ملف
فائز محمد باعباد
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 80
رابط العدد 14 : اضغط هنا
المشقاص جزء أصيل من حضرموت، وهو المنطقة الممتدة شرقًا من الساحل الحضرمي إلى حدود المهرة، والمتعارف عليه حاليًا أنها مساحة مديرية الريدة وقصيعر والمناطق القريبة منها وإن كان مدلولها أعم وأكبر عند بعض المؤرخين وهو ما يبدو صوابًا، ومهما تكن الحدود فمجال هذه الورقة البحثية هي مديرية الريدة وقصيعر، وقد تتشابه وقائع غياب البحارة وقصصهم مع ما كان يحدث في بعض مناطق ساحل حضرموت عامة وربما غيرها.
تـزخـر هذه الأرض بصنـوف من الموروثات الفكرية الفنية والاجتماعية وبعاداتها وتقاليدها وحكاياتها وقصصها وأساطيرها وأدبها المحكي المتفرد، وهي تتنوع بين السهل والوادي والجبل، ففيها تقع مواقع طرق التجارة القديمة، وهي أرض اللبان، والحصون التاريخية المتناثرة، وأرض الزرع، والرعي، وقوافل الجمال، وفنون الغناء المتنوعة التي تـتـميـز به عن غيرهـا: الـدان الساحلي المشقاصي، ودان بيت حسين، والداني دني، والشحيب، والمريكوز الحداء (الكرام)، وقصائد مهرجانات ختان الصبيان، وهي أرض الشعراء الشعبيين، والأولياء الصالحين، وزيارات معبر، وسبعة الراكة، وسبعة القطار (وسبعة العلب واليافه وعبده وهود وهو كما يذكر شاعر) وغيرها من المفردات التي يعرفها الباحث والمهتم، هذا التنوع فتن به كثير من الباحثين والمهتمين بالتاريخ والتراث والفن الحضرمي، وحتى الشعراء والأدباء، وستحدثك كتابات الشيخ عبدالرحمن الملاحي عن شيء كهذا، وإن يممت صوب الأدب فالتقط رواية الصمصام للأديب صالح سعيد باعامر أو غيرها، أو اقرأ عن تراث المشقاص في كتابات الأديب أحمد سعيد باعباد… وغيره.
في مساحة البحر والشواطئ الخلابة والموانـئ الطبيعيـة، ما زالت آثـار وخطوات البحارة وسفرهم وسفنهم الشراعية التي تمخر عباب البحار فتبلغ الهند والخليج العربي وشرق أفريقيا وكثيرًا من بلاد العالم، وهناك القصص والحكايات التي ما زالت تحكى بشخوصها الحقيقيين، وبما شابها من خيال الرواة، سنتناول منها في هذه الورقة ما تعلق بقصص غياب البحارة وحكاياتهم، وفقدهم في البحار وما وراءها، وهي حكايات تسلط الضوء على خطورة مهنة البحَّارة وما يكتنفها من مصاعب تصل أحيانًا إلى ذهاب بغير عودة، وغياب لا ينتهي.
في المشقاص “قصيعر” وهي المرفأ الأهم وكانت بلدة مسوّرة حولها الحصون والقلاع وفيها الميناء والجمرك والحركة التجارية والملاحية، وإليها يقدم كثير من الناس للانضمام إلى مواكب العمل في البحر إذ كان عمل البحر هو المتاح الأفضل والأكثر دخلًا، كانت رحلات البحر تقرب وتبعد ما بين رحلات الصيد اليومية أو رحلات السفر مع السفن الشراعية إلى مناطق شتى؛ وكان هذا السفر البحري صعبًا وشاقًا وطويلًا إذ قد يستمر من ثمانية إلى عشرة أشهر في السنة.
