نقد
أ.د. عبدالله حسين البار
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 78
رابط العدد 15 : اضغط هنا
فاتحة المتن:
من آليات النقد الإجرائية التي علّمتناها مناهج النقد ما بعد اللسانيات الوقوف على بنية العنوان في النص وقراءة خطابه وتشريح مكوناته اللغوية لجلاء دلالته واستكناه محتواه.
وليس من ضيرٍ، ونحن في مقام النقد ونقده، أن نعرض للعنوان المتدلِّي كالثريّا من أعلى صفحات هذه القراءة في نقد النقد، وأعني به “التجريد في دائرة الضوء”.
وهو تركيب اسمي يتكون من شقين، أولهما دال (التجريد)، وهو في موقع الابتداء، وله معناه الاصطلاحي في تراثنا البلاغي؛ إذ يقصد به اشتقاق آخر من الذات لتخاطبه أو تتحدث عنه بوصفه ذاتًا مستقلة عن (أنا) المتكلم، مما يتيح مجالًا للتأمّل والتعبير عن المكنون غير المضنون به على أهله دون تنفّج وادعاء. وهو ما ستسعى هذه القراءة إلى جلائه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
وثانيهما جملة ظرفية بلغة ابن هشام في (المغني)، أو بمنظور د/ مهدي المخزومي في سعيه لتجديد مكونات النحو العربي وإعادة تشكيلها. وهي هنا في مقام الخبرية للمبتدأ. وهذا تركيب شاع استخدامه في لغة الإعلام المكتوب والمسموع والمرئيّ، ولم يجد صُنّاع الأدب ومنتجوه ضيرًا في اقتراضه من عالم الإعلام بصوره جميعها، وتوظيفه في سياقات الأدب ونقده. وهنا يبدو المقصود من ذلك التركيب يتضح معنًى، ويبين دلالةً.
فالكاتب والمكتوب عنه، المتحدِّث والمتحدَّث عنه ذاتٌ واحدةٌ، غدت في سياق الكتابة والحديث ذاتين متراسلتين متباعدتين، مؤتلفتين مختلفتين، ومن هذا وذاك ينشأ التكامل، ويتمّ الانسجام.
والمكتوب عنه -هنا- معرفةٌ أو لعلّه كذلك. أمّا الكاتب فنكرةٌ، ومن عجبٍ أن تتولى (النكرة) جلاء صورة (المعرفة) والإخبار عنها، لكنّ واقع العلاقة بين الذاتين أمكن من ذلك الجمع بين المتناقضات، ويسرّ الائتلاف بين الأضداد، وقبل هذا وبعده كان لبنية (التجريد) كما جلاها شعراء العربية في أشعارهم من الجاهلية حتى عصورٍ متأخرة في تاريخ الإبداع الشعريّ عند العرب، وكما رصدها من بعد علماء البلاغة العربيّة، فضلُ الإمكان من تسهيل الجمع بين الذوات ورفع الحجب المانعة من الاتصال بينها.
فما الذي تكنّه الذاتُ الكاتبة من وقائع في تجربة الكتابة النقديّة عند الذات المكتوب عنها ههنا؟ وكيف ستجلوه منفصلًا وغير مختلط؟
وهذا ما سندركه حين نقلب الصفحة لنقع على المكتوب، وهو المتن الذي يلي بنية العنوان.
المتن:
يدرك أهل البصائر أنّ المصائر لا يعيها الإنسان من منشأ وقائعها وبدء حدوثها، ولكنها تتنامى مع حركة الحدث حتى تتضح الغاية ويبين المنشود.
تلك جبرية لا تنكر لكنها لا تخلو من اختيار، يجلوها عرض ما حدث من وقائع، وما تجلّى من أفكار.
لم تكن الكتابة (إنشاءً ووصفًا) هدفًا يقصده د/ البار حين أولع بالقراءة وتعلق بالكتاب.
كانت القراءة مقصودة في ذاتها، ووجد فيها لذاذةً وإمتاعًا يؤنسه حين يعز الأنيس، ويستظلّ في فيئها كلّما ازداد قيظُ الحياة اشتعالًا، وكلّما ازداد لصوقًا بالكتاب زاد نأيه عن لهو الصِّبا وعبثه حتى إنه لينسى وقائع صباه كلّها ولا يذكر من أيامه إلا الساعات التي قضاها حاملًا كتابه كائنًا ما كان اتجاهه ومضمونه ومحتواه. لكنه كان -ولم يزل- يجد في الشعر مبتغاه، ويخفّ إليه كلّما عثر على شيء منه منشورًا في كتاب أو جريدة أو مجلة.
كانت القراءة عامة وقراءة الشعر خاصة تنسج له عوالم من التخييل يهيم بها، بل وتملأ وجدانه بوقائع لا يستطيع الواقع المعيش صنعَ أمثالها، أو هكذا خيّل له يومذاك.
