أضواء
مسعود علي الغتنيني
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 49
رابط العدد 15 : اضغط هنا
الأدب الشعبي المشقاصي متعدد ومتنوع حاله حال الأدب الشعبي الحضرمي، ولكنه لم يلق الاهتمام والعناية اللازمين، وهو في الغالب شفهي تتناقله الأجيال جيلًا عن جيل، وإن كان بعض هذا الأدب ما زال يمارس في الحياة العامة، كالشعر الشعبي المتمثل في قصائد الدان والزوامل ونحوها، والتي يتبارى الشعراء في نسجها في المناسبات العامة والخاصة، غير أن بعض أنواع هذا الأدب أوشك على الاندثار؛ فهو لم يعد موجودًا في الحياة العامة، كالحكايات والقصص الشعبية، والتي تعرف في المشقاص بـ(المحازي) أو (المحازر) ومفردها محزاة أو محزارة. فقد كان لدخول التقنيات الحديثة كالتلفاز والتابلات والجوالات دور في انحسار هذا النوع من الأدب، حتى أصبح من العسير على الباحث تقصي هذا الأدب لتدوينه وتوثيقه لذهاب حفظته والمهتمين به.
والمحازي هي نوع من أدب الطفل الذي تمارسه الجدات عادة في البيوت إلى وقت قريب، والهدف منه التسلية، بالإضافة إلى التعليم وغرس القيم النبيلة في الأطفال، وتوسيع خيالهم، وتنمية مداركهم، وهو أيضًا وسيلة لتنويم الطفل، ولذلك نلاحظ أن هذه القصص والحكايات طويلة نوعًا ما، وفيها مقاطع تتكرر أكثر من مرة إمعانًا في تطويلها؛ لكي يشعر الطفل بالنوم وهو يتابع القصة، والتي تكون غالبًا بأسلوب محبب ومشوق وتتفاعل معه الجدة، وذلك بتغيير نبرة صوتها بتغيّر مقاطع القصة فرح، حزن، استعطاف، تخويف… إلخ، وكأنها تمارس نوعًا من أنواع الموسيقى التصويرية التي تستخدم عادة في الأفلام السينمائية. وتبدأ القصة بلفظة (حزي من حزي عليك)، أو (حزر من حزر عليك) في بعض المناطق، ويرد الطفل بقوله (حزي) في الأولى، و(حزر) في الثانية، ثم تبدأ الجدة بقص القصة، فإذا بلغت نهايتها تقول: (قصّت)، أي: انتهت.
وإنه من نافلة القول إن هذه القصص الشعبية المشقاصية لها مثيلات في الأدب الشعبي الحضرمي وحتى العالمي، وقد تختلف تسمية شخصياتها أو أماكنها وبعض أحداثها، ويسري الأمر نفسه على مناطق المشقاص فيما بينها البين أيضًا، فتجد اختلافات هنا وهناك، لكن في الأغلب الأعم أصل القصة وفكرتها واحدة.
وللمحازي سمات عامة تتسم بها، وقواسم مشتركة تتقاسمها، فهي قصص خيالية غالبًا، ولا يعرف مؤلفها، مثلها مثل الأمثال الشعبية التي يتداولها الناس دون معرفة قائلها، وهي تحمل أفكارًا سطحية وليست عميقة تتناسب وتفكير الطفل، وهي تعتمد على التشويق والإثارة، وشخصياتها بسيطة ومتواضعة، وأبطالها قد يكونون من البشر أو الحيوانات، وحيواناتها ناطقة تحاور وتفهم لغة البشر. فمن شخصياتها السلطان وهو شخصية أساسية في غالب هذه القصص، وهو إنسان بسيط يعيش مع عامة الناس ولا يختلف عنهم في شيء غالبًا، ولكنه في بعض القصص يمتلك قصورًا ودورًا، كما هو الحال في قصة (عمرو الكيسح)، (وبنت اللوتي)، مثل قولها لابن السلطان: (ولا بقصر بوك الغالي الزين)، وتوصف البلاد التي يحكمها بالقرية عادة. وهناك الخالة وهي زوجة الأب سواء كان هذا الأب السلطان كما في قصة (فاطمية)، أو كان شخصية عادية من عامة الناس كما في قصة (بهلة)، وهذه الخالة تسوم ابنة زوجها صنوف العذاب وتذيقها أنواع المعاناة. وهناك الأم عجيوز تصغير عجوز، وهي شخصية محورية في معظم القصص، ودورها يختلف من قصة إلى أخرى، ففي قصة (سمسانة)، وقصة (سعيّد بلال)، تلعب دور المرشد الذي يخبر عن مكان المفقود، فهي التي تخبر أخت سمسمانة بأن (المنكري)، هو الذي أخذ سمسمانة، وتطلب منها أن تتبعها على قطرة دم وقطرة رماد، وهي التي تخبر الأم أن سعيّد بلال التهم أولادها الثلاثة، فتذهب للبحث عنه لإنقاذهم، وقد تلعب دور الشرير كما في قصة (عمرو الكيسح)، والتي توقع بين المرأة وابن أختها حمد، وتوغر صدرها عليه، وتعمل المكائد والحيل في سبيل التخلص منه، وقد تلعب دور الأناني كما هو الحال في قصة (عكنبر وعكنبرة)، فهي لا تعطي عكنبرة (الرويبة)([1])، التي طلبتها لإنقاذ أخيها عكنبر حتى تأتيها بالماء، وتمر عكنبرة بمراحل طويلة ومضنية حتى تحصل على هذه الرويبة في النهاية. وهناك العديد من الشخصيات الأخرى التي تتكرر في غالب القصص ولكن بأدوار مختلفة.
