علماء حضرموت ودورهم الحضاري خلال القرن الحادي عشر الهجري .. علماء تريم أنموذجًا
دراسات
علي سالم علي باهادي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 16 .. ص 54
رابط العدد 16 : اضغط هنا
المقدمة:
شهدت حضرموت خلال القرن العاشر الهجري استقرارًا نسبيًا في أوضاعها، بعد التحركات والجهود التي قام بها السلطان بدر أبو طويرق ومحاولته توحيد الجغرافيا الحضرمية في دولة مركزية واحدة.
لكن ذلك الاستقرار لم يدم طويلًا إذ شهدت حضرموت خلال القرن الحادي عشر الهجري العديد من الحوادث التي أربكت المشهد العام في حضرموت، كان أبرزها تصاعد وتيرة النزاع الداخلي في الأسرة الكثيرية، ووصول قوات الدولة القاسمية إلى حضرموت وفرض سلطتها عليها، وقد أدت تلك الحوادث إلى تحلل السلطة الحضرمية الهشة أمام القوى الأجنبية، كما أحدثت تغيرًا ديمغرافيًا في المنطقة.
البحث يحاول تتبع حركة العلماء الحضارم داخل المجتمع خلال تلك المرحلة الصعبة في تاريخ حضرموت، ورصد أدوارهم الحضارية وإسهاماتهم التي حاولوا بها إصلاح ذلك المجتمع وحل مشاكله استشعارًا منهم بخطورة المهمة الملقاة عليهم، ودينهم الذي يحتم عليهم بذل النصح والإرشاد.
وقد قسمت الدراسة إلى تمهيد تناول تحليل المصادر التي اعتمد عليه البحث، ثم مبحثين، وخاتمة احتوت على مجمل ما خلص إليه الباحث حول الموضوع.
التمهيد
تحليل مصادر الدراسة:
استوت هذه الدراسة بعد أن اعتمدت على مجموعة من المصادر، وكانت كتب التراجم، وكتب الرقائق والتصوف عمودها الفقري التي استندت إليه، من أهمها:
1- مؤلفات المؤرخ محمد بن أبي بكر الشلي، المتوفى سنة 1093هـ/ 1682م التاريخية والتراجمية، وهي:
أ- المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل بني علوي، وهو في التاريخ المحلي لحضرموت، ويقع في جزئين، تضمنت ذكر حضرموت ومدنها وبالأخص تريم وتراجم أكثر من 250 شيخًا من علماء بني علوي بن عبيدالله المهاجر، ويقدم هذا الكتاب مادة تراجمية جيدة لعلماء هذه الأسرة، رغم ما شاب بعض تلك المعلومات من أخطاء يعذر فيها مؤلفه لبعده عن تريم، فقد وضع كتابه في مكة.
ب- عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر، ويرصد أبرز أحداث ذلك القرن من وفيات الأعلام والأمراء، والحوادث الاجتماعية، والكوارث الطبيعية، وقد اختصت حضرموت بنصيب جيد منها.
2- شرح العينية للعلامة أحمد بن زين الحبشي، وهو شرح لقصيدة شيخه الإمام عبدالله بن علوي الحداد المسماة بالعينية، والتي أورد فيها عددًا كبيرًا من الأعلام.
3- بهجة الزمان وسلوة الأحزان في ذكر طائفة من الأعيان، للسيد محمد بن زين بن علوي بن سميط، وهو في الأصل الجزء الثالث من كتابه التراجمي (غاية القصد والمار في ترجمة الإمام الحداد)، وقد جعل الجزء الثالث منه ترجمة لأصحاب الإمام الحداد وأقرانه، وقد اعتمدنا على الأعيان الذين عاشوا في القرن الحادي عشر الهجري.
4- صلة الأهل بتدوين ما تفرق من مناقب بني فضل، وهو سيرة ذاتية لأسرة آل أبي فضل الأسرة العلمية العريقة بتريم.