اقتصرت ذائقته للشعر على بعده الإيقاعي فازدهاه الترنُّم بها، ثم صار يعي شيئًا من خصائصه التركيبية والتخييلية، وتعلق بالموازنة بين قول الشاعر في هذا المعنى أو ذاك وقول آخر من أمثاله فيهما، لكنه لم يكن يدرك أن هذا وذاك ذوا صلة بما سيعرف أنه (النقد). فلقد غابت اللفظة/ المصطلح عن وعيه، ولم يكن منشغلًا بها، وتركز همه على إبداع القصيدة؛ فقد بدأ يحكم صياغة الأوزان ويميّز مكوناته، وأخذت تجيش في نفسه مشاعر وأحاسيس سعى لأن يخرجها في هيئة تخييلية كالتي يقرؤها في دواوين الشعراء، وكان حسبه أن يعدّ شاعرًا مذكورًا في تاريخ الحركة الشعرية في هذه البلاد ولا غير. أما أن يصير إلى شيء سواه فأمرٌ لم يجر في حسبانه قطّ.
وهذا لأنّ المصائر كما يقول أهل البصائر لا يدركها إلا العليُّ الكبير.
في أواخر سنوات السبعينيّات من عقود القرن العشرين التحق بالجامعة. كان ذلك حدثًا فاصلًا بين عهدين في حياته:
عهدٍ كان الخيالُ سلطانَه، يدير الأمور ويصرفها على ما يحب ويشتهي.
وعهدٍ غدا الواقع مهيمنًا على مواقفه ورؤاه، بكلّ جحيمه الذي قد يستحيل نعيمًا، ونعيمه الذي يصير جحيمًا.
بيد أنّه أدرك أن ما هيّأه له الواقعُ المعيشُ هو الأصل، وسواه فرعٌ له أو عنه مثلما تشاءون.
وجد أن الحبيبة التي يلقاها على الأرض في قاعة الدرس أو ساحة الكلية أسمى أثرًا وأمتع وقعًا من تلك التي ينسجها خياله من قصائد الشعراء ودواوينهم.
وجد أن الحنين إلى الأم والأخ والأخت أشدّ لذعًا في النفس من حنين يتوهمه ويفترض وجوده.
وجد أن تجدّد المرائي وتنوّعها لتغيّر المكان واختلاف هُويّته يمنح الخيالَ انفساحًا ويزيد من دهشته كلما ازداد له اكتشافًا.
وأمورٌ أخرى مثل تلك كانت تفد إليه تباعًا، وتغزو تفكيره بغوامضها التي لم يجد سبيلًا لفكّها إلا بمزيد من القراءة في كتب النقد والدراسات الأدبية، ومن هنا بدأ “النقد” يظهر وأخذ يشقّ طريقه إلى وجدانه، مما أتاح للقلق أن يهتدي إلى نفسه وعقله، ولا سبيل للخلاص منه إلا بمزيدٍ من الإيغال في الدراسات النقدية من كلّ اتجاه فلا فرق في حسبانه يوم ذاك بين اتجاه واتجاه ما دامت تلك تبصّره بحقيقة الإبداع وتحدّد له هويته المنشودة. واختلط أعلام النقاد في القرن العشرين في وجدانه، كان العقاد يحاور حسين مروة، وميخائيل نعيمة يدنو من لويس عوض، ومحمد مندور على مقربة من غالي شكري ورجاء النقاش، وتربّع مارون عبّود إلى جوار محمد عبدالقادر بامطرف وحسن عزعزي (أوسان) وفيصل الصوفي وعبدالله سلّام ناجي وغيرهم من كتاب مجلة (الحكمة) وآخرين من أمثالهم يكتبون في مجلة (الثقافة الجديدة) وبعض الصحف السيارة يومذاك كـ(الثوري) و(14 أكتوبر) و(الشرارة).
وبدأ عقل الناقد ينافس قلب الشاعر فيه حتى استطاع أن يباعد بينه وبين الشعر، وأن فرحه بكتابة مقالةٍ عن ديوانٍ يفوق ابتهاجه بكتابة قصيدة.