وقد وصلتنا بعض من هذه القصص الشعبية، منها قصة سعيّد بلال، وقصة سمسمانة، وقصة فاطمية، وقصة علي باثعيلب، وسبعة من المهرة، وقصة بهلة، وقصة عمرو الكيسح وغيرها، وإن كان بعض هذه القصص غير مكتملة، وقد ينقصها بعض التفاصيل، وربما يتداخل بعضها في بعض إلا إن فكرتها العامة موجودة.
وسنورد هنا بعض النماذج من هذه القصص (المحازي)، حسبما وصلتنا -ولعلها تروى في مكان آخر بطريقة أخرى- بهدف توثيقها وحفظها، ولعله يأتي وقت لاحق لدراستها وتحليلها، وستكون القصة بلغة هي أقرب إلى الفصحى، أما الحوارات ستكون بالمشقاصية الدارجة مع شرح بعض المصطلحات والمفردات في الهامش.
قصة عمرو الكيسح:
وتحكي قصة امرأة توفيت أختها، وتركت لها ابنها الرضيع حمد لتربيه مع ابنها الصغير أحمد، فربتهما حتى شبا فأصبحت لا تستطيع التفريق بينهما أيهما ابن أختها وأيهما ابنها، وكانت تدخل عليها (أمها عجيوز)، وتردد على مسامعها:
– يا مربي عيال الناس يا حامل ماء في الكياس.
حتى أوغرت صدرها على ابن أختها، وقررت التخلص منه، ولكنها لا تستطيع التفريق بينه وبين ابنها، وتخوفت أن يصيب ابنها مكروه، فبقيت في حيرة من أمرها، وشكت الأمر لأمها عجيوز، التي أرشدتها إلى طريقة تستطيع بها التفريق بينهما:
– إذا عرفت أنهم جايين([2]) صيحي([3]) كانش([4]) مريضة، وخريي([5]) ملابسش، وجلسي عريانة، لاهو بنش بايجيي يغطيش، ولاهو بن ختش بايستحي يدخل، ولادخل بنش كويه([6]) في صنحته([7]).
ففعلت المرأة مثل ما قالت لها أمها عجيوز فخلعت ملابسها، وأخذت تصيح، فابن أختها استحيا ولم يدخل عليها، وأما ابنها دخل فغطاها فكوته في جبهته، وهنا أصبحت تميز بين الاثنين، فعادت تسأل أمها عجيوز:
– ذلحين([8]) عرفتهم من بعضهم البعض، ويش سوي([9]) بن ختي حمد.
– لاخرج[10] بنش عملي السم في غداء حمد، ولاكله بيموت.
وبقيت المرأة منتظرة خروج ابنها حتى إذا خرج وضعت السم في طعام ابن أختها وقدمته له.
لكن ابن أختها حمد كان معه خيل تتكلم كلام البشر، وسمعت ما دار بين المرأة وأمها عجيوز، وعلمت أن في الطعام سمًا، فأعلمت حمد بالأمر، فلم يأكل الطعام، وفي اليوم الثاني حضرت العجوز إلى المرأة تسألها:
– هاه أيش([11]) عاده حصل للوليد([12]).
– مشي حصل له[13] الخيل قالت له إن الأكل فيه سم. مشي طريقة ثانية؟
– خلاص لاقده طالع([14]) الغرفة حقه كسّري قوارير([15]) وعمليهن في الرقاد([16]) وعملي له سلالي([17]).
– خلاص تمام.
وبعد خروج ابنها قامت المرأة بتكسير زجاج وتجميع شوك وقامت بوضعه في الدرج حيث يسكن حمد في الطابق العلوي، لكن الخيل سمعت ما دار بين المرأة والعجوز، فأخبرت حمد أن يلبس حذاء من حديد، وفعل مثل ما أخبرته الخيل، فنجا من هذه المكيدة أيضًا.
