نقد
أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 52
رابط العدد 14 : اضغط هنا
والأعلام في شعر الجريري قسمان. قسمٌ منها مرذولةٌ سيرتها، شائهةٌ صورتها في خلد الشاعر ووجدانه على الرغم من شعبيّتها، وعلى الرغم ممّا في نفسه من تفاعلٍ مع قضايا البسطاء من أهل هذا المجتمع، ومن أمثلة أولئك الأعلام (عميرة بنت بو عامر)، التي غدت رمزًا للسقوط الذي ساقها إلى التمرّغ في أوحال المجتمع حتّى لم يَسَعْ كلُّ ذي قلبٍ يقظٍ وأنفٍ حميٍّ إلا انتباذها والنأي بنفسه وبأهله عنها وعن مثيلاتها.
ولكي يجسّد لك دلالة العلم الرمزيّة يكتفي بتلقّط الصور الدالة على مقصديّة الرمز وما يتلألأ من إيحاء دلاليّ في ثناياه دون اكتراثٍ بتقديم صورة رمزيّة مضادة تتمثّل بنيةً تقابليّةً مع صورة عميرة ومثيلاتها. لكنّه يستعيض عن ذلك بجلاء موقفه الحاسم منها ببتر العلاقة بها والتهديد بالويل إن رآها قريبة منه أو من بعض مَنْ يحبّ:
ونا بحوي على أهلي ومتسلّب معي مسبت
وميزر عِزّ لسلوبة وعندي للشرف سيفين
ومقصورة عميرة دحقتش في دارنا حرمت
ولي هو بيننا غلّق ولا شي لش علينا دين
وهنا لا يجد قارئ القصيدة صورة للمرأة تغاير صورة عميرة هذه وتبدو في النص صورة للمعنى السامي للأخلاق والقيم النبيلة. أتراه يصنع ذلك لانشغاله بذمّ الموجود المشهود فانصرف عن التغنّي بالمأمول المنشود؟ ربّما.
وليس ببعيدٍ عن عميرة بنت عامر (عبود) الذي (طبعه الحتم إلا وإلا)، وهو يجلو صورته من خلال هذه المفارقة بين انفراده عن الجماعة عند الشّدّة والفزع، والتحامه بهم عند الرخاء والطمع. ثمّ من خلال بعض المفردات الدالة على الهجاء المباشر والذمّ الصريح.
وعلى الرغم من اتسام هذا العَلَمِ بالمحلية فإنّه يومئ به من طرف خفيّ إلى مَنْ جاء من خارج الدائرة المحليّة ليدرجه في سلّة (جعفر بو كمر، والشعملي، وبوشعمل، وقشرة الحنشان…)، وكلّها أعلامُ إيحاءٍ دالة على التردّي والسقوط.
قسمٌ ثانٍ منبثقةٌ صورته من قاع المجتمع يأسى الشاعر لآلامها ويشجى لمعاناتها ما دامت أشباهًا عواديها. ومن أولئك (بخيتة ومبخوت، وسمر) التي نهشتها أنياب الختل ومزّقتها أظافر الطمع ولم يألم لمأساتها غير الشاعر الذي تخفق في ضلوعه آلام المساكين الضعفاء الحيارى. وإنّ في قصيدة (حكومة باحريز) التي تراءت فيها خديجة رمزًا لهم ولمعاناتهم في هذا الوجود الاجتماعيّ البائس الذي يحرم فيه المسكين من الظفر بأقلّ احتياجاته الإنسانيّة ناهيك بأكثرها تعقيدًا دلالةً على صنيع الشاعر س. س. الجريريّ في توظيف الأعلام في قصيدته، واستدِلَّ على الغائب من الشاهد، فالأشباه تتناظر والنظائر تتشابه. لكنّي أقول إنّه لا يستخدم الأعلام ليطرّز بها متنه الشعري تطريزًا ظاهرًا لا جوهرَ له ولكنّه يوظّفها فيه لينتج المعنى وتستقيم من خلالها الدلالة المبتغاة. وهذا ملمحٌ من ملامح الحداثة الشعرية التي استخدم شعراؤها التقنية لوظيفتها في النص وليس لما تتسم به في ذاتها من سمات ومعنى.
التداخل الأجناسيّ في قصائد الديوان:
ومن هذا الباب ما نجده في الديوان من تداخل أجناسي بين نصوصه. فالأصل في الشعر عند كثيرٍ من الشعراء أنّه غناءٌ تترقرق فيه الرؤى وتتجلّى المواقف، لكنّ من الشعراء من تجاوز هذه الغنائيّة إلى شيءٍ من السرديّة أو المشهديّة المسرحيّة، وإنّ منهم مَنْ أوغل في اللقطة السينمائيّة لتتضمّخ القصيدة بتقنياتٍ جماليّةٍ تتجاوز بها اللغة وظيفتها (التعبيرية) لتنساب في فضاءٍ تتعدّد فيه وظائفها وتتسع الدلالة حتى لا تكاد تحيط بها الصفة إلا قليلًا.