لكن، لا بد للنقد من مجال، ولا بد في المجال من متعيّن يوضع في دائرة النقد، فآثر نقد الشعر مجالًا، وارتضى بالقصيدة متعيّنًا يصبّ عليه ما يستطيع من نقد أمكنت منه ثقافته التي حصّلها في ذلك الوقت. وبدأ التجريب. نشر الأستاذ علي عمر الصيعري قصيدة في صحيفة (الشرارة) قرأها صاحبنا ووجد فيها مغامز، فكتب عن ثلاثة منها وصاغها في مقال نشرته (الشرارة) نفسها. وأخرج الأستاذ الشاعر عمر محفوظ باني قصيدة يعارض بها قصيدتين للشاعرين عمر حسين البار وعنوانها (أشلاء الفارس القديم) وسعيد محمد دحي وعنوانها (طلائع الفارس المنتصر)، فوجد فيها ما يحرّك قلمه ليكتب عنها منتقدًا، ويجد المقال سبيله لينشر في مجلة (آفاق) التي ظهرت في ثمانينيّات القرن الماضي، وكان ظهورها مواكبًا لصعوده الأدبيّ في مجال النقد والدراسات الأدبية. وفي (الشرارة) قرأ قصيدة للشاعر نجيب سعيد باوزير فنقدها، وفي (آفاق) وجد قصيدة للشاعر والمؤرخ الكبير الأستاذ علي عقيل بن يحيى في رثاء الشاعر حسن بن عبدالرحمن بن عبيدالله فلم يتوانَ عن نقدها، ونشرت (آفاق) للشاعر عبدالعزيز الصيغ قصيدة (الدرب) فكتب عنها صفحاتٍ تنتقدها تجربةً وصياغةً، منطلقًا في كلّ ذلك من أنّ النقد بحثٌ عن مظان الضعف ومكامن السوء، أما صور الإجادة والإحسان فحسبها القول المجمل والحكم العام.
وأيًّا كان الموقف من ذلك النقد وما اتسم به من حدةٍ وقسوةٍ فإنّ باعثهما كان الحرص على السموّ بالإبداع وليس شيئًا آخر سواه؛ فإنّ له في تاريخ الفكر النقديّ مشابهَ تمتد منذ المرزباني في كتابه (الموشح) لتصل إلى العقاد والمازني في كتابهما (الديوان). ولا أظنّ القراء قد غفلوا عن كتاب (على السفود) وما اشتمل عليه من نقدٍ لاذعٍ ومؤلمٍ لشدة قسوته التي تطلّ على القارئ من صفحة العنوان.
حين توالت مقالاته في النقد على ذلك المنحى الذي يهتم بالمآخذ دون سواها قرّ في أذهان من قرأوها أن صاحبها فظٌّ غليظُ القلب فانفضّ كثيرٌ من حوله. وعاب عليه آخرون إيغاله في نقد المفردات والتراكيب دون تبصّر بالمضامين التي تحتويها القصيدة، ورأوا في ذلك صورةً مكرورةً من النقد البلاغيّ الذي عرفه العرب في قديم الزمان وتجاوزه العصر الحديث. وغمزه فريق ثالث بالنأي عن ربط الظاهرة الإبداعية بالمكونات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومواقف الشعراء منها، وتصنيفهم حسب انتماءاتهم تلك لا حسب هوياتهم الإبداعية.
وهنا وجبت الوقفة للبحث عن منظور للنقد يجب الانطلاق منه، فقادته المصادفة لـ(زمن الشعر) وهو كتاب أدونيس الأول في مجال النقد. وكان الكتاب خصبًا في أفكاره، ثريًّا في منظوره للشعر وقضاياه، جديدًا في جلاء صورته وتحديد تعريفه، وأحسبه ما يزال كذلك لكلّ من أراد وعيًا عميقًا بالشعر ونقده أو ألقى السمع وهو شهيد. لقد وجد فيه صاحبنا بغيته فأوغل في البحث عن مؤلفات أدونيس الأخرى، من مثل: (مقدمة للشعر العربي)، و(الثابت والمتحول) بأجزائه المتعددة، و(فاتحة لنهايات القرن)… إلى آخر ذلك مما أطلعه عقد الثمانينيّات من كتب أدونيس. ولم تكن كتابات إحسان عباس عن (فن الشعر)، و(اتجاهات الشعر المعاصر) وما أشبهها ببعيدة عنه، وصار وعيه بوجوب قراءة نقاد، مثل: علي الراعي، ومحمد غنيمي هلال، ومحمود الربيعي، وعز الدين إسماعيل، وسهير القلماوي، وجلال العشري، وشكري عياد، وسيد حامد النساج، وخالدة سعيد، ويمنى العيد، وزكي نجيب محمود، وآخرين من أمثالهم أوثق وأعمق وأبعد غورًا. وبدأ يقرّ في وجدانه أن النقد عملية ذهنية فكرية إبداعية لا تقل شأنًا عن ممارسة الإبداع الفني إنشاءً، ومزاولة الكتابة في قضايا الفكر على كلّ صوره السياسية والاجتماعية والفلسفية.
هنا كان لا بدّ لصاحبنا من مراجعة ذاته ليقف على منطلقاتٍ ينطلق منها في نقده، ومرتكزاتٍ يقيم عليها بناءه. فكانت له من ذلك جملة من الرؤى النقديّة كان يراها صالحة في حدود ما أمكنته ثقافته من ذلك.