وفي اليوم التالي حضرت العجوز:
-هاه أيش حصل للوليد؟
– ما شي حصل له، مكانها الخيل قالت له.
– ما عليش منه ني الآن معي لش طريقة جديدة تخلصش منه.
– ويش من طريقة؟
– قلدي له أنك مريضة، ولاجاش قولي له إنش بغيتي تمر من نخلة العفريت، ولاراح قبله([18]) بايقتله العفريت وبترتاحي منه.
وعندما حضر حمد تظاهرت بالمرض وأخذت تصيح!
– وراش([19]) تصيحي يا خالة.
-ني مريضة والعلاج حقي صعب حد يجيبه.
– أيش من علاج نا باجيبه لش.
– تمر من نخلة العفريت.
– ولا يهمش نا باجيبه لش.
وكانت هذه النخلة بعيدة أقصى الوادي، ولا يستطيع أحد أن يقترب منها، وكان العفريت ينام تحتها، وإذا سقط منها شيء يستيقظ العفريت، ولكن لا يستيقظ في المرة الأولى ولا الثانية، وإنما يستيقظ إذا سقط منها شيء في المرة الثالثة، فركب حمد خيله وانطلق إلى ذلك الوادي حتى إذا وصل النخلة وجد العفريت نائمًا بجوارها فتسلقها في مهارة وخفة وأخذ يجمع التمر منها فسقط منه (قنسور)([20])، فصاح العفريت:
– عا ريح إنس([21]).
فأجابه حمد:
-ولد السلطان عدى([22]) أمس.
ثم واصل جمعه فسقط (قنسور) آخر، فقال العفريت وبصوت مرتفع هذه المرة :
– عا ريح إنس.
فأجابه حمد:
– ولد السلطان عدى أمس.
ثم أخذ يجمع حتى إذ أكمل جمعه رمى بتمرة متعمدًا على العفريت الذي نهض للفتك بحمد، وهو يقول:
– عا ريح إنس.
فيجيبه حمد وهو يقفز على ظهر خيله وينطلق بها:
– ولد السلطان عدى أمس.
وأحضر التمر وسلمه لخالته.
وفي اليوم التالي حضرت العجوز وسألت المرأة:
– هاه ويش حصل للوليد؟
– ماشي حصل له جاب التمر من النخلة، ورجع سالم الخيل حقته عا تساعده.
-خلاص لاشفتيه جاي قلدي([23]) إنش مريضة، وصيحي ولاسألش أيش فيش قولي له مريضة، ولاقال لش ويش علاجش قولي له الكبد حق الخيل حقتك.
وعندما شاهدت حمد قادم أخذت تصيح وتتلوى كأن بها مسًا.
اقترب منها حمد وهو يردد:
-ويش بش يا خالة.
-ني مريضة والعلاج حقي صعب.
– ويش من علاج نا بجيبه لش.
– علاجي الكبد حق الخيل حقتك.
– باذبح لش الخيل الصغيرة وباعطيش الكبد حقها.
-علاجي الكبد حق الخيل الكبيرة.
وعدها حمد خيرًا.. ولكن عندما أمعن النظر في الأمر تيقن أن خالته تضمر له ولخيله الشر، وأنه ليس بها أي مرض عندها قرر الرحيل.. وأخبر ابن خالته أحمد بأمر رحيله وما فعلته أمه به، وحاول ابن خالته أن يثنيه عن الرحيل ولكنه لم يستطع، وسأله كيف يطمئن عليه فقال له:
– تعين([24]) في ذه الشجرة إذا شفتها([25]) خضرة فإني بخير وإذا شفتها يبست فإني متوفى.
وأشار إلى شجرة كبيرة كانت تظلل بيتهم، ثم انطلق على خيله، وسار حتى وصل إلى إحدى القرى وقد بلغ منه التعب والجوع ما بلغه ووجد حصاة كبيرة فناداها:
– يا ذه([26]) الحصاة يا ذه الحصاة فتحي لي كما قلب بوي وأمي.
ففتحت له فدخل فيها وأدخل خيله وغيّر ملابسه النظيفة ولبس ملابس متسخة، وخرج وطلب من الحصاة أن تنغلق فانغلقت، وأخذ يمشي باحثًا عما يأكله وفجأة رأى أمامه فتاة بالغة الجمال ومتزينة بأجمل الملابس وكأنها عروس تزف إلى عريسها، وكانت تحمل في يدها (سحفة)([27]) كبيرة بها (جفنة)([28]) ومصبوغة بالسمن البقري، وهنا أوقفها وسألها :
-وين بغيتي([29]) وانت وذه الجفنة؟
فأجابته :
-ني بنت السلطان ورسلني بوي وأصحاب القرية إلى (الطاهشة)([30]) مع الجفنة من شان تفك لهم الماء وكل سنة يرسلوا لها بنت، وهذه السنة قع عندي الاختيار.
