حوار مع الأستاذ صالح علي العطاس
حوار
أ. علي سالمين العوبثاني

المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 97
رابط العدد 15 : اضغط هنا
حاوره: علي سالمين العوبثاني
الأستاذ الفاضل/ صالح علي محمد العطاس، عرفته قارئًا نهمًا، مجتهدًا في قراءاته المعمقة للكتب بمختلف تخصصاتها، يمتاز بفكر ناضج وعطاء ثقافي واسع، تجلى من خلال الغوص في محاضراته التي يلقيها في المحافل الأدبية والمنتديات، ومقالاته في الصحف المحلية، ولقاءاته الإذاعية، وقد أردت من هذا اللقاء اقتحام أسوار عقله؛ كي أعطي القراء ملمحًا عن شخصيته المثقفة بما يحمله من ردود عن أسئلتي المطروحة، التي آثرت تناغمها مع أسلوبه التعبيري، ونمط تفكيره، ومنهجه الذي درج عليه، ولا أخفيكم سرًا، إذا ما قلت بأن الكثيرين قد يرون في حديثه تحليقًا بعيدًا عن واقع مجتمعه، وفي حديثه الموجع انتقادًا لا تبرير له، وقد يرى آخرون ومن وجهة نظر محايدة بأن ما يسوقه من طرح يلامس واقع مجتمعاتنا العربية، التي تنوء بأحمال من المشكلات تثقل كاهلها، وهذا ما لا يختلف عليه أحد، ولعلي هنا أستشهد بما قاله لي الدكتور عبدالقادر علي باعيسى ذات مرة، بعد حضورنا الجلسة المعتادة التي تجمعنا أسبوعيًا كل يوم خميس مع أ. د عبدالله حسين محمد البار حفظه ربي ورعاه، قال: (بأن الأخ العزيز صالح العطاس ذو عقلية نظيفة، وفكر ثاقب، وأخلاق رفيعة)، وقد صدق فيما قال.. فالناقد والأديب والشاعر باعيسى له رؤيته الواقعية وقراءاته، وله مؤلفات في النقد الأدبي، وكان لي معه لقاء صحفي ضمن لقاءات متعددة أجريتها مع مجموعة من أدبائنا ومثقفينا وشعرائنا في حلقات عنوانها (رحلة في عقل… حضرمي) يتقدمهم أ. د. عبدالله حسين البار، وأذكر في القائمة منهم: الدكتور طه حسين الحضرمي، والأساتذة/ صالح سعيد باعامر، وعلي عمر الصيعري، وعمر عبدالرحمن العيدروس، وسالم عبدالله بن سلمان، هذه الكوكبة المستنيرة علمًا وثقافة وأدبًا، جادت قرائحها بما تختزنه من علوم لتنثره دررًا ناصعة تستفيد منها الأجيال الحاضرة والمقبلة، التي بالضرورة ستؤدي إلى فتح الآفاق، وتوسيع المدارك أمامها نحو خلق إنسان قارئ، ناقد، يميز بين الغث والسمين.. لننتظر منه عطاءً لا ينضب، وإنتاجًا لا ينتهي، ويسمو بثقافته إلى العلا، ويصبو إلى الأفضل.
