ترجمة
د. خالد عوض بن مخاشن
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 86
رابط العدد 14 : اضغط هنا
قائمة المحتويات
المقدمة
الكتاب الأول: شيكاغو الغرب
الفصل الأول: زيارة إلى سلطان المكلا
الفصل الثاني: تاريخ أرض مجهولة
الفصل الثالث: الروح الخيرة والشريرة
الفصل الرابع: طرق القوافل العتيقة
الفصل الخامس: في إقليم حضرموت
الفصل السادس: الموسيقى والرقص في الجنوب العربي
الفصل السابع: قصر الجن
الفصل الثامن: شيكاغو الصحراء
الفصل التاسع: في وادي دوعن
الفصل العاشر: في أوساط البدو السلابة
المقدمة
تعد الجزيرة العربية إحدى أهم المناطق التي ما تزال مجهولة في هذا العالم، وهذا أمر يثير العجب والاستغراب؛ كونها تقع على مقربة من قارة أوربا، وتمر بمحاذاة شواطئها أكثر الطرق البحرية استخدامًا، وأعظم من هذا كله أن الحضارات القديمة قد نشأت وازدهرت في الأرض العربية. ولذا فإن إماطة اللثام عن الكنوز المخفية لهذه الأرض لا يقل أهمية وتشويقًا عن الاستكشافات في مصر وبابل. هناك عاملان يؤكدان هذه الأهمية ويوضحان إلى حد ما لماذا بقيت شبه الجزيرة العربية أرضًا مجهولة؟
بعد المعارك الطاحنة التي اندلعت بين المسيحية من جهة وبين العالم الإسلامي العربي من جهة أخرى إبان الحروب الصليبية، اختفت شبه الجزيرة العربية من الأفق الأوربي، وغرق مهد الإسلام في بحور النسيان، وتم نسيان الأثر الإيجابي والمهم للثقافة العربية على التطور الروحي للعالم الغربي مع بدايات العصور الوسطى وبالتحديد أثناء حقبة الحرب.
لقد توقفت الجزيرة العربية نفسها، والتي كانت لها مكانة مرموقة في العالم لقرون عدَّة، عن صناعة تاريخ جديد، واختفت من المسرح العالمي وانزوت لتصبح جزءًا بعيدًا مهملًا من الإمبراطورية العثمانية. كما نُسيت أيضًا المدينتان المقدستان (مكة والمدينة). ونادرًا ما كانت تصل أخبار هذه الأرض إلى أوربا. وفي أحسن الأحوال تذكر بعض الصحف -أحيانًا- أن السلطان العثماني العظيم عبدالحميد قد نفى مسئولًا ما بتعيينه في الجزيرة العربية أو أنه تم إرسال بعض الضباط الأتراك إلى اليمن وبخاصة من أولئك الذين تلقوا تدريبات عسكرية في ألمانيا، فيتم إرسالهم إلى ذلك المكان كي يُشفوا من مرض المطالبة بإصلاحات كتلك التي رأوها في أوربا.
لقد أفل نجم الجزيرة العربية وبهتت ألوانها، ولم يعد لها شأن بالأحداث التي تُثير اهتمام مناطق العالم الأخرى. فلم تفلح الأحداث المثيرة، مثل: بناء سكة حديد بغداد في الموصل، أو ما يجري في مصر من أحداث، في لفت انتباه العالم لشبه الجزيرة العربية التي كانت سابقًا تمثل أهمية كبرى للغرب.
أما السبب الثاني وراء عدم استكشاف الجزيرة العربية فيكمن في الصعوبات الجمة التي سوف يواجهها أيُّ مستكشف. بعض هذه الصعوبات يعود للطبيعة الجغرافية الصعبة للجزيرة العربية، فخلف الجبال الساحلية للجزيرة العربية توجد صحارٍ عظيمة وسهول قاحلة جرداء. إن اجتياز هذه الأراضي القاحلة والتي غالبًا ما تمتد لمسافة تقدر ما بين أربعمائة إلى خمسمائة ميل يعد أمرًا في غاية الصعوبة ولا يمكن أن يتم من غير تعاون السكان هناك مع من يحاول القيام بتلك الاستكشاف أو في الأقل تقبلهم له.