كان طاقم السفينة الشراعية في المعتاد يتكون ابتداء من أسفل السلم الوظيفي من (صغير شربة) وهم في الغالب أطفال يعملون مجَّانًا مقابل تعليمهم وإطعامهم، وقد تجد في السفينة الشراعية أكثر من صغير شربة وعملهم هو تقديم الماء للبحارة وهم في أسفل ترتيب طاقم السفينة كما ذكرنا، وأعلى منهم (الصغير قرص) المرتبط عمله بتقديم أقراص الخبز والطعام، ثم (الصغيّر درك) وهو مساعد الطباخ، ثم (الطحان) وهو الطباخ ومن يطحن حبوب الطعام، ثم (السكّوني) من يقود دفة السفينة، ثم (المقيدمي) وهو مقدم البحارة، والبحارة الآخرين الذي في المتوسط قد يصل عددهم اثني عشر بحريًا يزيد أو ينقص حسب حجم السفينة، ثم (الصرنج) أول الربان وهو المساعد المباشر للنوخذة، ثم (النوخذة) وهو السلطة الأعلى، وفي هذه السفينة الشراعية المشقاصية أداة الرحلات والحكايات البحرية التي نحن بصدد الحديث عنها، وللالتحاق بمهنة البحّارة في هذه السفن قوانين وأنظمة عمل صارمة.
مما يلفت إحساس الباحث والمتتبع للقصص المحكية عن هذه الرحلات لمسة شعور بعض البحارة والمسافرين لتلك النواحي بقسوة الرحلة ومشقة الغياب القادم في رحلات يتربص بها المجهول والخوف والتردد، ويبدو أن البعض في هذه الرحلات يساقون إلى هذا السفر مرغمين، يقول الشاعر الشعبي علي بن حسن باعباد (ت 1970م) عن تجربة سفر بحري:
سافرت ما بغيت سافر ليشنا قل بي
ولعادنا في السفر يا نوخذة رد بي
فهو يذكر أن القل (الفقر) هو الدافع لسفره لكنه يغير رأيه في السفر حيث لا مجال للعودة. سألت الوالد غبشان الجريدي، وهو من آخر من بقي من بحّارة السفن الشراعية عن شعورهم عندما كانوا يغادرون إلى البحر، قال: كنّا نذهب كالمغصوبين ما يخفف عنا هو أمل أن نوفق في الموسم، ونحصل على عائد مادي وفير، وعندما يحدث هذا ننسى كل المشاق التي قد كابدناها.
الغياب والاغتراب ليس بالأمر الهيّن خصوصًا عندما يكون السفر في عباب محيط وعلى ظهر سفينة شراعية، يقول حسن صالح شهاب في كتابه (أضواء من تاريخ اليمن البحري): »كان الناس حتى وقت قريب يكتبون وصاياهم حين يقدمون على السفر على وجه البحر، ويودعون أهلهم الوداع الأخير، ويعتبرون في عداد المفقودين ما داموا في البحر، ومن خرج سالمًا عُدَّ كمن بعث من قبره… قال ابن المجاور: وخروج الإنسان من البحر كخروجه من القبر«(1)، وفي الواقع إن هذا السفر والاغتراب المشقاصي ينتهي غالبًا إلى عودة حميدة لكن هناك من لا يعود، أو يعود متأخرًا جدًّا.
تم تقسيم هذه المواضيع والحكايات حسب الآتي:
أولًا: عودة البحارة المتوقعة بعد غياب، وهو الغياب المعتاد.
ثانيًا: حكايات اللاعودة الاختيارية، البعض يسميهم (المتوهين) الذين تستهويهم تلك المناطق فلا يعودون.
ثالثًا: حكايات الإعادة بالإكراه؟
رابعًا: حكايات الفقدان والانتظار الذي لا ينتهي.
وقد ذكرت في هذه الحكايات بعض الأسماء الحقيقية لبعض النواخيذ والبحارة كي يفهم القارئ أن هذه الحكايات حقيقية وليست من وحي الخيال في تواريخها ومناطقها، بل إن بعض أبطالها ما زالوا أحياء يرزقون.
