نقد
د. بدر العرابي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 87
رابط العدد 15 : اضغط هنا
أصدر القاص (سالم بن سليم) روايته الأولى (النوافذ الصفراء) في طبعتها الأولى، في عام 2017م، وقد صدرت عن (مؤسسة فكرة للنشر والإعلام) في كتاب من الحجم المتوسط، في (153 صفحة) مضغوطة المتن، وقد تزيد عدد الصفحات إلى ضعف العدد، في الطبعة الثانية، التي أخطرني المؤلف بإصدارها، كون شكل الخط في الطبعة الأولى من حيث حجم الكلمة، أصغر من الحجم المألوف، مما أحدث بعض الاختزال لعدد الصفحات الإجمالية، تم تلافيه في الطبعة الثانية، التي لم نحصل عليها بعد.
وسالم بن سليم قاص من جيل الشباب، ولد في سيئون (حضرموت)، وقد بدأ ممارسة ملكته السردية، كقاص، وأصدر مجموعات قصصية سابقة، ولعل من خصائص أقاصيصه وسماتها اتباعه أسلوبًا سرديًا متخطيًا للسرد القصصي التقليدي؛ إذ يعتمد على المفارقة، مضمونًا سرديًا وبنية سردية، وينأى عن كتابة الواقع، بما فيه من أحداث، بحركتها الزمنية الخطية المباشرة، التي تبرز واقع حركة الأشخاص ونشاطهم الإنساني المألوف؛ إذ يحاول سالم بن سليم عرض النشاط الإنساني المرتبط بمفاهيم الحياة، فالمفهوم هو المستقطب السردي الذي يستفز الناص، من حيث انزياحه عن دلالاته في ثقافة الشخوص والنماذج الإنسانية، التي يؤطرها في المجتمع المتخيل السردي، كعينات واقعية، تبرز التناقضات وانسحاب دلالات منظومة القيم الإنسانية المرجعية، وتبدلها في ميدان الممارسة، فالأصل يتحول لفرع، والأعلى يذوى للأسفل، والعكس والكفاءات الإنسانية تنحسر وتلغى، ويصعد نقيضها المتورم بالفراغ، كالبالونة التي تشغل حيزًا، وليس بداخلها سوى الهواء.
ومن سمات مسرودات بن سليم القصصية أيضًا، اعتماده على الحدس الذاتي؛ إذ لا يقف كمستهلك لما حوله، بل يتوغل إلى عمق الأحداث والأمكنة والأشخاص، ويعمد إلى تشغيل الحدس عن طريق التحليل والاستقراء المستديم للأحداث، والغوص عميقًا في المكان والأشخاص.
تنماز رواية (النوافذ الصفراء) بعنوانها الجاذب، الذي يقذف في الذهن أسئلة وإجابات غير متناهية بمجرد أن تلمحه، تضاعفها صورة الغلاف التي تظهر بيتًا شامخًا يتكون من أدوار (طوابق) صاعدة علوًا، يصعب تكهُّن عددها، وتبرز أشعة الشمس معانقة لجسد البيت وبشكل يضع الشمس والبيت الطيني في مستويين متقابلين، وتبرز أربع نوافذ: إحداها تبرز وحيدة في جانب من جوانب البيت العلوية المواجهة للبصر، وهي بارزة ونستطيع تفحص إطاراتها الأربعة ولونها، بينما تلوح من الجانب الآخر، غير المواجه للبصر، والممتد بامتداد الزقاق، ثلاث نوافذ، غير بارزة بوضوح، كما يبرز الزقاق صورة امرأة تحمل على رأسها كتلة غير واضحة المعالم، ولا نستطيع تمييزها بين إناء كبير يحوي ما يحويه، أو صرة من ثياب ملفوفة في خرقة حاوية، وصورة المرأة مستدبرة لبصر المتفحص للغلاف، بينما يواجهها صورة رجل من الطرف الأمامي لها، ويبدوان يحثان الخطى في الزقاق الممتد باتجاهين متعاكسين. وكل هذه المدخلات والملامح (البناية، البيت ونوافذه وطوابقه السفلية والعلوية، والزقاق وصورة المرأة التي يقابلها رجل يمضي باتجاه معاكس لها)، كل ذلك يبرز من خلال نافذة مطلة من بناية مواجهة للبيت والزقاق، ولا يظهر من هذه البناية المقابلة إلا مربع النافذة، دون بروز إطارات البناية الخارجية أو الداخلية، فقط نافذة مفتوحة مطلة على الزقاق والبيت الطيني وكل محيط الرؤية البصرية في الخارج.
وإذا ما حاولنا الاجتهاد في تأويل دلالة العنوان (النوافذ الصفراء)، فإن هناك دائرة دلالية غير ثابته تحمل مدخلات تفسيرية متعددة ومتداخلة، وبالتحديد بعد إفراغنا من الرواية، سنجد مدخلة دلالية بارزة تتمثل بأطراف سردية متعددة، يتصدرها مرسوم الحكاية الإطارية، الذي يبرز في الصفحة (8) من الرواية عبر السؤال غير المباشر الذي يبرز في المسرودات الآتية:
»أليست نظرتنا للمدن بهذه الطريقة: من بعيد وأنت تمر بها، فأنت لا ترى فيها سوى بنايات مرصوصة، وأشخاص غرباء لا تكنُّ لهم أي مشاعر، قد تعجبك بعض الأماكن فتغبط أهلها وتتمنى لو كان أبوك أو جدك القديم قد سكن هنا……. وبعضها قد تنفر منها وترى الحياة فيها عبثية….. وأماكن أخرى لا تلتفت إليها بتاتًا وتشغل نفسك عنها بهاتفك……… لكن ليست هذه المدينة، ففي كل مرة أمر بها أعرف أنها أكبر من أن أفسر أو أتكهن بشأنها، وسوف أراهن أنك ستشعر بهذا لو مررت من أمامها.