قدمت مصادر الدراسة مادة تراجمية جيدة عن أعلام حضرموت، وحظي القرن الحادي عشر بنصيب وافر منها، لكن مما يؤخذ على المؤلفين الإطراء والثناء المبالغ فيه على المترجمين، والانصراف إلى عبارات السجع المتكلف فيه، والاهتمام بذكر كرامتهم وخوارق عاداتهم دون الالتفات -في بعض الأحيان- إلى نتاجهم العلمي ومساهمتهم الحضارية في الحقب التي عاشوا فيها، وكان ذلك النوع من الكتابة التاريخية قد ساد تلك الأزمان وأصبح المؤرخ رهين ذلك النوع من الأسلوب حتى ظهر الجيل الجديد من المؤرخين الحضارم في القرون الهجرية الأخيرة، ومع ذلك فتلك المصادر تصور لنا الحياة العلمية في حضرموت خلال تراجم أولئك العلماء، وتقدم مادة تاريخية جيدة للباحث الذي يسبر أغوارها، وقد حظي القرن الحادي عشر بتراجم عدد من العلماء التريميين الذين اختص البحث بدراستهم.
منهج الدراسة:
اتبعت هذه الدراسة منهج البحث التاريخي من خلال تتبع أولئك الأعلام في بطون كتب الطبقات والتراجم وغيرها من كتب التاريخ، وما أنتجوه من تراث معرفي إنساني. ثم منهج التحليل والوصف والمقارنة، وقد أدرجت في الدراسة علماء كانت وفياتهم في العقود الأولى من القرن الثاني عشر، وذلك لأن الكثير من جهودهم كانت في القرن الحادي عشر الهجري، وحاولنا بقدر ما سمحت لنا به المصادر أن نضع أمام كل عالم يذكر سنة وفاته وإلا فهو من علماء ذلك القرن.
المبحث الأول: تريم التسمية والجغرافيا وأوضاعها خلال القرن الحادي عشر الهجري
1ـ تسمية تريم وجغرافيتها:
لمدينة تريم إرث حضاري وتاريخ كبير وشهرة تعدت محيطها الجغرافي، ومع ذلك فقد اختلف المؤرخون حول تسمية تريم بهذا الاسم، فيذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) بأن تريم إحدى مدينتي حضرموت؛ لأن حضرموت اسم للناحية بجملتها ومدينتاها شبام وتريم، وهما قبيلتان سميت المدينتان باسميهما[1]، بينما يذكر مرتضى الزبيدي في كتابه (تاج العروس) بأن تريم سميت باسم بانيها تريم بن حضرموت[2]، وأقدم ذكر لمدينة تريم في النقوش المسندية التي تعد المصدر الأول والأهم في تاريخ اليمن القديم هو ما جاء في النقش الموسوم بـ(إرياني 31- 32)، والنقشان يعودان إلى نهاية القرن الثالث بداية القرن الرابع الميلادي في حقبة ضم حضرموت إلى إطار الدولة المركزية الحميرية[3]، ومن المرجح أن تكون تريم تعود نشأتها قبل ذلك التاريخ بأزمان بعيدة.
وتعد تريم من كبريات مدن حضرموت، وتقع في الشمال الشرقي من مدينة شبام، على بعد مسافة (42 كم)، وتبعد عن سيئون -عاصمة وادي حضرموت اليوم- مسافة (32 كم) في الشمال الشرقي منها.
وتريم من أنشط مدن حضرموت من الناحية العلمية؛ حيث حظيت بشهرة علمية لا تضاهيها أية مدينة أخرى، فضلًا عن شهرتها الدينية خلال تاريخها الإسلامي، جعلت أهلها وساكنيها لا يفضلون غيرها بعد مكة والمدينة وبيت المقدس، واشتهرت بكثرة مساجدها مقارنة بسكانها ومساحتها، وما ذلك إلا ناتج عن شهرتها العلمية وكبرها واتساعها، وهي عامرة بالعلم والعلماء، ومراكز التعليم والمكتبات[4].
2ـ الوضع السياسي في القرن الحادي عشر:
شهدت حضرموت في مطلع القرن التاسع الهجري قيام السلطنة الكثيرية الأولى (813هـ)، واستطاعت تلك السلطنة بعد اتساعها من إزاحة الكثير من الدويلات والقوى المحلية في حضرموت عن المشهد السياسي.