أستهل لقائي معه بتوجيه جملة من الأسئلة في سؤال واحد تكون مفتتحًا للحوار معه: السؤال:
• هل مثَّلتِ المفاهيم والمصطلحات الوافدة إلى الوطن العربي في كَمَّها المهول أحد أسباب تأخرنا الحضاري والثقافي؟ وبخاصة إذا نظرنا إلى تلك المفاهيم من محددات مضمون خصائصها التراكمية والثقافية والاجتماعية؟ وهل للفروق المرحلية من حيث خاصيتها الطبيعية والعلمية أثر على ذلك؟ من منظور أو ارتكاز نظرية الهُوَّة المعرفية؟
– إن اللغات في منطقها الذاتي العام لا تملك خاصية الشفافية والنقل المباشر باتجاهه المستقيم الدقيق، وذلك بدءًا من علاقة اللفظ بالمعنى وكافة عناصرها التآزرية التساندية والإسنادية المختلفة، وقد أشار إلى ذلك (أوستن) في نظريته لأفعال الكلام؛ حيث يقول: (إن هناك فجوة لا يمكن سدها بين المعطى الحسي والإدراك). لذا فإن مقولة (اللغة مرآة العقل أو الواقع)، فيها قدر كبير من اللبس، فالاستتار والغموض واللبس والمراوغة والمجاز وغيرها من خصائص جوهرية في منظومة اللغة، وكما أثبتت اللسانيات الحديثة استحالة المطابقة بين اللفظ والمعنى، كذلك أثبت علم النص الحديث استحالة مطابقة اللغة للواقع (ذلك الموجود في الأعيان)، فمهما بلغت قدرتها ستظل اللغة مجرد تمثيل لهذا الواقع لا مرآة له. وستظل هناك تلك المسافة التي تفصل بين اللفظ وما يشير إليه في عالم الواقع، وسيظل اكتمال المعنى اللغوي مرجأ دومًا ومنفتحًا على التغيير ما دامت الجماعة الناطقة باللغة كعهدها دومًا تستخدمها بصورة مبتكرة ومفاجئة أحيانًا على الرغم من ذلك فإنه لم يزل للكثيرين الرغبة بالتشبث بها، ويجدون صعوبة بالغة في تقبل فكرة كون اللغة ليست بتلك الأمانة والدقة في تمثيل الواقع. وأن وسيط اللغة ليس شفافًا بل تشوبه العتمة، وهذا وحده يدخلنا في تساؤلات غير محدودة.
فارتكازًا على ما سلف علينا أن نقف بالتدقيق والتمحيص للوصول للإجابة العلمية النوعية الصارمة والدقيقة أمام الآتي:
إن المفاهيم التي وفدت إلى الوطن العربي مع الاختراق الأوروبي وبحدته الواسعة منذ مطلع القرن العشرين والمنسحبة على كل المجالات العلمية وبما تسمى بمفاهيم التقدم والنهضة والحداثة كانت تطبيقاتها على الوطن العربي تطبيقًا قسريًا، وتقليدًا مبتسـرًا، واستهلاكًا ابستمولوجيًا عبثيًا في جزئه الكبير ونسبته العظمى، لذلك لم يرافقها أي تحديث للفكر والحريات وللعلاقات وللنظم السائدة كافة.
• كيف يتعامل بعض المثقفين العرب مع مفاهيم التقدم والنهضة والحداثة.. من وجهة نظرك؟
– إن بعض المثقفين أرادوا ومن خلال تعاملهم مع تلك المفاهيم أن يبرزوا صورهم المعرفية -وهو وهم معرفي عميق- دون أن يعوا أنهم قدموها من خلال الصورة المنبثقة من داخل المرايا المحدبة -وقد أعطى (عبدالعزيز حمودة) تفصيلًا حول ذلك في كتابه (المرايا المحدبة)، وهي التي تضخم حقيقة الواقف أمامها وتبالغ في حجمه، والأدهى هنا أنهم صدقوا صورهم في تلك المرآة بمرور الوقت.
هذا التصديق سبَّب لبعض المثقفين العرب شرخًا غائرًا في أعماق نفسياتهم، كان سببًا حقيقيًا في وصول المثقف إلى حالة من الانفصام -وليس الفصام-، الذي ظل يعيشه ويستمر معه، فخلق بذلك كل أزماته التي ارتضى أن يعيش معها بدلًا من تقديم الحلول الناجعة لها، ولم يكن قادرًا على امتلاك ناصية البحث عن التشخيص فينقد نفسه وأمته ليحقق مشروعًا قوميًا عربيًا صرفًا.
• هل تعني بأن الأمر يحتاج إلى كثير من الذكاء وتمحيص أكاديمي عالٍ حتى لا نعيش خارج جوهر الهوية ونبقى على الدوام مستهلكين واجتراريين وأمعائيين؟
– بكل تأكيد حديثنا هنا عن الظاهرة في عموميتها، التي من طبيعتها تجاوز منطق الحدية الخصوصية، التي تشمل عددًا ليس بالقليل من المبدعين العرب، الذين تمكنوا من تقديم رؤى ثاقبة بتفحصهم لعدد كبير من الدراسات، واستطاعوا أن يبينوا النزعة الشمولية لكل النماذج العالمية، التي أراد لها أصحابها التطبيق القسري في واقعنا الإسلامي والعربي؛ حيث تم التعامل مع المنطقة العربية أساسًا في ضوء كونها مخزنًا للنفط والوقود على المدى الطويل، كما يمكن القول إن تقسيم العالم إلى مناطق بنموذج مجموعة (ميزاروفيتش)، ونموذج مجموعة (ليونتييف)، كان تقسيمًا بتروليًا صرفًا، وهناك أعداد لا حصر لها تخرج من بوابة هذه الرؤية تحتاج الوقوف معها إلى فهم المضمون العلمي الدقيق، وإلى كيفيات تمكننا من معرفة الفروق في هيكل النموذج، وقياسات المعلمات، ونوعية القيود، ومنهجية تقنين المقاربات، إن كان هناك سعي حقيقي واعٍ بمستقبل يتحقق فيه إشباع الحاجات الأساسية.
