي لهم من الأبقار والحمير([25])، ثم اتجهوا إلى الغرف ديار آل زيدان من سكان هذه المنطقة فأحرقوها ونهبوها، وقد تصدى لهم آل تميم وعدوا ذلك تحديًا لهم وعدم إعطائهم أي احترام لحرمة مشارح آل بني ظنة ومسارحهم، وساندهم في موقف هذه الحامية من عسكر يافع في تريم، ونتيجة لهذا الاشتباك والقتال الذي حدث بين الطرفين كان قتلى من آل كثير ومن حالفهم، وآل تميم ومن حالفهم.
وتكررت هذه الغارات لكن آل تميم وآل زيدان وعسكر يافع طاردوا الشنافر من آل كثير والعوامر وآل جابر إلى تاربة([26])، ولكن هذه المجموعة لم تتوقف عن ممارسة مثل هذه الأعمال، وغاروا على سيئون، ووصف ابن حميد هذه الأعمال البشعة بقوله: «لعبوا بها وفسقوا فيها»، ولم يتعرض لهم أحد، وكانت الحامية من عسكر يافع، عندما سمعوا بهذه الأعمال اتجهوا إلى حصن سيئون وتحصنوا فيه، فعبر عن هذه الموقف ابن حميد بقوله: »تمجح يا جرذ فالهر غايب«، تعبير حضرمي دقيق لغياب الدولة وحمايتها لرعاياها، وفي هذه الأثناء ظهر بعض من آل كثير، وتولوا الحراسة، واتفقوا على القيام بحماية (الربع) بعض بيوت يافع في سيئون لمعرفة بينهم، وأيضًا قاموا بحماية (الربع) ديار من دور الرعبة بسيئون مقابل دراهم دفع الرعايا لهم([27]).
فظروف حضرموت في هذه الحقبة تمر بحالة من الاضطراب والفوضى السياسية والاجتماعية، لذلك كانت الظروف قد ساعدت الفوضويين على ممارسة الأعمال من غير توقف، تداعت هذه المجموعة إلى غيرهم من الشنافر آل كثير والعوامر وآل جابر، فاتجهوا إلى تريم، وهناك طلعوا حصن السعادة، وكان هدفهم غزو أرض مناطق آل تميم، الذين بدورهم تداعوا فناصرهم العسكر من يافع ودارت معركة شديدة في موقع باجلحبان([28])، فأنتجت قتلى وجرحى، ومن الذين أصيبوا في هذه المعركة محسن بن السلطان عمر بن بدر إذ أصيب بطلق ناري في حلقه وأسعف إلى مدودة، ثم تم نقله إلى بحيرة، وأصيب واحد من آل تميم.
ففي هذه الاشتباكات والاقتتال بين الطرفين تدخل الشيخ العلامة حسين بن عبدالله العيدروس ليصلح بين الطرفين، فأصلح بينهم، وكان له دور في إيقاف الحرب بين الطرفين واحترم كلا الطرفين حكمه([29])، ففي يوم الأربعاء 7 رمضان سنة 1104هـ وفي هذه المدة اعتصب مجموعة أخرى نحو مئتين وسبعين يحملون البنادق، ومعهم عدد من الخيل من آل كثير وبعض من آل كثير وبعض نهد يتزعمهم السلطان عيسى بن السلطان عمر بن بدر فدخلوا جعيمة وهدفهم آل سعد فرع من آل كثير، ومن الأعمال التي قاموا بها خربوا غرفهم وأحرقوا بعضها وأتلفوا زراعة تابعة لهم، وظلوا في جعيمة إلى وقت الضحى إلا أن آل سعد لم يتعرضوا لهم، وعاد السلطان عيسى بن بدر إلى سيئون دون أن يقتل أو يجرح منهم أحدًا([30])، ولم يتضح لنا الأسباب الحقيقية للقيام بمثل هذه الأعمال إلا أنها تفيد بالعقوبة لهذا الطرف الذي كان متحالفًا ومؤيدًا للطرف الآخر في ظل الصراع المحتدم بين أفراد الأسرة الكثيرية الحاكمة، والذي كان لها أثر سلبي في الانقسامات والتصدع بين فروع قبيلة آل كثير، وتأثير تلك الانقسامات بين قبائل حضرموت وأثرها على سكان حضرموت، وحالة الأمن والاستقرار بها.