وبعد العديد من الزيارات لها، والجلوس أمام شموخها، حصلت -أخيرًا- على شيء منها«.
وفي تلك المسرودات التي تعد بمثابة عقد أولي مباشر بين السارد والمتلقي، تبرز المدينة من بعيد كنافذة تفضي إلى المتن السردي من المفتتح حتى الختام، أي أن المدينة هذه وبشموخها وبروزها من بعيد، لا تنأى عن احتوائها على مفارقات إنسانية تتناغم مع المفارقة التاريخية والفلكلورية التي تستقطب الرؤية البصرية للمارين (المسافرين) من بعيد.
ومن الدلالات الفرعية في الدائرة الدلالية المشغلة في العنوان (النوافذ الصفراء) أيضًا، ما يبرزه السرد في المفتتح من ارتكاز على النافذة كفضاء ينطلق منه السرد، ويتمدد في داخل السرد ومفاصله الورقية ومراياه الإطارية الزمنية عبر لافتات زمنية مراوحة، تتناوب بين الماضي والحاضر من خلال التقسيم الزمني المتناوب بين الحركتين الزمنيتين المؤطرتين للحكاية داخل الخطاب السردي. وهكذا تغدو النافذة البؤرة الضيقة التي تقدم المسرود وتطل عليه وعلى العالم المسرود في المتن، وبخاصة ما يتعلق بعلاقة الحب بين طرفيه، وارتباطات هذه العلاقة بالمحيط والثقافة المسرودة الخاصة بالمجتمع المسرود في متن الخطاب:
»تحدق فاطمة في المكان من تحتها – من نافذتها الخشبية الجميلة العتيقة المنحوتة يدويًا في هذه المدينة على الطريقة الحضرمية في الجزء العلوي من النافذة كما لو أنها أقواس أندلسية، وفوقها شريط من النقوش المصفوفة بانتظام، ستجزم أنها نقشت بآلة، وفي الجزء السفلي تتطرز النافذة بكم هائل من النقوش بفتحات كبيرة في الأطراف وأخرى أصغر منها في الوسط، لتأخذ أشكالًا متناسقة…… تنظر إلى المارين من تحتها.. هذه المخلوقات الوديعة المسكينة التي ورثت هذه المدينة الرائعة، وتسأل نفسها هذا اليوم سؤالًا ليس اعتياديًا على غير العادة، وفكرة غريبة قفزت إلى رأسها من دون مقدمات، وكأنها لم تمض عقودها الأربعة هنا بين أزقة هذه المدينة وبناياتها….«. (ص9).
فالنافذة في المسرود الآنف تترقى من النافذة البصرية المادية، إلى مصدر ارتباط معرفي وكشفي، ومسرح للرؤية المادية للفضاء الخارج، والرؤية الفلسفية، إذا ما علمنا أن (فاطمة) قد كسبت خبرة وتجربة معرفية بالمحيط من حولها، وإرهاصات علاقة الحب بينها وبين (ربيع) كأنموذج تسوق عليه أطروحاتها الخاصة والعامة في مفهوم الحب كحالة إنسانية ملحة، إلا أن هذه الحالة وفي المحيط الذي انبثقت فيه، تدخل في تعارضات وتقاطعات مع الثقافة الموروثة، تترقى إلى قمع وإجبار بفعل السلطة الأبوية التي يفرضها المجتمع على المرأة بداعي الشرف والعفة والعار، كمصطلحات أخلاقية ترتبط بالمرأة كجسد في الثقافة – تستدعي حجب المرأة عن الرجال من خارج المحيط العائلي، من خلال اعتبار البيت، إلى جانب وظيفته الرئيسة، فضاء ساترًا وحاجبًا ومخفيًا للمرأة، عن أنظار الغرباء من الرجال، فالثابت ألا تتصل المرأة بالرجل غير المنتمي للأسرة بعرق الأبوة والأمومة في أي حال من الأحوال. ومن خلال هذه الثوابت الثقافية، يتضيق فضاء تطلعات المرأة وطموحاتها، حتى يغدو البيت أو المنزل محمية لها، بوعي أزلي رجعي موروث، لكن المرأة تحاول انتقاء فسحة من الجوازات رغبة في التطلع للخارج بغية المعرفة والاستكشاف، بما لا يقوض، بطريقة مباشرة، الثوابت الثقافية التي تضعها السلطة الأبوية، وتغدو النافذة هي هذا الفضاء الخفي الذي يسرب طموح المرأة في المعرفة الخاصة والعامة بالمحيط، ومن هنا تنبثق أطراف دلالة العنوان وأعمدته الرئيسة.
ثمة دلالات تدور في فلك دائرة العنوان (الدائرة الصفراء) يضيق الحال في هذه القراءة، أن نبرزها، ولعل ما يمكن أن يختزلها في محصلة دلالية، ما يمكن أن نستأنس له في تراتبية ألوان الطيف، إذ يقع ترتيب اللون الأصفر، بين اللون الأحمر والأخضر، الذي قد يشي بأن فحوى المفارقة في مسرود رواية (النوافذ الصفراء) لسالم بن سليم، يدخل في مضمونه، ضمن المحظور والمرغوب بشكل خاص كثنائية تؤطر مضامين الخطاب السردي، إذا ما علمنا أن (فاطمة وربيع) يحاولان فتح جوازات وثغرات تخترق السلطة الأبوية للمجتمع والموروث الثقافي، بغية التواصل العفيف وغير المقوض للشرف العائلي والمجتمعي، من خلال (النافذة الصفراء)، أي المراوحة ما بين الخط الأحمر والأخضر، كحدود رمزية تبرز الحال والمضامين السردية التي يحتويها الكتاب.