وسنسلط الضوء أيضًا على منطقة ومجال أهمله المؤرخون والبحّاثة وإن كان هذا التناول من جانب الحكايات، ففي المشقاص قد لا تسمع عن أسماء نواخيذ وربابنة كبار كمناطق حضرمية أخرى، وهم لا شك موجودون لكن ربما يعود السبب الأكبـر في عدم ذكرهـم هو عـدم الاهتمام بالتدوين كما فعل غيرهم أو لجهلهم أو لأميتهم أو لانشغالهم الدائم بعمل البحر، رغم أن في هذه المنطقة كان وما زال يوجد نواخيذ كبارًا لا يقلّون شأنًا وأهمية عن غيرهم.
أولًا: العـودة المتـوقعـة بعد غيـاب معتـاد:
عندما تعود السفن الشراعية وبحارتها بعد انتهاء موسم السفر الطويل يستقبلون بالاحتفالات، فيخرج الكبير والصغير إلى الشاطئ لاستقبال القادمين من البحر، فلا يبقى أحد في البيوت؛ وذلك لأن كل الأسر تقريبًا كان لها عائد بعد غياب، وأشهر ما يمكن تسجيله قبل مهرجانات الاستقبال هذه هو أغاني النساء وأهازيجهن، التي تسمى (التجلوب)، كان هناك اعتقاد أن التجلوب يجلب الأحبة الغائبين إلى أوطانهم بعد انتظار، ويتم التجلوب في المساء في بيوت متفق عليها بين النساء (المجلبات)، وتنضح كلمات التجلوب بالتفاؤل بعودة الرجال، وهو شيء من تجليات الشوق الأنثوي، ومن شجن الفراق والانتظار، ومن أشهر كلماته: (جلبن يالغزل كلن مساهن رجاله.. وقريب الفرج قريب يالله مع الصاري.. وجلبن يالغزل ياخضار الشغية ما معي قلب صبار) وغيرها كثير، يقول الأديب الأستاذ أحمد سعيد باعباد (ت 1993م): »إن ألحان التجلوب المتنوعة والجميلة والشجية والمثيرة للخيال والذكريات تحتاج منا إلى توثيقها وتسجيلها قبل إن تنقرض إذ هي جميلة جدا وتثير في النفس الأمل والتفاؤل بقرب لقاء الأهل والأقارب«(2 ).
اليوم قد تسمع بعض النساء العجائز وهن ما زلن يُدَنْدِنَّ ببعض أهازيج التجلوب فتشعر كم تبعث هذه الأصوات من الشجن والأسى رغم أن تلك العجوز المدندنة لم تعد تنتظر أحدًا، فهي إن صح التعبير كالنائحة المستأجرة لقد مر على زمن هذه الأصوات عهد طويل لكنها لم تزل تسبي الأفئدة والوجدان.
عند اقتراب السفينة من المرسى تطلق بعض الطلقات من مدافع صغيرة بحوزة السفينة إشعارًا للمستقبلين بقرب الرسو، وعند الرسو ينطلق بعض الأطفال سباحة حتى يصلوا في أعماق البحر إلى جوار السفن، وهناك يحضون بهدايا صغيرة بمناسبة سلامة الوصول، وعندما ينزل طاقم السفينة إلى اليابسة، يقول الأستاذ الأديب أحمد سعيد باعباد »يكون الشاطئ غاصًّا ومزدحمًا بالرجال والنساء والأطفال الذين يشاهدون عملية النزول هذه ومرحبين ومهنئين بسلامة الوصول بمصافحة الأي بالنسبة للرجال أما النساء والأطفال فالترحيب بالنسبة لهن ولهم ينحصر فقط بالنظرات والزغاريد والإشارات والهمسات والضحكات الخافتة«(3 ).
تلك كانت هي النهاية السعيدة للرحلة البحرية الخطيرة لكن ليس كل النهايات كهذه.
