أضواء
منير بن سالم بازهير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 45
رابط العدد 15 : اضغط هنا
التصوف هو: العلم الذي يُعنى بتهذيب النفس وتطهيرها، وتنوير القلب وتحليته بجميل الصفات، وتطهيره من قبيح العادات.
وهو روح الإسلام، وميدانه التطبيقي والعملي؛ وهو العلم المحقق لمراحل “مقام الإحسان” الركن الثالث من أركان الدين الإسلامي الحنيف؛ ولذا فقد عرَّفه الكتاني (ت 322هــ) -رحمه الله تعالى- بقوله: »التصوف خلق فمن زاد عليك فِي الخلق فقد زاد عليك فِي التصوف«([1]).
والمرء كما يقال ابن بيئته، فلنشأة المرأة الحضرمية في محاضن الزهد والتصوف -بطبيعة البيئة الحضرمية- أثر بالغ على صلاحها وأدبها وتميزها في إنجاح عملية التعليم والتربية، والارتقاء بالمجتمع في سلالم الفضيلة، ومدارج الأخلاق الكريمة، والقيم النبيلة.
ولذا إن رأينا وفرة في علماء حضرموت، وكثرة في عدد صلحائها، فإن قاعدة ذلك كله عائدة إلى ذلكم التفوق والنجاح في ميدان السلوك، والأخلاق، والربانية الجامعة بين العلم والعمل، فقد كانت المرأة الحضرمية: العالمة المربية، والعابدة الزاهدة، والمتوكلة المتصوفة، التي نقلت تلك المشاعر العظيمة إلى أولادها بسلوكها وأخلاقها، وإشراقة روحها وجمال أحوالها.
فارتضع منها الناشئة من بدايات الصبى الأولى الخلق والفضيلة، وسلامة القلب، وشفافية الشعور، واكتحلت بصائرهم عند أول تفتقها بأم: تحافظ على الصلوات والذكر، والقيام والدعاء، والصيام والصدقة، والخوف والبكاء حبًا لله وحياءً منه.. فكان ذلك محفزًا لهم نحو المعالي من العلوم والأحوال، وصاروا بذلك عناصر سلام في أنفسهم وأوطانهم.
وكان أهل التصوف يحيطون أولادهم بمزيد عناية وتربية؛ لينشأوا على حال جميل في السلوك والأخلاق، والعلم والفضيلة، وقد أشار إلى هذه الميزة في التربية العلامة ابن عبيدالله السقاف (ت 1375هـ) -رحمه الله تعالى- حيث قال: »كثيرًا ما سمعت والدي يقول كان لآل جديد ولآل بصري وآل علوي ثلاث ديار؛ عليها سور بمدينة تريم، يقال له: (الحوطة)، وكانوا يحوطون أولادهم فيها بالنظر، ويلاحظونهم بالتربية حتى لا يبرحوها، ولا يطر شارب الشاب الغلام منهم، إلا وقد روى زناده، وتجوهر فؤاده، وشملته الأسرار، وأشرقت عليه الأنوار، والتحق بالصالحين الأخيار، فلا يخافون عليه بعد من مخالطة الأغيار«([2]).
وهذا نمط من أنماط التجارب الناجحة في فن التربية لمدرسة التصوف الحضرمي، أفاد ابن عبيدالله السقاف أنه نشأ قديمًا في حضرموت.
