كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 106
رابط العدد 14 : اضغط هنا
(1)
جملة استفهامية إنكارية الدلالة في مقطع حواري، باللهجة المحكية، بين الأم البدوية هند وابنتها فطوم، في مقدمة أوبريت أعراس البادية التي كتب أبياتها الشاعر حسين أبوبكر المحضار:
– ايش حيّرش يا فطوم عالبير رُدّي علي؟
– دلوي سقط يا امّاه وطلّعه لي
– من هو ؟
سعيفي!
– وانتي قدش عَ تساعفي؟!
لكن قبل أن أمضي مع فكرة المقال، أجدني ميالاً إلى فذلكة عن بنية الجملة في نسقها اللهجي البدوي، فضمير المخاطبة (أنتِ)، منطوقُهُ لا يَخجل من إثبات الياء بديلاً عن الكسرة في الإملاء العربي، وهو منطوق أليف قريب إلى المنطق، والإحساس بالإحالة على تأنيث جوهري، يستدعي الإشارة إلى ما دعا إليه د. عبدالله الغذامي من رسم إملاني للمخاطب المؤنث يثبت الياء، كما هو، لا كما أراده راسمو الإملاء الرسميون، في مثل: أنتي، وكُنتي، وقُلتي …إلخ.
وفي الجملة (قد) موصولة بشين المخاطبة بدلاً من كافها، على أن لا صلة لها هنا بدلالة التوقع، أوالتقليل النحوية العربية، فقافها مكسورة، محيلة على معنى الصيرورة، أي إن البنت قد صارت إلى مرحلة جديدة. ثم يبرز الحرف (عَ) مفتوحاً، وهو من خصائص اللهجة الحضرمية في المشقاص – شرقي حضرموت – ودلالته على استمرارية الفعل، على مخالفة دلالية للحرف نفسه، في لهجة أهل صنعاء، الدال على الاستقبال كدلالة السين وسوف في العربية الرسمية. أما ركيزة الجملة فهي الفعل (تساعفي) الذي يُسقط المشاقصة نون رفعه الذي يثبته المعاربة – نسبة إلى معراب حضرموت – تماماً كما في العربية، فيُقال مثلاً، كما في هذه الحال: (تساعفين)، ولهم في ذلك أشباه ونظائر، إذ يُسقطون نون الأفعال الخمسة، بلا ناصب أو جازم، فيقولون مثلاً: يلعبوا، بدلاً من يلعبون، ولهم تلفّظ مقطعيّ خاص (يِلْ – عَ – بُو)، وفي هذا الأمر تفصيل لا يتسع له المقال، كما يقال.
(2)
هند الأم البدوية تبدي، بقدر خشيتها على ابنتها، بهجةً بتحولات فطوم التي تكشف عن كونها قد غدت مهيّأة للمساعفة، بأن يكون لها سعيف، والسعيف، هنا، معناه الصاحب الذي تجمعها به علاقة عاطفية، قد تتطور إلى الاقتران، كما كان شائعاً في بادية حضرموت التي لها أعرافها وسوارحها التي تنظم طبيعة الحياة والعلاقات العامة، كما دوّن جزءاً أصيلاً منها الباحث الراحل أ. عبدالقادر محمد الصبان في كتابه “لمحة من حياة البادية”، الذي أثبت فيه ما تقره أعراف البادية من حقوق للمرأة سابقة قوانين الأحوال الشخصية المعاصرة في كثير من البلدان العربية.
فأن تكون البنت فطوم (ع تساعف) فذاك دالّ من دوال كونها صارت ممن يستوقفن ويُوقفن الشبان على رجل واحدة، ما يعني أنها على وشك أن تغدو امرأة ناضجة تكتسب حقوقها، وتكون لها كلمتها، وشخصيتها. ولعل بهجة أمها متأتية من كون ابنتها غدت محبوبة مرغوبة، ولها (شفّها) الخاص، وشغفها بمن يستميل قلبها، على إيقاع خفقات طبيعية تتصادى هارمونياً في المراعي والوديان والشّعاب، حيث تسرح كل يوم، راعية بالأغنام أو جالبة الماء من كريفٍ او بئر.