وفي سنة 1113هـ حدث أن أحد الرعية من قرية شحوح ينادي السكان بصوت عالٍ بأنه له بقرة وحمارًا سُرقا من تحت بيته فطلب المساعدة لنجدته باستعادة حقه، وعندما لم يجد أحدًا يجيبه اتجه إلى سيئون وأبلغ الناس بما حدث، ونادى فيهم بصوت عالٍ، فاستجاب له جعفر ابن السلطان عيسى بن بدر بن عمر بن بدر، فأخذ مجموعة، منهم من ركب الخيل ومنهم من يمشي على رجله، واتجهوا شمالًا إلى تحت عقبة مدودة، وعرفوا من الذي قام بالسرقة، وألزموهم بإعادة البقرة والحمار لأهله([31]).
ثم ساءت أحوال حضرموت أكثر فأصبح السكان لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في بيوتهم، في ظل ظروف سياسية معقدة وتبعية لحكم إمامي ضعيف ليس له وجود في الواقع، وأصبح سلاطين آل كثير في حالة من الضعف، وتأخذهم الصراعات في ما بينهم على الحكم لأسوأ حالات الصراع، وعسكر يافع مهتمون بتعزيز نفوذهم وزيادة نشاطهم والسعي الحثيث لكي يكون لهم موضع قدم في حضرموت، ونشاط عشائري قبلي فوضوي يهدد حياة السكان، ونهب ممتلكات السكان وسلب وحقوقهم رغم بساطتهم وقلة ما لديهم([32])، وانتقد العلامة الشيخ عبدالله بن علوي الحداد ما يمارسه بعض الأفراد المنتنسبين لقبائل حضرموت معروفة لدى السكان بقوله: »أنا لا أقدر أن أحكم بكفرهم ولا بإسلامهم، إن حكمت بكفرهم فهم ينطقون بالشهادتين، ويصلون، وإن حكمت بإسلامهم، فهم يستحلون قتل الأنفس البريئة وينهبون الحلال«([33]).
وفي سنة 1113هـ مارس بعض الأفراد من آل كثير والشنافر أعمال ترويع للسكان الآمنين في بيوتهم، فقد تعرضت البيوت لذلك في سيئون، لم تعرف حضرموت في تاريخها مثل هذه الظواهر الغريبة والسيئة على الحضارمة، بالمقابل ظهر بعض من آل كثير بربع حماية بيوت بعض عسكر من يافع الذين تربطهم معرفة سابقة، وربع بعض البيوت من أهل سيئون مقابل أخذ الدراهم مقابل الحماية([34])، إلى جانب ما تمر به حضرموت من سوء أحوال سياسية واجتماعية وانتشار حالة الفوضى واضطراب الأحوال وعدم توفر الأمن والاستقرار، فإنها تعاني حالة اقتصادية صعبة بسبب الضائقة الاقتصادية في العيش، فقد ارتفعت الأسعار في شهر رجب سنة 1104هـ، فقد بلغ سعر الطعام البر سبع مصارٍ بأوقية، وسعر الذرة تسع مصارٍ بأوقية، وسعر التمر خمسة وعشرين رطلًا بأوقية، وغالبًا ما تتعرض حضرموت لمثل ذلك بسبب الجفاف وعدم سقوط الأمطار وجريان السيول. ففي تلك السنة (1104هـ) في شهر رجب سقى الله وديان وادي حضرموت وفروعه وعم الخير حضرموت. وفي سنة 1110هـ مرت بحضرموت أحوال اقتصادية صعبة، فأصبح قوت الناس يعتمد على بداية موسم خريف التمر، وقبل أن ينضج وهو في حالته الأولى (البر) المبكرة من موسم التمر، وبلغ سعر أربعة أرطال تمر بأوقية، والذرة الطعام مُدَّين اثنين بأوقية، وتأثرت متطلبات الناس الأخرى بهذه الأسعار، ونتيجة لظروف الجفاف التي عمت معظم غرب وادي حضرموت، فقد غادر أهلها إلى وسط حضرموت وشمالها مع مواشيهم حيث توفر بعض المزارع القائمة على السناوة([35])، والبحث عن مصدر للعيش.