وكانت تريم في مطلع القرن العاشر الهجري تحت سيطرة آل يماني، الذين جعلوا المدينة حاضرة لدولتهم، وتعد السيطرة على تريم معضلة سياسية واجهت آل كثير منذ أن نشأت دولتهم، وقد تطلع للسيطرة عليها أكثر سلاطينهم لما لتريم من مكانة مهمة وبُعد روحي عميق لدى الحضارم، ولهذا فبعد اعتلاء السلطان بدر بن عبدالله المكنى أبو طويرق سنة 927هـ/ 1520م السلطنة تطلع للسيطرة عليها مستفيدًا من تغير موازين القوى لصالحه في شبام، فتقدم نحوها وحاصرها عشرين يومًا اضطر بعدها سلاطين آل يماني تسليمها ومغادرتها، وبذلك تنتهي سلطتهم عليها، وتبدأ تريم مرحلة جديدة في تاريخها تحت لواء الدولة الكثيرية، وقد حرص سلاطينها على إبقاء تريم مدينة بعيدة عن الصراع السياسي، وكان لعلماء تريم مكانة مهمة لدى سلاطين آل كثير؛ فقد حرص أبو طويرق على الجلوس مع الإمام علوي باجحدب نقيب العلويين في زمانه والاستماع لنصائحه، وحذا حذوه من أتى من بعده من السلاطين.
وقد تعاقب على السلطنة بعد إقالة أبي طويرق 976هـ/ 1568م ابنه عبدالله إلى وفاته سنة 985هـ/ 1577م، ليخلفه ابنه جعفر إلى سنة 990هـ/ 1582م، ومن ثم عمر بن السلطان بدر أبو طويرق إلى سنة 1021هـ/ 1612م، الذي كثر اتصاله بعلماء عصره كالشيخ أبي بكر بن سالم العلوي، ثم تولى بعده ابنه عبدالله بن عمر بن بدر، وقد اعتزل الحكم بعد لقائه بالحسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم العلوي في عينات وتصوف على يديه، بعدها قصد مكة وأقام بها إلى أن توفي، وتولى بعده أخوه بدر بن عمر بن بدر، الذي تولى السلطنة بإشارة السيد الحسين بن الشيخ أبي بكر بن سالم العلوي سنة 1024هـ، وكان السلطان بدر قد أقام للشرع الشريف بحضرموت محاكم عدَّة، وبنى مساجد عدَّة، منها مسجد السلطان الواقع شمالي حصن الرناد بتريم، وأوقف أوقافًا كافية له[5].
وكانت السلطنة الكثيرية خلال كل تلك الحقب لا تسلم من النزاعات الأسرية داخل البيت الكثيري حتى أصبحت سمة سائدة مع كل من تولى السلطنة أن يقف في وجهه إخوته أو أبناء عمومته متنازعين على سيادة حضرموت مستعينين بأي قوة لتحقيق مصلحتهم، وقد أدى ذلك في نهاية الأمر إلى إضعاف سلطة آل كثير، وتقلص نفوذهم في حضرموت، وتزايد الأطماع الخارجية عليها.
في العام 1058هـ وثب بدر بن عبدالله بن عمر على عمه بدر بن عمر وابنه محمد وتم إرسالهما إلى حصن مريمة مكبلين، بعد أن تم اتهامهم بموالاة أئمة اليمن ومكاتبتهم، بل وأشيع عنه اعتناقه المذهب الشيعي، وتعد تلك الحادثة بداية دخول الأئمة الزيديين إلى حضرموت؛ إذ ابتدأت بمراسلات الإمام مع السلطان بدر بن عبدالله لإطلاق سراح عمه وابنه الذين تم سجنهما بسبب صلاتهما به.
وبعد أن تم إطلاق سراحهما استمرت الأوضاع تسير نحو الأسوأ حتى أعلن الإمام الزيدي النفير إلى حضرموت من غير تأخير، وجمعت الجيوش وقام الخطباء والدعاة في صنعاء ودعوا إلى الجهاد وكان ذلك سنة 1069هـ، وسار الإمام نحو حضرموت ومعه السلطان بدر بن عمر، وكان وصولهم حضرموت آخر شهر رجب 1070هـ، وحاولت بعض القبائل الوقوف ضد تلك الجموع المتدفقة لكنها انهزمت وانهزم جيش السلطان بدر بن عبدالله وفر بنفسه هاربًا، وسلمت الحصون والمصانع بحضرموت لقائد جيش الإمام.