إن عدم تقبل السكان المحليين للمستكشفين هي العقبة الكأداء. يستطيع الإنسان التغلب على قسوة الطبيعة كما فعل في رحلاته الاستكشافية في المناطق القطبية لكنه يقف عاجزًا أمام قسوة أخيه الإنسان.
إن العداء للأجانب في شبه الجزيرة العربية يمكن إرجاعه إلى سببين: الأول منهما يعود للأخلاقيات الاجتماعية لأمراء الصحراء، ألا وهم البدو. فهم لا يحترمون العهود الأخلاقية إلا تلك التي تعهدوا بها لقبائلهم، فكل من هو خارج رابطة الدم الضيقة فهو عدو بالنسبة لهم، ولذا فإن السلب والعنف ضد أفراد القبائل الأخرى ليس فقط مسموحًا به وإنما أيضًا يعد قاعدة راسخة يقرها الجميع ومبدأ أساسيًا في معركة البقاء.
إن قانون الصحراء هذا ينطبق على الأجنبي أيضًا ويعاني منه أكثر من غيره فليس له قبيلة توفر له الحماية.
كما أن كره الإنسان العربي للأجنبي له سبب آخر وهو سبب ديني، ونتيجة لكل هذه الأسباب فإن من استطاع التغلغل في أعماق الجزيرة العربية هم قلة من المستكشفين الأوائل الشجعان، لكن تبقى مئات الآلاف من الأميال المربعة في شبه الجزيرة العربية غير مستكشفة إلى يومنا هذا.
لكن بدأت تظهر بعض التعبيرات في شبه الجزيرة العربية ببداية عصر جديد في تاريخ العالم والذي بدأ باغتيال الدوق في سراييفو، فللمرة الأولى منذ الحروب الصليبية تتقاتل الجيوش الأوربية في ساحات الأرض العربية وميادينها، وصارت على اتصال بالمشرق العربي، والأهم من هذا أن الجزيرة العربية فجأة عادت لتحتل مكانة في التاريخ العالمي. من جحيم الحرب العالمية نهضت الجزيرة العربية تاركة آلامها وأحزانها لتدخل في مرحلة من التطور لا نهاية منظورة لها. لقد انكسر حاجز الصمت المطبق عليها وشرعت الصحف والدوريات في العالم تكتب تقارير متكاملة وعلى نحو متنظم عن أهمية الجزيرة العربية.
لقد أصبح من الواضح جدًّا أن هذه النهضة العربية جعلت الشعوب العربية تستعيد قوتها من جديد بعد مدة ليست بالقصيرة من التراخي والخمول.
في نهاية القرن الثالث عشر بدأ يزداد عدد قاطني الصحارى والسهول بعد أن قلت أعدادهم نظرًا للفتوحات التي تمت في عهد الخلفاء الأوائل، وبعد إزاحة النقاب عن هذه البقعة من العالم، وبعد أن استعاد المشرق مكانته، ظهر للعيان أن في المنطقة العربية أناسًا لهم من القوة ما يمكنهم بالمطالبة بحقهم في الوجود.
شهد العالم العربي أيضًا انبعاثًا جديدًا فبعد سقوط الخلافة العثمانية انكفأت تركيا على نفسها، ووجد العرب لأنفسهم متنفسًا وحياة جديدة فأصبح ابن سعود -حاكم وسط الجزيرة- بطلًا جديدًا يُحتذى به. وبينما صار الفصل بين الدين والسياسة السمة السائدة في كثير من مناطق العالم، أصبح ارتباط الدين بالحياة والسياسة في الدول التي تتشكل في الجزيرة العربية قويًّا جدًّا، وصار الدين أكثر قوة من ذي قبل في حياة المجتمع، وأصبح الأساس الذي تبنى عليه الدولة.
يصف هذا الكتاب جنوب الجزيرة العربية التي حباها الله بهبات طبيعية وتاريخية مميزة أنها الأرض التي قيل لنا: إنه أتى منها ملوك الشرق الثلاثة ليحيّوا المسيح عند ولادته، وهي أيضًا الأرض التي حكمت فيها ملكة سبأ. مرت أزمنة عدَّة لم يُعرف إلا القليل عن هذه الأرض. لقد توارت خلف سحب الأساطير والقصص الخرافية حتى ثمانينيات القرن الماضي حين قام الرحالة الألماني إدوارد جلاسرEdward Glaser بزيارة اليمن، الجزء الأساسي في جنوب الجزيرة العربية، وقام بجمع أعداد كبيرة من النقوش القديمة. حينئذ أدركنا أن قصص الإنجيل الغريبة بنيت على حقائق، وأدركنا أن ممالك قوية قامت هناك، وأن حضارة راقية جدًّا بناها السبئيون وأحفادهم في هذا الجزء من الجزيرة العربية.