– هاتي الجفنة بانكلها نا واياش وبعد يقع خير.
– ما قدر الناس باتموت من الظماء.
– ماعليش منهم مالهم إلا ماء.
وبعد إلحاح من حمد وتمنع من البنت رضخت بنت السلطان أخيرًا وجلسوا وأكلوا الجفنة، وبعدما أكلوها وضع حمد حصاة كبيرة وسطها وغطاها ببقايا الجفنة، وسأل البنت عن مكان الطاهشة – وهي ثعبان عظيم ملتف كان يحرس الماء ويمنعه عن القرية حتى يقدموا له قربانًا بنتًا بكرًا وجفنة فيأكلهم ويسمح بمرور الماء، حتى إذا أتى العام القادم قدموا لها بنتًا وجفنة- فدلته على مكانها فطلب من البنت أن تتقدم إليها، وعندما اقتربت البنت فتحت الطاهشة فمها فألقى الحصاة فيه، ثم قفز عليها وقطع رأسها بسيفه، ووضع يده في الدم، وأخذ البنت معه وعندما وصل إلى قصر السلطان قفز ووضع يده الملطخة بالدم في أعلى مكان يصل إليه وذهب. تعجب الناس من رجوع بنت السلطان وسألوها ما الذي حصل وكيف عادت؟ وأيضًا كيف أتى الماء؟
حيث جاءهم الماء مخلوط بالدم فأخبرتهم بالقصة.
وكان للسلطان سبع من البنات، وكان لأخيه سبعة من الأبناء، وهنا قرر السلطان أن يزوج بناته لأبناء أخيه، إلا أن هذه البنت وهي الصغرى فيهن رفضت الزواج، وقالت لأبيها: لن أتزوج إلا من يقفز ويصل إلى العلامة التي في القصر، وكان كل أبناء عمها حريصين على الزواج منها لجمالها الأخاذ، فهي أجمل أخواتها وأذكاهن، فنزل والدها إلى رغبتها، وذاع في البلاد أنه سوف يزوج ابنته الصغرى لأي شخص يقفز ويصل بيده إلى علامة الدم الموجودة في جدار قصره، وحدد يومًا معلومًا لذلك. وحضر الناس من كل مكان وجلس السلطان على كرسي وجلست ابنته بجانبه، وأخذ الناس يقفزون تباعًا لمحاولة الوصول إلى علامة الدم، ومنهم أبناء عم البنت، ولم يستطع أحد الوصول إليها، وعندما يئس الكل حضر شاب مهلهل الثياب بأحد رجليه عرج عرّف عن نفسه بأنه عمرو الكيسح، واستأذن السلطان في المشاركة، ولكن الأب رفض في البداية، ولكنه وافق بعد مراجعة ابنته له، وذكرته أن الأمر متاح للجميع، والشرط أن يصل إلى علامة الدم.
فجرى عمرو الكيسح وقفز ووضع يده كاملة موضع اليد المرسومة بالدم.
ولكن السلطان أخبره أنه لم يشاهده وطلب منه أن يقفز مرة ثانية، وقفز مرة ثانية ووضع يده في الموضع نفسه، ولكن السلطان طلب منه أن يعيد القفز مرة أخرى! وأعاد القفز للمرة الثالثة لكن هذه المرة تعمّد أن يضع يده أعلى من العلامة بمسافة كبيرة.
وهنا لم يجد السلطان بدًا من الموافقة، فزوج ابنته بعمرو الكيسح على مضض، وزوج بقية بناته على أولاد عمهن، وأعطى كلًا منهن قصرًا، أما عمرو الكيسح وابنته الصغرى فأسكنهم في بيت قديم جوار قصره. وبقي الأمر على هذا الحال حتى مرض السلطان مرضًا شديدًا جعله طريح الفراش، وعجز الأطباء عن علاجه حتى حضر طبيب حاذق من بلاد أخرى وكشف عليه، وأخبره أن علاجه لبن الوعال([31])، فطلب من أزواج بناته البحث له عن لبن الوعال، وخرجوا للبحث عنها، ولكنهم عادوا خالي الوفاض، وسمعت ابنته الصغرى بالأمر فطلبت من زوجها عمرو الكيسح أن يجلب لوالدها لبن الوعال فلم يتردد في ذلك، وذهب إلى مكان الحصاة التي بها حصانه وملابسه وسلاحه ونادى :
– يا ذه الحصاة يا ذه الحصاة فتحي لي كما قلب بوي وأمي.