• إذن، كيف يتم تحليل المفهوم من خلال النسق كحالة، والنسق كعملية علمية، وفلسفة المعنى وأنساقه المتعددة؟
– لو توقفنا عند الاهتمامات التي تنصرف إليها فلسفة أي علم، فسوف نتبين أنها -على الرغم من تعددها واختلاف مراميها- تتفق جميعها في صفة مشتركة، وهي أنها تتناول العلم من خارجه وليس من داخله، أو بعبارة أخرى أنها لا تتكلم عن العلم وأولوياته ومفاهيمه وفروضه المسبقة واللغة التي تساق فيها نتائجه، لكنها تتكلم عن موضوعات يهتم بها العالم نفسه، وبتعبير آخر فإن فلسفة أي علم تتكون من عبارات تقال عن العلم، لكنها لا تكون هي نفسها عبارات علمية، أي لا تكون من بين عبارات هذا العلم، ومن ثمَّ فهي عبارات لا تقال في العلم.
وهكذا تكون فلسفة المعنى كونها فلسفة اللغة -لو طبقنا هذا المعنى بالنسبة للغة بوصفها علمًا- سنجدها أنه كل ما يقال عن اللغة، لكنه من بين ما يقال في علم اللغة.
إلا أننا حينما نتكلم عن اللغة، فإننا في الوقت نفسه نستخدم اللغة، وفي هذه الحالة علينا ألا نخلط بين مستويين من اللغة: اللغة بوصفها علمًا، وهي الموضوع الذي نتحدث عنه، واللغة التي نستخدمها في التعبير عن علم اللغة. اللغة الأولى الخاصة بالعلم (أي علم اللغة)، وهي الموضوع الذي نتكلم عنه، ونسميها في هذه الحالة (باللغة الشيئية)، أو (لغة الموضوع)، أو (لغة المستوى الأول). أما اللغة الثانية، وهي التي نستخدمها في الكلام عن الأولى، فنسميها (باللغة الشارحة)، أو (ما بعد اللغة)، أو (لغة المستوى الثاني).
لذا فإن المعاني ليست دائمًا واضحة وضوحًا كاملًا، لذلك فمن الضروري تحديد المعاني وتوضيحها حتى يتسنى تحقيق عملية الاتصال على نحو صحيح ودقيق. وعادة ما يتم ذلك التحديد والتوضيح عن طريق التعريف للألفاظ والتحليل للعبارات، وبخاصة التحليل المنطقي. فتحليل عبارات اللغة من شأنه أن يوضح ما له معنى منها، وما ليس معنى له.
والمعنى يواجه عند الغربيين وهو يستهل بدايات القرن الواحد والعشرين صعابًا على مستويات المفهمة والتعريف، وتكاد تتمحور هذه في إيجاد آليات وأدوات تكون عينة لتبصر النص وتعقل دلالاته دون عوض، لذلك يعرف المشهد الثقافي الآني اجتراحًا وغزوًا للمناهج والمقاربات النقدية، بهدف كسب الرهان وكشف النقاب عن مفاتيح القراءة وأنماط تشكلها.
وعلى طرفي نقيض يلاحظ المتتبع لخريطة البحث اللساني العربي أن اللسانيات ما تزال (ذلك المجهول الذي يثير فينا ريبًا وشكًا وتوجسًا وخوفًا، أكثر مما يثير فينا نزعة -ولو فضولية- لمعرفة موقفنا من الثقافة والعلم والمعرفة في العالم)، فعلم اللسانيات لم يحظ بعد بالأهمية التي حظي بها في الغرب، إذ على الرغم من (مرور نصف قرن، على معرفته، والعلم به، والبحث فيه وتدريسه في الجامعات العربية، ما زال علمًا غريبًا على جمهور المثقفين في الوطن العربي، ناهيك بجمع من القائمين على تعلم اللغة العربية في المدارس والمعاهد، وتلك -ولا شك- آفة من آفات انفصال الجامعات العربية عن مجتمعها).