امتد النفوذ الزيدي خلال تلك المدة إلى حضرموت، التي أصبحت تحت لواء دولته، وقد حاول الزيديون فرض بعض تفاصيل مذهبهم على أهل حضرموت الشوافع، حيث منعت الزيدية راتب الإمام الحداد، ونودي بأن يزاد في الأذان (حي على خير العمل)، ولم يقدر أحد على المخالفة إلا عبدالله بن عمر بارضوان بافضل المؤذن في مسجد باعلوي في تريم رفض تلك الإضافة، فإنه استمر على الأذان المعتاد من أول خلافة الزيدي إلى آخرها، وكان كلما هددوه بأنهم سيفعلون ويفعلون به سكت ولم يجب على أحد وسلمه الله من معاقبتهم.
وكان لعلماء حضرموت وتريم دور بارز في محاولة إيقاف ذلك الصراع بحضرموت؛ فقد نصح الإمام عمر بن عبدالرحمن العطاس السلطان الكثيري بعدم الوقوف في وجه الجيش الزيدي ومحاولة حل المسألة سلميًا لما علم من تخاذل قومه عنه، وبعد أن وقعت مصانع حضرموت في قبضة الزيديين وفر السلطان هاربًا، كتب الإمام العطاس كتابًا إلى الإمام أوفده مع ولديه حسين وسالم فقابلهما بكل تبجيل. وقال لهما أرى عليكما سيماء الخلافة ومخائل النجابة، وقرأ في كتاب العطاس قوله: انظر إلى أهل حضرموت بعين الرحمة ينظر الله بها إليك، قال لما نظرت هذا طرح الله الرحمة العامة في قلبي لأهل حضرموت[6].
أما الإمام الحداد فقد سعى بوصفه مصلحًا اجتماعيًا وعالمًا وفقيهًا إلى محاولة إيقاف تلك الفوضى بالكلمة الصادقة، والنصيحة المخلصة، والموقف الثابت، ففي مكاتباته للسلطان بدر بن عبدالله ركز فيها على الزكاة وضرورة التقيد بطريقة جمعها وتوزيعها وفقًا للمذهب الشافعي، وعلى ما هو معتاد في حضرموت من قيام الأفراد بتوزيعها بأنفسهم دون تسليمها للحاكم، وكانت الدولة القاسمية قد فرضت مبلغًا سنويًا من الزكاة والضرائب على حضرموت، وكان الإمام الحداد يدرك حجم تلك الصعوبات التي تواجه السلطان الكثيري من قبل الأئمة الزيديين، فأمره بمداراتهم عند خوف الشر بما لا يضر الدين كذكر إمامهم في الخطبة، وإضافة ما طلبوه في الأذان، وحمل شيء من المال إليهم دون الزكاة[7]. وبذلك حاول الإمام الحداد مشاركة السلطة بالنصيحة والرأي والكلمة الصادقة.
وبدخول جيش الإمام إلى حضرموت انتهت السلطنة الكثيرية، وأصبح السلطان عديم القوة، واستبدت يافع بالإدارة، واستولت على أملاك الدولة وقسمتها بين عشائرها، وبدأ النفوذ الكثيري في الانحسار[8].
3ـ ملامح الأوضاع العلمية في تريم:
حافظت تريم خلال العصور الوسطى والحديثة على مركزها بوصفها عاصمة حضرموت الدينية، وقد اشتهرت تريم بكثرة مساجدها وكانت المساجد والزوايا والبيوت هي مكان التعليم الأساسي؛ حيث يلتقي طالب العلم مباشرة بشيخه، ويتطور الطالب أو (المريد) في تلقي العلوم الدينية ابتداء من القراءة وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، إلى التفسير، والحديث، والأصول، والفقه، والتصوف، والمنطق، والفرائض، والفلك، والنحو، وتعطى الإجازة في هذه العلوم من الشيخ للمريد مباشرة أو عن طريق المراسلة، وتوضح تراجم أعلام ذلك القرن -الحادي عشر الهجري- الكتب التي كانت تدرس في مختلف الفنون والعلوم وطبيعة الحياة العلمية بشكل عام.