وفي شعر العاميّة الحضرميّة عَزَّ مثلُ هذا التداخل الأجناسيّ في قصائده مسرّحةً كانت أم مساجلةً أم قصيدًا مغنّى إلا فيما ندر، وعلى صورةٍ جزئيّةٍ محدودةٍ لا تكاد تتجاوز حدودها القصيدة الواحدة بين عشرات القصائد الغنائيّة المحضة. وأضرب لك أمثلةً شاردةً، هذا حدّاد بن حسن يقول في إحدى أغنياته:
قال الفتى قلبي الليلة سمع عنقا
وناحت العصر بالأنغام
يا غارة الله شو في صوتها رقّة
باللحن تشجي
وبلحنها خلّت العاشق ضوى مغروم
يومئ هذا المفتتح بتهيؤ النصّ لبنيةٍ سرديّةٍ تتوالى فيها الوقائع والمواقف وتتنوّع فيها الشخصيّات وما إلى ذلك ممّا يقتضيه البناء السرديّ في النصّ، لكنّ الشاعر اكتفى ببيتين بعد ذلك البيت لينفرط عقد السرد في القصيدة وتستمر اللغة في وظيفتها التعبيريّة على ما هو مألوفٌ في أشباهها. وقريبٌ منها ما صنعه المحضار في أغنيته (ما زلت يا طير متعلّي ما تعرف الساحل القبلي من حيث يتحصّل الياقوت). وهنا يتجلّى معنى التداخل الأجناسيّ في قصائد هذا الديوان.
وفي توغل قصائد الديوان في توظيف التداخل الأجناسيّ ما يصل بينها وبين أنماطٍ من شعر الحداثة العربية اتخذت من البناء السردي وسيلةً تتجاوز غنائية النص، وأداةً في تمثّل المعنى وجلاء الدلالة.
وقد عمد الديوان إلى ذلك في نصوصٍ مثل (ورطة/ كنيكونة/ فتوى/ دشكا/ …). وهنا تبنى القصيدة بناءً سرديًّا دون أن تخلي أبعادها من تعبيريّةٍ يدلّ عليها استخدام ضمير المتكلم، واستخدام التشكيل الاستعاري للغة، وما أشبه هذا او دنا منه من حيث إن السردَ أليقُ به استخدامُ ضمير الغائب واستخدامُ التشكيل الكنائيّ في النص.
والسرد في القصيدة لا يقوّض عناصرها من حيث هي (بنية) ولكنه يعيد تشكيلها من حيث هو طريقة في (البناء)، وبين المصطلحين فرق.
فالبنية ثابتة جامدة، والبناء متجدّدٌ متحوّلٌ.
البنية شغل البنيويين الشاغل، والبناء هدفٌ لنظرات الأسلوبيّين والسيميائيّين ومن سار على دربهم من تابعي المناهج اللسانية في النقد.
والشاعر س. س. الجريريّ حين يستخدم البناء السردي في قصيدته لا يغفل عن الاحتفاظ ببعض خصائص لغتها ليتذكّر القارئ أنه يقرأ شعرًا ولا يطالع نثرًا، ولست أعني بهذا استخدام الوزن والقافية فقط ولكنها أمورٌ تتجاوزهما إلى طبيعة اللغة التي تمنح النص هُويته الإبداعيّة. وخذ على ذلك مثلا قوله في مطلع قصيدته (ورطة):
من حكاية خيبة الحلوة سمر… حس في قلبي كما قبص الجحام
يومها حلوة وتملاه النظر …. مثلما البدر المنوّر في التمام
زوجوها العود جعفر بو كمر… واندفن عمر البنيّة يا حرام
فالناظر إلى قوله: (حس في قلبي كما قبص الجحام/ مثلما البدر المنوّر في التمام/ اندفن عمر البنيّة/ يا حرام)، يجد استخدامًا لضمير المتكلم، ويجد علاقة التشابه استعارةً وتشبيهًا، ويجد أسلوب التعجب وكلها عناصر لغوية تمنح وظيفة انفعالية تعبيرية هي أدخل في عالم الشعرية من حيث إن التماثل أو قل التناسب قانون إنتاجها. لكنّ القارئ حين ينظر إلى قوله: (الحلوة سمر/ يومها حلوة وتملاه النظر/ زوجوها العود/ جعفر بو كمر) يجد استخدامًا لضمير الغائبة والغائب، ويجد علاقة التجاور الناتجة عن استخدام الكناية في (جعفر بو كمر) حيث إن المال الموجود في (الكمر) هو للصرف والإنفاق لا للحفظ والادخار، ويجد فيه هذا التشويق بمعرفة التفاصيل التي احتوتها الحكاية، وكلُّها عناصرُ تمنح وظيفةً مرجعيّةً هي أدخل في عالم السرديّة من حيث هيمنة السياق على النص. وإنْ هذه الأبياتُ الثلاثةُ إلا مفتتحٌ لأبياتٍ تاليةٍ تتضمّن تفصيلات الحكاية التي أجملها في ذلك المفتتح.