تبقى النقوش أهم ما تم اكتشافه حتى الآن، لكن ما زال الظلام يلف الأحداث القديمة في هذا البلد، وفي انتظار من يستطيع تبديده.
إلى يومنا هذا ما تزال اليمن أرضًا مؤصدة أبوابها في وجوه الغرباء. يحكم اليمن حاكم ديني وهو الإمام يحيى، ينحدر في نسبه من أحفاد الرسول. لا يثق إطلاقًا في المسيحيين، ومصمِّم على حماية مملكته من أي تأثير غربي، ويمنع دخول الأجانب للبلد إلا بموافقة منه شخصيًّا حين يرى أن هناك دواعي دبلوماسية أو اقتصادية. الشخص الذي يحظى بموافقة من الإمام بالدخول ليس له كامل الحرية في التحرك إلى أي مكان يريد، فالطريق الذي سيسلكه والمكان الذي سيقصده، يتم تحديده بدقة متناهية، ويبقى ذلك الشخص تحت المراقبة طوال الوقت. فمثلًا يسمح الإمام فقط للمهندسين بالتحرك إلى العاصمة صنعاء لكن باقي مناطق المملكة تبقى محرمة على الأجنبي. هناك أجزاء من اليمن لم تستكشف مطلقًا، ويعتقد بأنها تحوي آثارًا تعود لتلك الحضارات القديمة.
تلقى محاولات الإمام الإبقاء على أبواب اليمن مؤصدة ومعزولًا عن الخارج، دعمًا من مجتمع عدائي، يغذي عدوانيته تعصب ديني.
يبقى استكشاف اليمن المجهول وماضيه الغني هدف مُغْرٍ للباحثين والمستكشفين. فالكثير من المحاولات الأولية لاستكشاف اليمن عادوا بخُفَّيْ حنين، وتعرض البعض ممن غامروا لإنجاز هذه المهمة لمخاطر جمة،
إن شجاعة هانز هيلفيرتز وإصراره مكَّناه من اختراق كل تلك الحواجز والتغلغل إلى أعماق البلد المحرمة. بدأ هيلفيرتز رحلاته من مصر، ثم زار فلسطين وبلاد الرافدين، والتي فيه تعلم اللغة العربية والعادات العربية، بعد ذلك نجح في نسج علاقات طيبة مع سلطان عربي يحكم منطقة تقع في الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، فمكنته هذه الصداقة من زيارة المكلا الواقعة على شواطئ المحيط الهندي، ومن المكلا غامر ضيف السلطان هانز هيلفيرتز في الانطلاق تجاه حضرموت، وهي أرض تقع مباشرة خلف الجبال الساحلية، وتمتد إلى حدود بلاد اليمن.
أول ما اكتشفه هيلفيرتز في جنوب الجزيرة العربية هو مدن ناطحات السحاب العتيقة، وهي موضوع الجزء الأول من هذا الكتاب، والذي يحمل عنوان (شيكاغو الصحراء). نجح خلال المدة التي قضاها في ربوع حضرموت في اكتساب خبرات وصداقات مكنته كثيرًا من إنجاز مهامه اللاحقة والأكثر أهمية.
داجوبريت فون ميكوسيش
Dagobert Von Mikusch
الكتاب الأول
شيكاغو الصحراء
زيارة سلطان المكلا:
يصف هذا الكتاب إحدى آخر ثقافات العالم المحيّرة للعقول، إنها ثقافة لم تتأثر بالمد الحضاري الغربي المتصاعد. يأخذ هذا الكتاب القارئ إلى أرض أسطورية عجيبة في جنوب شبه جزيرة العرب، تحيط بها صحاري مترامية الأطراف.