منها مثلًا أن النص هو صاحب الولاية في عالم النقد والأدب، وليس لحياة الشاعر وتكوينه النفسي والاجتماعي كبير أثر في فهمه والوعي به وإدراك مقاصده.
ومنها أن قيمة النص في قدرته على تجاوز الموجود وتخطيه إلى المنشود.
وصح له أن وقوف الشاعر بالقصيدة عند حدود ما هو كائن يقصّر بها عن الصعود إلى منازل ما ينبغي أن يكون. وقام تقييمه للشعراء على وحي من ذلك المنظور.
ومنها أن إجادة بناء الشعر وإحكام نسجه هما من أسباب رقيّ القصيدة وسموّ منزلتها، فاهتمّ بالنظر في الصياغة غير مبتعد عن أبعادها الموضوعية والمضمونية قدر المستطاع.
وأشياء أخرى قد يقع عليها من تتهيأ له فرصة قراءة ما كتب صاحبنا في سنيّ عقد الثمانينيّات من القرن العشرين.
في ضوء ذلك الوعي النقدي كتب دراستين اعتزّ بهما كثيرًا، واحدة عن (المظاهر الرومنسية في شعر صالح بن علي الحامد)، ألقاها محاضرة في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع المكلا، جلَّى فيها صور الرومنسية في شعر الحامد، وقد نسبه بعض النقاد إلى (الكلاسيكية)، وأثبت بالدليل ريادة الحامد لهذا التيار الرومنسي في الشعر اليمني قاطبة؛ إذ سبق شعراء كُثْرًا إليها، وقد كان بعض النقاد ينسبون ذلك الدور للشاعر لطفي أمان، ولم يكن الرائد فيه.
ومن عجبٍ أنه لقي عنتًا في إذاعة المقالة ونشرها يومئذٍ، ولم يتأتَّ له مشتهاه إلا بعد لأيٍ لبواعث لا يهم ذكرها في هذا المقام، ثمّ فاجأه احتفاء العائدين من حضور فعاليات أحد مؤتمرات الاتحاد، يحملون دراسة عن (الحامد رائد الشعر الحديث) للأستاذ عبدالله محمد الحبشي، محتفين بها ومشيدين بما أنجزه فيها، ولم يذكروا أن صاحبنا كان أول من نفض الغبار عن شعر الحامد، وذكّر به بعد أن غاب عن أذهان الناس ردحًا من الزمن، ولكن رعى الله صاحب المثل الحضرمي عن (الشاة) التي تفرح (بالتيس الغريب).
أما دراسته الثانية فكانت عن (الغموض في الشعر الحديث حسنةٌ أم سيئةٌ)، ولقد قصد منها الكشف عن ثلاثة أنماط من الشعر متخالفة الأنماط، نمط سهل وواضح مباشر في عرض تجربته وجلاء مواقفه ورؤاه، وهو يرفضه. ونمط مستغلق لا تستطيع إدراك مغازيه ومراميه فيعزّ عليك النفاذ إليه لتعقيد تراكيبه بل واضطرابها، وهذا مثل ذلك يرفضه ويأبى على الشعراء الوقوع فيه، ونمط ثالث غامض يتطلب التفاعل معه والانفعال به قدرًا من الوعي ومن الثقافة ومن الدربة بقراءة الشعر ونقده، وهذا في السمت الأعلى في عالم الشعر والتخييل. وخلص إلى أن الغموض في القصيدة نابع من طرائق بنائها وآليات تشكيلها، ولم يصطنعه الافتعال. وإن القصيدة الغامضة ليست نتاج الحداثة ولكنها موجودة في تاريخ الشعر العربي منذ امرئ القيس وزهير مرورًا بأبي نواس وأبي تمام ومن شابههم من الشعراء المبدعين.
هنا بدأت سنوات عقد الثمانينيات في الانقضاء، ومعها انطوت صفحة من تجربة الكتابة عند د/ عبدالله حسين البار، لتبدأ صفحة جديدة في سنوات عقد التسعينيّات امتازت عن سابقتها بعمق الوعي بالنقد ومناهجه وآلياته الإجرائية، وبغاياته ومقاصده ومداخله، وتوثقت عمقًا نظراته النقدية وآراؤه في الشعر والشعراء، وما تماسَّ معه من أجناس الأدب الأخرى كالقصة والرواية المسرحية ونقد النقد.
أقبل عقد التسعينيّات من القرن العشرين برؤى نقدية غير التي عرفتها الساحة الثقافية في ما سلف من عقوده الأولى، وبمناهج مغايرة في منظومتها المعرفية عن التي كان النقاد يتوسلون بها لقراءة الأدب شعره ونثره، بل ودخل التعديل بعض المناهج النقدية ما قبل اللسانيات، كالمنهج الماركسي، والمنهج النفسي.. وما إلى ذلك.