بعد إتمام قراءة رواية (النوافذ الصفراء) لسالم بن سليم، يمكن أن نخرج بمحصلة وصفية من حيث المضامين السردية، فحواها أن السرد بعد تفكيكه موضوعيًا، يجمع ثنائية متداخلة، بل ومتلازمة، كهاجس سردي ممتد من المفتتح السردي حتى الختام، ومن خلال مقاربة مفهومية ضاغطة، يمكن أن نطلق على هذه الثنائية التي يحتويها كتاب (النوافذ الصفراء) بثنائية الحب والاختراق، ونقصد بالقطب الأول لهذه الثنائية مسرودات العاطفة الثنائية (فاطمة وربيع)، ويمكن حصرها في عينات مفهومية تتمثل في: (الاتصال وطقوس اللقاء، فضاء اللقاء، قوة العشق والهيام، قلق البعد والغياب). أما قطب الاختراق فيتمثل في اختراقات متعددة، تتعلق بالبنية السردية، من جهة وبالشخوص من جهة أخرى، وتنضوي مسرودات القطبين، بين محددين، حاول إثباتهما الكاتب على متن الرواية بوصفين عريضين، وبمثابة عتبتين أو بابين مؤطرين للمسرود، ودالين من الوهلة الأولى على مآلات العلاقة العاطفية ومظاهر الاختراق الداخلية، صعودًا وانحدارًا، وقد عنونهما ببروز تحت مصطلحي (الصعود)، وتمتد مسرودات الحب والاختراق فيه من الصفحة (6 حتى 101)، والانحدار وتمتد صفحاته من الصفحة (102 حتى 152).
*سرد الحب
الاتصال:
يبرز السرد انطلاق العلاقة بين (فاطمة وربيع) التي تأطرت منذ الصغر، ويتحدد ذلك بمزدوجة سردية من الخطاب المسرود غير المباشر بلسان السارد، والخطاب المباشر من الشخصية/ فاطمة:
“تتذكر تلك الأقدام الصغيرة العارية وهي تجري في أزقة المدينة التي تمتلئ بالماء الطيني اللون بعد كل مطر.. يركضون.. ينضحون بعضهم، يتبللون ويبللون سيقان المباني التي تحني عليهم كأمهاتهم.. تتذكر (ربيع):
»اااخ يا ربيع.. كيف تتنكر لكل تلك السنوات؟.. كيف تتنكر لهذه المدينة، كيف تتنكر لي أيضًا.. كيف تغنيك تلك المدن المراهقة الزجاجية عن كل هذا الحنان؟….. وكأنني لم أكن يومًا امرأة قاتلت لأجلها.. تسلقت الجدران وحفظت الأزقة، تركض معها من دون نور.. وتعرضت لنهش الكلاب و[لدغات] العقارب.. فقط لتقف تحت هذه النافذة وأنت تبتسم وترتجف في آن واحد لتحصل على تلويحة خجولة، وابتسامة قصيرة من هذا الثغر«. (ص10، 11).
ويتناغم تحديد انطلاق العلاقة، في المسرود المزدوج الآنف، مع تسليم السارد السرد للشخصية (فاطمة)، كما يضع السرد على لسان فاطمة في هذا المسرود، بداية العلاقة والاتصال ومآلاتها، وبشكل غير مباشر؛ إذ تبدو فاطمة في سردها وكأنها تطل من النافذة في لحظة من الراهن الشخصي، ويبرز ذلك في مضامين مسرودها الآنف، وكأنها تضع المعكوف الثاني الذي يشير لإغلاق التواصل الثنائي، ويدل على ذلك مضمون المسرود.
ثم تبدأ فاطمة بعد إغلاق هذه المحصلة، بسرد الذكرى في لافتات ومرايا متناوبة، تبرز العمق العاطفي لحكاية العشق الممتدة عبر الزمن، بمسحة من الشاعرية، تبرز قوة هذا الحب التي الذي لا يخلو من المفارقة والمغايرة، عن أي حكاية حب أخرى.
طقوس اللقاء والمغامرة:
تبدأ فاطمة بسرد طقوس اللقاء الخفي وملابساته، بمسحة من التلذذ بالذكرى، محاولة إحيائها لمقاومة حاضر المآل وضغط القهر والندم:
»جئت في إحدى الليالي، بعدما انتظرتك طويلًا، وعندما عاتبتك أظهرت لي ساقك وهو ينزف وأشرت لي أن كلبًا قد عضَّك عندما مررت بالزقاق المظلم.. كنت شقيًا ورحت أنا أشق خماري ورميته لك لتربط ساقك فتلقفته أنت ووضعته في جيبك بعد أن شممته كما لو كنت تخدر نفسك من الألم.. قلت لك غاضبة وأنا أشد بيدي “اربطها” كما لو أنك صبي أعلمك فعل الأشياء.. فربطتها بعمامتك وأنت لا تفوت كل ثانية، تحدق بشراهة نحوي تتمنى لو تقتلعني من خلف النافذة… قلت لي “أين هديتي”.. كنت قد عودتك أن أعطيك هدية في كل زيارة.. شيء مما تطبخ يدي في الغالب، وأشياء أصنعها لك.. حتى إنني ظننتك لا تأتي إلا من أجل الهدايا أيها الطفل المحتال.. لففت لك قرص الكعك المنقوش في قطعة قماش ورميته لك.. وأظهرت لك كفي وأشرت لك “هذا بسبب هذا”.. كنت قد أحرقت كفي وأنا أضع السكر المذاب على قرص الكعك.. وانتفخت دائرة صغيرة من تحت بشرتي الرقيقة بسبب الحرق.. لكنها كانت عذبة بحجم الألم وأكثر.. كل شيء صنعته لك كنت أنا من يتلذذ به أولًا ….«. (13، 14).