هذا الكتاب يدوّن تجارب رحلة تم خلالها زيارة قبائل بدوية شرسة، وسلاطين وأسر عربية نبيلة، وأناس لا يعرف الأمريكيون ولا الأوربيون عنهم إلا القليل، أناس لهم سبل حياة مختلفة تمامًا عن تلك السائدة فيما يسمى بالعالم المتحضر، أناس لهم ثقافة لا تقل ثراء عن ثقافات الهند والشرق الأقصى. نُخطئ إذا تخيلنا أننا قد صرنا نعرف كل أصقاع الأرض، وأنه لم يعد هناك مكان في الأرض في حاجة إلى الاستكشاف سوى قطبي الكرة الأرضية والصحاري الموحشة غير السالكة، وغابات سيبيريا، وأمريكا الجنوبية. إن الجزيرة العربية، التي هي أكبر من ولاية نيويورك بسبعة وعشرين مرة، بها مئات آلاف الأميال المربعة من الأراضي غير المستكشفة حتى الآن. ما تزال الجزيرة العربية، وبخاصة جنوب الجزيرة العربية والمعروفة تاريخيًّا منذ ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة، مجهولة وغير مستكشفة، أرض مُحرّم دخولها، وتعيش حالة أشبه بتلك التي سادت خلال العصور الوسطى. أرض تعيش حضارة يلفها الغموض تعود إلى عهود سبأ العتيدة.
اكتشفت في الصحاري العظيمة والبعيدة رسوم لحيوانات نحتت في الصخور، ورأيت تماثيل مهداة إلى إله القمر سين، ولشدة دهشتي اكتشفت أشكالًا قديمة للصليب، لها خصائص الصلبان نفسها التي كثيرًا ما يراها المرء في المشرق. صلبان مشابهة لهذه الصلبان اكتشفت أيضًا في الصحراء الليبية المعزولة، وفي ذلك المكان من شمال إفريقيا حيث يقطن الطوارق أعداء المسيحيين.
ليست الجزيرة العربية وحدها لغزًا محيرًا بل الناس هناك بحد ذاتهم لغز كبير أيضًا، فهم متشبثون بتراثهم ونمط حياتهم الممتد من الماضي السحيق إلى يومنا هذا، والذي لم يطرأ عليه أي تغيير. ما تزال جمالهم تسلك طرق القوافل التي أبلاها الدهر، والتي سلكها من قبلهم بالتناوب السبئيون، والتجار الرومان والأحباش، وجحافل البدو.
إن أكثر مناطق الجزيرة العربية غموضًا هو جنوبها، فهو صامد في وجه أي تأثير أجنبي، ويقاوم بعناد شديد أي تغلغل أوربي فيه. هذه المقاومة لها ما يبررها سياسيًا، فجنوب الجزيرة العربية ليست أرضًا موحدة، ففيه مملكة وسلطنات ودول عدة صغيرة، دول أجهلها أنا ويجهلها الكثير مثلي.
الجزء الأول من كتابي يتعلق بجزء من هذا البلد يسمى حضرموت، والتي فيها المدن ذات البنايات الشاهقة، إنها شيكاغو الصحراء.
بمحض الصدفة تعرفت على السلطان عمر بن عوض القعيطي سلطان إحدى تلك الدول الصغيرة، والتي بها مدن تطل على المحيط الهندي، مثل مدينة المكلا، ومدينة الشحر. لقد كان ذلك في يوليو 1931م، فقد كنت حينها في برلين في وزارة الخارجية أبحث عن معلومات حول أحوال جنوب الجزيرة العربية، فقيل لي إن سلطان المكلا يقوم في هذه الأثناء بزيارة أوربية، وأنه يمكث لأيام قلائل في فندق أدلون Adlon، قيل لي: “اذهب وقابل السلطان؛ فهو قادر على أن يعطيك معلومات أكثر من ما يمكن أن تحصل عليه مِنَّا”.
استقبلني السلطان ورحب بي وأبدى اهتمامًا بما لديَّ من خطط، وقدم لي ولصديقي جان بومورسكي Jan Pomorski دعوة لزيارة دولته. كانت زيارتي للجنوب العربي جيدة منذ انطلاقها. وعلى الرغم من أنه لم يكن لديَّ ترخيص رسمي بعبور مناطق دول الجنوب العربي المستقلة، فإنني كنت أعلم بأن السلطان على اتصال مباشر بحكام تلك الدول، وأنه بمقدوره أن يساعدني.