فالواقع العربي الراهن للسانيات في ثقافتنا العربية أثار، وما زال يثير أسئلة كثيرة عن الأسباب الكامنة وراءه، وفي زمن أصبحت فيه اللسانيات رائدة العلوم الإنسانية، وإليها يستند قيادتها. وهذا ما قاد مجموعة من الباحثين -لسانيين وغير لسانيين- إلى القول بوجود أزمة في البحث اللساني العربي (وتتمثل هذه الأزمة في مجالاته النظرية، والمنهج والموضوعات البحثية، والجوانب المؤسسية المتصلة بأقسام تدريس اللسانيات، وفي الأستاذ وتدريب الطلاب. كما نجد أن هذا العلم لا يزال هامشيًا مقارنة مع العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى بالرغم من الازدياد المضطرد للمتخصصين فيه، وبالرغم من الأهمية المركزية لموضوعية اللغة في المجتمع).
إن الأزمة شملت كل مجالات البحث اللساني وكل القطاعات المرتبطة به، وهذا ما يعبر عنه أحد الباحثين بالقول: (إننا نشكو من أزمة لغوية حادة تلطخ جبيننا الحضاري، أزمة على جميع الصعد تنظيرًا، وتعليمًا، نحوًا، ومعجمًا، استخدامًا وتوثيقًا، إبداعًا ونقدًا).
إنها أزمة تَطَال أعلى المؤسسات في البلدان العربية، أعني المؤسسة الجامعية، والمسئولين عنها.
وهذا ما يعمق الإشكال أكثر، ويزيد من حدته، ويجعلنا نحس بنوع من التناقض الصارخ بين واقع البحث اللساني العربي ونظيره في الغرب.
غير أن الإجماع على وجود أزمة في البحث اللساني العربي لا يوازيه تصور واضح لطبيعتها ومسبباتها، ومن ثمَّ اجتراح حلول ناجعة لتجاوزها.
كما أن معرفتنا بمنطق اللغة بصفة عامة، من شأنه –على حد تعبير (فتجن شتاين)- أن يزيل أغلب المشكلات التي قد تبدو متعذرة الحل، ويكون سببها راجعًا إلى الغموض في المعاني أو الالتباس أو غير ذلك.
• يبرز لي سؤال جوهري، على التو، أستهل الفرصة لطرحه عليك وهو بالتأكيد يأتي من صميم المشكلة اللسانية في الوطن العربي وعلاقتها بالترجمة: هل لذلك من أثر أسهم في تعقيد المشكلة.. يا ترى؟
– دعني أستاذي علي هنا أن أنقل إليك رأي كاتب اشتغل بجدية عالية وبأكاديمية صارمة ومتعمقة بالدرس النقدي الحداثي ألا وهو (عبدالعزيز حمودة) وبلهجة -متوافقة معك- ملؤها الخوف والحذر عن مدى إمكانية نقل النظريات الحداثية إلى اللسان العربي.. فيقول: (أثير في النصف الثاني من القرن العشرين، أن ترجمة النظريات النقدية، خاصة الحداثية وما بعد الحداثية، تمثل أعلى درجات التحدي لقدرات المترجم ذهنيًا ولغويًا، فالمترجم هنا يجد نفسه يتعامل مع مصطلحات لغوية مفردة أو مركبة، لم يحدث الاتفاق على دلالتها بعد بين أبناء الثقافة الواحدة، وأحيانًا بين أبناء الثقافة التي أفرزتها، أو بين أبناء الثقافات المختلفة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ارتباط المدارس النقدية الحداثية وما بعد الحداثية كالفلسفة الأوروبية الحديثة، خاصة الظاهراتية والهرمينوطيقية، ونحت المصطلحات والمفاهيم من داخل البيت الفلسفي يجعل إدراكه المعنى حتى على القارئ من داخل الثقافة نفسها تحديًا آخر أكثر إجهادًا للقارئ، فما بالنا بالمترجم؟ وفوق هذا وذاك، هناك العنصر الحداثي وما بعد الحداثي، القائم على تعمد الغموض والإبهام لتأثير إبداعية النص النقدي وأهميته، هذه العوامل مجتمعة في نص حداثي نقدي غربي يضع المترجم، أمام مهمة شبه مستحيلة).