ففتحت الحصاة فدخل فيها وأخذ سلاحه ولبس ملابسه وركب حصانه وانطلق بها إلى أقصى الوادي، ولم يعد حتى أمسك بالوعال وحلبها حتى ملأ (قربة) من حليبها، ثم عاد بعد أن غيّر ملابسه وترك خيله وملابسه في الحصاة. وأحضر الحليب إلى زوجته والتي أخذته فرحة إلى والدها، وأخبرته أن زوجها عمرو الكيسح أحضر له لبن الوعال الذي طلبه. فشربه بعد تمنع. وفي اليوم التالي أصبح السلطان أكثر نشاطًا وبدأت تعود له صحته، ولكنه كان بحاجة إلى المزيد من اللبن، فقالت بناته: ما دام عمرو الكيسح استطاع أن يجلب اللبن فإن أولاد عمهن يقدرون على إحضاره أيضًا، وطلبن منهم الذهاب لإحضاره، فانطلقوا وبحثوا في كل مكان فلم يستطيعوا العثور على شيء.
وفي الوقت نفسه طلبت البنت الصغرى من زوجها عمرو الكيسح الذهاب لإحضار اللبن لوالدها، وحصل هناك منافسة بينها وبين أخواتها من منهن يستطيع زوجها إحضار اللبن المطلوب.
وفعل عمرو الكيسح مثلما فعل في المرة الأولى، فذهب إلى الحصاة وناداها، ودخل فيها وغيّر ملابسه وأخذ سيفه وانطلق، واستطاع أن يمسك بالوعال وحلبها وأخذ لبنها. وأما أزواج بنات السلطان الأخريات عندما يئسوا من العثور على شيء قال بعضهم لبعض سوف نطلب من عمرو الكيسح أن يعطينا شيئًا من اللبن الذي يحصل عليه، وبحثوا عنه حتى وجدوه، وطلبوا منه أن يعطيهم شيئًا من لبن الوعال، فوافق ولكن اشترط عليهم أن يكويهم في (يعابهم)([32]) صب وهقف([33]) فلم يمانعوا، وأعطى كلًا منهم قليلًا من اللبن بعد أن كواهم.
أما عمرو الكيسح فقد رجع بالقربة ملأى وأعطاها زوجته بعد أن قص عليها ما وقع بينه وبين أولاد عمها، وحملت اللبن إلى والدها فوجدت أخواتها عنده وكل منهن حاملة طاسة من اللبن، وهي حاملة قربة ملأى ومع ذلك أخذن يتفاخرن :
– شوفي عيال عمنا اليوم جابوا لبن الوعال.
– هههه صح اليوم جابوا اللبن بس قلّبن([34]) يعابهم.
ولما عرف السلطان أن الذي أحضر اللبن هو عمرو الكيسح، والذي فعله أولاد أخيه مقابل أن يحصلوا على اللبن بعد أن عجزوا عن الحصول عليه بأنفسهم طردهم من القصور وسلمها لعمرو الكيسح، وجعله هو السلطان وابنته السلطانة.
قصة سعيّد بلال :
وتحكي قصة أم وأولادها الثلاثة حيث تتركهم في البيت، وتذهب إلى الحطب، وتحذرهم من الفتح لأي كان حتى تعود إليهم فإذا أتت تناديهم :
– عيالي عيالي عشيكم غديكم روح البر وارميكم([35]) فتحوا لي.
فيفتحون لها.. وفي اليوم الثاني تغادرهم للبحث عن الحطب، وإذا أتت نادتهم بذلك الصوت فيسمعها شخص يدعى سعيّد بلال، وهو شخص يأكل الأطفال، فيأتي إلى البيت ويحاول تقليد صوت الأم كما فعل (المنكري) في قصة سمسمانة وينادي:
– عيالي عيالي عشيكم غديكم روح البر وارميكم فتحوا لي.
ولكن كان الصوت مختلفًا وهو صوت أجش ولا يشبه صوت الأم -وعند قص هذه القصة تحاول الجدة وهي تروي القصة تغليظ صوتها والإتيان به بشكل مخيف- ولكن الأولاد لم يفتحوا له فيغادر وتأتي بعده الأم، وتنادي بصوتها العذب الرقيق:
– عيالي عيالي عشيكم غديكم روح البر وارميكم فتحوا لي.
فيفتحون لها ويجلس سعيّد بلال على مقربة من البيت لسماع الصوت لعله يتقنه، ويأتي في اليوم الثاني بعد مغادرة الأم وينادي :
– عيالي عيالي عشيكم غديكم روح البر وارميكم فتحوا لي.