ولعل الجوهري في تمايز مناهج النقد ما قبل اللسانيات من مناهج ما بعد اللسانيات هو الاختلاف في طبيعة النقد وآلياته الإجرائية.
كان النقد محصورًا في فعلي أمر محدّدين، هما: (صَنِّفْ واحْكُمْ)، ولذلك كانت (المعيارية) خاصيته، وتبارى النقاد في التصنيف والتقييم ولم يتراجع التقويم حتى وإن كان (المنقود) عبقريًا في إبداعه مثل توفيق الحكيم. [راجع مقالة حسين مروة عن مسرحية (الطعم لكلّ فم) للحكيم لترى كيف تستأسد الإيدولوجيا في تقويم المبدعين، وتقسرهم على الأخذ بمنطلقاتها السياسية والاجتماعية دون اعتبار لرؤى الأديب للحياة ومواقفه منها].
وهذه المعيارية سمة المنهج النفسي كذلك، وتقييمُ الأدباء في ضوئه مسألةٌ مطلوبةٌ، ومن هنا بدا (المازني) عند جورج طرابيشي أوديبيًا، وليس ببعيدٍ عنه (الحكيم). وتستحيل إيديولوجيا الرجولة عند (حنا مينا) إلى عقدة تثوي في أعماق الأديب كما يحلّلها طرابيشي نفسه في كتابٍ من كتبه.
واستخدام المنهج على ذلك النحو وبتلك الصورة من التطبيق يجعل الناقد ومنهجه شبيهًا بما قالوه عن (بروكست وسريره)؛ فلقد ذكروا أنّ لبروكست هذا فندقًا في وسط الطريق الذي يمر به الراحلون من مدينة إلى مدينة، ولا بدّ لهم من الاستراحة في فندقه ليستأنفوا رحلتهم إلى وجهتهم، وليس هذا بغريبٍ وإنما الغرابة تتجلى حين يلج المسافر إلى غرفة الفندق ففيها سرير بمقياسٍ محدّدٍ، وشرط بروكست أنّ من يرقد فيه ينبغي أن يسقط داخله ولا يزيد عنه طولًا ولا قصرًا، وهنا المعضلة، فالناس إما طويل كالخشب أو قصير كالذهب كما يقولون في الأمثال، أما في قانون بروكست الظالم الطاغية فلا طولٌ ولا قصرٌ وإنما اعتدال على قدّ السرير ولا غير. ومن طال قليلًا قُصَّ ما طال منه بمنشار، ومن قصر قليلًا مُطَّ ما قصر منه بآلة تمكنه من الاستواء على قَدّ السرير.
جميع المناهج ما قبل اللسانيات كانت صورة مناظرة لأسطورة بروكست وسريره، ولم يخلُ النقاد السائرون على هدى تلك المناهج من جور وجبروت استسلم له المبدعون، ولم ينجُ من تلك السمة نقاد ما قبل اللسانيات إلا من رحم ربي وقليلٌ ما هم، ومن أولئك القليل بعض المتأثرين بمنهج النقد الجديد في أمريكا كالدكتور إحسان عباس، ولطيفة الزيات، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمود الربيعي، أو بعض من أدركوا أن منهجًا كالمنهج الماركسي يجدي نفعًا في تفسير نشوء الظواهر الإبداعية، وتحليل حركتها الاجتماعية، وتعليل مظاهر فنائها من بعد، وهو أدخل ما يكون في ما عرف من بعد باجتماعية الأدب، وهو ما وجد أمثلة له في كتب الدكتور غالي شكري، مثل (الماركسية والأدب، شعرنا الحديث إلى أين؟ سوسيولوجيا النقد العربي الحديث…. إلخ).
هذه النظرة الفاحصة الناقدة ما كان يمكن لصاحبنا الإحاطة بها على نحوٍ من ذلك العرض اليسير فيما سلف من سطور، وإلا فهي أوسع مدى وأعمق غورًا، لولا ما ألمَّ به من مناهج النقد الأدبي ما بعد اللسانيات.
وهنا أضحى النقد قراءة، فنأى عن التصنيف والحكم وعن التقييم والتقويم، وغدا وصفًا للموجود في النص بعد تشريحه وإعادة تركيبه، وصارت للنص مكانة تفوق ما كانت لمنتجه ومؤلفه في النقد القديم، فتوارى المؤلّف بعيدًا عن الوعي، حتى لا أقول بموته كما قال بارت من قبل، فتوثقت العلاقة بين ذهن المتلقي وجسد النص الذي كونته لغة منبثقة من (اللسان) فتميزت بخصائص أسلوبية وطرائق بنائية وبتشكيل عَلاميّ مخصوص، فانماز نصٌّ من نصٍّ.