لقائي الثاني بالسلطان كان في عدن، شبه جزيرة تقع على المحيط الهندي وتتبع الإمبراطورية البريطانية. أبحرنا من عدن إلى المكلا على متن سفينة بخارية صغيرة، يملكها تاجر محترم من الهنود البارسي، يدعى كواسجي دينشاو Cowasjee Dinshaw. يمتلك هذا التاجر الهندي وحده النقل البحري بين عدن وميناء المكلا وميناء الشحر وأرض الصومال والموانئ الصغيرة المنتشرة على امتداد شرق أفريقيا إلى جزيرة زنجبار. بعدن جالية كاملة من التجار الهنود، فكون عدن منطقة حرة، صارت تستهوي التجار والمستثمرين من كل مكان. يعد البعض عدن واحدة من أشد مناطق العالم حرارة، لكني لا أتفق مع هذا الرأي فموانئ البحر الأحمر، حيث الجو المشبع بالرطوبة التي يصعب تحملها، أشد حرارة من عدن، إضافة إلى أن عدن تهب عليها نسمات منعشة تكاد تخلو من الرطوبة والجو فيها صحي ولا تنتشر بها الأوبئة كالملاريا.
عدن كبومبي بها أبراج الصمت وأبراج الموت حيث يترك الهنود البارسي (هنود من أصول فارسية) جثث موتاهم للنسور كي تلتهمها. المسافر إلى الشرق الأقصى، الذي يزور عدن لمدة قصيرة يصعب عليه أن يلاحظ هذه الأبراج. أحد هذه الأبراج تحرسه كلاب شرسة، ويقع في أعلى الجبل على حافة فوهة البركان، وفي وسط هذه الفوهة تقبع هذه المدينة العربية. عندما يموت أحد الهنود البارسي تُحمل جنازته وتوضع أسفل ذلك الجبل ويُطلق كلبان أحدهما أبيض اللون والآخر أسود، فإذا وصل الكلب الأبيض إلى الجثة قبل الأسود، فإن روح هذا الميت ستذهب إلى السماء. أما إذا سبقه إليها الكلب الأسود، فإن روحه ستذهب إلى مكان آخر.
تحيط بالمدينة الجبال، وبها فجوة تُظهر السماء وتربط بين المدينة ومينائها الذي يرسو فيه قاربنا الصغير (فيلهو Veho). عند وصولنا إلى الميناء كانت أمتعة السلطان تنقل إلى القارب تحت إشراف أحد خدمه الهنود. تلك الأمتعة كانت في صناديق ورزم وسيارة جديدة. كان المسافرون قد اعتلوا متن المركب وهم مجاميع من العرب، البعض منهم أثرياء جدًّا. لقد كانوا مصدر إعاقة مستمرة لعملية نقل البضائع والأمتعة. يجلسون على سطح القارب، وفي الغرف السفلية وفي أي مكان يجدون فيه فراغًا حاملين أمتعتهم معهم، كانوا كثيرًا ما يطلبون مياه الشرب والنار. سطح المركب المخصص للركاب من الدرجة الأولى كان مقسمًا على جزئين، تفصلهما قطعة من قماش الشراع. الجزء الأول حجز للسلطان، والثاني كان لنا، أما غرف المركب فلم نرغب بها في ظل هذا الجو المداري الحار. في الواقع شعرنا براحة تامة على سطح المركب؛ فقد كان لدى السلطان أريكة مغطاة بالحرير ونحن لدينا أسرة سفر.
أتى السلطان إلى القارب باكرًا في صباح الأول من أكتوبر، أما نحن فقد كنّا موجودين بالقارب من الليل، ثم بدأت رحلتنا إلى المكلا المتوقع وصولنا إليها بعد يومين. لقد أبحرنا بمحاذاة السواحل الصخرية لجنوب شبه الجزيرة العربية، ومررنا برأس الكلب (جزيرة تأوي إليها الطيور)، لم أشاهدها قط على كل الخرائط التي اطلعت عليها، بعد ذلك رسى قاربنا قبالة بيوت ونخيل بروم لنصل بعد ذلك إلى المكلا في صبيحة ثالث أيام رحلتنا.
المكلا مدينة تتلألأ بياضًا، مدينة ذات جمال استثنائي، لها قصور لا تعد ولا تحصى، وأبراج شاهقة. تقع هذه المدينة الجميلة على خليج رائع يمتد بمحاذاة الجروف السوداء لجبل القارة. إنها حقًّا بوابة حضرموت.