ولعل ابتهاج هند البدوية بمساعفة ابنتها مما يذكّر بقصيدة (هند وأمها) لبشارة الخوري (الأخطل الصغير) التي مطلعها: (أتت هند تشكو إلى أمها * فسبحان من جمع النيّرين)، التي تغنى بها الفنان محمد جمعة خان، بما تحويه من سردية حوارية بين الأم وابنتها التي فوجئت بأمارات صباها وتجليات جمالها، فتركتها الأم، من عجبٍ واستعجاب، تسرد إحساسها الجديد المدهش، كأنها تستذكر أيام شبابها الأولى، حتى تساءلت: (فبالله ياأمُّ ماذا تريْنْ؟):
فقالت، وقد ضحكت أمُّها
وماست من العُجب في بُردتينْ
عرفتُهُمُ واحـداً واحداً
وذقتُ الذي ذقتِهِ مرتينْ
(3)
يثير حديث المساعفة شجون الحرية وتكوين الشخصية الواثقة من نفسها في البادية، وما كانت الأعراف تقره من حالة وجودية للمرأة منذ أن تباشر لحظات تحولها الأولى، كحالة فطوم التي استمالها نبل ذلك الفتى وشهامته، إذ أطلع دلوها من البئر، وحادثها حديث الشفافية والمكاشفة، لا المراودة، فصادف حديثه هوى في نفسها وشغفاً، لا شك أنهما كانا يؤججان لهيبهما بلقاءات كالمصادفات (المدَبّرة)، كيما يقترب كل منهما من شخصية الآخر ، ويتماس مع مزاجه الخاص؛ لذلك كان تتويج ما بينهما باختيار كل منهما شريكه، بحرية توازي حجم الفضاء المفتوح الذي التقيا فيه، على ناصية بئر ودلو وماء وكلام عذب زلال، واتفقا (على كل شيء) كما في الحوار المغنّى.
ولعل من اللافت أن ما حاولت إحدى نساء الحي إثارته من شبهة حولهما، بالوشاية، قوبل بكياسة من الأم، بل إن الشاب قدم أوراق اعتماد عشقه إليها، وكانت هي القاطعة المانعة، ولم تكن الكلمة للأب وحده، ما يدل على ما كان للمرأة في البادية من مكانة، وما لها من سلطة معتد بها اجتماعياً، فلم تقل له مثلاً، على سبيل التوبيخ، ما يدل على أنه استخف بهم؛ فجعلهم (آخر من يعلم). بل قالتها بثقة في مآل ما بينهما:
“مادامكم قــــــد توافقتوا على كل شي
البنت باسمك وماجاء مــن قداك يكفي”
حتى ليبدو الأب (الرجل) ههنا آخر من يعلم، فالبنت قد اتفقت مع سعيفها، ثم زكّت الأم اتفاقهما وباركته، ولم يبق إلا أن يُخطر الأب باختيار ابنته من يشاركها الإقبال الجميل على أيام تشبه الطبيعة التي جمعتهما، وليس في ذلك انتقاص لمكانته، بقدر ما فيه من إعلاء حرية الاختيار، ومسؤولية تقرير المصير الفردي، وهو ما كانت البادية نموذجه، لا في الحب والعشق و(الغيار) فقط، ولكن في قيم النخوة، والشهامة، وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، ما يشكّل قوة الشخصية التي كان ينماز بها البدوي والبدوية على حد سواء، لا لأنهما في البادية، ولكن لأنهما كانا يدرجان في فضاء حر، ويتنقلان من (شنطوب) إلى آخر، بحرية ومسؤولية، ومن يكن حراً في اختياره، يكن مسؤولاً عن نتائج ذلك الاختيار، ومن ثم قويّ الشخصية، حتى أتى حين من الدهر على كثير من سكان الحواضر أنهم كانوا يستغربون فيه أن تستقبلهم المرأة بكل ثقة وتحسن ضيافتهم، إذا ما نزلوا ببيتها ولم يكن في البيت رجل، أو فتى! .