وهكذا يلوح سرد العشق والمغامرة بين لافتات الحاضر والماضي، لتطمر فاطمة الحاضر المؤلم، ويبرز ذلك عبر لعبة سردية لذيذة، يتناوب فيها الماضي والحاضر عبر مشاهد ومرايا درامية التقسيم فيما يقارب (أربعة وعشرين) لافتة ومشهدًا متناوبًا، يتقاسمان سرد الماضي والحاضر، وتتحدد تلك اللافتات والمشاهد بتحديد زمني مثبت بالخط العريض على عتبة كل مرآة ومشهد، يحدد تاريخ الحكاية وذكرى التواصل في الماضي ولذة الوصل ومغامراته المجنونة، وفي لافتات الحاضر المقاطبة للافتات الماضي – تبرز الحياة الراهنة مع الأهل والمحيط، لكنها تتعرض لغزو الذكرى، هذا الهاجس العشقي الذي لا ينتهي.
ومن مغامرات العشق أيضًا تسرد فاطمة:
»هناك كان اللقاء الأول خارج الجدران أيها الممثل البارع، هل تذكر؟ قلت لك بإشارة وهمس وقليل من الهمس: “غدًا سأخرج إلى بئر جدي.. سنجلب الأعلاف لأغنامنا.. عليك أن تجدني بين كل النساء هناك” قبلت أنت التحدي ببرود، وانصرفت.. بينما رحت أنا أدور حول نفسي في ذهول…. كيف تجرأت أنا؟.. وكيف قبلت أنت….«. (ص18).
ثم يمتد سرد الحب والعشق بما فيه من لذة الحكي، وتستقطب فاطمة متخيل اللقاء في الغد بربيع وكيف سيكون ذلك، وكيف يتم في حضرة النساء في الحقل، وهل تتغيب عنهن، ويعصف بها القلق بين الخوف من أن ينكشف أمرهما على مرأى النساء، وتارة تتساءل ماذا سوف سترتدي من ثوب؟:
»….. سيراني من قرب وفي متناول يده لو هم بأن يتقدم نحوي…. هل سيأتي ويمسك بيدي؟ وربما يعانقني وسط كل هؤلاء النسوة.. يا الله هذه فكرة مروعة. لا أظنه سيفعلها«. (ص23)، ثم تسترسل برحلة المضي للحقل في الصباح، حتى تصل، ثم تبرز المغامرة في لقاء ربيع بين النسوة في الحقل: “اتركي هذا لأختك.. هل تستطيعين مساعدة ذلك الشيخ؟” قال الفلاح وهو يشير إلى رجل مسن في المطيرة الثالثة. وكان الآخر ينظر وكأنه يستعطفني لمساعدته…. انتقلت وبدأت أجز القضب من طرف المطيرة الآخر.. لا يمكنني أجلس بمحاذاته حتى ولو كان كهلًا، تعمدت التلكؤ وأنا أجز القضب لكن عينًا ثالثة في رأسي أخبرتني أن هناك من يحدق بي.. العجوز يحدق بي! تظاهرت باللامبالاة.. أسرعت في الجز.. ما تزال العين تخبرني أنه يحدق أكثر. رفعت رأسي نظرت إلى خديجة وكانت منكبة في عملها، وقبل أن أعيده للأسفل، مررت بنظري لأرى إن كان حقًا يحدق بي: “ما هذا؟.. اللئيم يحدق بي فعلًا.. ألهذا دعاني لمساعدته؟ لكي يحدق بي “لكن بعد لحظة، توقفت وكان المنجل على سيقان القضب.. تجمدت.. ينبض قلبي بعنف.. يكاد أن يقتلني.. أحس به سينفجر دماغي.. ابتلعت ريقي ونفثت نفسًا ساخنًا….. رفعت رأسي مرة أخرى لأتفحص أكثر، لأرى إن كان قلبي له أعين يرى بها أيضًا….
– أيها المجنوووووووون. هذا أنت.. نعم أنت
أقفز المسافة لعناقك كغزالة.. كفراشة الحقول.. أرتطم بك بكل عنف وأحط على انفتاح صدرك. هذا ما تمنيت أن أفعله تلك اللحظة…..«. (ص26).
* سرد الحب:
في سرد اللقاء والمغامرة، وبعد اشتداد وثاق علاقة الحب بين (فاطمة وربيع)- تتصاعد الحاجة للقرب والوصال مع الزمن، ويرتفع منسوبها عند الطرفين، وبنسب متوازية، وفي خضم هذا الصعود، تتفلت وتوهن المحاذير والموانع، وتبدأ الخطوط الحمراء التي يفرضها المجتمع الذكوري الغيور، تبهت صبغتها بالتدريج، لتذوي في دائرة برتقالية اللون، ثم تنزلق للأصفر، وبدافع ملح من اللاوعي الذي يدفعه تسمك أواصر العلاقة بين (فاطمة وربيع).
تلك المحاذير التي كانت بمثابة ثوابت شاخصة أمامهما، قبل تمتين عرى الارتباط، في بداية ووسط العلاقة، زمنيًا، مما يفرض اللقاء كحاجة تضغط عليهما بتواتر وكهاجس مستديم:
»عندما جئت في تلك الليلة، أشرت لك “اذهب للجهة الخلفية” سألت ببلاهة “أين؟” كررت لك الأمر وانطلقت أنت كلص محترف، من وراء حضيرة الأغنام الخشبي المتشقق همست لك “هسس هسس، هنا”
– اخرجي بهدوء “قلت أنت.