والشاعر ينوّع في مفتتح قصائده ذات البناء السرديّ فيجيء به تارةً على هيئة نداء يلفت المنادى إلى القصة التي يرغب في عرضها كما في قوله:
يا بو الفتاوي جيت بستفتيك … جد لي جزاك الله بالفتوى
مبلي انا الله لا يبليك … وصبرت جم عا كم كم بلوى
وبليتي محزاة لو بحزيك … كل ما انقضت حزوة أتت حزوة
وفيها مشابه من اختصام الأرنبة والثعلب إلى الضبّ الذي فصل بينهما في ساعة الشكوى. لكنّ س. س. الجريريّ لم يُظْهِرْ صاحبَه أبو (الفتاوي) على أرض الحدث، ولم يُسْمِعْ صوتَه الآخرين لأنه ليس بحاجةٍ إلى فتوى في الأصل، فالحكم مخزونٌ في وجدانه ومعلّقٌ بجنانه وإنما همُّه من القصيدة الإعلانُ عن جوهر التجربة وجلاء صورة الآخر كما كشفت عنه وقائع الحدث.
وقد يفتتح القصيدة ذات البناء السردي بالحكمة الموغلة في التجريد ثم ينزاح عنها إلى الحدث المتعيّن كما في مطلع قصيدته (كنيكونة):
الصدق عملة قال شاعر في الزمن ذا نادره
والله لكل صادق ولي كل من صدق الله معاه
الصدق عنوان التقى والمتقي الله ناصره
والصدق قد نجّى محمد والذي صدقوا كماه
ثم يقتضب القول لينسرب إلى جوهر الحدث فيلجأ إلى صيغة تعرفها الذائقة الشعبية لارتباطها بطرائقها في إنشاء القول وأعني بها قوله (بالمختصر بحكي لكم قصّة لقتها البايرة).
وهو يجيد استخدام مثل هذه اللوازم السرديّة ويحكم نسجها في ثنايا القصيدة، ومن أمثالها قوله (قل بتت البتّة) وهي صورةٌ من صور القفز في الزمن كما يقول علماء السرديّات لكنهم لم يقعوا عليها لأنّ مبدعي السرد عندنا لم تلفتهم هذه الصيغة وأمثالها، ولو أنها وجدت عبقريًّا في السرد مثل يوسف إدريس لصاغ منها البدائع. على أنّ هذا استطرادٌ أتجاوزه لأقف عند قصيدة (دشكا)، وهي على شعريّتها سرديّة بامتيازٍ، تجد ذلك من كثرة استخدام الفعل الماضي (تكرر في الأبيات خمسًا وعشرين مرة)، ووفرة استخدام الكناية في إطار علاقة التجاور كما في قوله: (أطقم دواشك ما كماها عالحدود/ تسلم وتبقى للسقل ما دمت عالبنكا/ جا عند بو ناصر فرج لي يندر الهشكا/ با يلعبوا تربين بالجوكر وباليكا). وهو يزاوج في طريقة عرضه للحكاية بين أسلوب الإخبار والرواية عن الحدث، وأسلوب (التمسرح) لتتجلى الشخصيات في مشهدٍ مسرحيٍّ فيبرز الحدث وتتكشّف بواطن الشخصيات من خلال الحوار. فإذا كان (المتكلم) هو راوي الحدث وجزءٌ من نسيجه فإنّه لا يخلو من لطافةٍ في السجايا، ومسالمةٍ في الطبع، على بساطةٍ في مباشرة الحياة دون تكلف أو تعقيد: (نا الا على العادة هنا ومساهن البشكا). وهو لا يخلو من غفلةٍ عمّا يجري حوله من وقائع، ولذلك يفجؤه حدوثها حين تتجلى أمامه: (قلت: الخبر، إيش الخبر؟ حشدوا حشود، وتقفل الشارع، وفي كل زاوية دشكا)، ويفزعه سماع تفاصيلها حين يخبره بها شاهدٌ من أهلها: (فرقزت: يا ساتر، وملقي له حرس؟)، لكنه لا يخلو من سخرية وتهكم تنمّان عن إحساس صافٍ بالحياة (والتالية هشكا، ويا داحس دحس، آه لو جنوده يعرفوا دله وبس، با يلعبوا تربين بالجوكر وباليكا)، وهي سخرية تذكر بما اتسم به شعر أمل دنقل من تهكمٍ وسخرية. وليس في هذا ما يضير، فالرؤى حين تتدانى يسهل على أصحابها اقتراض التقنيات ووسائل الأداء لجلاء الرؤية وإبراز المواقف.
