عمار باطويل
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 15 .. ص 106
رابط العدد 15 : اضغط هنا
لست أدري لماذا اخترت العقدين الأخيرين للكتابة عنهما من 2000 إلى 2020م، هذه المدة مضت ولست أدري كيف مضت بي؟ فعندما حلت الألفية الجديدة وقتئذ كان عمري ما يقارب 19 عامًا. كنت شابًا متجردًا من القيود، أشعر بحرية كبيرة، بل ربما كنت في تلك المرحلة مراهقًا، وهي مرحلة يمر بها الكثير من الشباب. فأنا من مواليد 14 فبراير 1981م، وهو زمن يصادف مئوية رحيل الروائي الكبير دوستويفسكي صاحب رواية (الجريمة والعقاب). زمن مولدي لم أحتفل به حينها، ولعل والديَّ احتفلا به وفرحا كثيرًا عند أول صيحاتي قبل أن تودع الشمس حواف وادي دوعن. فقد كنت مباركًا في أيامي الأولى لأني حملت اسم جدي (مبارك). وجدي لا أعرف عنه الكثير؛ فقد رحل عن الحياة مبكرًا في خمسينيات القرن العشرين، ودفن في مدينة تريم المباركة، وبعد الاطلاع على مخطوطات أجدادي اتضح لي حياة جدي جيدًا فكان مهتمًا بزراعة أشجار النخيل، وورث عن جده مبارك حمد قطع زراعية عدة في شرج حاح وفي خيلة، وتعود وثائق تلك الحقبة إلى ما يقارب 200 سنة، وله أيضًا أراضٍ زراعية عدة في غيل الحالكة، ومن خلال تلك (المخطوطات) عرفت حياة جدي ومعاناته فقد تغرب مبكرًا في مكة المكرمة، واشتغل بها كما أخبرني عمي. فجدي مبارك -رحمه الله- رجل حساس وصاحب نخوة، وهو القائل:
لا قد خوتك عندك * * وعيال عمك صلاب
بيرعضون المصبح * * من مزون السحاب
ومن ثم تم تحويل اسمي إلى عمار بعد أن اشتد بي المرض، وهذا اعتقاد من البعض من أهالي مناطق حضرموت أن يغير اسم الطفل عندما يشتد به المرض لكي يتعافى وتمتد به الحياة. فمدة الطفولة عشتها هادئة بين وادي دوعن وهضبة حضرموت (الجول)، وأحيانًا في مدينة المكلا الساحلية، وهذا يتضح في رواياتي ففيها الاحتفاء بالمناطق التي عشت فيها وعرفتها جيدًا. ومضت بي الأيام تلو الأيام وهاجرت إلى السعودية، ومن ثم إلى أمريكا، وشعرت بصخب الحياة فيها، وبخاصة منذ سنة 2000م إلى 2020م، شعرت بأنني قطعت قارات، وعاشت بداخلي أوطان عدة، وشاهدت وجوهًا وأحببتها، وتنكرت لي وجوه وبعدت عنها لست كارهًا لها، فأنا لا أكره ولكن أبتعد وأتلاشى، لا أصدر ضجيجًا وأتوارى عن الأنظار.
لست أدري كيف مضت بي الأيام؟ وكيف قطعت هذه المسافة الطويلة؟! فعقدان من الزمن ليسا بتلك السهولة وسبقتهما ما يقارب 19 سنة أخرى وأنا أجر الحياة خلفي، وأسمع أصواتًا حقيقية تناديني وأصواتًا أجهل مصدرها تناديني فأنصت لها وأثق فيما تقول، وأصواتًا حقيقية لوجوه حقيقية لا أستمع لها؛ لأنها تحمل في أوتارها الزيف الحقيقي، وقد علمتني الحياة بهؤلاء وما زلت أتعلم من الحياة وتعلمني. خسرت الكثير منذ تلك المدة الأب، والأخ، والصديق، وهذه تجربة ودرس آخر تلقننا إياه الحياة، وهي تجربة الفقد الحقيقي للإنسان، وهذا الفقد لا ينبغي منّا له أن نذرف الدموع، فقد فعلنا ولكن هناك مرحلة الانسجام الروحي بين الأرواح وهي مرحلة أخرى ربما لم يمر بها البعض. منذ تلك المدة عشت حوات، وعوالم وهي تجربة غنية قادتني إلى معرفة ذاتي ومعرفة الله وحب الله. والله قادني إلى المعرفة وهي الحياة. لا أعرف كيف تجاوزت هذه المدة وهي مدة ذات عقاب كثيرة شعرت بها بكياني وهزتني، ولكن بطبع حالي لا أتذمر ولا أشكو لأحد، وشعاري الصمت دومًا كأني (ملك) (وأنا ملك نفسي)، أمشي رافعًا رأسي ولي الحق أن أفتخر بذاتي المتمردة، وأفتخر بكل الأصدقاء الذين أعرفهم عن قرب؛ لأنهم يحملون الصفة نفسها التي حملتها، وهي التمرد بصمت أو عبر الكلمات، وهو تمرد فريد من نوعه، أي الإصرار على الحياة برغم عقباتها وبرغم تقلباتها وبرغم الحروب. فمنذ أن وجدنا في الحياة ونحن نعيش في الحروب وبين الحروب، وهذا هو قدرنا وقدر الملايين من البشر، والرحمة لمن قست عليهم الحروب أكثر، وتركت في قلوبهم جرحًا عميقًا. نسأل الله اللطف، ونسأل الله السلام لهذا الوطن وكل الأوطان.
وفي الأخير كم تمنيت أن تطول الكلمات عن هذا العبور السريع في الحياة ومنذ 2000م إلى 2020م.
تجسدتْ في جسدي أرواح
وسكنتْ في حياتي مراحل
وعشتُ أزمانًا وعاشت فيَّ أزمان، وبين زمن وزمن حكاية، وبينها أرواح ووجوه سكنتْني وسكنتُها، ومنها مضيتُ وما زلتُ أمضي. أقطف الأيام وتقطفني السنون، فتحط بي في طرق أجهلها، فترفعني طرق أخرى، وأمضي وأرتقب الحياة وأغني.