– “لا”.. اقترب أنت.. هذا كل ما أستطيعه”
– ماذا تقصدين”؟
– اجلس هنا بجانب الباب، الظلام سيسترك، وأنا أجلس هنا في الداخل”
أحسست بك تقترب، أحسست بخطواتك، أحسست بك تجلس ملاصقًا لخشبة الباب، تود لو تنفذ خلالها، أحسست بيدك تتلمس شقوق الباب وكأنك تمرر أصابعك بين خصلات شعري، أحسست بذلك لأنني كنت أفعله تمامًا، أنت في الجهة الأخرى، لا يفصلني سوى هذا الخشب، أضع أكفي وخدي وصدري على قطعة الخشب تلك، فيما يشبه العناق المسروق.
– “فاطمة…”
– “[لبيه”]
– “لا شيء…”
……………..
كنت قد أتقنت معك لغة النافذة، والآن عليَّ أن أتعلم معك لغة الباب”
– “هل حقًا كنت ستتسلق”؟
– “أقسم لك، نعم، لست أقل من (ابن طالب)«. (ص66، 67).
تصاعدت رغبة (فاطمة وربيع) في الوصل واللقاء، وتصاعدت معها، بشكل متوازٍ، حدة المغامرة واللقاء، عن مستوياتها السابقة، من المغامرة واللقاء المسروق عبر النافذة، في فارط الزمن، إلى اللقاء الذي تقترب فيه الأجساد، منجزة ردم مدى من البعد في الطقوس السابقة، كما غدا المسرود عبر الملفوظات السردية المتقاطبة بين الاثنين، أيضًا، أكثر تجاوزًا وجرأةً، بل وأكثر هذيانًا، مما يلوح ببداية انسحاب الوعي بالمحاذير المجتمعية الراسخة سلفًا، في ذهنية الطرفين معًا.
ويتمادى الطرفان بذلك، مما يثير حفيظة وقلق (خديجة) أخت (فاطمة) فتبدأ بزجر فاطمة وتحذيرها وتهديدها: إن استدام الأمر بهذه الطريقة، دون أن يقدم (ربيع) من الباب لخطبتها، وطلب يدها – فسوف تطلع الأب على الأمر.
وبعد طلب فاطمة فرصة أخيرة من خديجة، قبل أن تشي بأمر اللقاء القادم والأخير، والذي ستحدث فيه (فاطمة) (ربيعًا)، بضرورة القدوم من الباب، وطلبها رسميًا، وبعد أن تم اللقاء الأخير – يعاود الطرفان اللقاء فتفي (خديجة) بوعدها اطلاع الأب، ليضبط بعدها الأب (فاطمة وربيعًا) في خلوتهما ويتفاقم الأمر بعدها.
سرد الفقد والغياب:
بلغت علاقة الحب بين (فاطمة وربيع) مبلغًا عميقًا، دفعهما، وبغير وعي، إلى الشعور الدائم بحاجة ملحة الوصل، لكن ثمة تقاطعات تنبثق من الخارج، وبملابسات تكبح جسور الوصل، ونظرًا لما آلت إليه العلاقة من ضرورة القرب الملحة، فإن أي انقطاع خارج إرادتهما، يفعل فعله بهما؛ فبعد فراق ثلاثة أيام لطارئ سفر (فاطمة) برفقة أبيها وأخيها، يجتاحها الحنين الجارف والقلق؛ كونها لم تتمكن من إخطار (ربيع) بغيابها، وقد ضاعف قلقها وحنينها استمرار غياب (ربيع) بعد عودتها، ولمدة عشر ليال، قضتها وهي تعاود النزول من غرفتها كل ليلة، في الوقت المتعارف عليه بينهما، وفي المكان نفسه:
»كنت أستند إلى الباب الخلفي لحضيرة الأغنام، هناك حيث نكون دائمًا، أضم ركبتي إلى صدري وأبكي، أعرف أنك قد تكون غاضبًا مني، ولكن على الأقل كنت ستأتي وتعاتبني، كنت لتسمع مني عذري على الأقل، يا الله كم أنا غبية كم أنا غبية وساذجة لأنني أعطيك كل هذا القدر من التفكير.. من الحب…….. – “ماذا تفعلين” جاء الصوت من باب البيت المظلم المفضي إلى الحضيرة، قمت مرتعبة، وعندما اقتربت كانت أختي تكرر سؤالها مرة أخرى “ماذا تفعلين هنا؟”. وكنت أمسح دموعي بخفة “لا شيء” أجبتها “فقط أجلس لوحدي”…. سبقتني صعودًا، بينما كنت خائرة القوى تمامًا، بالكاد تصعد قدماي درجة بعد درجة، لا طاقة لي على شيء، ولا رغبة لي في شيء……«. (ص45، 84).
هكذا يمضي سرد الحب كلافتات مشعة بقوة، وبهطل سردي مستديم، يغطي معظم المتن الورقي للرواية.