وإن في القصيدة براعة شعرية عمد فيها النص إلى تحويل دلالة (الدشكا) من تكوينٍ حديديٍّ مصنوعٍ إلى تكوينٍ طبيعيٍّ مخلوقٍ، تنتقل به الآلة من حقلٍ حربيٍّ إلى حقلٍ جنسيٍّ ليزيد معنى السخرية ودلالة التهكم عمقًا في نفس المتلقي.
لقد كان في مقدور الشاعر س. س. الجريري أن يقول المعاني التي تضمنتها تلك القصائد ذات البناء السردي بيتًا بيتًا في غناءٍ يعبّر عن موقفه من ذاك الذي جرى ويجري في واقعه المعيش لكنه أبى فتخيّر لقصيدته تشكيلًا شعريًّا مضمخًا بالسرد مما منح قصيدته هُويّةً إبداعيّةً متميزة.
جدل الشفاهيّ والكتابيّ في الديوان:
تمثّل الديوان وعيًا كتابيًّا بامتياز، لا من جهة استيعاب صاحبه للمكوّنات التي بها يصير النص كتابًا فحسب ولكن من خلال معطياتٍ في لغته أهمُّها استخدام بنية الفصل دون بنية الوصل في كثيرٍ من المظانّ، وإن لم تخلُ جمله من استخدام صور الوصل في مظانّ أخرى. ومن هنا جاء الحديث عن جدل العلاقة بين الشفاهيّ والكتابيّ في نصوص الديوان. وإنّ من مصادر الكتابيّة فيه المنزع الإبداعيّ الذي انتهجه الجريريّ عند صياغة القصيدة، وأعني به طرائق الحداثيّين في صوغ الشعر وسبكه وحبكه، فترسّم خطاهم وإن استقلّ عنهم بلغته وطرائق تشكيلها. وإنّ من صور الكتابيّة في شعره بناء القصيدة بناءً سرديًّا كما سلف عرضه في فقرةٍ سابقةٍ، فالسرد يقتضي ترتيبًا في عرض الحدث ورسم المواقف وجلاء الشخصيّات، وهو أمرٌ لا يُمْكِن منه غيرُ الكتابة، وإذا جاز وأسعفت الشفاهة منه فلسذاجةٍ في عرضه وسطحيّةٍ في مدلولاته. هذه واحدةٌ، وثانيةٌ من صوره استخدام (التشعيب) في عَروض النصّ. والأصل أنّ البيت في القصيدة ذاتِ الشطرين أن يستقلَّ كلُّ شطرٍ بوزنه وجمله وتستقيم له الدلالة على ذلك النحو من التشكيل، لكنّ للشعراء أمزجةً تتأبّى على الانصياع لما يقوله النقّاد وعلماء الشعر إذ هم ملوك الكلام يصرّفونه أنّى شاءوا وكيف شاء لهم الإبداع فيخرجون عما اشترطه النقّاد من قبل فيأتون بالبديع من القول. أتراه لهذا تحدّى أبو تمّام عمود الشعر فجلّى واستعصم به آخرون من بعده فتقاصروا عن صنيعه؟ ربّما. على كلّ حالٍ عمد الجريريّ إلى التشعيب في قصيدته توكيدًا لمنزعه الحداثيّ في الكتابة فجاء نصّه عند إنشاده موزّعًا في عددٍ من الجمل المتفرّقة على عددٍ من السطور. وهو ما لا يتمّ إدراكه إلا حين يعيد المتلقّي كتابة الأبيات على السطور مرّةً أخرى. وذلك على نحوٍ من هذا المثال، قال:
بحري أنا … والبحر يا عالم شراع نسمة هوا ورياح خير امباركة
وإن عاكستني أو طرأ طاري وصاع موجة على موجة طريقي سالكة
سدّي فضا ربّي وآفاقي وساع والبحر بحر الله ما هو الخانكة
هذه الأبيات المنتظمة في بحرٍ واحد، ويستقلّ كلّ شطر فيها بحرف رويّ، تستحيل عند تيقّظ الوعي الكتابيّ إلى عدد من الجمل وتتوزّع على عدد من السطور على نحو يدنيها من كتابة قصيدة التفعيلة عند شعراء الحداثة العربيّة في عصرها الحديث، وذلك على النحو الآتي:
بحري أنا
والبحر – يا عالم –
شراع
نسمة هوا
ورياح خير امباركة
وإن عاكستني
أو طرا طاري
وصاع موجة على موجة
طريقي سالكة
سدّي فضا ربّي
وآفاقي وساع
والبحر بحر الله
ما هو الخانكة.