ومن مظاهر الحياة الاقتصادية والأزمات المتتالية، وحسب ظروف حضرموت وحياة السكان، فقد ارتبطت حياة الناس بالمواسم في الزراعة سواء في وقت حصاد الذرة أو غير ذلك، ففي وقت موسم القطيع (خريف التمور)، وفي إحدى قرى حضرموت (تاربة) اشتهرت بالزراعة وكثرة النخيل فيها، حظيت تاربة باستقبال أعداد كبيرة من سكان تاربة المقيمين فيها، فقد توافد إليها في وقت موسم قطيع التمور من القبائل في حضرموت من كثيري وعامري وصيعري ونهدي ومن أهل وادي محمد ومن فروع كندة، وخلال هذه المدة من رغب في قطيع التمر في تاربة أخذ معه ربيعًا كثيريًا أو غيره في محطة الخريف مكان ما يقومون بقطع التمور([36])، لئلا يتعرضوا وحدث أن يتعرض النخيل بقطع التمور منها من غير مأكولها أفراد آخرين بأسلوب السرقة وسلب التمور من النخيل بعدم موافقة ورضاء مالكي وزارعي النخيل، مما ارتفعت الأصوات وتطلبت الحماية والنجدة، فقد تحرك الأمير منصور بن سالم بن عنبر وركب ومعه ستين بندقًا، وتولوا حماية النخيل من المتقطعين وسرق التمور، وعندما علم بهذا بعض القبائل بقدوم هذه القوة التي فرضت الحراسة على نخيل تاربة هربوا خارج تاربة، وهناك قرى أخرى في حضرموت تتعرض لمثل هذه الظروف. واستمروا الحراسة بقيادة الأمير عنبر في فترة القطيع لمدة ثلاثة أيام، وأخذوا ما لهم مقابل الحراسة للنخيل من المتقطعين والسرق، وهي أيضًا تدل على ظروف حياة الناس الاقتصادية.
المصادر والمراجع:
([1]) بن هاشم، محمد: حضرموت، تاريخ الدولة الكثيرية، النفقة السلطانية، أشرف على الطباعة: محمد علي الجفري، ج1، ط1، 1367هـ/ 1948م، ص54، بافقيه، محمد بن عمر الطيب: تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر، تحقيق: محمد عبدالله الحبشي، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 1419هـ/ 1999م، ص392- 393.
([2]) بافقيه، محمد بن عمر الطيب: تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر، ص428.
([3]) ابن حميد، سالم بن محمد: تاريخ حضرموت المسمى بالعدة المفيدة الجامعة تواريخ قديمة وحديثة، تحقيق: عبدالله محمد الحبشي، مكتبة الإرشاد، صنعاء، ج1، ط1، 1411هـ/ 1991م.
([4]) ابن هاشم، محمد: الدولة الكثيرية، ج1، ص63- 67.
([5]) باوزير، سعيد عوض: الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي، دار الطباعة الحديث، القاهرة، 1961م، ص78- 79، 102- 103.
([6]) باوزير، سعيد عوض: صفحات من التاريخ الحضرمي، مكتبة الثقافة، عدن، ط1، 1957م، ص260-261.
([7]) الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي،.
([8]) ابن هاشم، محمد: تاريخ الدولة الكثيرية، ص69- 74.
([9]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص238- 242.
([10]) العبدلي، أحمد فضل بن علي محسن: هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن، دار العودة، بيروت، ط2، 1400هـ/ 1980م، ص102- 108، الشاطري، محمد بن أحمد: أدوار التاريخ الحضرمي، دار المهاجر، المدينة المنورة، تريم، حضرموت، ط3، 1415هـ/ 1994م، ج2، ص244- 245.
([11]) ابن هاشم، محمد: تاريخ الدولة الكثيرية، ج1، ص68- 72، ابن حميد، العدة المفيدة، ج1، ص238-242.
([12]) ابن حميد، العدة المفيدة، ج1، ص238- 242.
([13]) باوزير، صفحات من التاريخ الحضرمي، ص164- 167، بامطرف، محمد عبدالقادر: لمحات من تاريخ اليمن، دار الثقافة، الشحر، 1983م، ص77- 78.
([14]) ابن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ج1، ص82- 88.
([15]) بافقيه، تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر، ص42.
([16]) ابن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص70.
([17]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص238- 240، د. الجعيدي، عبدالله سعيد: السلطنة الكثيرية الأولى، ص189-192.
([18]) العبدلي، هدية الزمن وأخبار لحج وعدن، ص108- 111، ابن حميد، العدة المفيدة، ص249، 262-269.
([19]) ابن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص84- 85.
([20]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص221- 222.
([21]) العبدلي، هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن، ص107، 111، ابن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص89-93.
([22]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص2620264.
([23]) ابن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص90-93، ابن حميد، العدة المفيدة، ص242- 262.
([24]) ابن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص90-93، ابن حميد، العدة المفيدة، ص242- 262.
([25]) ابن حميد، العدة المفيدة، ج1، ص300.
([26]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص300- 301.
([27]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص300.
([28]) باجلحبان: منطقة تقع غرب السوري شرق الجبل عند مدخل تريم.
([29]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص301.
([30]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص243- 244.
([31]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص250- 251.
([32]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص250- 251.
([33]) الشاطري، محمد بن أحمد: أدوار التاريخ الحضرمي، دار المهاجر، المدينة المنورة، ج2، ط3، 1415هـ/ 1994م، ص323.
([34]) ابن حميد، العدة المفيدة، ص253.