ثانيًا: من حكايات اللاعودة:
في حكاياتي التي كنت أكتبها (حكايات من المشقاص)، وتم نشر بعضها في (مجلة حضرموت الثقافية) التي تصدر عن (مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر) تناولت بأسلوب أدبي تاريخي حكايات حقيقية استقيتها من رواة ثقاة أو حتى من بعض أبطال هذه الحكايات ممن ما زالوا على قيد الحياة.
عن حكايات الغياب واللاعودة البعض تستهويهم تلك المناطق الخضراء الجميلة والساحرة فلا يعودون، منهم من يفتح تجارة، ومنهم من يتزوج، وبعضهم يترك أولاده صغارًا، ومنهم من يتهم بتهمة فيهرب، ومنهم من يصاب بغدر أو خيانة صديق أو حبيب فيفضل البقاء هناك ولا يعود أبدًا، من حكايات اللاعودة التي ما زالت تذكر هنا ومن أشباهها كثير وإن اختلفت في تفاصيلها هي حكاية الشيخ عوض بن زين بن حمزة بن عقيل باعباد (المتوفى حوالي: 1948م)، فقد تزوج الشيخ عوض ولم يمكث عند زوجته شهرًا حتى حل موسم السفر البحري فسافر طلبًا للرزق على أمل العودة، وفي زنجبار حين كان ينتظر بشوق أن ينتهي موسم السفر ويعود لأهله محملًا بالهدايا والأموال وصله من وطنه نبأ أليم ووشاية مغرضة من صديق يتهم فيها زوجته بسوء فلم يتبيّن فأخذه الغضب وتملكته الغيرة فأرسل طلاقها غير معقّب، وبعد حين فوجئ أنها تزوجت ممن أبلغه عنها الوشاية، فندم وعلم أنها طعنة غدر من صديق لم يتوقعها، فكتب قصيدة شعبية يشكو فيها مرارة ما تعرض له، فخلدت هذه القصيدة قصته، وما زال البعض يردد القصة ويحفظ أبيات القصيدة التي منها:
بي صوب ماكن وعاد شي يا عرب طب له
الله يصيب الذي لا يا عرب صوبه
لا تحل له من قسم قلبي ثمين أربعه
ثمين خلاه من قلبي وسبعه معه
يقصد إن الذي أخذ زوجته أخذ سبعة أثمان من قلبه ولم يترك له إلا ثمنًا واحدًا، والقصيدة أكثر من عشرين بيتًا، فجاوبه الشاعر علي بن حسن ليس تخفيفًا عنه مما يشكو بل تقريعًا بسبب ظلمه لزوجته وتطليقها من غير أن يتبين في قصيدة تجاوزت أبياتها الأربعين بيتًا، ومنها:
الآدمي يا عوض الحق ما يهمله
إن قدّم الخير باب الخير مفتوح له
وإن قدّم الشر باب الشر يا مثقله
باب السوى والخطأ بيّن بلا مشكله
كل من زرع زرع با يحصد ومجناه له
إلى آخر القصيدة.
لم يعد بعدها الرجل وبقي هناك حتى توفاه الله، لكن بقيت قصته هنا تتردد بما فيها من عظة وعبرة.