بعد أن غيّر صوته وأصبح أكثر رقة، ولكنه لا يتقن صوت الأم ويعرفه الأولاد فلا يفتحون له. ولكنه في اليوم الثالث يتمكن من تقليد صوت الأم بإتقان وينادي :
-عيالي عيالي عشيكم غديكم روح البر وارميكم فتحوا لي.
فينخدع الأولاد ويفتحون له ظانين أنه أمهم ويتفاجأون بسعيّد بلال الذي يلتهمهم الواحد تلو الآخر ويغلق الباب ويذهب.. فتأتي الأم وتنادي :
– عيالي عيالي عشيكم غديكم روح البر وارميكم فتحوا لي.
فلا يفتح لها أحد وتكرر الصوت أكثر من مرة وفي كل مرة تعيده يتهدج صوتها وتغلبها دموعها فتأتيها أمها عييوز وتخبرها أن سعيّد بلال قد أكل أولادها.. فتنطلق باحثة عنه فتصادف قطار([36]) فتسأله بصوت حزين منكسر :
– يا ذا القطار يا ذا القطار حد شاف لي سعيّد بلال في بطنه ثلاثة عيال واحد حاج، وواحد ماي، وواحد ناقة الحجاج؟
فيخبرها القطار بأنه لم يشاهده ويطلب منها أن تسأل القطار الثاني فتتلقاه باكية :
– يا ذا القطار يا ذا القطار حد شاف لي سعيّد بلال في بطنه ثلاثة عيال واحد حاج، وواحد ماي، وواحد ناقة الحجاج؟
فيخبرها إنه لم يره فيزداد حزنها ويعلو بكاؤها، فترى القطار الثالث فتناديه بصوت أكثر حزنًا :
– يا ذا القطار يا ذا القطار حد شاف لي سعيّد بلال في بطنه ثلاثة عيال واحد حاج، وواحد ماي، وواحد ناقة الحجاج؟
فيخبرها إنه شاهده نائمًا تحت شجرة، فيصفها لها، وينصحها أن تحذر من سعيّد بلال، فإذا كانت عيناه مغمضتين فهو منتبه وليس نائمًا، وإن كانت عيناه مفتوحتين فهو نائم، فانطلقت إلى تلك الشجرة فوجدته مستلقيًا تحتها وعيناه مفتوحتان فعرفت أنه نائم، فأتت بسكين وفتحت بطنه وأخرجت أولادها منه، وملأت بطنه بالحجارة وخيطتها، وانطلقت فرحة بسلامة أولادها ونجاتهم.
قصة أرض خلب خلب:
وتحكي قصة ابن السلطان الذي خرج متنزهًا في أحد مزارع والده العامرة فيلتقي ببنت فاتنة آية في الجمال والرقة، فتسلب عقله ولبه، ويحادثها وتحادثه، فيقرر الزواج بها، ويعطيها ساعته وخاتمه كهدية، ويسألها عن بلادها ليتقدم لخطبتها من والدها فتجيبه:
– ني من أرض خلب([37]) خلب لا فيها لا ماء ولا لُب.
حاول أن يستفسر منها أكثر عن بلادها فلم يظفر منها بشيء سوى هذه الإجابة. عاد إلى والده السلطان وأخبره بقصته مع الفتاة ورغبته في الاقتران بها والزواج منها، وأنه يرغب في الخروج للبحث عنها، حاول والده منعه ورغّبه في تزويجه ممن يختار من بنات القرية، لكن الولد رفض الزواج إلا من تلك البنت، وفي النهاية رضخ له والده وأعلن في البلاد أن ابنه خارج للبحث عن عروسته، وطلب السلطان من كل بنات القرية إحضار خبز الطحين لابنه ليتزود به في سفره، ولبَّت بنات القرية طلب السلطان وأرسلن خبز الطحين إليه، وكان للسلطان أخ، وهذا الأخ منبوذ من قبل السلطان، وقد طرده من قصره ويعيش وحيدًا مع ابنته في بيت قديم في مزرعته الخاصة، التي عدا عليها الزمن، وأنهكها القحط، فهي جدباء لا زرع فيها، وأرسلت ابنته الخبز المطلوب في زنبيل إلى ابن عمها السلطان، حالها حال بقية بنات القرية، وعندما علم ابن السلطان أن هذا الخبز من ابنة عمه لم يحفل به، ولكرهه لأبيها واحتقاره لها فقد ربط الزنبيل في ذيل الحمار في آخر القافلة، وانطلق في رحلته بعد أن ودّع والده وسكان القرية، وأخذ يمشي من مكان إلى مكان حتى وصل إلى قرية نائية وسأل أهلها :
– تعرفوا أرض خلب خلب لا فيها لا ماء ولا لُب؟
فأجابه أهل القرية:
-لم نسمع بها، تخبّر([38]) في القرية الثانية قد يعرفونها.