ومن أمثاله التي خرج فيها النصّ من دائرة الشّفاهيّة إلى دائرة الكتابيّة قوله قصيدةٍ أخرى:
فاضية!! لا تصيح ما فيها مهبّي يسمعك لا صحت ويفك الحصار
ما بقت عزوة ولا داير وعصبي وين أهل الحي؟ لا صاحب وجار
فرفروا صحابك وقع يا كوس هبّي وش معك في الكوس بن عمّ الغبار.
هنا تنتظم الأبيات كأمثالها في بحر واحدٍ، وتتقسّم إلى شطرين، ويستقلّ كلّ شطر بحرف رويّ وقافيةٍ. لكنّ إنشادها يفضي إلى تقسّمها على نحو كتابيّ آخر ومغاير لما أَلِفَ من أمثالها، فتغدو على الهيئة التالية:
فاضية!!
لا تصيح
ما فيها مهبّي يسمعك لا صحت
ويفك الحصار
ما بقت عزوة
ولا داير وعصبي
وين أهل الحي؟
لا صاحب وجار
فرفروا صحابك
وقع يا كوس هبّي
وش معك في الكوس بن عمّ الغبار؟!
من ذينك المثالين -وسواهما- نتبيّن كيف أنّ الشّفاهيّة أسهمت في إنتاج الكتابيّة في النصّ فتماهت مع وعي الشاعر بوظيفتها في توكيد انفصاله عن الوعي الجمعيّ المحيط به واستقلاله بذاته رفضًا وانتماءً، حبًّا وكراهيةً، وإلا ما معنى لقائه الأخير مع أبي موسى الأشعريّ؟
لكن -ولا بدّ هنا من لكن- هذا الشعرُ منظومٌ بالعاميّة الحضرميّة كما جاء في غلاف الديوان، والأصل في الشعر العاميّ أنّه شفاهيٌّ بامتيازٍ، فهل خلت قصائد الديوان من تلك الشّفاهيّة؟ الواقع أنْ لا. فلقد تجلّت هذه الشّفاهيّة فيه على صورٍ، منها الإطناب في استخدام الصفات كما في قوله:
خديجة بنت بوها خشمها كالسيف لي يقطع
وهامة عالية ما يذلّها حد أو يوطّيها
فقوله: (لي يقطع) زائدة لا يحتاج إليها المعنى لأنّ الأنف الذي كالسيف يظلّ على هيئته قطع أو لم يقطع. و(الهامة) التي لا تذلّ ولا تنحني تبقى عاليةً إلى أبد الآبدين. ومن هنا فلا حاجة إلى هذا الإطناب على المستوى الكتابيّ في النصّ، لكنّ الشّفاهيّة تقبل به وتؤثره دون سواه.
ومنها استخدام حرف العطف من بنية الوصل بين الجمل. واقرأ معي هذه الأبيات من قصيدته (حكومة باحريز):
وقع لي من حصاة الواقعة من قبل ما توقع
على روس اليتامى ما قدرت البَرّ نجفيها
ولي هم ذخر في وهمي تناسوا والتهوا بقطع
وتبعوا الفانية كلين داوي في ملاهيها
وحد يفقع وحد يزمل ويتنصّر ويتبرّع
وضحكوا يوم قلت ترفّعوا بانت مناشيها
ونسيوا بو فرج وسعيد ومريزوق وربيّع
وضاع الصوت في الزحمة وفي حوسة ملاويها
ولا شي بي زعل راضي عَلَيْ ربّي، ولي يشفع
محمد سيد الكونين أولها وتاليها
ولكنّ البنية صوتها لعلع ولم أهجع
شكت من قلة التقدير.. هل في الأرض واليها؟
ستّةُ أبياتٍ تكرّر فيها حرف العطف (الواو) سبع عشرة مرّة ممّا يشي باتصالها مبنى ومعنى، والوصل بين الجمل باستخدام بنية العطف صورة من صور الشّفاهيّة في النصّ. لكنّ النازع الكتابيّ عند الشاعر هو الذي جعله ينزاح عن هذه البنية في الشطر الأخير من البيت السادس من هذه الأبيات فيعمد إلى بنية الفصل لتتداخل الجمل دون استخدام حرف من حروف العطف فقال: (شكت من قلة التقدير.. هل في الأرض واليها؟). وفي هذا وأمثاله ما يشي بتداخل العلاقة بين الشّفاهيّ والكتابيّ في قصائد الديوان.
ومن صور الشّفاهيّة المحاكاة الصوتيّة لبعض اللهجات المحلّيّة كما في قوله: (ما تفكّرينا في غنمكم والعجول)، وطريقة نطق الفعل هنا (مشقاصيّةٌ) خالصة.