ثالثًا: الإعادة بالإكراه:
بعض الأسر تعيد أبناءها إلى أوطانهم بالإكراه ولا تتركهم لأهوائهم ولسحر تلك البلاد ومفاتنها، ولعل أشهر حكاية يمكن إيرادها في هذا الشأن هي حكاية غيوث بن عمرين الغتنيني (ت 1920م)، الذي سافر في شبابه إلى أفريقيا واستقر به المقام في مدينة لامو الكينية الجميلة، فاستهوته ولم يعد لذويه، وانقطعت عنهم أخباره، فأرسلوا في طلبه شقيقه أحمد لعله يقنعه بالعودة، فسافر أحمد ولما وصل لتلك الأراضي بحث عن أخيه فلما وجده أخذ يستعطفه للعودة لوطنه لكن غيوث كان عصيًا على الإقناع، فلم يجد شقيقه بُدًّا من أن يظهر له بعد تفكير وتخطيط وجه الاستسلام لرغبته حتى اطمأن، لكنه دبر له مكيدة بليل، فلم تبزغ تباشير فجر يوم من أيام أفريقيا إلا وغيوث مكبّلًا في سفينة شراعية تمخر به مرغمًا صوب سرار، فلما رأى حاله وأيقن أن ليس من الذهاب إلى سرار محالة وأبصر من سفينته لامو تغيب عن ناظريه قال شعره الذي خلد قصته:
اليوم ما بعدش يا لامو وما قرب سرار
ما قرب بنات العسل لي تحت نخل القصار
وبنات العسل والنخل القصار مواقع في سرار، عاد غيوث إلى سرار ولم يسمح له بالذهاب لأفريقيا مرة أخرى، حكاية أن يذهبوا فتستهويهم تلك المناطق فلا يعودون كثيرة جدًّا حتى سموا بالمتوّهين من التيه والضياع، إنك قد تعجز عن حصر من ذهب ولم يعد، لكن حكـايـة العـودة مكبّلًا تستوقفك أمام ما يبهر هناك فينسيك أهلك ووطنك ومواقع نشأت فيها.
رابعًا: حكايات الفقدان والانتظار الذي لا ينتهي:
على طول التاريخ البحري المشقاصي كانت هناك قصص غامضة عن فقدان البحارة في عرض البحر أحيانًا مع سفنهم لا يعقبه إلا انتظار طويل غير مجدٍ ينتهي إلى لا شيء، لعل من أكثر نماذج هذه الحكايات ألمًا هي حكاية سفينة النوخذة سعد بن محفوظ الغرابي، كان الناس يروون عن مهارة ابن محفوظ البحرية القصص العجيبة، وكانت سفينته ربما هي آخر سفينة تعمل بالشراع في المشقاص، وفي رحلة إلى سقطرى عصر الثلاثاء 17 رمضان 1392هـ الموافق 16 أكتوبر 1972م، كانت تحمل على متنها أكثر من أربعة عشر بحريًا، وركابًا من الرجال والنساء وبعض المؤن، في ظروف هذه الرحلة هبت ريح غير معتادة ترجمت بلغة الريبة فامتنع الكثير عن الإبحار، لكن لغة هذه الريح استعصت على فهم النوخذة الخبير الذي سافر ولم يُعِرْها اهتمامًا، وفي طريقها وهي تمخر عباب البحر مرت سفينة ابن محفوظ على أكثر من سفينة وقارب عائدًا إلى اليابسة خوفًا أو توجسًا كان بعضهم يناديه ويبدي له تخوفه من عاصفة قادمة، وكان البعض ينظر إليه نظرات الصمت والاحترام والإجلال لخبرته البحرية، وربما استغرابًا وإعجابًا بجرأته وإقدامه على الإبحار في هذا الطقس المنذر بعاصفة، كانت تلك النظرات هي النظرات الأخيرة لهذه السفينة الشراعية المهيبة، رويدًا بدت العاصفة تكشف عن وجهها المدمر، ومع اشتداد الريح ربما أدرك النوخذة الخبير الواثق شيئًا من الخطر، فهل فكر ابن محفوظ في العودة؟ وهل كان بإمكانه ذلك؟ لا أحد يدري، المتوقع أن الرجل أبحر بلا حول ولا قوة لم يكن أحد يعرف كيف كانت سفينة ابن محفوظ تواجه الأمواج العاتية، دخل الليل واشتد ظلامه ومع اشتداد الظلام كانت العاصفة تزداد شدة، فاقت قوة هذه العاصفة توقعات أكبر المتشائمين، ففي يابسة قصيعر مثلًا هاجمت أمواج البحر العمران وهدمت ثلاثة عشر بيتًا مطلة على الشاطئ، وأغرقت عشرات القوارب، بعد أن هدأت العاصفة تبيّن أن البحر قد ابتلع سفينة ابن محفوظ مع بحارتها ومسافريها ومؤنها، كيف؟ أين؟ لا أحد يعلم، لم يعثر أحد حتى على قطعة خشب واحدة من هذه السفينة الشراعية، فكأنها كانت تبحر في مثلث برمودا، كان ممن غاب من البحارة في هذه الحادثة النوخذة سعد بن محفوظ الغرابي وابنه هويدي، وسلوم سعيد بلكديش وابنه جمعان، وجمعان يسر الملقب عانه، وسالم عمر بن الحطب، وسعيد بن عميران، قبل أيام من تدوين هذه السطور سألت الوالد عوض سلوم بلكديش وهو ابن وأخ لغائبَيْنِ في هذا الحادث الأليم، وقد أصبح شيخًا عجوزًا ضعيف السمع عن قصة سفينة ابن محفوظ فكاد أن يفهم السؤال حتى التفت إليَّ مندهشًا كأنه استفاق من غيبوبة، وسألني: (هل عاد شي خبر منهم؟)، يبدو أنه ما زال منتظرًا رغم مضي 47 عامًا من الغياب، ذهبت سفينة ابن محفوظ ولم تعد، لكن البعض ظل ينتظر بارقة أمل لعل أحدًا من الأحبة ينجو أو يظهر فجأة، هذه الحكاية ما زالت تتردد كلما تم التطرق لبحّارة ذهبوا إلى البحر ولم يعودوا.
وما زال البعض يردد حكاية البحارة حمادي بن مسلم وخميس باهواري التي وقعت في حدود عام 1954م، ذهب حمادي وباهواري في رحلة صيد يومية معتادة ولم يعودا، طال الانتظار وبعد مرور بعض الساعات توجس الناس خيفة من غيابهم فانتشر الخبر سريعًا وبدأت رحلة البحث المضنية، هب الجميع لتقديم المساعدة، وانطلقت القوارب بحرًا، والناس برًا على طول الشاطئ يبحثون بكل طريقة ممكنة، ما لم يكن يخطر ببال في ذلك اليوم هو أن يصبح حمادي وباهواري بطلين لأغرب حكاية غياب وأكثرها غموضًا وعجبًا، في صباح اليوم التالي تم العثور على قارب حمادي وباهواري سليمًا (مجحبًا على الشاطئ) كأن يدًا آدمية أخرجته مع معدات الاصطياد والسمك الذي تم اصطياده، من غلب على ظنه أنهما ماتا انتظر أن تطفو جثتاهما ويخرجهما البحر لكن هذا لم يحدث، هيئة خروج القارب وعدم خروج الجثث فُسّر على أن يدًا أخذت الثنائي ليس إلى أعماق البحر، بل إلى أعماق عالم الجن، وما عزز هذا الاعتقاد عند البسطاء ما قيل من إشاعات بعد الحادث عن الغائبين من أخبار عجيبة، مثل ظهور باهواري يتمشى ليلًا، أو تجوّل حمادي نهارًا في هيئة باعلوان، أو إن نسوة من سرار قادمات إلى قصيعر صادفن في طريقهن رجلين ملتحيين قالا إنهما حمادي وباهواري وطلبا إبلاغ التحية والسلام إلى أهلهما، وغيرها من الأخبار، تضج البلدة مع كل خبر كهذا فيتم إخضاعه للتحليل وربما الزيادة والتهويل، حتى مرت السنون، ومات كثير ممن كان يروي لنا قصة حمادي وباهواري، ماتوا وهم على قناعة تامة برواية أنهما ذهبا إلى عالم الجن، هذه الحكاية تصوّر بساطة وعي الناس، وسذاجة تفسير بعض الوقائع التي لا يفهمونها. في الخلاصة كانت هذه الحكاية بلا نهاية أيضًا.