ثم إن (عبدالعزيز حمودة) يشير إلى هذه النتيجة المؤسفة (ومتابعة سيل الترجمات الحداثية إلى العربية في العشرين عامًا الأخيرة، تؤكد أن المترجم العربي عامة لم يكن على مستوى تلك المسئولية).
• هل تقصد بتحليل المفهوم بأنه يقتصر بكامله على علوم اللغة فقط، أو أن هناك أنساقًا أخرى متآزرة معها؟
– علينا أن نعرف أن كل مفهوم حديث أو متجذر لا بد وأن ينظر إليه من خلال مجموعة واسعة ومتعددة من الأطر والأنساق، ومن بين تلك الأطر للتمثيل فقط لا الحصر يأتي إطار (نسق نوعية الحياة)، الذي يرتبط بنسقين آخرين، هما: أولًا العلم الاجتماعي، ويتفرع منه (نسق الرفاه)، و(نسق التنعيم). ثانيًا يرتبط بما سبق من مفاهيم أخرى وثيقة الصلة بها هي (نسق التنمية)، و(نسق التقدم)، و(نسق التحسين)، و(نسق إشباع الحاجات)، بالإضافة -وهو الأهم بالنسبة للوطن العربي- يأتي (نسق الفقر)، وعلينا أيضًا أن نميز لدراسة ذلك بين (ماذا يعني النسق كحالة؟)، و(ماذا يعني النسق كعملية علمية؟)، فهناك مثلًا الحالة الاجتماعية والعملية العلمية الاجتماعية والتفريق بينهما كرؤية تمثل استراتيجية جوهرية للتعامل مع المفاهيم. فلكل مفهوم إذن حالتان يفرضهما منطق أي دراسة أيًّا كانت، هي تتجه في تعاملها مع المفاهيم، فمثلًا المفاهيم الثقافية لا بد أن ننظر إليها من خلال: (الحالة الثقافية)، و(العملية العلمية الثقافية)، وهذا المثال يسحب نفسه على دراسة كل المفاهيم، ومن بينها مفاهيم اللغة، ومن الواضح أن أي مفهوم في أي مجال والمفاهيم الأخرى المرتبطة به تتوقف أولًا وبشكل مباشر على مجمل الأنساق والسياقات التي تحتويها تلك المفاهيم بشكل أدق وصارم. فمن الممكن أن يُعَدَّ جانب ما من الوجود البشري مرغوبًا فيه في مجتمع معين وفي مدة زمنية معينة ومحددة، لكن هذا الجانب يمكن أن يفقد تلك الخاصية بمرور الزمن، بل ربما يمكن أن يعد مكروهًا سواء في المجتمع نفسه في نقطة زمنية أخرى، أو في مجتمع آخر في المدة الزمنية ذاتها. وكل تلك الاعتبارات يجب الوقوف أمامها في المعالجات المختلفة لكل المفاهيم العلمية.
• من ملاحظتي مما سبق ذكره في موضوعك برزت لي إيماءة متمثلة في رؤيتك أن الذاتية هي أكبر مشكلة في تمثيل المفاهيم ومواءمتها؟
– لعل أهم هذه المشكلات المتعلقة بمعاني المفاهيم تأتي من سببين رئيسين هما:
أولًا: عملية تمثيل المفاهيم، أي ما هي آليات تلقي المفهوم وكيفية تمثيله؟
من المعروف أن كل رمز ذي معنى توجد له مجموعة من القواعد التي تتحكم في استخدامه (وهذه القواعد هي معنى الرمز)، ويكون قد تم شرح أو تفسير معنى الرمز حين يتم شرح أو تفسير القواعد التي تحكم استخدامه.
إلا أن الأمر -من الناحية العملية- ليس على هذه الدرجة من التبسيط، فكثير من الرموز، يبدو أن لها قواعد مختلفة، بل وحتى متعارضة تحكم استخدامها.
وسوف نتناول في ما يأتي بعض هذه المشكلات عن المعنى لكي نحدد أسبابها، وما يترتب عليها من آثار في التفكير، وكي نتبين ما إذا كنّا نستطيع وضع المناهج التي تضمن ألا نضل أو نخطئ بسبب هذا التعارض في رموزنا ومفاهيمنا.
