كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 104
رابط العدد 15 : اضغط هنا
“زاهد خريف” ليس اسمًا ثنائيًا لشخص ما، كالخطاط الباكستاني الشهير محمد زاهد مثلًا، أو الممثل الباكستاني أيضًا زاهد افتخار، أو لاعب نادي الموصل العراقي علي زاهد، ولكنه صفة لأول وظيفة كنت أؤديها في مرحلة اليفاعة، نظير مكافأة عينية بسيطة.
كان ذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي، في قريتنا الوادعة (الغريفة) إحدى ضواحي الديس الشرقية، شرقي حضرموت، حيث كان جدي لأبي -رحمه الله- يستعين بي في موسم الخريف مدوّنًا في كراسة مخصصة لتوثيق المحصول بمكاييل تقديرية، فكنّا أربعة: هو وخبير بزهد النخل، أي تقدير ما عليه من أعذاق، والمزارع المعتمد، وأنا، نطوف معًا، لأتلقى منهم أرقامًا دالة على عدد المكاييل التي تحملها كل نخلة، مما كان مختلفًا أنواعها، مصنفةً في صفحات مخصوصة، كالبقلة وهي نوع متعدد، والسقطراية، والطيبة، والمُكّية، والنفوخية، والباضواية، والبرحية، والقليزمية، والشوغلية… إلخ، وهي كلها محصول وفير، يبرّحون الفائض منه -أي يجففونه- في أحواش على مقربة من المزارع مسورة بالأحجار تسمى (الدروع)، ثم يتم تجميعها، ورزمها، حتى يتصبب منها الرُّب (الدبس) اللذيذ، لتكون مما يقدم في المناسبات، كإفطار رمضان أو (التهاليل) التي توهب لأرواح الموتى في (الختايم) التي كان لها روحانية شعبية، أو في ضحوات سائر الأيام في ما يعرف بـ(القيال).
ولأن القضاء يفقّه، كما يقال، فقد تطورت عامًا فعامًا من مدوّن عادي، أو قلم بيد محرّك، إلى زاهد مساعد، فزاهد مشارك، ثم زاهد ذي خبرة، ما جعل مكافأتي العينية تزداد عما سبق، حتى كنت أنتظر الموسم بتلهف لأقضي طقوس التطواف المقدس بالنخيل وأعذاقها المعلقة في الفضاء، صفراء، أو حمراء، مما يبهج ذلك الفتى الريفي الذي يستنشق كل صباح نسائم الأرض الطيبة المطل عليها البيت الذي يؤويه.
وتمتد الحكاية مع النخل وأنواع الرطب إلى فصول أخرى مع الزروع والفواكه والخضار في عصر ما قبل الكيمياويات، تتنفس الآن في الحروف والكلمات، فأشجار الجوافة (الزيتون في التسمية المحلية) لها عبق يضوع في المزارع، وكلما دنوت من شجرة ألفيتها مثقلة بما اصفرّ منها أو ما زال أخضر، فتهز إليك بجذع الشجرة ليتساقط ما يبهجك، حيث كانت الأرض معطاءً، وللطيور والعابرين ما لا يحول بينهم وبينه مُزارع، أو سواه. وكالزيتون، البيدان (بيدان بيدان حالي سويدان) الذي له عبق آخر مختلف، يذكيه طائر يمر بالأشجار ليلًا فـ(ينبق) من ثمارها، كأنه يؤدي وظيفة الدال على ما حان قطافه. وإذ تهز البيدانة تتساقط بيداناتها ألوانًا مختلفة، فمحمرّ، ومحمرّ مشوب بصفرة، ومصفرّ مخضرّ، وهي مذاقات مختلفة أيضًا. ثم لعلك تمر بأشجار الباباي الفارعة الطول لترى نهودًا طبيعية معلقة في فضاء، أو تتفيأ شجرة ليمون وارفة الظلال، وقد وشّت الأرض بحبات الليمون خضراء أو صفراء أو مائلة إلى صفرة، أو تمر بأشجار النارجيل (الميادع) محملةً بجوز الهند (الكزاب)… إلخ كالرُّمّان والحومر (التمر هندي). أما الخضروات فتبدأ من الفلفل الأخضر (البسباس)، والضدح، والرجنة، والكزبرة، إلى الباذنجان، والدبة البيضاء (القحزوز)، والبامية، والطماطم البلدي،… إلخ. ثم تميل على فضاء الحبوب بأنواعها، وإن تنس لن تنسى الدخن ولون سنابله ورائحتها وهي واقفة بشموخ على أرض ريانة، يتعهدها المزارعون بعناية تتجلى نتائجها في العطاء المتبادل.