ومن صورها استخدامُ القوالب المكرورة في شعر العاميّة الحضرميّة من مثل الافتتاح بالحمدلة أو البسملة أو الصلاة على المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام واختتام القصيدة بمثل تلك الصلاة عليه، كقوله مفتتحًا قصيدةً:
الحمد لله ألف وصلاتي على من أرسله بشّر وأنذرنا وهو يشفع لنا يوم الحساب
وكقوله مختتمًا قصيدةً:
بيموت مطمّن على أهله زكين وختامها صلّوا على طه الأمين
ومن صورها أيضًا استخدام أسلوب التعجّب في النصّ وله صورٌ لا تخفى على لبيب فلتنظر هناك وحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
ولا تخلو قصائد الديوان من استدعاء بعض نصوصٍ سبقت في تاريخ اللغة العربيّة الفصيحة أو العاميّة الحضرميّة كما في قوله: (نا نعرفك رايد ولا يكذب أبد رايد هله) الذي يستدعي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: »إنّ الرائد لا يكذب أهله«. وقوله: (وش معك في الكوس بن عم الغبار) يستحضر قول باحريز: (جبت الفوايد لول والا الكوس بن عم الهبوب). وقوله: (وقال ما عندي كما العيدة خصار) لا يبعد عن قول الشاعر الأول (العطيشيّ): (خاطبك في المظبي تقول لي العيد زينة والعنوب)، وليس المثل العربيّ ببعيدٍ عن قول الاثنين معًا. وفي قوله:
قال إيش تقولي يا كنيكونة انقلبتي ساحرة
والا نسي حاشاه موسى عند أخوالش عصاه
والا سرقتيها على غفلة وطرتي طايرة
ولعاد فكّرتي بموسى بين ذولاك الحواه
دندنةٌ حول قصّة نبيّ الله موسى وسحرة فرعون وعصاه التي لقفت ما أفكوا لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. أمّا قوله في القصيدة ذاتها: (وبدت كنيكونة تفصّل له من عطارد كساه) فناظر إلى نصّ المثل الحضرميّ: (يفصّل من السماء قمصان)، أي أثوابًا للصلاة. وكفى بهذا خبرًا عمّا في نصوص الديوان من هذا المكوّن الأسلوبيّ أشباهًا ونظائر.
جماليّة الكراهية في الديوان:
وهل الكره جميلٌ ليلد إنشائيّةً جميلةً؟ الواقع أن نعم، ولكن حين يخبر الشاعر مضايق الكلام إليه، فيجيد طرائق سبكه، وجلاء محاسنه، فيغدو صورةً للكلام السّامي فلا يسفّ. ولعلّه لشيءٍ قريبٍ من هذا تكلّم نقاد الحداثة عن شعريّة القبح عند شعرائها على الرغم من قدم وجود صور منها في تاريخ الشعريّة العربيّة، فهذا امرؤ القيس يقول:
ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنّه حبّ فلفلِ
ويقول:
لها ذنبٌ مثل ذيل العروس تغطّي به فرجها من دبرْ
والقبح لا يخفى في صورة (بعر الآرام وذنب الدابّة الذي تغطّي به فرجها من دبرٍ)، ومع ذلك قبلته ذائقة المتلقّين منذ الجاهليّة حتّى يوم الناس هذا، ولم يأنف من ترديده كلّ ذي بصرٍ بالشّعر.
أضف إلى هذا أنّ الكراهية هنا حافزٌ من الحوافز المحركة للإبداع شأنها شأن الحبّ وإن تخالفا في الاتجاه وتعاكسا في الغاية. وما شعر المديح والهجاء إلا صورتان من صورهما. وما وُجِدَ شاعرٌ مَدَحَ إلا عَرَفَ السبيل إلى الهجاء، وحسبك بالحطيئة وابن الروميّ وأبي الطّيّب أمثلةً شواردَ في هذا المقام.
ومن المعلوم في تاريخ الشعريّة العربيّة أنّ الحطيئة رفع من شأن بني أنف الناقة حين قال فيهم:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذّنبا
وقد كانوا يرون في لقبهم هذا سبّةً فاتشحوا بعد مدح الحطيئة إيّاهم ثوب فخر وازدهاء. وهو نفسه الذي أخزى الزبرقان بن بدر وقد كان جمّ الاعتداد والتباهي بنفسه حين هجاه بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
ومثل ذلك كثير في شعر أبي الطيب ممّا هو معلومٌ ومدرك. وفي هذا وهذا ما يدلّ على أنّ الشاعر حين يقتدر على القول يقبل على المدح إقباله على الهجاء، ويجمع بين النقيضين في نفس واحدة لأنّ الله فطرها على ذلك النحو من الانشطار، قال تعالى: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] [الشمس: 7- 8]. فهذا الاستقطاب الضدّيّ هو معنى من معاني الوجود، فما من نهارٍ إلا ويعقبه ليلٌ، وما من حياةٍ إلا ويأتي عليها الفناء، وما من أمرٍ يرضينا إلا ويتلوه ما يسخطنا منه وعليه، ولذلك قال الله تعالى: [لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] [الحديد: 23]، ليتساوى الأسى والفرح في وجدان الإنسان، وتتوازن عواطفه دون اضطرابٍ، فيحيا مطمئنًّا في هذا الوجود الموّار بشتى المتناقضات.
