قصة قصيرة
مروة فرج الكلالي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 110
رابط العدد 14 : اضغط هنا
(هذه الأرض لا تنتهي مشاغلها هذه الأرض لا تموت، لا يكاد نبعها يجف حتى تزوّدُها السماء بمدرارٍ مضاعف).
هكذا كان الصبي عمر ذو الثانية عشرة يتذمّرُ من أشغال جدّهِ اللامنتهية، ولولا أنَّ المدرسة تطالب بمستحقاتها صباحًا لكان اليوم بأكمله من نصيب معشوقة الجد.
كانت تلك السنة عصيبة جدًّا على الأرض إذْ تأخر هطول المطر وبدأ الجفاف يتأهب للانقضاض على المحاصيل، وقد بدأ بعروق الجد سالم على ما بدا فيها من انكماش، فقد كان يبذل جهدًا عسيرًا حتى تصل المياه إلى أرضهِ المترامية عند حدود النهايات لتلك المساحة الشاسعة من الأرض، فتراه نهاية كل أسبوع يستلطف المياه الشحيحة؛ يبتغي عطاءً، يمهّدُ لها الجدول ترويضًا. كل قطرة تختلسها الأرض تُؤخذ من دمه، فيضيف إليها من جبينهِ بديلًا. وفي الوقت الذي يصبح انحناء ظهره واضحًا، يتقمص دورًا آخر يتمثّلُ في توزيع الحياة على الرعيّة كلًا بحسب حاجته، متيقنًا أن كل عرق ارتوى وكل ورقة أخذت من المياه نصيبًا يكفيها لتستعيد نضارتها ويستقيم اعوجاج كل غصن في تناسقٍ يعيد إليه استقامة ظهرهِ من جديد.
(الأرض تحبك بقدر ما تهبها من حب) قال ذلك الجد لحفيدهِ بعد صمتٍ طويل كان فيه منشغلًا بمصافحة المحاصيل، ثم أتى ليستظل بجانب عمر الذي يجلس تحت نخلتهِ، واستطرد في الدرس قائلًا: غير أنَّ لسان الأرض أشد فصاحة لتظهر عجزك عن التعبير أمام خيرها الوفير. انظر يا بني ألست ممتنًا لهذه النخلة التي تحتضنك بظلها كل يوم، ثم تهبك قبلة في ثمرة حلوة تلقيها فوق رأسك بكل لطف. أنا أعلم أنك تكن الكثير لهذه النخلة فقد غرستها في اليوم الذي وضعتك أمك وأسميتها باسمك لتنمو جذوركما معًا، ويكون لك ارتباط وثيق بهذه الأرض. ستحب الأرض يا عمر كما يحبها جدّك وربما أكثر، فأنا أعرف جيدًا الطين جئت منها كما أعرف طبيعة كل حبة رملٍ في أرضي.
وهنا أفصح عمر عن سر تذمره في ذلك اليوم قائلًا: أنت تزرع الخضروات والبرسيم يا جدي لما لا تزرع التبغ فجارنا محسون يدرُّ عليه التبغ الكثير من المال، وقد أسبغ على عائلته خيرًا لا يُعد، وأنت يا جدي تنهك نفسك دون مردود يُذكر. أدار الجد سالم صوت المذياع عاليًا في تلك اللحظة التي بلغت الساعة رأس العاشرة صباحًا، وهو موعد نشرة الأخبار، التي يتخذها الجد فسحة استراحة من العمل، بينما ظل عمر ينتظرُ الإجابة في هدوء، فقد اعتاد تريث جدّه الذي يبعث بالجواب بعد أن ينسى السائل صيغة سؤاله، ولكن مذيعة الأخبار هي من أجابت عمر هذه المرة إذ كانت تذيع خبرًا عن: (ارتفاع نسب المصابين بسرطان الرئة عن أعوامٍ خلت نتيجة التدخين).كان الجد يختلس النظرات إلى حفيده ليتأكد أن الرسالة تسري في عقله بالمراد، وهذا ما تم فعلًا إذ ظهر الأسى واضحًا على وجهه حينئذ، فاطمئن الجد لسلامة الفطرة في قلب عمر وأراد أن يرويها قائلًا: هل بإمكانك أن تتخيل جدك قاتلًا يا عمر؟!
ذُعر عمر لسؤال جدّه المباغت وانتفض من مكانه قبل أن يجيب: محالٌ يا جدي.. أنت الذي تأسف لذبول أغصانك لا يسكن قلبك سوى الحب، لا يمكنني تخيلّك إلا صيبًا نافعًا، وليشهد التراب على رفقك حين تحرثهُ، وفي كفك الأعشاب تضحك، وتلوّح لك كل ورقة في الحقل حين تمر ويمر إثرك العليل.. أنت يا جدي جليل لست بقاتل. تهللت أسارير الجد بابتسامة يحفظ عمر تفاصيلها، فقد كان يعشق التجاعيد حول عيني جدّه حين يضحك، وفي ذلك تشابه بليغ مع تجاعيد الأرض بعد أن يخطها المحراث، وكان هذا الجزء من مراحل العمل هو الأحب لقلب عمر إذا تتهيأ له الأرض كصفحة بيضاء يخطُّ عليها تلك الأشكال الهندسية المنحنية، التي يرى فيها الوجه الأليف لمادة الرياضيات التي تعيق تقدمه الدراسي.