وبالنظر في كتب التاريخ نعلم بأن التصوف يعود إلى القرون الثلاثة التالية: الخامس والسادس والسابع الهجرية، أزمنة تواجد آل الجديد وآل بصري، وامتد هذا الاختيار التربوي الوجيه حتى فترات قريبة من عصورنا الهجرية القريبة، حتى اختلط الحابل بالنابل في الفترات المتأخرة من تاريخنا الحضرمي المعاصر، وصار يشارك الأسرة الحضرمية في التربية والتعليم كل شيء!! من: الأفلام والمسلسلات.. ومواقع النت المجهولة.. والرفقاء الغرباء في قيمهم وعاداتهم؛ بل وفي أديانهم وأنماط تفكيرهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وساق العلامة ابن عبيدالله السقاف صورة رائعة لنمط التربية الصوفية في البيت الحضرمي آنذاك فقال: »روي عن بعض أجدادنا العلويين أنه قال: جئت وأنا في التاسعة من عمري، وأمي تسبح الضحى -أي تصلي الضحى- فرأيت ما ارتفع له صوتي قليلًا بالضحك؛ فما انفلتت أمي من صلاتها.. إلا وهي قد بلت خمارها بالدموع تسترجع، وتقول: لقد أصبحت بيوتنا شبيهة بالأسواق، وما كان يسمع فيها إلا ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، فقالت لي أختي مريم: هل لكَ في التوبة؟ قلت: نعم، وتبت على يدها، وأخذت عليَّ ميثاقًا أن لا أعود إلى مثلها، وبقي الخدم سنةً يؤنبوني، ويقولون: توبة مقبولة.
ثم أخذ يقول في مدحهم:
ملائكةٌ في سمتهِم ولدى الوغى = ليوثٌ لهم في المشرفيةِ أخياسُ
عليهِم من الباري وقارٌ لأنهُم = بأرواحهِم في حضرةِ القدسِ جلاسُ« ([3]).
ولا يظن المتوهم أن التربية الصوفية انحصرت في البيت العلوي فحسب؛ بل الصواب أن التربية الصوفية تغلغلت في غالب البيوت الحضرمية وأشهرها؛ بيوت: آل باعباد، وآل باجمال، وآل باعشن، وآل باسندوة، وآل الخطيب، وآل بافضل، وآل بامخرمة، وآل باسودان، وآل باشراحيل، وآل باعيسى، وآل باراس، وآل بحرق، وآل بن سمير، وآل باقيس، وآل باذيب، وآل بن ثعلب، وآل العمودي؛ والقائمة تطول. فكل هذه البيوت الحضرمية أخرجت أفذاذًا من الرجال في حقول المعرفة المختلفة (العلم، الدعوة، القضاء، الأدب) متكأة على ركيزة الأم الصالحة المتقنة لعملية التنشئة والتربية، المدركة لأهمية التعليم والمعرفة.
ومن أعظم النصوص المؤكدة لتحقق النساء الحضرميات بمقامات التصوف العالية، قول العلامة عبدالله بن أحمد باسودان (ت 1266هـ) -رحمه الله تعالى-: »لقد بلغ من نساء آل باجمال أربعمائة؛ مقام الأبدال«([4])، ومقام البدلية: مقام عظيم من مقامات التصوف.
وقد اقتعدت كثير من النساء الحضرميات منصة التعليم والتربية لكتب التصوف، كالسيدة زينب أم الفقراء زوجة سيدنا الفقيه المقدم([5])، والشيخة سلطانة بنت علي الزبيدية([6])، وكانت لهن أربطة يمارسن فيها التعليم والتربية، والشيخة العابدة الصالحة بدرية بنت محمد بن علي بن ثعلب (ت 987هـ) والدة العلامة محمد بن عبدالرحمن باجمال (ت 1019هـ) مؤلِّف كتاب: (الدر الفاخر في أعيان القرن العاشر)، وكان الشيخ أبوبكر بن سالم يثني عليها ثناء جليلًا، ويسميها: (أم الذرية الصالحة)([7]).
ومنهن: الشيخة مريم بنت العلامة الفقيه أبوبكر بنت أحمد بن عبدالرحمن باجمال، وهي وأخواتها أسماء وفاطمة؛ من اللواتي عرفن بكثرة الطاعة والقنوت وقيام الليل؛ ووِرْدُهُنَّ كما وصفهن في (الدر الفاخر): (يستغرق أكثر العمر)([8]).
ومنهن: الشيخة العالمة العابدة فاطمة بنت عبدالله بن أحمد باجمال؛ وهي من أهل القرن العاشر، وكان صلحاء زمانها يعظِّمونها ويجلُّونها، ويثنون عليها، ويحلُّونها محل “رابعة العدوية”؛ لما جُبِلَتْ عليه من الطاعة والأخلاق([9]).