لكن ما نلاحظه في سرد الحب، بلسان فاطمة إجمالًا، أنها تلح على توجيه الخطاب لـ(ربيع) حصريًا، وتكرر فيه صيغًا معينة:
(أتذكر أيها المخادع، أتذكر، وجئت أنت أيها المحتال، وأهديتك)، ويمتد هذا الحصر، حتى يطغى، لتذكر (ربيعًا) بأحداث من الصعب أن ينساها الفرد؛ كانبرائها لضربه على وجهه بكفها، في آخر لقاء سادل لستار العلاقة، وكإهدائها له بعض الهدايا، والعكس، وكتعثراته في الظلام وإصابته بالجروح ونهش الكلاب، وأحداث يصعب أن تطمرها الذاكرة؛ فالمغامرات وبخاصة العاطفية، يصعب نسيانها ولا تحتاج أن يذكرنا بها الآخر؛ الأمر الذي يضعنا أمام أسئلة ملحة، عن دلالات التكرار المتواتر لتلك الصيغ، في الوقت الذي نثق فيه، وكتجربة واقعية، أن طبيعة الأحداث المرسلة لمرسل إليه بعينه، عاشها في لحظات من التجلي العاطفي، تخرج تمامًا عن وظيفة التذكير للآخر، باحتمال النسيان، فهل ثمة جهات ورسائل أخرى، يحاول السرد إيصالها لمرسل إليه آخر؟
إن إصرار السارد (فاطمة) على تخصيص إرسال المسرود وحصره، وضغط هذه الصيغة، بتواتر حتى نهاية الحكاية، وإن كان يدل على سيطرة هاجس العشق وقوة الارتباط المفارقة، وإبراز الحاضر مخترقًا من الماضي/ الذكرى الجميلة يبرز رغبة ملحة للسارد (فاطمة) ولو بما يشفي غليلها كأنثى مقموعة ومسلوبة في الانتقام من قواعد السلطة الأبوية، الظالمة، التي يفرضها المجتمع على المرأة، وبحدود متطرفة من المبالغة؛ ومن ثم فحشد (فاطمة) لمظاهر اختراقها للقانون الذكوري العائلي وأحداثه خاصة والمجتمعي عامة، بمحاذيرهما التي تتجاوز حدود المنطق – إنما محاولة من السارد لتسريب رسالة اعتراض واحتجاج أنثوية مرنة موجهة للثقافة الذكورية الظالمة، التي استمرأت وتمادت في نظرتها للمرأة، كمخلوق ضعيف، سيخنع، لا محالة، لغيرة الرجل وجنونه، متجاوزة المنطق، بما تفرضه من سلطة أبوية مجتمعية تسعى في محاصرة الأنثى في زاوية ضيقة من الفضاء ومن الطموح والتطلع، بمسوق أن المرأة جسد أنثوي يجلب العار، وأن الاقتراب منه أو مسه، يعد تدميرًا للشرف ومسًا للرجولة والكرامة.
كما يلوح مضمون رسالتها تلك، من جهة أخرى، للرجل كـ(ند) مقابل، ومرسل إليه – أن للأنثى قوتها وقدرتها على ثلم الحصون والموانع وتدميرها واختراقها التي يطغى الرجل في تشييدها باستدامة، دون أن يعيد النظر في رؤيته المغلوطة تلك، مع حركة الزمن وتفتق الوعي، ومخاضات التجربة الحياتية المعيشة.
وإن بدت تلك الرسالة في مضمونها بشيء من الترهيب والتهديد المرن والمبطن، إلا أنها تضع خيارًا متاحًا وترغيبيًا أمام الرجل مفاده أن المرأة تستطيع تجاوز تلك الموانع والحصون بدهائها، الذي لا يمكن للرجل مقاومته وتلافيه؛ فبإمكانها أن تلبي دافع الحب العفيف وغير العفيف، وتعقد اللقاء بالحبيب مرارًا وتكرارًا، من وراء تلك الموانع الصلبة بنظر الرجل، والهشة بنظر المرأة، مع قدرتها على صون شرفها بما لا يحدث عبثًا وخرقًا للمحاذير المؤرقة للرجل فوق اللحظة.
* سرد الاختراق:
يمثل سرد الاختراق في رواية (النوافذ الصفراء) القطب الثاني للمضمون السردي، ومضمون الرؤية السردية، إذ يبرز في الهاجس السردي من المفتتح السردي حتى آخر مسرود تسدل (فاطمة) به ستار الختام عن الخطاب، وبالتحديد في آخر لافتة زمنية (قبل 1985م)، التي من خلالها يطوي السرد صفحاته ولافتاته. وتتضمن تلك اللافتة آخر لقاء لفاطمة وربيع بعد طلبه منها، برسالة، فحواها: قراره الأخير باختيار الهرب معًا لمنطقة جبلية وعقد زواجهما هناك، لفرضه أمرًا واقعًا، وطلب مساندة أهل المنطقة الجبلية البعيدة في إقناع والد فاطمة بالأمر الواقع. لكن فاطمة ترفض العرض وتنهي حكاية العشق الممتدة عبر الزمن، بصفعة على خد ربيع، ثم عودتها لمنزلها:
»لم ألاحظ أي شيء في عودتي، فقط عقلي اللاواعي كان يقودني إلى المنزل، حتى أنني لم أعد من باب الحضيرة، كان الباب الأمامي مواربًا على غير العادة، لم أفكر (لماذا) صعدت الدرجات، انزلقت، كنت مبللة، نهضت من جديد وتابعت إلى فراشي، قبل أن أتمدد أحسست بـ(خديجة) تأخذ عني ملابسي وتدثرني، “هل أنتِ بخير” قالت، نظرت إليها أومأت برأسي، وضعت جسدي داخل بطانيتي وغفوت«. (ص152).
يسدل الاختراق الأخير لحكاية فاطمة وربيع، الستار، لينهي سرد الحب والاختراق، باختراق النظام الأبوي الأخير من قبل فاطمة والمتمثل بلقاء ربيع خلسة من أنظار أهل المدينة والأسرة المتمثلة بالأب، لكن بين هذا الاختراق، في الختام السردي والمفتتح السردي، اختراقات تصاعدت من حيث قوتها، من المفتتح السردي حتى ما قبل الاختراق الأخير، الذي يمخض اختراقًا لرابطة الحب الممتدة عبر الزمن الماضي والحاضر، ويفك رباط العلاقة نهائيًا.
يمثل اختراق النظام الأبوي في العائلة والنظام الأبوي المجتمعي – كل حدث سردي يحكي لقاء فاطمة بربيع، وقد مر معنا ذلك في مدخلة سرد الحب، كقطب إطاري لثنائية الحب والاختراق، وهاجس سردي ممتد من بداية السرد حتى نهايته. وسنحاول في هذه المدخلة تسليط الضوء على اختراقات أخرى، وتتمثل في مستويين: مستوى البنية، ومستوى المضمون.