ولعل أهم هذه المشكلات المتعلقة بالمعنى هي تلك التي تعوق أو تعطل إحدى وظائف اللغة الأساسية، ألا وهي وظيفة الاتصال.
ومن الطبيعي أن نشير أولًا إلى وظيفة الاتصال، ومن ثم علاقته بالمعنى.
وبما إن الاتصال ومن ثم المعنى اللذان يرتبطان بشكل قوي جدًّا بـ(الذاتية)؛ حيث تبرز على الدوام وبدرجة عالية في مسألة تحديد جوانب الوجود البشري وأبعاده (الاجتماعي – الثقافي…. إلخ)، التي يمكن عدّها (مرغوبة) أو (مكروهة)، وبما يبرر تضمينها كعناصر للمفاهيم، بل تزداد مشكلة الذاتية تعقيدًا إذا ما دخلنا في تفاصيل دقيقة في عملية التحديد هذه. بمعنى من يقوم بهذا التحديد؟ وكيف؟ وتتعقد المشكلة أكثر إذا ما دخلنا في قياس مدى الرغبة في هذا العنصر المفهومي أو ذاك، وهنا نصل إلى السبب الجوهري الثاني وهو (المواءمة) الذي عليه وبصورة أدق يأتي تحديد قيمة ما لقياس عنصر مفهومي معين في مجتمع معين بأطر معينة وفي مدة زمنية معينة.
أريد هنا أن أشد انتباه القارئ إلى مسألة في غاية الجوهرية ألا وهي (إن سوء استخدام كل معايير ومقاييس البحث العلمي إنما يعود إلى تحيزات القائمين عليها وليس كامنًا في طبيعة المقاييس في حد ذاتها).
فلا يمكن -إذن- فهم البحث العلمي بمعزل عن العوامل المحيطة بالباحث، والسياق السياسي والاجتماعي الذي يعيش فيه، فالباحث ليس ذلك الإنسان الذي يعيش في برج عاجي يطور أفكاره ويختبر فروضه مدفوعًا فقط بفضوله العلمي وفي رغبته في تطوير مجاله البحثي والإضافة إليه.. بل إن الباحث -بالإضافة إلى ذلك- إنسان له تحيزاته وهمومه، ويعيش في زمن معين وأرض معينة.. هذه التحيزات والآراء السابقة بل الأوهام والطموحات والآمال لا يمكن للباحث أن ينزعها عن نفسه بشكل آلي على باب معمله قبل أن يدلف إليه، بل هي موجودة دائمًا تصحبه في مجال عمله كما تصحبه في حياته الشخصية.. ومن ثم أصبح هذا الفصل المصطنع بين الباحث وموضوع بحثه بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي فصلًا غير ذي معنى.
فالموضوعية المطلقة وهمٌ حتى على المستوى الفيزيقي كما بيَّن ذلك عالم الفيزياء الألماني (فيرنر هيزنبيرغ) في مبدئه المعروف (بمبدأ اللا يقين). فحتى جزئيات المادة وفقًا لهذا المبدأ تختلف حركتها اعتمادًا على الشخص الذي يقوم برصدها من زاوية رؤيته.
فالموضوعية إذن ليست في التشدق بالأرقام والمعادلات، بل في قدرة الباحث على الوعي بتحيزاته وتأثيرها في عمله.
إن هذا الوعي بالتحيزات المسبقة -وليس تجاهلها- هو أكبر ضامن لتحقيق الموضوعية.
وهنا نود أن نشير إلى أن ذلك الاتجاه موجود مع العلوم الطبيعية التي تضيق كثيرًا فيها تحيزات الباحث فما بالنا إذن بالباحث في العلوم الإنسانية وبخاصة إذا فقد الأساس المتوازن بين المتدربين على البحوث والأساتذة المشرفين.
وعلينا أن نقف جميعًا لاستبصار ذلك وبخاصة في مجتمعاتنا العربية (والمجتمع الحضرمي منه على وجه الخصوص)، وبالذات منذ مطلع القرن العشرين. فالتفكير النقدي، إن اجتمع مع التهذيب الأخلاقي لهو أقوى الوسائل قاطبة لتحقيق مستويات من الخير لم يعرفها كوكبنا من قبل.