وإذا كان الأدباء جميعهم ينهلون من معطيات (اللسان) ومكوناته وعلومه وما به يصنعون نصوصهم فإنّهم يتخالفون ويتغايرون، لا لاختلاف أمزجتهم وأهوائهم وتركيباتهم الذهنية والنفسية ولكن لاختلاف طرائقهم في تشكيل العالم باللغة، ولاختلاف نصوصهم فيما بينها في ذلك التشكيل. يستوي في ذلك أن يكون الأدب شعره ونثره موغلًا في القدامة أو مستغرقًا في الحداثة. فقصيدة (في بيتها العامر) تختلف في طرائق بنائها عن قصيدة (لص تحت الأمطار)، وعن قصيدة (سندباد يمني في مقعد التحقيق)، على الرغم من انتظام النصوص الثلاثة في بناء سردي. لكن طرق البناء تتغاير لتغاير العناصر المشكلة لبنية النص وما ينشأ عن ذلك من علاقاتٍ بينها، وطرائق تكوينها اللغويّ وأشكال التعبير فيها متخالفة فيتميز كلّ نصّ منها بخصائص في الأسلوب ولا تُدني نصًّا من نصّ، ولا تطبعهما بطابع واحد. ومن هنا غدا مفهوم الشعرية متحركًا يحكمه واقع النص ولا يلزمه منطوق الحكم.
اندهش صاحبنا كثيرًا حين أدرك قدرات هذه المناهج (اللسانية) في تحليل لغة النص وجلاء شعريته، ولأن لها بعد نفورٍ؛ إذ وجد من أحسن عرضها وأجاد تطبيقها فتكشف غامضها، بانت له أبعادها فمخر عبابها غير هيّاب، واستخدم منها ما استخدم لتحليل ما تخير من نص أدبي قديم أو حديث.
ولقد بان له أن في الإمكان الانفراد بمنهج واحد من هذه المناهج دون خلطه بسواه منها، كما أن بالإمكان الجمع بين آلياتها الإجرائية في سربال منهج واحد، منها ما تطلّب النصّ ذلك واستدعته مكوناته اللغوية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الصنيع يحتكم إلى شخصية الناقد وثقافته وخبرته العميقة بأسرار النصوص وخباياها الإبداعية.
وظاهرٌ معلومٌ ما أنجزه صاحبنا في هذا المجال، لكنّ الخافي المجهول هو كيفية الإنجاز ومداه.
فهو تارةً يعمد إلى منهج بعينه يعيد به قراءة النص قديمه وحديثه مثلما فعل في قراءته للمعلقات العشر في ضوء منهج (التأويل التكاملي) للنص، وهو منهجٌ يقوم على أساسٍ من التفاعل بين النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، وهي بالتحديد هنا معطياتٌ من علوم النفس والاجتماع واللسان. وقد وضع له تنظيرًا متكاملًا الكاتب الفرنسيّ (جان لوي كابانس)، وأفاض في تطبيقه مُحكِمًا ومُجِيدًا الدكتور فهد عكام. فقرأ صاحبنا القصائد العشر في ضوء ذلك المنهج، وخلص إلى نتائج لعله لم يكن مسبوقًا إليها، وذلك بفضل ما أمكنه المنهج منه وأوصله إليها.
ثم حلا له استخدام المنهج الأسلوبي في قراءة شعر امرئ القيس بن حجر الكندي، وظفر بما لعله خصائص مفردة لشعر شاعر سبق شعراء العربية إلى أشياء ابتدعها وسار العرب عليها من بعده.
وكانت الدراستان سبيله إلى التأمل في ظواهر الشعر ومكوناته، وإعادة القول فيها في ضوء ما استجدّ من مناهج، فكان كتابه عن (الصورة الفنية في القصيدة الجاهلية) منهجًا وتطبيقيًّا في آن، فامتد به إلى معطيات علم البيان كما ورثناه من علوم البلاغة عند الأقدمين من السكاكي إلى صاحب التلخيص، ووقف به عند شعراء العصر؛ ليجلو طرائقهم في الرسم بالكلمات، فصحّ له التحليل، واستقام النقد.
