حديث البداية .. أهمية الوعي بالقراءة الجديدة في حضرموت
حديث البداية
د. عبدالقادر باعيسى - رئيس التحرير

المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 4
رابط العدد 15 : اضغط هنا
ما زال التاريخ بوصفه كتابة كيانًا مغلقًا على نفسه، لا يريد أكثر المتخصصين فيه والمهتمين به من غيرهم المساس به، أو التدخل في شؤونه، باستثناء أولئك الذين ينظرون إلى التاريخ بنفس ثقافي أعمق فيرحبون بمختلف الدراسات والآراء فيه، شريطة أن تكون مبنية على أسس منهجية من العلم، فالقراءات غير التاريخية (التفكيكية، والسيميائية، والثقافية، وحتى الفلسفية) للتاريخ ما زالت قليلة.
ولعل منبع الحذر الذي يبديه بعض المختصين بالتاريخ إما الخوف من أن يربك التاريخ ومسلماته أحد من خارجه، وإما الحرص على صفاء التخصص الأكاديمي في دراسة مسائله. لكن أحدًا لا يناقش في التخصص وضرورته، فتلك مسألة مفروغ منها، وإنما المناقشة في إطار إثراء وجهات النظر إلى التاريخ يقوم بها دارسون من جهات مختلفة، وكلها دراسات يعتد بها تاريخية وغير تاريخية، فالأولى تعمد إلى التدقيق في مسائل التاريخ ومستغلقاته، والثانية تعمد إلى مناقشة المسائل والإشكالات بطريقة أكثر دينامية وكشفًا انطلاقًا من مناهجها القرائية.
والواقع أن هذا اختلاف بين طريقتين في المنهج، فالمناهج الحديثة تجوس خلال النتاجات الكتابية المختلفة، تاريخية وغير تاريخية، وتفتش فيها بوصفها قراءات تقوم على استراتيجية البحث عن المسكوت عنه ومحاولة إظهاره، وهي لا تهدف إلى تخطئة كتابة ما، بقدر ما تهدف إلى كشف أنساقها الداخلية المخفية التي ربما كان كاتبوها أنفسهم على غير وعي واضح بها، مع مواصلة الحفر المستمر للكشف عن أنساق أكثر دقة وبصورة منتجة. ولا يعد هذا كيدًا ولا انتقاصًا كما قد يفهم، بقدر ما هو فحص وتدقيق وصلت إليه المناهج الحديثة في القراءة، لا يجب أن نكون مغيبين عنه في حضرموت، أو أن يكون مغيبًا عنّا.
إن الذي ما زال غائبًا من دلالات النصوص المكتوبة أكثر مما كشف منها بكثير، وإذا كنّا قد عرفنا بعض التأويلات حول ما قرأنا فمن المهم أن نبحث عن تأويلات جديدة تحرك فينا المعرفة، فلا يمكن أن يتكرر وعينا الآن حرفيًا كما كان وعي القراء قبل خمسين أو مائة سنة حول بعض القضايا في تاريخنا وثقافتنا انطلاقًا من تحليلات المناهج الحداثية وما بعد الحداثية، وبعيدًا عن الرغبات الذاتية الخاصة في التحليل والتفسير التي شكلت وما زالت تشكل خطرًا كبيرًا على الوعي بتحولها إلى مرتكزات رئيسة يصعب الانفصام عنها أو مخالفتها عند بعض الدارسين، ففي الماضي حالت عوائق دون القراءة الناقدة، ما عادت موجودة الآن في واقع حضرموت الثقافي بشكل كبير، وما اكتشف أنها عوائق إلا الآن؛ لأنه كان ينظر إليها على أنها تمثل السمت الأعلى من المعرفة، وربما الحقيقة، فكل القراءات السابقة قاصرة انطلاقًا من نسبية المعرفة وسيرورتها، وكل القراءات التي ستأتي لن تصل إلى النقطة الأخيرة في الفهم والتحليل لا سيما أننا أمام فضاء واسع من الكتابات المتلاحقة عبر التاريخ، وبالمقابل أمام حيز محدود من القراءات حولها.