• إذن كيف يستطيع العقل العربي في عصر التدفق المعلوماتي أن يجد له خطى ثابتة في تعامله مع المفاهيم المختلفة؟
– بالوقوف مع الدراسات المقدمة في العقل العربي نأتي إلى خلاصة هي أنه لا يستطاع أن يتعامل بسهولة مع (المفاهيم)، وبخاصة إذا عرفنا أن لها طبيعة متغيرة كما أشار إلى ذلك عدد من علماء اللغة بدءًا بالجرجاني ومرورًا بتشومسكي وانتهاء بالتفكيكيين ونظرية التلقي.
ولأن كل تأليف ينتج عنه علامة تغطي منطقة من المعيش النفسي أو الاجتماعي أو السلوك العملي، أي ما يسميه (بيرس) في كتاباته بالعادة التي تؤول وفقها الوقائع، فنحن إذن نؤوِّل دائمًا وفق غايات النفعية، ولأن القرارات التي شكلت اقتصادنا العربي والمجالات العلمية الأخرى كافة، ومن ثمَّ مفاهيمنا عنها هي في الواقع قرارات المنتجين لها.
فالمنفعة هنا أمر ذاتي يستحيل قياسه، ومن هذا الصميم بالذات وبكل تأكيد تأتي أكبر مشكلاتنا.
• برأيك ما هو الأهم والمهم من كل ما تقدم من حديث؟
– علينا قبل كل ذلك أن نتذكر على الدوام أننا بحاجة إلى أن نتعلم أن أي أداء أو أسلوب لا يرتبط بمنهج واعٍ لكل عناصره المتآزرة والمتكاملة ويؤطر بمنظور منطقي معياري نظري وتطبيقي لا يؤدي إلا إلى عدم الفاعلية، ومن ثم التراجع إلى الخلف خطوات بعيدة قد لا نقوى بعدها على تحقيق حتى أولى درجات النهوض، وعلينا أيضًا أن نؤمن بأن أي منظور لا ينطلق من الإنسان لأنه أهم جزء في أية معادلة تدعو للنمو والتطور هي الأخرى أيضًا لا تحمل منطق فاعليتها في ذاتها الموضوعية الجوهرية.
لذا علينا أولًا أن نعيد صياغة نفسية الإنسان ونحقق له البيئة المناسبة لذلك فهو الكائن الوحيد الذي طور نسقًا من المعاني والرموز الذي يدرك من خلالها الواقع، وهو أيضًا الكائن الوحيد الذي لا يستجيب مباشرة للمثيرات وإنما لإدراكه لهذه المثيرات وما يسقط عليها من رموز مختلفة بدلالات متعددة ومتشعبة. ولا يمكن إدراك ذلك إن لم نقم بتنمية الوعي المعرفي بتسليط الفكر على التفكير ذاته والتعرف على استراتيجياته وأنماطه وكيفية تمثيل المعارف التي تغذى آليًا وتتولد عنها.
فإن التفكير في التفكير يكسب القدرة على التوجيه الذاتي الذي يضم في إهابه سلسلة كبيرة من القدرات الذاتية من قبيل: الانضباط الذاتي، والتصويب الذاتي، والرقابة الذاتية. وهو ما يضمن الارتقاء بمستوى التفكير بصورة مثابرة ومضطردة.
وبناء على ما سلف من مهارات وقدرات يمكن النظر إلى إمكاناتنا في (مؤسسة جامعاتنا العربية والمحلية)؛ حيث نرى أن ذلك لا يتوافر إلا بتفاعل العقول -بعد اكتسابها كل المهارات اللازمة ومنها ما هو مشار إليه سلفًا- وتنمية نزعات التفكير الجمعي والعمل بروح الفريق، وهو ما يتطلب بداية ضرورة التزود بعدة معرفية جديدة ومتجددة، تؤهل المشاركين لاعتراك النزال الفكري خصوصًا أن كثيرًا من المشكلات الراهنة ذات طبيعة تتجاوز معرفة التخصص إلى عبور التخصصات، وقد لوحظ أن كثيرًا ممن يشاركون في جولات العصف الذهني يأتون إليها بميراثهم الثقافي النفسي المتخلف ومن غير إعداد كافٍ لهذه العملية الذهنية الجادة، وهو ما يتطلب ضرورة اكتساب الحد الأدنى من الخلفية المعرفية، وإعداد أوراق عمل تمهد للنقاش، وهذا هو ما نراه الأهم والمهم.