لكنّه في غمرة انشغاله بالاطلاع على مناهج النقد ما بعد اللسانيات وتطبيقها على النصوص المتخيرة اكتشف أنّ المنهج الواحد وإن استفرغ طاقته وجهده في تحليل النص لا يقوى على الكشف عن أسراره وخباياه؛ إذ تتبقى مظانُّ منه لا يستطيع هذا المنهج وحيدًا منفردًا الوصول إلى أغوارها وجلاء أبعادها مما اقتضى الاستفادة من الآليات الإجرائية لمناهج أخرى تضاف إلى منهجه المعتمد والمتكأ عليه في تحليل النص. هكذا قدر له أن يجمع خطوط الدلالة إلى تجليات المتكلم في النص، وأبعاد الموضوع إلى التناص، وقراءة العنوان إلى مكونات الصياغة عند تحليله نصوصًا من قديم الشعر وجديده، وله في هذا تجربتان ضمهما أخيرًا في كتاب بعنوان (بوح البنفسج والعرار)، وهما بحثان في قراءة نصين: أحدهما حديث، والآخر قديم. أما النص الحديث فقد طبع من قبل منفردًا في كتيبٍ مستقلٍّ بعنوان (في أسلوبية النص)، أما القديم فقد جاء بعض فصول كتابه الموسوم (دفاتر في تحليل النص). وقد رأى أن من كمال المنظور النقديّ لطبيعة المنهج المتداخل الأبعاد هنا أن يجمع بينهما في كتابٍ واحدٍ فيكون لهما حظُّ العاشقين على فراشٍ واحد.
وهنا أودُّ الكشف عن هوية المشروع النقدي للدكتور البار وما أنجزه في حدود ذلك المشروع. فلقد ميّز في إنتاجه بين أكاديمي جليل وثقافي جميل، فتراوح منجزه النقديّ بين أبحاثٍ يغلب عليها الطابع الأكاديمي وتتحكم فيها آليات البحث العلمي وإجراءاته، ومن ذلك مثلًا دراسته عن (البداوة والحضارة في شعر النابغة الذبياني)، ودراسته عن (الائتلاف والاختلاف في البنية الوزنية للقصيدة العربية من نسق القصيدة إلى نسق الموشح)، ولها بقية قيد الإنجاز. ودراسته عن (البنية الإيقاعية في القصيدة الحمينية)، ودراسته عن (شعر البار بين آراء الدارسين ومنطوق الكلام)،… إلى آخر ما هنالك. وبين قراءاتٍ في دواوين الشعراء وقصائدهم لتسهم في جلاء صورة الحركة الثقافية في المجتمع الحديث، ومن ذلك قراءاته المتعددة في شعر البردوني، وشعر الحامد، ومحمد عبده غانم، والزبيري، وجرادة، ولطفي أمان، والمقالح، وعمر البار، وخالد عبدالعزيز، وأحمد العواضي، ومحمد هيثم، وعبدالعزيز الصيغ وآخرين من أمثالهم، وقد جمع كلّ ذلك في كتاب يزمع نشره بعنوان (وجوه شعرية في مرايا النقد).
أما كتابه (بعيدًا عن الشعر.. قريبًا من النثر) فغيري وغيره جديرٌ بالكلام عنه، والإشارة إلى محتواه بعد أن توفر على قراءته جزءًا فجزءًا، ولعلي في حلٍّ إذا خصصت في هذا المقام اسم الدكتور عبده عبدالله بن بدر بالذكر؛ فقد قرأ صاحبنا كأعمق ما يمكن أن يقرأ ناقدٌ ومنهجه، فإنه جهينةُ المقام كما يقولون.
لكنني أشير هنا إلى ما كتبه عن شعر الغناء الحضرميّ من خلال أعلامه كالمحضار، وحداد، ومستور، والمفلحي، والكاف، والكالف، يعدّ صورة من هذا المنجز الثقافي النائي عن قيود الأكاديمية وسطوتها القوية.
وختامًا أجمل ما عسى أن يكون ملخصًا للآليات الإجرائية والمداخل النقدية في الكتابة عند الدكتور البار.
ففي حدود المنهج ما يزال للمنهج الأسلوبي هيمنته على تفكيره وتحريك نشاطه الذهني عند قراءة النص الشعري دون سواه، أما حين يعمد إلى قراءة قصة أو رواية أو مسرحية فإن مكونات تقنيات السرد في المنهج البنيوي تكون أظهرَ حضورًا وأكثرَ عونًا في جلاء شعرية النص.
لكن ذلك لم يكن بمانعه من:
1- السعي إلى إعادة النظر في مقولاتٍ وأحكامٍ أطلقها نقاد ما قبل اللسانيات الحديثة وفق منظوراتهم النقديّة حينذاك وتفاعلوا معها، فنقض مقولة الأغراض في الشعر القديم حين نظر إلى بناء القصيدة وتحديد بنيتها، ورفض الحكم على شعر البردوني بأنه كلاسيكي جديد من خلال تحرير المصطلح من الدقة وعدمها، ووصف طرائق الشاعر في تشكيل لغة نصّه، ولم يقبل بكثير من أحكام الدارسين العرب لطبيعة الصورة في القصيدة الجاهلية فحرر ذلك وأمثاله في كتابه المذكور سلفًا.