ومن هؤلاء المربيات الصالحات العالمات البارزات في ميدان تعليم علوم التصوف والسلوك والتربية فيما بعد القرن العاشر الهجري: السيدة العالمة القانتة سلمى بنت العلامة أحمد بن زين الحبشي([10])، التي قرأ على يدها العلامة محمد بن زين بن سميط كتاب (عوارف المعارف) كاملًا، وتأتي بعد ذلك الشيخة وزيرة بنت الشيخ عبدالرحيم بن سعيد باوزير([11])، والشيخة فاطمة بنت سالم باغريب([12])، وفاطمة بنت أبي بكر بن عمر بن يحيى([13])، ومسعدة بنت أحمد بن هادي الهدار([14])، والسيدة أم كلثوم بنت طاهر بن محمد بن هاشم([15])، التي اجتمعت فيها كل شروط القضاء إلا الذكورة، وغيرهن كثير.
ولنعلم أن هذه المجموعة من النساء ثبت من خلال النظر في كتب التراجم أنهن تحقَّقْنَ بالتصوف ذوقًا وحالًا وانفعالًا ووجدانًا.. وثبت تدريسهن لأمهات كتب التصوف، من مثل كتاب: (الإحياء)، و(منهاج العابدين)، و(بداية الهداية) للإمام الغزالي، و(عوارف المعارف) للسهروردي، و(قوت القلوب) لأبي طالب المكي، و(الرسالة القشيرية) للإمام القشيري، بالإضافة إلى الاهتمام بالكتب الشعرانية، والنبهانية، وكتب الإمام الحداد، وغيرها من المتون الصوفية.
أقول: وإنما اختفت مجمل سيرهن، ولم تذكر تفاصيل أخبارهن في الكتب؛ لأنهم أسسوا أعمالهم على الكتمان والستر، والابتعاد عن حب الشهرة والظهور، إمعانًا في الإخلاص، ولكن ومع كل هذه الأسباب بقيت إشارات وومضات في بطون الكتب المختلفات، تبصرنا بتلك الحقائق المخفيات، ومن تلك الإشارات اللطيفة انتهل الباحث معين بحثه هذا.
وقد أفصح العلامة عيدروس بن عمر الحبشي (ت 1314هـ) عن السر في قلة تراجم النساء الحضرميات فقال: »إن في ساداتنا العلوية كثير من النساء الصالحات ممن لها قدم في الولاية تزيد في الحال والمقام على كثير من النساء المترجم لهن من المشهورات بالصلاح والولاية من غيرهم، وإنما لم يذكروهن ولم يترجموا لأحد منهن غيرة عليهن، وصونًا لهن من الذكر عند الأجانب؛ لما جبلوا عليه من الخمول وكراهة الذكر والشهرة بالولاية، اكتفاء منهم بعلم الله تعالى، وتمام الإخلاص لله تعالى«([16]).
وأعتقد أن هذه ظاهرة عامة عند كل الشعوب العربية، أسهمت بلا شك في عدم تدوين تفاصيل تاريخ حياة المرأة، في زوايا التربية والتعبد، أو زوايا حياتها الأخرى؛ وما ظهرت موسوعات تراجم النساء العابدات والصالحات بل حتى العالمات؛ إلا في وقت متأخر من تاريخ الأمة العربية المسلمة.
وهنا سأحاول أن ألخص أبرز المكاسب والمنجزات والآثار التي حققتها التربية الصوفية لشخصية الناشئ الحضرمي:
1- بروزه ملازمًا للأخلاق الكريمة في تعاملاته الواقعية، في وطنه ومهجره.
2- إدراكه لخطر الحرام وتجنبه له واحتياطه وورعه في مكاسبه وتجارته.
3- انضباط ألفاظه وخروجها في قوالب ذوقية مهذبة.
4- إجادته لتلاوة كتاب الله تعالى؛ وحفظه في كثير من الأحيان.
5- إلمامه بعلوم الدين الواجبة والضرورية.
6- نفرته من صحبة أرباب التهور والاستعجال المفضي إلى الدمار.
7- حبهم للبذل والتعاون.