والكراهية ليست بنية دلاليّةً منتجةً هنا ولكنّها محفّزٌ من محفّزات القريحة على النظم وصوغ الشعر، ولذلك تعدّدت الصور، وتنوّعت أساليب الأداء، والمقصود بالذم واحد، هو (الشعملي) و(بو شعمل)، وهو (قشرة الحنشان)، وهو (الغريم الذي اشترى أبو الفتاوي بالربط)، وهو أسّ الذين امتصوا (منيحة سالمين ثم رهنوها فباعوها بكل برودة)، وهو (عبود العيف لي عيّل في الطويلة والمكلا)، وهو (اللي تحيّل وصفّر العدّاد)، وهو (الجرد الذي في الدار يتخطر)، وهو (العاوي الأحمر)، وهو (الغريم الذي يزور بو ناصر ذي يندر الهشكا)، وهو (قليل الخير)، وهو (علي فعفع الذي لقّى الفعفعة مهرة وأفلح فيها دائمًا):
علي فعفع مجرّب في البلد ولعاد با يخدع
دجاجة عزّكم ربّي تخطخط في مراعيها
وهذا الذي يظهره النصّ موضوعًا لكراهية الذات الشاعرة هو واحدٌ من خصومها -وله أشباهٌ- يستوي في ذلك أن يكونوا سياسيّين أو آخرين من غير هذه الدائرة لقيت منه الذاتُ عنتًا أو لم تلق منه عنتًا، لا يهمّ هذا هنا فالأهم أنّها تكرهه وتأبى أن تمنحه صورةً من صور الولاء، فكان البراءُ منه غايةً، والإعلانُ عن البراء منه مفخرة، ولا تتوانى الذات عن الاعتناء بإعلانها هذا البراء، وتجويد الصور الدالة عليه حتّى يعي المتلقون منها ما تشتهي منهم أن يعوه.
ولقد أفضى الإيغال في هذا الحافز إلى شيء من التشفّي بمآل خصومٍ آخرين كانوا يصنعون بهذه الذات وأهلها في زمنهم المنصرم ما يصنعه المعاصرون من خصومها بها وبهم وإن اختلفت الغاية وتغيّر الأسلوب، وأنت مدركٌ ذلك من قراءتك لقصيدة (حوت) وقصيدة (سرحت البغلة)، وهما تتحدثان عن كائنٍ واحدٍ وإن تنوع الرمز فيهما. اسمعه يقول في (حوت):
حوت في السحية جدح زقلته في الغبّة المراكب
خمّ في السحية وعافت ريحته حتى الصراصير
حوت كم دوّخ عباري جالها من كلّ جانب
لا ظهر لفّوا الشبك في صرفخة مثل المصاقير
كان ما مثله في الحيتان يصرطها قناطب
قال هذا البحر بحري با لقي فيه المناكير
حوت كنّه اليوم قده الا محوّت يا عجايب
يرحمك يالحوت شي قدها تهاويلك خبابير.
الحوت هنا رمزٌ ومرموزه معروفٌ يدركه المتلقّي حين يستغرق في قراءة النصّ ويعمد إلى تأويله من خلال تلقّط العلامات المبينة عن مقصديّة النصّ.
وإنّ راكب البغلة في قصيدة (سرحت البغلة) هو ذلك الحوت في القصيدة السالفة، فالمدلولُ واحدٌ والدالُ مختلفٌ وإن اتحدت القصيدتان في بحرهما والقافية.
هناتٌ هيناتٌ:
من يقرأ كتاب الموشّح للمرزبانيّ يهوله ما تضمّنه من مآخذ أخذها النقّاد في قديم الزمان على الشّعراء منذ امرئ القيس وأضرابه في الجاهليّة حتّى أبي تمّام وأمثاله ممّن تقدّموه أو جاءوا بعده في عصور الإسلام. وليس بالنقد عيبٌ حين يومئ إلى بعض هنات النصّ ما دام مندرجًا في باب الودّ ونائيًا بنفسه ولغته عن شواظ الحقد، ودلّ على موضع الهنة دون تعدٍّ أو تجاوزٍ فلم يصنع ما صنعه العقّاد والمازنيّ حين أخرجا كتابهما (الديوان في الأدب النقد) فكالا للشعراء من الشتم والتجريح ما يبرأ منه النقد ويعفّ عنه قلم الأديب الناقد.