وانطلق إلى القرية الثانية حتى وصلها، وسأل أهلها مثل ما سأل أهل القرية الأولى :
– تعرفوا أرض خلب خلب لا فيها لا ماء ولا لُب؟
وكان الجواب نفس الجواب :
– لم نسمع بها، تخبر في القرية الثانية قد يعرفونها.
وأخذ يتنقل من قرية إلى قرية ومن بلاد إلى بلاد، ويسأل السؤال نفسه:
– تعرفوا أرض خلب خلب لا فيها لا ماء ولا لُب؟
وتأتيه الإجابة نفسها:
– لم نسمع بها، تخبر في القرية الثانية قد يعرفونها.
وطالت عليه المرحلة حتى أنهكه التعب وكاد ييأس من العثور على هذه الأرض، وفي أثناء تنقله ذلك كان يأكل من الخبز الذي أعطته إياه بنات قريته حتى نفد ما معه منه ولم يبق معه شيء سوى الخبز الذي أعطته إياه ابنة عمه، وتمنع عن أكله حتى أوشك على الهلاك، فأخذ الزنبيل وفتحه وأخذ الخبز منه، ولكن كانت مفاجأته كبيرة عندما عثر على خاتمه وساعته داخل الزنبيل، وهنا عرف أن البنت التي قابلها هي ابنة عمه، وإنها تشير إلى أرض أبيها القاحلة، التي منع والده عنها الماء بقولها:
– أرض خلب خلب لا فيها لا ماء ولا لُب.
فزاد إعجابه بها وبذكائها، وعاد إلى قريته وأخبر والده أنه وجد البنت التي يبحث عنها، وأنها ابنة عمه، وأنه يرغب في الزواج منها، فوافق والده السلطان وتصالح مع أخيه، وأعاد الماء إلى مزرعته وزوّج ابنه ببنت أخيه.
قصة عكنبر وعكنبرة:
وتحكي قصة أخ وأخته، الأخ يسمى (عكنبر)، والأخت تسمى (عكنبرة)، فعكنبر طلع فوق النخلة، وعكنبرة طلعت فوق العلب، وبعد أن أكل كل منهما من ثمار الشجرة التي طلع عليها نادى عكنبر أخته عكنبرة:
– عكنبرة ختي عطينا دوم([39])، ونا باعطيش تمر.
فلم تمانع عكنبرة فرمت له سبع دوم، ورمى لها بسبع تمر، ولكن عكنبر في أثناء أكله الدوم غص بـ(عيرة)([40])، ولم يستطع بلعها ولا لفظها وهنا نادى أخته عكنبرة:
– عكنبرة ختي عكنبرة ختي جيبي لي رويبة من عند مي عجيوز لشعت([41]) في حيقي عيرة.
وهنا انطلقت عكنبرة مسرعة إلى أمها عجيوز لإحضار الروبة:
– مي عجيوز مي عجيوز عطيني رويبة، والرويبة بغيتها لعكنبر خوي لشعت في حيقه عيرة بايموت.
وهنا ترد عليها أمها عجيوز:
-جيبي لي ماء.
وتنطلق عكنبرة إلى الماء فتجد الكلب داخل الماء فتناديه :
– يا ذا الكلب يا ذا الكلب خرج من الماء، والماء بغيته لمي عجيوز، ومي عجيوز باتعطيني رويبة، والرويبة بغيتها لعكنبر خوي لشعت في حيقه([42]) عييرة بايموت.
لكن الكلب يرفض الخروج من الماء:
– جيبي لي سلاء([43]) من عند البقرة.
وتذهب عكنبرة مسرعة إلى البقرة وتخاطبها بصوت حزين:
– يا ذه البقرة يا ذه البقرة عطيني سلاء، والسلاء بغيته للكلب، والكلب با يخرج من الماء، والماء بغيته لمي عجيوز، ومي عجيوز باتعطيني رويبة، والرويبة بغيتها لعكنبر خوي لشعت في حيقه عييرة بايموت.
والبقرة ترفض إعطائها السلاء:
– جيبي لي شير من عند المشيّرات.
وتنطلق عكنبرة إلى المشيّرات وتخاطبهن بصوت متهدج:
– يا ذيه المشيّرات يا ذيه المشيّرات عطنّي شير، والشير بغيته للبقرة، والبقرة باتعطيني سلاء، والسلاء بغيته للكلب، والكلب بايخرج من الماء، والماء بغيته لمي عجيوز، ومي عجيوز باتعطيني رويبة، والرويبة بغيتها لعكنبر خوي لشعت في حيقه عييرة بايموت.