وكانت تريم مقصدًا للعلماء وطلاب العلم من حضرموت وخارجها، وكانت مجالسها العلمية تعقد في أوقات مختلفة، يتم فيها مناقشة المسائل والإشكالات العلمية، وتصل إلى علمائها الرسائل من مناطق شتى تستفتيهم أو تطلب منهم النصح والمشورة، وكانت تريم لا تضاهيها في حضرموت أي مدينة من حيث الأهمية الدينية والعلمية، ولهذا مثلت تريم المرجعية لمن أشكلت عليه مسألة أو أراد الرأي والنصيحة [9].
المبحث الثاني: الدور الحضاري لعلماء تريم في القرن الحادي عشر الهجري
أولًا: دور العلماء في تولي المناصب ومناصحة الحاكم:
1- تولي منصب القضاء والإفتاء والنقابة:
تميز علماء حضرموت بكرههم للشهرة والابتعاد عنها، وإيثارهم للتواضع، وقد سار علماء تريم على هذا الخلق الديني، وعرف عن بعضهم التواضع والعزلة[10]، ورغم ذلك اقتضى الواقع أن يتولى بعض منهم المناصب كالقضاء، وكانوا لا يقبلونه إلا بعد شدة مطالبتهم بذلك، وقلما نجد من يعرض نفسه لتلك المناصب، وقد تولى مجموعة من العلماء منصب القضاء في تريم خلال ذلك القرن، كان أبرزهم:
– القاضي عبدالرحمن بن شهاب الدين أحمد بن عبدالرحمن (توفي بتريم 1014هـ)، حيث تولى الإفتاء والقضاء[11].
وتولى المؤرخ محمد باجمال (توفي في الغرفة 1019هـ) قضاء تريم[12].
وممن عين في قضاء تريم أحمد المشهور بن عبدالرحمن بلفقيه (توفي بتريم 1048هـ)[13].
حسين بن محمد بن علي بن أحمد مولى عيديد، الذي اشتهر بالإصلاح بين الناس، فسعى السيد زين العابدين العيدروس لترشيحه لتولي منصب قضاء تريم[14].
وكانت لشهرة تريم العلمية ومكانة علمائها لدى الحضارم وغيرهم دور في أن يتولى بعض علماء تريم منصب القضاء خارج مدينتهم، مثل القاضي علوي بن عبدالله بن محمد جمل الليل الذي تولى قضاء الشحر، وبها توفي سنة 1117هـ[15].
– المناصب الدينية، مثل الإفتاء، فقد أوردت المصادر مجموعة ممن تولى الإفتاء في تريم خلال تلك الحقبة، مثل:
العلامة محمد الهادي بن عبدالرحمن بن أحمد شهاب الدين (1040هـ)، وابنه أحمد بن محمد (1045هـ)، والعلامة أحمد المشهور بن عبدالرحمن بلفقيه (1048هـ).
– وكذلك المناصب الاجتماعية، مثل النقابة[16]، فقد تولاها السيد عبدالله بن شيخ بن عبدالله العيدروس (1019هـ)، والسيد زين العابدين عبدالله بن شيخ العيدروس (1041هـ) [17].
وظيفة المنصب، وهي وظيفة دينية اجتماعية، يقوم بها كبير أفراد القبيلة في حضرموت، فقد تولى منصبة آل عيدروس في عدن أحمد بن عمر العيدروس، الذي رحل من حضرموت واستقر بعدن[18].