2- استخدام بعض الآليات الإجرائية التي جرى شيوعها في نقد ما يسمى بما بعد نقد الحداثة، كالتناص، ودراسة العنوان، وما إلى ذلك ليمنح المنهج الأسلوبي سعة في التحليل وليونةً لا تستسلم لتصلّب شرايين المنهج حيث نقف به عند حدوده الإجرائية.
3- النظر إلى العمل الأدبي، كالنظر إلى الكلمة الواحدة يصيبه ما يصيبها حين تتغير علاقة الترتيب بين عناصرها المكونة فتتبدل دلالتها وتصير إلى معنى غير الذي كان لها من قبل، وكذلك النص. وفي هذا ما يأذن له في نموٍّ عضويٍّ وتماسك ووحدة وانسجام، وهو ما يسمح من بعد للناقد من تأمل عناصره، واستكناه أعماقه وفك غوامضه وجلاء مغازيه.
4- الحرص على أن يكون المدخل إلى قراءة النص هو لغته، ومن أيّ زاوية أتيت تلك اللغة فأنت متوغل إلى أعماقه، وقابض على كل صنوف الحركة فيه بما لا يمكنه من التأبّي على قارئه ومتابعة بنيته الدلالية وبنائه البنيوي.
وقد غدا في سنيه الأخيرة ينظر إلى النص من خلال جدلية الظاهر والباطن، الداخل والخارج، البنية والحدث. فالنظر إلى النص على أنه بنية معزولة عن كل الظروف المحيطة به وبإنتاجه تغرّبه عن الواقع الاجتماعي والثقافي، وتظهره جزيرة معزولة في محيطٍ شاسعٍ وهو ليس كذلك. كما أن النظر إليه على أنه نتاج تلك الظروف يغرّبه عن ذاته فلا يتمكن من البوح بما ينبغي له أن يبوح به، ولا يخلو الأمر من ظلمٍ لجهدِ المبدع في إحكام صناعة النص وتجويده. ومن هنا صار النصّ بين يديه نتاجَ هذا التداخل بين المتضادين، لكنه نتاجٌ خصبٌ؛ لأنه أمكنه من الجمع بين التجريد والتعيين، ووضع النصّ في موضع المنشود الذي يعي ما ينبغي أن يكون لا موضع الموجود الذي هو كائن كما قدر له أن يكون.
وختامًا أنقل لكم إجابة الدكتور عن أعلام من النقاد الذين تركوا آثارًا على رؤيته النقدية فقال:
هناك من نهلتُ من علومهم، وترسمتُ خطاهم في العملية النقدية بصورة واضحة ومباشرة، وهم ثلاثة بالتحديد: أولهم د/ كامل سعفان، وثانيهم د/ فهد عكام، وثالثهم د/ محمد عبدالمطلب. وهناك من نهلت من علمه ولم تسعف الأيام باللقاء به مواجهة، فكانت مؤلفاته خير معين يشرب منه الظمآن ما يرويه، وهم هؤلاء: د/ محمد الهادي الطرابلسي، ود/ حمادي صمود، ود/ عبدالسلام المسدي. وقبل هؤلاء وبعدهم علماء العربية وما خلّفوه للمكتبة العربية من مؤلفات علوم النحو والبلاغة والقرآن الكريم:
أولئك أبائي فجئني بمثلهم :: إذا جمعتنا يا صديقي المجامعُ
خاتمة للمتن:
تلك معالم في تجربة الكتابة النقدية عند الدكتور عبدالله حسين البار، والحديث عنها هنا ليس بمانعٍ أحدًا من اكتشاف ما لم تحط به هذه القراءة وتشير إليه أو اكتشاف عكسه ونقيضه، ولعلها تبين عن وهن في مظان وتخليط في أخرى، فكلّ ذلك وارد في الحسبان، وليس فيه ما يضير، ولا فيه ما يثير قلقًا أو رهبةً من مجهول. فمن اليقين في نفسه أنه (ما من ناقدٍ إلا سيُبْلَى بأنقد) والأيام دولٌ، ولكلِّ مجتهدٍ حظٌّ من النجاح وحظوظٌ من التقصير.
الصور:
1- صورة كتاب (المظاهر الرومنسية في شعر صالح بن علي الحامد) هذا معي
2- صورة كتاب (الصورة الفنية في القصيدة الجاهلية) معي
3- صورة كتاب (في أسلوبية النص) معي
4- صورة كتاب (بعيدًا عن الشعر.. قريبًا من النثر) معي
5- (كامل سعفان، د/ فهد عكام، د/ محمد عبدالمطلب).
6- (محمد الهادي الطرابلسي، ود/ حمادي صمود، ود/ عبدالسلام المسدي)