من هذا الباب ألج بالقارئ إلى بعض المظانّ ظهرت فيها بعض الهنات الهينات من مثل قوله:
وصلّوا عالنبي المقصود لي يقصده ما يرجع
وعا آله عدد ما بلغت اخديجة أمانيها
فهنا لبسٌ في قوله: (ما يرجع)، فهل المقصود لا يرجع خائبًا فعزّ عليه تبيانه لاحتكامه للوزن والقافية؟ أو المقصود بـ(ما يرجع) عدم العودة إلى حيث انطلق؟
وأقول في قوله: (عدد ما بلغت اخديجة أمانيها): لقد أقللت صلاتك على الرسول عليه الصلاة والسلام وكان ينبغي أن تكثر منها عددًا لأنّك تعلم كما نعلم أن خديجة وأمثالها من المساكين الحيارى قلّ أن يبلغوا أمانيّهم في هذه الحياة الظالم أهلها.
ومثله قوله:
بردت أعصابه وهرجه مخملي وانقلب عصفور ذيّاك الغراب
البيتُ جميلٌ كلّه لولا (ذيّاك) التي أشار بها إلى الغراب وهي لا تليق به ولعلّها أليق بالعصفور منه لما فيها من معنى التحبيب.
ومثله قوله:
فتح بازار ثمّن كلّ شي باللي بغى قدّر
ولقّى للكلاب اسعار شي عيني وشي منقود
وما الفرق بينهما إذا كان العين هو النقد؟ وبعتُه عينًا بعين أي حاضرًا بحاضر.
ومن هذا ما نجده في بعض معارضاته لقصائد الشعراء الذين سبقوه مثل الشاعر العاميّ الكبير سعيد فرج باحريز الذي عارض الجريريّ قصيدته المشهورة (بغيت الصدق والواقع…) بقصيدتين افتتح بإحداهما ديوانه واختتمه بالأخرى. ولوضع القصيدتين في هذين الموضعين من الديوان دلالة لا تخفى على دارسي عتبات النصّ من حيث إن باحريز كان في شعره كلّه وفي هذه القصيدة خاصّة مثلًا أعلى للرفض والتحدّي والانتصاف من الظالم انتصارًا للمظلوم. وقد نسج الجريريّ قصيدتيه على وزن القصيدة الباحريزيّة وقافيتها وحرفي رويها صدرًا وعجزًا. لكن ثمّة تباينًا بين القصائد الثلاث في جوهر الهندسة الشعريّة، فقصيدتا الجريريّ تنهجان نحو التخصيص، وانحصار الدلالة في دائرة المعروف والمحدّد ولا تكاد تتجاوز الحدث ولا الشخصيّة فجاءت تعبيرًا مباشرًا عن مقصودٍ متعّين. أمّا قصيدة باحريز فقد أوغلت في العموم متجاوزةً الخصوص، ونظرتْ إلى الإنسانيّ ذي الصفة المطلقة دون الانحصار في السياسيّ أو الاجتماعيّ ذي الصفة الآنية، قال:
ووحدة قال بو سالم خِيَرْ من عشر ما تنفع
وزنها يا بن الصوري وفكر في معانيها
وللأيام سكرتها تبت وتقول لك برجع
كما لي يخرج الكلمة ويرجع ما يوفيها
ومن غراك لا تغتر ومن طمعك لا تطمع
ولا شفت السما سودة تعوذ من مناشيها.
وإنّ في ارتباط بعض أبياتها بالذات المتكلّمة قد منحها تعبيريّة حميمة افتقدتها قصيدتا الجريريّ:
ونا ما بخرج الزامل بلا سكين بتبرع وكل رقبة طويلة راس لها آفة توطيها
صبر بيجي لها فارع من الشارع وبايفرع
وكل من سرّح النِّشْرة بيده بايضويها.
ويستخدم الجريريّ لفظة (المنترة) على نحوٍ يخالف ما جرى الاستخدام بها في شعر باحريز. قال الجريريّ:
ولي كوره في الشربة يشوف المنترة مطلع
ويحلب شاة باصالح وهي ماشي لبن فيها
وقال باحريز:
عمري في التسعين لكنّي شبي في المنترة
والشمس تشرق قال بو سالم ويعقبها الغروب
(المنترة) عند الجريريّ نزولٌ فغدت عند المغفّلين صعودًا. و(المنترة) عند باحريز سند يصعب على الضعفاء صعوده فيتباهى أمثاله بتحقيق ذلك الفعل.
فأيّ الشاعرين مصيبٌ في استخدامه هذه المفردة في شعره؟ أم تراها من ألفاظ الأضداد فيصحُّ فيها أن تكون للصعود وللنزول معًا؟
هذا سؤالٌ أدع الإجابة عنه لآخرين، وإن وددت الإشارة إلى أنّ كلّ صعود لا بدَّ له من نزولٍ، وكلّ نزولٍ يعقبه صعود لازم، هكذا هي الحياة، وذلك هو قانونها، فهل تعي ذلك أذنٌ واعية؟