ولكن المشجّرات لم يتأثرن بتوسلات عكنبرة، ويطلبن منها إحضار مهارم لقطع الشجر :
– جيبي لنا مهارم([44]) من عند الحداد.
وتنطلق عكنبرة حتى تصل عند الحداد، وتردد بصوت باكٍ:
– يا ذا الحداد يا ذا الحداد عطني مهارم، والمهارم بغيتهن للمشيّرات، والمشيّرات بايعطنِّي شير، والشير بغيته للبقرة، والبقرة باتعطيني سلاء، والسلاء بغيته للكلب، والكلب بايخرج من الماء، والماء بغيته لمي عجيوز، ومي عجيوز باتعطيني رويبة، والرويبة بغيتها لعكنبر خوي لشعت في حيقه عييرة بايموت.
ولكن الحداد يرد عليها:
– جيبي لي صخر([45]) من عند الخشبة.
وتنطلق عكنبرة حتى تصل إلى الخشبة وتناديها بصوت حزين باكٍ:
– يا ذا الخشبة يا ذا الخشبة عطيني صخر، والصخر بغيته للحداد، والحداد بايعطيني مهارم، والمهارم بغيتهن للمشيّرات، والمشيّرات بايعطنِّي شير، والشير بغيته للبقرة، والبقرة باتعطيني سلاء، والسلاء بغيته للكلب، والكلب بايخرج من الماء، والماء بغيته لمي عجيوز، ومي عجيوز باتعطيني رويبة، والرويبة بغيتها لعكنبر خوي لشعت في حيقه عييرة بايموت.
وهنا ترق لها الخشبة وتعطيها صخر، والصخر تعطيه الحداد، والحداد يعطيها مهارم، والمهارم تعطيها المشجرات، والمشجرات تعطينها شجر، والشجر تعطيه البقرة، والبقرة تعطيها سلاء، والسلاء تعطيه الكلب، والكلب يخرج من الماء، والماء تعطيه أمها عجيوز، وأمها عجيوز تعطيها رويبة فتحملها لأخيها عكنبر فتجده قد ماااات.
وفي الختام نتمنى أن نكون قد وفقنا في جمع هذه المادة، ولعلها تكون خطوة في توثيق القصص الشعبية بالمشقاص، والتي هي جزء من التراث الحضرمي الخالد.
1) الرويبة: تصغير لكلمة روبة، والروبة لبن يوضع فيه روابة من الليل حتى يتخمر، ثم يتم تحريكه (مخضه) بعد وضعه في (المثري) حتى يصبح رائبًا. [1]
4) كانش: كأنك يلقب حرف المخاطبة الكاف في اللهجة إلى حرف الشين، والأمر نفسه في بقية الألفاظ ملابسش، بنش، يغطيش، ختش، فهي ملابسك، ابنك، يغطيك، أختك… إلخ.
6) كويه: ضعي له الكي وهو الوسم بحديدة حامية.
12) الوليد: تصغير كلمة ولد.
13) مشي حصل له: لم يحدث له شيء.
14) لا قده طالع : وقت طلوعه وصعوده.
15) قوارير: بقايا الزجاج المتكسر والذي له حواف حادة.
16) الرقاد: السلم أو الدرج الذي يصعد به إلى أعلى.
17) سلالي: جمع سلاه وهو الشوك.
19) وراش: ما الذي أصابك أو ما الذي ألم بك.
20) قنسور: من أجزاء البسر والتمر البسيطة، وهو الذي يأتي في أعلى الثمرة مثل الغطاء والذي يربطها في العذق.
21) عا ريح إنس: أشمّ رائحة إنسان.
26) يا ذه: بمعنى (يا هذه) فالياء حرف نداء، وذه اسم إشارة للمؤنث القريب، وتحذف (هاء) التنبيه في اللهجة.
27) سحفة: وعاء من الفخار يوضع فيه الطعام عادة.
28) جفنة: أكلة شعبية مشقاصية، وهي من طعام الذرة مع الحليب وتصبغ بسليط السمسم أو السمن البقري عادة، الذي يسمى في المشقاص بـ(الدهن).
29) وين بغيتي: إلى أين أنت ذاهبة.
30) الطاهشة: تطلق في اللهجة على الثعبان العظيم، أو أي حيوان عظيم مفترس.
31) الوعال: جمع وعل، وهو جنس من المعز الجبلية.
36) القطار: القافلة، وهي مجموعة الإبل مقطورة بعضها إلى بعض على نسق واحد.
41) لشعت: وقفت في حلقه فغص بها.
43) سلاء: هي مشيمة الحيوان، والتي تخرج بعد الولادة.
44) مهارم: جمع مهرم ويطلق عليه البعض (شريم)، وهو أداة مسننة لقطع الحشائش.