ورحلات غياب بعض البحارة وعودة بعضهم كثيرة وإن كنا نريد ذكر أمثلة فلا يمكن أن ننسى حكاية سفينة منصور بن شونقا (النوخذه السقطري القصيعري)، التي تشبه في أحداثها الأفلام السينمائية، فقد انطلقت سفينة ابن شونقا من قصيعر محملة بالمؤن في نهاية سنة 1970م، وكانت سفينة صغيرة على متنها سبعة بحارة، ولما وصلت حوالي سقطرى، يخبرنا الصياد مبارك سالم عوض محموص (ت 2009م)(4 )، وهو أحد طاقم السفينة، قال: كان الوقت ظهرًا حينما رأينا مجموعة من الطيور تحوم حول مساحة بحرية فعرفنا أنها أسماك قرش، وأردنا اصطياد بعضها، وفي وسط موقع الصيد هذا فوجئنا بحركة أسماك السردين الصغيرة (المنتوج)، وهي تطفو بشكل سريع وغريب على سطح البحر وكأن شيئًا يطاردها ما حدث لم يكن متوقعًا وكان أسوأ مما يحذر منه المتشائمون، لقد كان هذا الشيء حوتًا عملاقًا يعرف عندنا باسم (الشوحط)، ارتطم هذا الحوت بداية بأسفل السفينة، ثم رفع ذيله للأعلى ضاربًا به وسطها ليشقها نصفين، ولنتطاير نحن البحارة مع ألواحها وعتادها وعدتها وما فيها إلى البحر، وعندما سقطنا للبحر جعل بعضنا من الخشب وبعض الأواني أداة للسباحة، وكنَا على بعد حوالي 150 ميلًا بحريًا من جزيرة سقطرى، وظللنا تارة نطفو مستسلمين للتيار وتارة نسبح حتى دخل الليل وكان الظلام موحشًا جدًّا والخوف يحيط بنا من كل جانب، ومر الليل وكأنه دهر، ومع تباشير فجر اليوم الثاني بدأت قصة الرعب الحقيقية كنا قد انقسمنا على قسمين ثلاثة سبحوا في اتجاه وذهبوا ولم نرهم، وأربعة وكنت منهم سلكنا اتجاهًا آخر، وكنّا نطفو ونسبح بقرب بعض لم نكن نعلم أننا أصبحنا وجبة منتظرة وصيدًا سهلًا لأسماك القرش التي أردنا اصطيادها قبل ساعات، فجأة سمعنا صرخة مكتومة اختفت سريعًا وصوت حركة مياه لقد انقضت سمكة قرش على أحد رفاقنا ساحبة إياه إلى الأعماق، بقينا ثلاثة لم نكن نملك خيارًا إلا أن نسلم أمرنا لله وننتظر من منا سيكون الضحية التالية، اختفت سمكة القرش فترة ثم عادت لتكرر المشهد مع رفيق آخر الصرخة نفسها والصوت نفسه واختفى رفيقنا في ثوان لنبقى اثنين، كنا نجهل أنا ورفيقي من سيكون عليه الدور، لم تتأخر سمكة القرش كثيرًا هذه المرة أتت وانقضت على رفيقي وهو بجواري لتتركني وحيدًا فظللت أسبح وحدي بكل ما استطعت من قوة لعلي أبتعد عن هذه المنطقة الخطرة، كنت متيقنًا تقريبًا أنني سألقى مصير رفاقي، وأن موتي قادم لا محالة، فجأة سمعت من يناديني في أعماق البحر من أنت؟ إنه أحد رفاقي ممن ذهبوا في الاتجاه الآخر جرى بيننا حديث قصير عما جرى، ولم يكن يعلم أين ذهب رفيقاه، ظللنا نسبح ونطفو سويًا حتى وصلنا ليلًا إلى شاطئ جزيرة (درسة) المهجورة إحدى جزر أرخبيل سقطرى، فارتمينا على الشاطئ من غير وعي حتى أيقظتنا أشعة الشمس، في الجزيرة وجدنا رفيقينا الآخرين ولم نكن نتوقع أننا سنراهما، مكثنا في الجزيرة المهجورة ثلاثة أيام، كنّا نشرب خلالها من مكان مرتفع ماؤه أقل ملوحة، وكنّا نصطاد بعض الأسماك بوساطة الحبال الصغيرة التي كنّا نستخدمها كنطاق تمسك ملابسنا حول خصورنا، ولحسن الحظ وجدنا سنارة قديمة في أحد الكهوف واستخدمنا الطريقة البدائية لإشعال النار، بعد ثلاثة أيام من الصبر والعذاب سخّر الله لنا من ينقذنا، وكانت سفينة من قصيعر نوخذتها الوالد جمعان بن سبيع أتوا للصيد قبالة الجزيرة رأيناهم من بعيد ولم يرونا، وكي نلفت نظرهم ألقينا إلى البحر حجارة كبيرة من أعلى أحد جبال الجزيرة فالتفتوا وظنوا في البداية أننا من الجن لأنهم يعرفون أن لا أحد يمكنه البقاء في هذه الجزيرة المهجورة، لكنهم فيما بعد تعرفوا علينا، وكتب الله لنا أعمارًا جديدة بسببهم، الذين غابوا في هذه الحادثة ممن التهمتهم أسماك القرش كانوا من أسرة واحدة هي أسرة النوخذة ابن شونقا، وهم (سعيد سليمان عبدالله بن سمحان، ومحمد سالم محمد بن سمحان، وصالح ناصر محمد بن سمحان)، كانت مياه البحر وقتها هادئة ولم تنذر بأي خطر، لكن ليس هيجان البحر وحده ما يغيّب السفن والرجال، في هذا المعنى كنا نسمع أهزوجة يرددها بعض البحارة القدامى، تقول:
عوض يا عوض لا يغرك شوار البحر تحسبها سهيله
يا كم وكم من مراكب غرقتها غبب سيلان
لا يمكن حصر حكايات البحر فهي لا تعد ولا تنتهي حتى في زمننا هذا زمن الاتصالات والتطور الرهيب ما زالت هناك حكايات غامضة لم يكتب لها نهاية، لعل إحداها حكاية البحارة عوض مبروك باعباد، وحميد عوض بن ساحب، وسعد مسعود اليزيدي، وأحمد صالح اليزيدي، الذين اختطفوا على يد قراصنة صومال في أبريل 2012م، وذهبوا إلى المجهول، وما زال انتظار أهلهم لهم طريًّا لكن لا أحد بإمكانه أن يجزم بنهاية متوقعة لهذا الانتظار.
هذا أدب واقعي تسجله حركة الزمن والحياة، وقصص بعضها تبقى وتتوارث وتتناقل على الشفاه ربما بسبب أنها قاسية أو غريبة ومثيرة أو لها دلالات وعبر معينة، وبعضها يذهب وينسى مع الزمن، تظل أحداث هذه الحكايات شاهدة على زمانها، وهي في المحصلة تدل على حياة وبشر ومجتمع ينبض بالحركة، فوق أنها تدل على أن عمل البحر في ذلك الزمن كان أخطر مما قد يرى من بعيد.
____________
الهوامش:
1) نقلًا عن كتاب من التراث المشقاصي، أحمد سعيد باعباد، من إصدارات مكتب وزارة الثقافة م حضرموت، ط1، 2010م، ص 83.
2) من التراث المشقاصي، مصدر سابق، ص 104.
3) من التراث المشقاصي، مصدر سابق، ص 107.
4) نشرة شرق، صادرة عن نادي قصيعر، العدد (36)، مارس 2007م ص 8. بتصرف وإضافات يسيرة.