– اختراق البنية:
ونقصد به الاختراق الحاصل في الترتيب الزمني للأحداث، كبنية زمنية فرعية رئيسة من بنى الزمن في أي نص روائي. ويتمظهر الاختراق في خروج البنية الزمنية، التي تتوخى المفارقة الزمنية، عن المألوف؛ إذ لم يعتمد الناص البنية المألوفة، التي تعمد لترتيب الأحداث عبر التداخل بين أزمنة الخطاب من الداخل، بل تلاعب الناص بالزمن بشكل من التأطير الخارجي، تمثل في ترتيب الزمن عبر إطارات عتبية مثبتة خارج المسرودات الداخلية، وبالتحديد عبر لافتات متناوبة بين سرد الماضي (الذكرى) وسرد واقع الحاضر، عبر ما يقارب (28) لافتة تتناوب فيما بينها السرد:
لافتة تطل على الماضي (قبل 1985م)، وأخرى تطل على الحاضر (بعد 2014م)، مع تجسير الصلة بين اللافتات المتقاطبة بروابط سردية متعددة، كأن يتدخل السارد ليسلب الشخصية السرد، ويضع سرد الرؤية عبر خطاب مسرود، تتنحى عنه (فاطمة) كمحور سردي، ليضع رؤية خاصة به أو خاصة بفاطمة، عن مفهوم الحب وتقويضات المجتمع وترسباته المانعة، ثم يعيد السرد بعدها للشخصية (فاطمة) أو يعيد أفعال فاطمة في خطاب مسرود:
»ماذا تتمنى؟ ما هي خطتك؟ ماذا ستفعل؟
ستكون إجابتك سهلة، ومدروسة حتى، وقد تكذب وتقول: “لا شيء”، لكن حتمًا لديك إجابة لكل ما سبق. أما بالنسبة لامرأة أربعينية، تعيش في مجتمع كهذا، وفي ظروف كهذه، صدقني لن تكون الإجابة سلسة وقد تنتهي بمشهد مؤثر وجدي..
تحدق فاطمة إلى المكان تحتها….«. (ص9).
وبعد خطاب مسرود ممتد عبر ثلاث صفحات – يسلم السارد السرد لفاطمة ليضعنا أمام خطاب مباشر، وحوار أشبه بمناجاة خارجية بين فاطمة الحاضرة وربيع غير الحاضر، ومن خلاله تلوح فاطمة بمحصلة نهائية لحكاية الحب، عبر المسرودات؛ إذ تتفسخ علاقة الحب العميق، التي امتدت من الطفولة إلى مرحلة ما بعد الرشد.
بعد تلك العتبة السردية المزدوجة بين الماضي والحاضر، يبدأ السرد عبر اللافتات، المراوحة بين الماضي والحاضر، ودون تحديد الزمن العتبة، على الصفحة؛ تبدأ فاطمة بسرد الماضي في اللافتة الأولى:
»جئت إحدى الليالي بعدما انتظرتك طويلًا وعندما عاتبتك أظهرت لي ساقك وهو ينزف….«. (ص13)، ويمتد السرد مبينًا ملابسات اللقاء بين فاطمة وربيع، على لسانها، حتى ختام اللافتة الأولى، ثم ينتقل السرد للافتة الحاضر، المحدد بخط عريض كعتبة نحو: (2014م). (ص15).
وعبر خطاب مسرود ممتد لنصف الصفحة، يتنحى السارد عن الخطاب المسرود، ليضعنا أمام حوار ممتد بين فاطمة وجميلة ابنة أخيها حتى نهاية اللافتة، ثم تبدأ اللافتة الجديدة دون تحديد زمني إلا أن السرد يبرز حاضر تموضع فاطمة وهي على رف النافذة، مستندة ومضطجعة على جانبها الأيسر ويدها تحت خدها، في خطاب مسرود، ويختتم السارد اللافتة، ليضع لافتة منفتحة على الماضي، متنحيًا عنها نهائيًا ومانحًا فاطمة الحكي في خطاب مباشر، تحت عنونة عريضة: (قبل).. 1985م).
وهكذا يتناوب السرد بين الماضي والحاضر عبر لافتات متضادة الاتجاه الزمني، بين الماضي والحاضر، مما يبرز السرد عبر مشاهد سينمائية ثنائية، ليضعنا أمام لوحات تنظمها شاشة سينمائية تقود السرد ومتلقيه، عبر مراوحة متقاطبة الطرفين.
إن اختراق البنية الزمنية، وإبراز التداخل الزمني بين الحاضر والماضي، عبر تقانة عرض اللافتات وتناوب حركتي الزمن بصورة سينمائية – يشي برغبة الناص في وضع المتلقي في مواجهة مباشرة مع محصلات بارزة، تغنيه عناء المتابعة والتوقف والعودة لمقاربة تداخلات الزمن، وتمنحه آلية جاهزة ومنتظمة، تغنيه عن مشقة البحث والفصل بين أزمنة السرد، من الداخل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، وهي الأهم، تضع وبوضوح الخطوط العريضة للتداخل بين الماضي والحاضر، كغاية تقنية لإبراز المفارقة الزمنية، وغاية رؤيوية خاصة، تبرز مدى إصرار الشخصية الرئيسة في استدعاء الماضي الجميل، بغية ضغط نفسي من الداخل، لمقاومة الحاضر المحبط، والإصرار في تقويضه ورفضه، والاكتفاء بالذكرى كمدكر حياتي، يحجب الحاضر، عبر لافتات سينمائية، تتناوب من خلال كنترول يتموضع في قبضة الكف، يتم من خلاله ترشيح الأحداث الجميلة والخصبة باللقاء والقرب والحب، للظهور، التي يطغى في حجبها التحكم الطبيعي الكوني، دون مراعاة أحلام الذات وطموحاتها، كما أن السارد (فاطمة) يرغب في وضعنا أمام محصلة كمية، تبرز غلبة لذة الحياة في الماضي، على مر الحاضر وسوداويته، كحسبة خاصة تنطلق من ثقل قوالب أحداث وأزمنة الاتصال والتقارب، بينها وبين ربيع، فوق حركة الزمن الممتدة أفقيًا.