2- مناصحة الحاكم وتقديم المشورة:
نظرًا لعدم وجود تطلعات لعلماء تريم في السلطة، فقد اتجه لهم سلاطين الدولة الكثيرية، وطلبوا مجالستهم وآراءهم السياسية والاقتصادية، فقد ذكرت المصادر الحضرمية حرص السلطان بدر أبي طويرق عند دخوله تريم على مقابلة الإمام أحمد باجحدب العلوي الذي كان يتهرب من ملاقاته، وعندما وصل السلطان إلى بيت باجحدب وأصبح لا عذر له من ملاقاة السلطان، الذي قدم له الهدايا والأموال، إلا أن الشيخ باجحدب لم يقبل شيئًا من تلك الهدايا والأموال لشدة ورعه، وقال له موصيًا وناصحًا: الله الله في العدل، فقد كان والدك طيبًا مع الناس، وأنت الله الله فيهم، ولما رجع السلطان بدر قال لجماعته: الحمد لله الذي جعل في ولايتي مثل هذا الإمام، وصار يفتخر به[19].
وكان الإمام زين العابدين بن عبدالله بن شيخ العيدروس (نقيب العلويين) ذا رأي، خبيرًا بأمور كثيرة كالزراعة والطب، وكان السلطان عبدالله بن عمر الكثيري يعتمد عليه في أمور البلاد، وكثيرًا ما يلتقي به ليستشيره في أمور الدولة، وكان النقيب العيدروس حريصًا على الدفاع عن دولة آل كثير بالرأي والتدبير والمكاتبات إلى زعماء القبائل، ولما استولى الإمام الحسين بن القاسم على اليمن كتب لسلطان حضرموت وأعيانها كتبًا يدعوهم لطاعته، فكان العيدروس ممن أجاب خطاب الإمام وحاول فيه مداراته[20]، وقد يكون السلطان الكثيري هو من دعاه لإجابته لكي لا يظهر عند الإمام الحسين ابن القاسم بأنه الرافض لدعوته.
ولمكانة النقيب زين العابدين العيدروس في بلاط الدولة الكثيرية، وعند السلطان عبدالله بن عمر الكثيري، فقد حضر جنازته في تريم عندما توفي في سنة 1041هـ.
وبالنظر إلى مكاتبات الإمام الحداد نجد مادة تاريخية جيدة في المكاتبات التي أرسلها للسلاطين الكثيريين، وتبرز فيه أيضًا حرص الداعية الحضرمي على تقديم النصيحة والمشورة للسلطان قيامًا بحق العلم، وكان قد تعاقب على حكم السلطنة الكثيرية في حياة الإمام الحداد ثمانية من السلاطين الكثيريين ابتداء من السلطان بدر بن عمر الكثيري وانتهاء بالسلطان عمر بن جعفر، وكان الإمام الحداد يبتدي بمكاتبتهم استشعارًا بخطورة المهمة الملقاة على العلماء وشفقة على الأهالي، وكان في رسائله يقدم النصيحة العامة، ويحثهم على تفقد أمور الرعية.
وعند امتداد نفوذ سلطة الدولة القاسمية إلى حضرموت برزت مشكلة جمع الزكاة، وقد احتلت هذه المسألة نصيبًا كبيرًا من مادة مكاتبات الإمام الحداد مع السلاطين، حيث بين لهم ضرورة التقيد بطريقة جمع الزكاة وفقًا للمذهب الشافعي، وعلى ما هو معتاد في حضرموت من قيام الأفراد بتوزيعها بأنفسهم دون تسليمها للحاكم، وكان الإمام الحداد مستشعرًا التهديد الزيدي على السلاطين الكثيريين، فلم ينسَ تقديم المشورة لهم بلغة دبلوماسية، فيقول: نعم لا بأس من مداراتهم عند خوف الشر بما لا يضر الدين كذكر إمامهم في الخطبة وحمل شيء من المال إليهم، وقد أتى ذلك في رسالة بعثها إلى السلطان بدر بن عبدالله[21].
وكان الإمام الحداد ملامسًا للوضع الاقتصادي بحضرموت، ويدرك الصعوبة التي تواجه السكان في فترات الجفاف التي تنتج عن غياب الأمطار لمواسم طويلة، وقدم رأيه في ضرورة أن تبقى الزكاة بيد الأفراد وتوزع وفق قواعد المذهب الشافعي إلى المستحقين من أهل البلد الذين هم أولى بها.
فظل يقدم النصح والمشورة حول إعادة النظر في مسألة تسليم الزكاة للحاكم، وقد راسل السلطان بدر بن عمر، وعبر عن تمسكه برأيه السابق في إبقاء الزكاة بيد الأفراد، وخاطبه بنوع من المرونة.
