حديث البداية
د. عبدالقادر باعيسى - رئيس التحرير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 16 .. ص 4
رابط العدد 16 : اضغط هنا
غالبًا ما يورث اختلاف المستوى الثقافي بين القراء بعض الإشكالات، نتيجة لسوء فهم، أو لعدم الإحاطة بالمفاهيم والمصطلحات التي يتخذها الكاتب، أو لعدم اطلاع على كتابات مماثلة أنتجها آخرون، فيلاحظ القارئ المتابع لبعض الكتابات والنقاشات الدائرة حولها ما يمكن تسميته اضطراب الأفكار والمستويات الثقافية، مما يؤثر على دقة الفكرة المراد مناقشتها، والتي قد تتضاءل فتغدو نقطة هامشية، أو غير موجودة، أمام انفلات الآراء والانفعالات ووجهات النظر الحرة، أعني غير المقيدة بالفكرة محور النقاش، يعلوها زبد آخر من السباب والسخرية، فكل يريد أن يغني بالطريقة التي تروق له، وذلك من حقه، لكن عندما تتداخل الأصوات وتضطرب حول موضوع معين يصبح العزف الجميل ضجيجًا. ولذا فمن المهم جدًّا تقارب الأصوات المتحاورة من حيث المستوى الثقافي، ودرجة الوعي، والإلمام الجيد بالموضوع منهجًا وفكرة.
لعل المشكلة تتمثل في أننا نميل في نقاشاتنا إلى ميولنا النفسية التي رسبت فينا منذ نعومة أظافرنا، أو ميولنا الحزبية أو العقدية، أو حتى الانفعالية التي لا يضبطها ضابط سوى أننا نريد أن ننتصر لأهوائنا، وهذه كلها يمكن الحد منها إذا عرفنا كيف نقرأ بطريقة منهجية تجعل حركة الكاتب مرصودة أمامنا بوضوح، فنتابع خطوات منهجه، حتى إذا انحرف نحو انفعالاته الذاتية كشفه منهجه قبل أي شيء آخر. هذا إذا كان يكتب بمنهج، أما إذا كان يكتب بغير ذلك فحدث ولا حرج وأنت تراه يرمي ومن بعده مناقشوه بالآراء أخماسًا وأسداسًا أكثر من الخمسة أخماس والستة أسداس المحددة للشيء الواحد أو للفكرة الواحدة. ولذا فمن المهم أن تسود في ثقافتنا الكتابة والقراءة المنهجيتين قدر الإمكان حتى نوفر على أنفسنا كثيرًا من الانفعالات واضطراب الطرق في الوصول إلى المعرفة وتعزيزها في واقعنا العلمي.
ثم إن التسرع في بسط الموافقة وإبداء الإعجاب الناتج عن حالة الانبهار الأولى بما نقرأ لا يقل خطرًا عن المقاطعة غير العلمية، فتدخل الأفكار إلينا بوصفها أحوالًا نفسية أكثر منها وعيًا علميًا يحتاج إلى مزيد من التحليل والعقل في نقده وتطويره لا إلى مزيد من هوجاء الأهواء التي تقود إلى المهالك المعرفية حتى تثبت صورة الكاتب صاحب الرأي المختلف واسمه فينا كأنه عدو رجيم، متجاوزين حيوية كتابته، ولو في نقاط معدودة منها، وملحقين فكرته بشخصه، أيًّا كانت تلك الفكرة. ليست هذه ثقافة، وليس هذا وعيًا، هذا صراع نفسي وحزبي باسم الثقافة، يعمل على تدميرها، بحيث لا يمكن الاطمئنان إلى نتائج قائليه (العلمية) بصورة مقبولة؛ لأنهم ليسوا بالذين سمحوا بحضور أصوات الآخرين ومناقشتها بهدوء لاكتمال التصور، ولا بالذين امتدوا مكتملين بذاتهم إلى آخر الشوط مما لا يمكن أن يكون.
هل هناك مؤامرة وراء هذا؟! أبدًا، نحن الذين نتآمر على أنفسنا وعينا ذلك أم لم نع.