– اختراق المضمون السردي (الرؤية المضمونية):
يبرز اختراق المضمون السردي عبر مستويين:
الأول: وقد مررنا به في مدخلة سرد الحب، وبطريقة غير مباشرة. ويمكن أن نعد كل اختراق للسلطة الأبوية العائلية خاصة والمجتمعية، عبر اختراق المحظورات، والتي تتمثل في تقويض ربيع وفاطمة لثقافة المنع الأبوية والمجتمعية، التي ترفض طقوس اللقاء والتواصل بين المرأة والرجل، قبل انعقاد الرابطة الشرعية المروج لها، عبر طقوس مستقرة، وتعده سلوكًا مخلًا بالشرف وخادشًا لكرامة العائلة والمجتمع معًا – يمكن أن نعد كل مسرود مضمونه هذا الاختراق، أنموذجًا لذلك.
وإلى جانب ذلك يبرز السرد اختراقًا نوعيًا يتمثل في اختراق عالم المرأة.
– اختراق عالم المرأة:
ولعلنا نتفق على أن ثمة عالم خاص بالمرأة، يصعب كشفه، كونه يظل حبيس فضاء التواصل النسوي، وكونه يتضمن الالتفاف المرن على ضوابط السلطة الأبوية، ويظل سلوكًا مخفيًا عن السلطة الذكورية، ولا يستطيع، الإلمام به الذكور، وقد يؤدي لاضطراب العلاقة النوعية، بين الرجل والمرأة، إذا ما تم تسريبه لفضاء الذكور.
ويمكن التمثيل لهذه الأنماط من الاختراق في عدد من المسرودات التي تشي به:
اختراق السرد لكواليس العلاقة بين الأخت والأخت:
إذ يبرز ذلك من خلال ممارسة (فاطمة) اختراقات السلطة العائلية، بتواصلها المنفرد مع ربيع، ومعرفة ذلك من قبل أختها (خديجة) دون أي تعارض أو تجسيم للأمر أو اندهاش أو خوف؛ إذ منذ بداية العلاقة بين ربيع وفاطمة، وخديجة على إحاطة بكل مغامرة بين الاثنين، وليس ثمة استنفار من قبل خديجة، إلا في المراحل الأخيرة من العلاقة، وبعد اتفاق ضمني مشروط ومستقر بينها وبين فاطمة على أن يكف ربيع عن ذلك ويأتي من باب البيت، أي يطلب يد فاطمة رسميًا من أبيها:
»عدت بعدها، للداخل، وعندما دخلت الغرفة كانت خديجة بانتظاري “أنت لم تتوبي؟ أظن أن الأمر قد طفح، أقسم أنني سأخبر أبي”.
– “لا لن تخبريه شيئًا”……… “أنت، تكذبين” قالت وهي تشير بسبابتها لوجهي، لكنني كنت، أحتاجها، كنت أتحمل صراخها، وحتى عندما، تدفعني وتهز بكتفي بعنف، وكنت أصمت أمام الكثير من أسئلتها، أولًا لأنها كانت محقة جدًّا، وثانيًا لأنني بحاجة إلى مساعدتها، ولكن إقناعها هذه المرة، كان شيئًا شبه مستحيل……. “اسمعي” قلت لها وأنا أقترب أكثر منها، وأحيل صوتي إلى همس “إذا أردتني أن أبتعد عنه، عليك أن تساعديني…«. (ص98).
ومن نماذج اختراق عالم المرأة الخفي أيضًا يمكن أن نسوق النماذج الآتية:
»جلسات النساء ثرثارة كعادتها، يخضن فيما يهم وما لا يهم، فيما يستحق، وفيما لا يستحق، وغالبًا ما تنتهي بكشف أسرار، جديدة وحصرية، وكأن كل واحدة تقول للأخرى “إياك أن تذكريني بسوء في غيبتي، فإنني سأعرف بالأمر، وكما قيل في المثل الحضرمي (مبعد متسمرة جابت سرة) ……..- “في عرس “آل باجمال” قبل أسبوع، هل رأيتن الفتيات؟ يع يع يع” قالت أم أمجد “أين الحشمة؟ أين الحياء؟ ملابس عارية -أعوذ بالله من الشيطان- هذه، ترينا صدرها، والأخرى ظهرها، والثالثة بطنها،، (يفييييييه) من أين أتن”؟«. (ص31).
ويأتي ضمن اختراق عالم المرأة:
»بينما كنت أتبادل التلويحات الصامتة مع أروى ودلال اللتين كانتا تقفان بفم الباب، وكنت أغمز لأروى وأعيرها بنظراتها الخاطفة نحو أخي وأتهمها بالحب، بينما كانت هي تضحك ثم تطبع قبلة بأطراف أصابعها وتنثرها نحوه، وهو غارق في شروده، ثم تعود لتضحك ضحكتها الشقية…..«. (ص82).
خلاصة القول، إن سرد الحب والاختراق في رواية (النافذة الصفراء)، يمثل الهاجس السردي، الذي كان أشبه بمصب رؤيوي مزدوج، تسقط فيه كل المترشحات السردية، وبشكل من المراوغة السردية، التي تتوخى إبراز الرؤية الأنثوية هشاشة الحصانة الأبوية التي يحاول الرجل من خلالها، كند نوعي، أن يضع حدًّا لقلقه تجاه المرأة التي يرى فيها مجلبة للعار وتقويضًا لشرف الرجل وكرامته، إذا ما تم تركها دون حجاب أو ساتر، يخفيانها عن بصر الرجل.