أتعلم يا جدي – قال عمر: أظنني لا أحتاج إلى المدرسة. ودون أن يلقي بالًا لردة فعل جدّه أكمل قائلًا: في أرضك أدرس كل المواد التي أدرسها في المدرسة، فأجد هنا في تفكري وتأملي المواد الدينية، وفي تكوين الأرض مادة العلوم أفهمها هنا بشكل أوضح، وسبق أن أخبرتك عن الهندسة ورأيت مهاراتي في الحساب حين أبيع لكَ الخضروات يوم الجمعة، ويتكفل المذياع المعلق في شجرته ببث شعارات الوطنية التي نتشربها هناك.. وأنا كما تعلم يا جدي لا أحب السياسة، ويكفيني من الأمر أن أعرف حدودي الجغرافية، وهذه الأرض هي حدودي بما فيها قلبك حيث أتعلم مفردات الحب والبساطة، وذلك زاد يكفيني من اللغة ما حييت. عقلك التاريخ يا جدي فأنا أستوعب الحياة من تجاربك فلستُ إلا فرعًا من أغصانك.
كان الجد يصغي إلى عمر وعلى وجهه لوحة الحب جليّة تجاري شمس ذلك اليوم، وفي صدره العتيق قلبٌ يرفرف للصغير بقوةٍ تحرك الهواء البارد تجاه وجه عمر لتجفف عرق البوح، ثم نهض فجأة وذهب حيث شجرة الأراك يفتّش عن سرّه المدفون في أدغالها، وعاد يجرُّ حقيبة مدرسية هي حقيبته وضعها أمامه قبالة جدّه، وأخذ يخرج الكتاب تلو الآخر حتى أفرغ الحقيبة.. ثم قال في وداعة: ينقصها كتاب واحد حتى تكتمل ولكني أدرك للأسف أن هذا الكتاب لا تسعهُ حقيبة وددتُ لو كانت الحياة في كتاب يا جدي.. سيكون من السهل فهمها، ولكن لحسن الحظ أيضًا أنها لم تكن كذلك فثقل حقيبتي لا يحتمل ورقة إضافية، ولو حملت الحياة لقصمت ظهري!
أنت قويٌ يا جدي وجلّ أمانيِّ أن أكون أنت ذات يوم، أحمل الحياة بظهر ثابت لذا سأتخلى عن الجزء الأول من النهار لأتعلم منك فلا حاجة لي بمدرسة لا تعلمني الحياة.
كان عمر يتكلم بثقة تفوق سنّه ومما زاد ثقته إنصات جدّه له في اهتمام إذْ كان خيرُ من ينصت، ولم يكن الجد يستغرب من بلاغة عمر إذْ كانت ذاكرته تلقي أمام عينيه صورة قديمة تطابق هذه التي يراها في تلك اللحظة، ولأن الأمور يجب أن تناقش حسب أولويتها، تجاهل الجدُّ الحنين وسحب ورقة الحاضر، وقال: خبرتي في الحياة محصورة في أرضي بكل تفاصيلها بدءًا من شجرة الرمان تلك إلى الشجرة التي يقطنها المذياع، أحيا في علاقة مع الطبيعة، أزرع حين تَأْذَن النجوم، وأصلي حين ينحني ظل أغصاني، وأقل ما يمكن أن يقدمه مثلي للعالم هو أن يساهم ببذر عنصر يسعى للسلام، عنصر من شأنهِ أن ينقص عدد البؤساء في هذا العالم، جدّك يا بني يعشق الأرض بما فيها أنت كأثمن بذرة أمتلكها.. وأشعر بالرضا حين أراك تزهرُ كل يوم بخلقٍ أتأملهُ فيك أريدك أن تبلغ من الكمال ما يمكن لبشرٍ أن يبلغ، وتسلك فضاءات لم يدركها جدك الأمي، وإن أقصى ما يتمناه المحب لمن يحب أن يراه في حالٍ أفضل.. وهذا ما أرجوه لك يا بني.
نعم آراني فيك ولكني لستُ إلا نصفًا، دعني آراني فيك مكتملًا يا عمر. فخذ من الأرض مبادئ الإنسانية، وخذ من الجانب الآخر ما يعينك على توظيف هذه المبادئ بشكل واعٍ..
قطع حديث الجد وإصغاء عمر صوت ارتطامٍ سحيق خُيّل للجد أنها الصرخة الأخيرة لنخلة عجوز تخلّص منها السيد محسون كعادته.. فنهضَ الاثنان للتحقق من الأمر، ولم يكن الأمرُ إلا كذلك! فقد كان السيد محسون منهمكًا في تحطيب النخلة وتوزيع أجزائها، وحينما انتبه لقدومهم حياهم بإحدى يديه محتفظًا بالأخرى غائرةً في رأس النخلة.. السيد محسون لطيفٌ جدًّا غير أنه يعشق اغتيال النخيل لأغراضٍ خاصة، وهذا الفعل يشمئز منه الجد سالم الذي يدمن زراعة النخلة.. ولم يكن ليسعده أن يرى عمر مشهد الأرض وهي مليئة بالضحايا بشكل يثير التساؤلات في عقل الصغير دون أن يجسر العجوز على الإجابة لعلمه أن بعض الإجابات تنقض أخرى، فتدارك الجد الموقف ورد تحية جاره على عجل ليعود أدراجه إلى حيث من المفترض أن يلحق به عمر. مشى الجدُّ بضع خطوات مهرولًا دون أن يلتفت حتى بلغ الساقية، هزّهُ صوت عمر على بعد خطوات جالسًا فوق صخرة كبيرة تنام فوقها نخلة مكسورة الجذع: جدييييي
من كسر ظهر العروبة يا جدي؟
* انتهت