لقد كان ذلك اليوم يومًا مشهودًا من أيام المكلا، فقد عاد إلى المدينة سلطانها بعد غياب طويل، ونحن الآن في ضيافته. حتى هذه اللحظة ما زلنا على متن المركب الذي يتأهب لإلقاء مرساه في ميناء المكلا المشمس. اقتربت من السفينة هواري زوارق صغيرة ملأى بأشكال مفزعة وهمجية، وأخذوا يتسلقون المركب كالقرود، وبدأوا يحيون السلطان بأصوات عالية مزعجة، وكان السلطان في تلك اللحظة يستقبل أبناءه ووزراءه على الجسر. ثم انتقلنا إلى مركب صغير به محرك وبه الكثير من الخرق والسجاد واتجهنا نحو الساحل. احتشدت جموع غفيرة من الناس على الرصيف، معظمهم من البدو أشباه العراة وسكان المناطق الجبلية، ولهؤلاء الرجال شعر طويل خشن وألوان جلودهم سوداء فهم يشبهون قطاع الطرق. لقد كان الجنود في هذه الأثناء يحاولون إيقافهم وتنظيمهم. يحمل كل رجل من هؤلاء ممن تخطى عمره السادسة عشرة خنجرًا مرصعًا على خصره. أذهلتنا تمامًا المشاهد الأولى من ذلك المنظر المثير واللقاء المفاجئ بتلك الحشود المتوحشة الهمجية لدرجة أننا ترددنا في التقدم تجاههم.
بدأ حفل الترحيب بالسلطان. فقد كانت هناك فرقة نحاسية تعزف بعض المقطوعات الموسيقية (معظمها معزوفات عسكرية تركية). تتكون الفرقة من موسيقيين يرتدون عمائم حمراء ولباسًا رسميًا باللون الأحمر والأزرق. بعد ذلك قام السلطان بتفقد حرس الشرف، وكان به عدد من الجنود الزنوج الذين ينتمون لمجموعة الجنود العبيد في جيش السلطان، والبالغ عددهم حوالي خمسمائة جندي.
ما يزال امتلاك العبيد وشراؤهم ذكورًا وإناثًا معمولًا به في المناطق الساحلية من شبه الجزيرة العربية لذا توجد أعداد كبيرة من ذوي الأصول الأفريقية في أوساط سكان المدن الساحلية في اليمن والحجاز. تراقب الدوريات البريطانية البحرية تجار الرقيق، وتُعطي جوائز ثمينة للدوريات التي تضبط السفن التجارية التي تنقل العبيد، ولكن التجار العرب لا يأبهون ولا تعوقهم هذه الإجراءات فهم مستمرون في جلب هذه القطعان السوداء المربحة، ويسلكون بهم طرقًا ملتوية حتى يوصلوهم إلى الساحل بأمان. يفضل العرب الإبحار بالعبيد تجاه السواحل العربية في أوقات اشتداد العواصف البحرية التي تبدأ بنهاية فصل الخريف وإذا شاهدوا أي مركب تابع للدوريات البحرية، قاموا برمي من على مراكبهم من العبيد إلى البحر تاركيهم تحت رحمة حيتان القرش. وفي بعض الأوقات حين يتم القبض على سفينة محملة بالعبيد يكون من المستحيل إعادتهم إلى قبائلهم وقراهم فليس لهؤلاء المساكين أدنى فكرة أو معلومة عن أماكنهم أو قراهم.
أسعار العبيد تتراوح ما بين 12.oo. إلى 200.00. ريال نمساوي أو دولار ماريا تريزا. يصل سعر العبد الصومالي والحبشي إلى 125.00، أما العبد النوبي فهو المفضل في السوق؛ إذ يصل سعره إلى 195.00.. وبشكل عام فإن العبد يعامل معاملة حسنة؛ حيث يطعم ويكسى مقابل العمل لدى سيده. وفي بعض الحالات وصل العبيد إلى مراكز راقية وحازوا شرفًا عظيمًا، فصار بعضهم مستشارين لأسيادهم ووزراء لدى سلاطينهم وأُعْطُوا سلطة جعلتهم يأتمرون على من هم أحرار.