8- حرصه على نشر تعاليم دينه الحنيف بحاله وقاله بوعي وبصيرة.
9- إدراكه لشرف الأزمنة والمناسبات الإسلامية؛ فتجد من تربى في مدارس أهل التصوف يصوم الست من شوال ويقدر له قدرها، ويصوم التسع من ذي الحجة، وعاشوراء، ويدرك فضيلة الأشهر الحرم، وقداسة شهر المولد النبوي، وكل ذلك من جراء التعود والتربية، ورؤية القدوة.
10- حرصه على الجمع والجماعات ومجالس التعليم والتذكير في يومه وليلته.
11- التزامه بالسنة في حياته وفي أفراحه وأتراحه، وربطه لأولاده بالصالحين من خلال مناسبة العقيقة، والتحنيك، وطلب الدعاء للمولود، وتسميته من قبل الصالحين.
وفي الختام أقول: لقد اهتم العلماء الحضارمة بالمرأة وتربيتها وتعليمها؛ لتسهم في تنشئة المجتمع الحضرمي تنشئة إسلامية سوية تعشق العلم والسلام.. وتنشد الفضيلة والأدب.. وتحمل بذور الإسلام نقيًا غضًا؛ لتنشر ضياء سناه الساطع في آفاق تفتقر إليه.. ولله در العلامة المربي والداعية الحصيف أحمد بن عمر بن سميط الشبامي (ت 1257هـ) رائد تعليم الرجل والمرأة في عصره ومصره حيث يقول: »إن البنت التي لم نعلمها أمر دينها، ولم نمكن الإيمان من قلبها، لا تأتينا بنجباء، ولا تربي أولادها على محبة الخير«([17]).
أقول: وهذا نصٌ عظيمٌ فريدٌ كاشفٌ عن مدى إدراكِ العلماءِ الحضارمةِ لمكانةِ المرأةِ في الحياةِ العلميةِ والعمليةِ، وضرورة إعدادها إعدادًا مناسبًا يمكنها من القيام بدورها الريادي في بناء الأسر والمجتمعات والأوطان الصالحة الواعية. هذا وبالله التوفيق.
([1]) الرسالة القشيرية، طباعة دار المنهاج، ص529.
([2]) العود الهندي، طباعة دار المنهاج، 1/ 298- 299.
([3]) العود الهندي، 1/ 260- 261، ومعنى المشرفية: سيوف معروفة، وأخياس: ملتفة؛ وأصله الشجر الملتف.
([4]) انظر: كتابه الموسوم بــ(تعريف طريق التيقظ والانتباه لما يقع في مسائل الكفاءة من الاشتباه)، ص156، تحقيق: علوي بن سالم أبو فطيم، طباعة مركز تريم للدراسات والنشر، 1439هـ/ 2018م، وأصلها في: الدر الفاخر في أعيان القرن العاشر، للعلامة محمد باجمال، تحقيق: د. محمد يسلم عبدالنور، طباعة مركز حضرموت للدراسات والنشر، 1429هـــ/ 2008م، ص103.
([5]) انظر: أدوار التاريخ الحضرمي، للشاطري، ص307.
([6]) انظر: المرجع السابق، 2/ 308 وما بعدها.
([7]) انظر: الدر الفاخر في تاريخ القرن العاشر، ص91- 92.
([8]) انظر: المصدر السابق، ص103.
([9]) انظر: المصدر السابق، ص81.
([10]) انظر: نور الأبصار بمناقب الحبيب عبدالله بن طه الهدار، ص47.
([11]) انظر: الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي، سعيد عوض باوزير، طباعة المكتبة الصالحية، 1432هـ/ 2011م، ص125.
([12]) انظر: معجم النساء اليمنيات، عبدالله الحبشي، ص154.
([13]) انظر: البلبل الغريد، مبارك بن عمير باحريش، ص9.
([14]) انظر: معجم النساء اليمنيات، ص180.
([15]) انظر: تاريخ الدولة الكثيرية، محمد بن هاشم، ص157.
([16]) انظر: مجموع كلام العلامة المسند عيدروس بن عمر الحبشي، مخطوط، ص456.