وراسل الحداد كذلك السلطان محمد بن بدر بن عمر وحثه على تغيير تلك البدعة، وربط بأن حلول مشاكل السلطنة في ترك تلك الطريقة غير المعهودة في جمع الزكاة.
وقد توسم الإمام الحداد في السلطان محمد بن بدر خيرًا، فسعى إلى إحداث تغيير من داخل السلطنة وفي أعلى مناصبها، لهذا كتب إلى السلطان محمد بن بدر رسالة في أثناء غياب والده للحج يمكن وصفها بالخطيرة، شجعه فيها على إجراء تغيير في سياسة والده الموالية للقاسميين، وطلب منه الإشارة ووعده بالدعم، وتكمن أهمية هذه المكاتبة التاريخية في كونها أول مكاتبة تشجع على التمرد على الدولة القاسمية، وقد دلت تلك المكاتبات على الرؤية العميقة عند الحداد، حتى جعله السلطان عمر بن جعفر الكثيري مستشارًا له في بعض الأمور، فكان يقدم له النصح والمشورة وبلهجة حادة أحيانًا عندما يرى الحداد أن الأوضاع بدأت تخرج عن السيطرة.
واستمرت مكاتبات الحداد تلاحق الأحداث، وتحاول تقديم النصيحة المخلصة بهدف الحفاظ على تماسك المجتمع، ووضع حد للفوضى الضاربة بأطنابها، ولكن التطورات وواقع الحال كانت أكبر من أن تلملمها هذه النصائح[22].
وتعد تلك النصائح مواقف وطنية تحسب للإمام الحداد في الدفاع عن حضرموت وعقائدها خاصة وقوفه ضد تدخلات الدولة القاسمية في حضرموت، ومحاولة فرض تعاليم المذهب الزيدي داخل النطاق الحضرمي الشافعي، بالرغم من علائق النسب بين العلويين والقاسميين، وبالرغم من المغريات التي قد يحصل عليها لو أبدى رغبته في الميلان لصالح الدولة القاسمية.
بقي الإمام الحداد لهم بالمرصاد بمراسلاته للسلاطين الكثيريين وبوقوفه ضد علمائهم، فيذكر صاحب كتاب (بجهة الزمان) أنه لما خرجت طائفة الزيدية إلى حضرموت وكان فيهم المباحثون في علم العقائد والسير كان الإمام الحداد وهو في سن الشباب يباحثهم ويسألونه فيفضحهم في الجواب ويأتيهم بفصل الخطاب وينطقه الله بالصواب، وقد استشعر معاصروه ذلك الجهد، فقال (العلامة الأديب عبدالله أبوبكر الخطيب) »لولا عبدالله الحداد بين ظهرانينا لافتضحنا«[23].
ويتسع جهد العلماء التريميين وعلاقتهم الشوروية في أروقة الحكم ليصل إلى مواطن المهجر الحضرمي، فكان للعلماء القبول لدى بعض سلاطين الهند، وسلاطين جزر الأرخبيل الإندونيسي، وسواحل الشرق الأفريقي. بل وتزوج أعداد منهم ببنات الأمراء والوزراء بعد أن نالوا إعجاب أولئك المسئولين، فضلًا عن بقية شرائح المجتمع، وقد ساعدتهم تلك الزيجات والصلات الاجتماعية على التعمق داخل مجتمعات المهجر، واستطاعوا التحرك في أكبر مساحة لنشر الإسلام وتعاليمه، أيضًا لم يغفلوا توظيف تلك العلاقات في مشاريعهم التجارية في تلك النواحي.
فقد ذكر المؤرخون بأن زين العابدين بن مصطفى العيدروس (ت 1127هـ)، الذي ولد بتريم وتلقى تعليمه بها، رحل إلى الهند وتزوج بنت أمير البلاد، وكان له القبول في النصح والإرشاد [24].