حفل المكلا يتواصل وها هم الأمراء والسادة والوزراء يحيون السلطان للمرة الثانية، ولكن هذه المرة أمام أنظار الحشود. يحيي سكان الجنوب العربي بعضهم بعضًا بطريقة عجيبة؛ حيث يتقدم أحدهم نحو الآخر وينحنيان ويدنو كل واحد برأسه نحو الآخر ثم يتصافحان ويشم كل واحد منهم يد الآخر على نحو مسموع.
يعود هذا العرف لاعتقاد سائد بأن روائح مقدسة تنبعث من أيادي السادة المنحدرين من نسل الرسول. وحين وصل الموكب الاحتفالي إلى داخل المدينة أطلقت النساء من أسطح المنازل زغاريد بأصوات عالية وحادة شبيهة بتلك الزغاريد التي تسمع في مناسبات الزواج والمناسبات الاحتفالية الأخرى في مناطق شبه الجزيرة العربية كافة. الحشود تحتفل وترحب بسلطانها السلطان عمر بن عوض القعيطي، وها هو السلطان الآن في مقدمة الموكب الاحتفالي البهيج يشق طريقه عبر الأزقة الضيقة متجهًا إلى قصره.
القصر بُني بالقرب من البحر وعلى النمط المعماري الهندي، وقام السلطان بنفسه برسم تصاميم بنائه. صالة استقبال الضيوف مؤثثة بسجاد ثمين، وبها كراسي لجلوس الضيوف على الطريقة الأوربية، ولكن الضيوف يفضلون الجلوس على الأرض بدلًا من الجلوس على هذه الكراسي. وعلى حصيرة من القش أو خوص النخيل وجدنا جبالًا حقيقية من الأرز واللحم والدجاج والسمك وأقراص الخبز الرهيفة. جلس السلطان في مكانه في وسط الطاولة قبل أن يدخل بقية الضيوف إلى الغرفة ثم دعانا للجلوس في أماكن كبار الضيوف بجانبه وقام هو بنفسه بتوزيع اللحم على أطباق الضيوف. لا توجد سكاكين ولا شوك والأكل يتم باستخدام اليد اليمنى. عليك أن تطور مهارتك في تكوير كرات صغيرة من الأرز الحار جدًّا، وإذا أنت ماهر في هذا ربما تنجح من غير أن تحرق أصابعك. لا يُعطى وقت كافٍ للأكل؛ فالعرب معروفون بالتهام كميات هائلة من الطعام في أقصر وقت، وبعد مرور وقت قصير من بداية الأكل نهض السلطان وانتهى وقت الأكل وقام الكل، حينها رمى الخدم -وهم كثر- بأنفسهم على الأرض وأخذوا يفترسون ما بقي من الطعام كالذئاب.
أعطانا السلطان قصرًا كاملًا كبيرًا وجميلًا أبيض كقصور قصص ألف ليلة وليلة، يقع في وسط بستان من أشجار النخيل والموز، وزيادة على هذا أعطانا خدمًا وحراسًا إنه فعلًا سلطان اسم على مسمى لم يتخلَ عن ضيفه. كان الحراس في بوابة القصر وفي مداخله يرفعون لنا التحية كلما مررنا بالقرب منهم. كان أيضًا يرافقنا الحراس في جولاتنا لأن الناس هناك -عدا السلطان وقلة آخرين- لم يروا أوربيين من قبل وكلَّما شاهدونا في الشوارع أبدوا فضولًا واهتمامًا كبيرين بنا بما قد يتسبب في خلق مواقف محرجة لنا بغير وجود هؤلاء المرافقون.
أمضينا أسبوعًا كاملًا في المدينة نترفه ونذهب إلى الولائم، أما زيارات الأمراء والوزراء والسادة فلم تتوقف. في الجنوب العربي يطلق على رجال الأسر المنحدرة من نسل الرسول بالسادة أو الأشراف، ومن هذه الأسر أسرة السيد الكاف التي تعد أعظم أسرة وأغناها في الجنوب العربي، إنهم الحكام الحقيقيون لحضرموت، لهم استثمارات ومصالح تجارية ضخمة في سنغافورا وجاوة، ولهم قصور ضخمة في المكلا والشحر، ومن تريم عاصمة منطقتهم يحكمون أكبر القبائل البدوية وأهمَّها، فهم وحدهم من يستطيع إدخالنا إلى المناطق الداخلية المعزولة التي يحدونا أمل ضعيف بزيارتها.