توقيع قلم
أ.د. عبد الله سعيد بن جسار الجعيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 14 .. ص 114
رابط العدد 14 : اضغط هنا
ذات يوم بغدادي تحاورت مع زميل دراسة عن موضوع البخل وما يوسم به أهل بعض المدن والمناطق العربية، وأوردنا نماذج، وكان ذلك الحوار مدخلًا مناسبًا ليسألني صديقي على استحياء، ومن باب الطرافة والتحقق عن مدى صدق ما يشاع عن بخل الحضارمة ولأنني متوقع طرحه رددت عليه -من باب تلطيف الجو- بنكتة منسوبة للحضارمة ولغيرهم عن البخل وبعيدًا عن حلاوة النكتة أو مرارتها، فكانت سعادة زميلي بروح النكتة وتسامحها أكثر من النكتة ذاتها.
وفي مناسبة مقابلة كتبت مقالًا نشر على مواقع التواصل الاجتماعي فندت هذه التهمة عن الحضارمة وتمترست معهم مدافعًا ومنافحًا ومع هذا ولأن المقال تضمن إشارة على شكل طرفة لما ينسب عنهم من (الحرص القوي) وصلتني من أصدقاء رسائل عتاب بعضها شديد القوة صوّرت الأمر كأنه نوع من الخيانة الوطنية العظمى.
وحقيقة الأمر يضع الكثير من الحضارمة صورة نمطية ثابتة عن شخصيتهم العامة ويعدون المساس ببعضها مساسًا بكل الذوات الحضرمية، ونحن نقول كما يقول أجدادنا: (كل طعام بغشرها)، بمعنى لا يخلو كل مجتمع من وجود السلبي والفاسد وغير المهم، وإذا افتخر الحضارمة ببصمات سلوكية معينة أصيلة مغروسة في الوجدان الجمعي، فإنهم في الآن ذاته لهم عيوب لا يمكن نكرانها ولا بد من الإشارة إليها لمن تصدى بالدرس العلمي للشخصية الحضرمية (وكفى بالمرء نبلًا أن تعد معايبه).
والحديث عن الصفات الإيجابية عند الحضارمة من رجل منهم ربما سيعطي الآخرين الحق في الجرح، ومع هذا سندلو بدلونا بموضوعية من خلال نص المثل وتداعياته الذي يقول : (إمن الحضرمي على مالك ولا تأمنه على عيالك)، ولن نخوض مع الخائضين المبالغين (مدحًا وذمًا)، وبداية تقتضي الأمانة الإشارة إلى أن صفة الأمانة من أشهر ما يشتهر بها الحضارمة لا سيما في بلادهم وفي مواطن مهاجرهم، وصارت هذه الميزة وما تزال مدخلًا قويًا لتقدمهم في الأعمال التجارية واكتساب الحظوة عند أهل تلك البلدان، وفي رأينا أن المثل أعلاه يعد نصًا مهجريًا عربيًا بامتياز، فقد كانت الصناديق المالية في المؤسسات التجارية في معظم بلدان شبه الجزيرة العربية يفضل إسنادها إلى الموظف الحضرمي.
وحمل نص المثل في ظاهره نصيحة مغلفة بالمدح من طرف إلى الآخر المستمع. وفي باطنه تهمة واتهام، والتساؤل الذي يطرح نفسه هل الأمين يخون؟ وهل لرجل من قلبين في جوفه؟ الوقفات المتأنية ستساعد على فهم تداخلات النص وتناقضه بين المدح والقدح وستبين أن هناك مساحة خفية بين ظاهره وباطنه قد ينظر لها بأكثر من زاوية نظر، فمن وجهة النظر الحضرمية يرون الكفة لصالح وضعهم في خانة المدح، وأن القدح ما هو إلا صيغة مبالغة لتأكيد ما قبلها، وأن أصل النص (المثل) الإشارة إلى صفة الأمانة أكثر منه التحذير من تهمة خيانة الشرف. وفي سياق مقارب يطلق العرب أحيانًا لفظة (الخبيث) أو (الماكر) على سبيل المدح لمن مكر مكرًا حسنًا لهدف نبيل بمواجهة مكر ماكرين.
أما وجهة النظر الأخرى في المثل فربما سترى أن بعض الحضارمة قد يجمع بين الأمانة وشبهة الخيانة، ولأن تهمة المال (الصناديق) يسهل فيها تأكيد الإدانة أو إثبات البراءة من خلال مراجعة الحسابات فإن (أمانة) الشرف تهمة يصعب تأكيدها، كما أن صاحب الصندوق ليس المتهم الوحيد فيها، ولهذا أطلقنا عليها شبهة الخيانة ويبدو لنا أن نصيحة التحذير من وجهة النظر هذه هي الكفة الغالبة وليس الأمانة بمعناها النبيل الذي لا يقبل الانقسام لأن ما بعدها محاذير خطيرة تتطلب شاهدًا وشهيدًا.
إن الأمانة أو الشجاعة أو المروءة وغيرها من الصفات النبيلة، هي قيم تكتسب غالبًا بالتربية المجتمعية، وليست متلازمات خاصة بهذا المجتمع أو ذاك، بل هي سلوكيات يشترك فيها الناس بنسب متفاوتة وتواجه هذه القيم الكثير من التحديات مع تغير الأحوال. في (عصر القات) الدخيل على حضرموت اهتزت الكثير من القيم ومنها (الأمانة)، وظهر صنف سلبي من الحضارمة متعاط لشجرة القات الخبيثة (المخزن)، وكثير من هؤلاء تحوم عليهم شبهات الكسب الحرام، وبعضهم فاسد بيّن فساده، وقليل منهم يلجأ بكيفيات متنوعة إلى رذيلة التسول، وفي وسط هذه البؤرة غير الرشيدة يحق لنا إعادة صياغة المثل بحيث يكون (لا تأمن المخزن على مالك ولا على عيالك ولا على بلادك).