أن تكون في قلب الأرض، في قلب الطبيعة، حيث ترى اختلاف الليل والنهار مشكلًا مظاهر الحياة، في دورة الإنتاج الزراعي، فذاك مما يجعلك جزءًا من تلك الأرض والطبيعة، فيكون لعبقها في مستنشقاتك موسيقا خاصة، تزداد صخبًا بقدر همسها، عندما يتدفق الماء في كل (عتم) و(صليف) بقراريط محدودة (جمع قيراط*) في أيام معلومات وفق دورة متفق عليها، فثمة دورة الفجر (غبشة) وهي قصيرة، ودورة أخرى أطول قليلًا هي دورة (الهجر)، أي نهارية. فيما هناك دورات استثنائية مغدقة، عندما تنهمر الأمطار أو تسيل الوديان، فثمّ عناق بين الأرض والسماء مثير بتفاصيله التي كنت أدرك بعضها فتى، ثم أدركت بعضها لاحقًا، أو أتمثلها الآن بعين أكثر وعيًا.
وعودًا على بدء، لقد كنت زاهد خريف، والخريف هو وقت اجتناء التمر، وليس فصلًا من فصول السنة الأربعة. إنه مدة من فصل الصيف، (وفي العربية: خرف في بستانه: أقام فيه وقت اجتناء التمر في الخريف)، حتى أن سكان المدن كالشحر مثلًا لهم مخترفات معروفة، كالواسط مثلًا، أو الديس الشرقية حيث كنت، ولا سيما حين يقر البحارة والصيادون على البر، عند ارتفاع أمواج البحر وهبوب الرياح، في تلك المدة من السنة، فكأنما الخريف إجازة العام الطبيعية. وبالمناسبة فإن هناك شكلًا من أشكال المقايضة القديمة كان يتم في المزارع وغيرها، إذ يقايض الصياد أو مملّح أنواع معينة من الأسماك ما يعرف بـ(المالح) وهو أشبه بالفسيخ عند المصريين، بكميات من الرطب، وهي مقايضة مالح بحلو، فيتلذذ ذو المالح بحلاوة الرطب المختلفة ألوانه، ويتلذذ ذو الرطب بلذعة المالح المتعددة أنواعه أيضًا.
هي لحظات بسيطة كان فيها الناس أقرب إلى إيقاع الأرض الأول، لذلك فموسم الخريف حافل بالزيارات الشعبية ذات المسحة الدينية، التي هي أشبه بالأسواق العربية القديمة حيث تروج التجارة الشعبية، وتفيض الفنون رقصًا شعبيًا وشعرًا، وبهجة إنسانية حقيقية، يتجاور فيها ذوو مهن مختلفة يجمع بينهم فضاء طبيعي، كأنما أرواحهم موصولة بسماء تحبهم وأرض يحبونها.
لم أكن زاهد خريف فقط، ولكنني كنت عاشقًا للأرض في كل الفصول، أتفيأ الأشجار، وأتكئ على المضالع، وقد أغفو أحيانًا تحت علب من العلوب العظيمة (أشجار السدر) أتنفس عبق الدوم (النبق)، أو أتتبع عصافير ملونة، تزقزق مبتهجة، متنقلة بين غصن وآخر، وبين شجرة وأخرى، تمامًا كما تتجلى الحياة والعلاقات الإنسانية بجمالياتها بين القرويين والقرويات في المزارع. ولعلي لذلك كنت ممن انفتح إدراكهم مبكرًا على حكايات ذات مرجعيات خرافية ورمزية كان يرويها المزارعون والعابرون، على إيقاعات الشعر الشعبي الذي يحفظونه في ليالي أنسهم ثم يستعيدونه في نهاراتهم، مستمدين منه نشاطًا وإقبالًا على حرث الأرض وتعهدها بالعزق والسقيا، ثم الحصاد.
ولعل من طريف ما عرفت لاحقًا من سيرة الشاعر العراقي الرائد بدر شاكر السياب الذي شغفت بشعره حتى كان موضوعًا لبحث الدكتوراه، أنه اشتغل، مضطرًا، في إحدى فترات فصله التعسفي عن العمل (ذوّاقة تمر) في البصرة الشهيرة بتمورها الرهيبة، وأبرزها البرحي، ثم لما زرت البصرة وقراها حيث بيت السياب في أبي الخصيب، تذكرت يفاعتي، فكانت البصرة معادلًا موضوعيًا للمشترك (التمري) بين ذواقة التمر الشاعر الباذخ وزاهد الخريف المتأمل في أسرار أسلوبه الشعري وهجرته النصية في الشعر العربي الحديث.
*قال المحضار: كفى لو معي (قيراط) معمور في الروضة ومسكن بشعب النيل.