وتزوج كذلك العلامة محمد بن أحمد الشلي (عم مؤلف المشرع) بابنة أحد الوزراء بعد أن رحل إلى الهند وذاع صيته العلمي، فقد اشتهر بعلم الحديث، والفقه، والعربية، والفرائض، وعلم الميقات[25]. وعندما وصل عبدالله بن حسين بن محمد مولى عيديد إلى الهند كان الوزير صاحب كنور عبدالوهاب يكرمه، وزوجه ابنته، وأجلسه في صدارة مجالسه، وكان عالمًا بالكيمياء، وفارسًا، له تأليف، وأشعار حسنة[26].
وكذلك كان أبوبكر بن أحمد بن حسين بن عبدالله بن شيخ العيدروس (ت 1048هـ)، قد رحل إلى الهند، واستقر بدولة أباد، وكان السلطان شاهجهان متصلًا به مقربًا له في بلاطه[27].
وكان شيخ بن عبدالله بن شيخ العيدروس (ت 1041هـ)، قد اتصل بالوزير عنبر والسلطان برهان نظام شاه والسلطان عاد شاه.
واتصل محمد بن عبدالله بن شيخ العيدروس (ت 1031هـ) بسلطان سورت[28].
وكان جعفر الصادق بن علي زين العابدين العيدروس (ت 1064هـ)، يعد أحد ناشري العلم في الدكن، وكانت قصته مع الدكن الهندية قد بدأت بمباحثة مع علمائها بحضور حاكم الدكن، فأجاب عن تساؤلاتهم بالجواب الشافي، فأعجب به العلماء والحاكم الذي قربه من بلاطه، وأصبح مستشارًا له، وبخاصة أنه كان شاعرًا، ومؤلفًا، ونابغًا في العلوم الدينية والعربية، والحساب والفلك[29].
وكان أحمد بن أبوبكر بن أحمد الشلي (شقيق مؤلف المشرع)، عالمًا أديبًا، قد رحل إلى الهند واتصل به الملك عنبر، وتقرب إليه ملوك آخرون، وثم رحل إلى الحرمين، ثم إلى تريم وبها توفي سنة (1057هـ)[30].
ويبدو أن سمعة العلماء الحضارم كانت تسابقهم قبل وصولهم تلك المناطق، فعند وصول علوي بن عمر بن عقيل جمل الليل إلى الهند استقبله بعض وزراء السلطان ريحان، وأكرمه السلطان فيما بعد[31].
أما الإمام الحداد فقد ضل الداعية المصلح الاجتماعي المتفرد المهتم بالإنسان الحضرمي حيثما حل أو ارتحل، فقد راسل أحد أمراء الهند ويدعى (ياقوت خان)، وفي رسالته التي بعث بها من تريم إلى الأمير الهندي طلب منه الرفق برعاياه الحضارم، فإنهم مقلون لا يحملهم على السفر والتغرب من أوطانهم وأولادهم إلا ذلك[32].
ثانيًا: دور العلماء في بناء المساجد:
تميزت مدينة تريم بكثرة المساجد فيها مقارنة بمساحتها وعدد سكانها، وكان الأثرياء والميسورون يتسابقون إلى تشييد المساجد وعمارتها إيمانًا منهم بأهمية المسجد ودوره في المجتمع، وكان لعلماء القرن الحادي عشر نصيب بارز في عمارة بيوت الله وتشييدها، فبعد مسح المصادر المتاحة استطعنا أن نوثق عددًا من المساجد التي بنيت في ذلك القرن بجهود من العلماء:
- مسجد أحمد بعيديد، الذي بناه الإمام أحمد بن عبدالله بن عبدالرحمن بن علي مولي عيديد (ت 1047هـ).
- مسجد الأبرار بـالسحيل للإمام عبدالله بن شيخ العيدروس (توفي ساجدًا في صلاة العصر، سنة 1019هـ)، وله أيضًا مسجد النور بالتربة، وبنى قرب مسجد النور سبيلًا لإرواء المارين، وغرس نخيلًا.
- المساجد التي بناها الإمام عبدالله بن علوي الحداد (ت 1132هـ): مسجد الفتح (الحداد) بالحاوي، بُني سنة (1083هـ)، ومسجد الأوابين في النويدرة، بُني سنة (1104هـ)، ومسجد الحداد (الحد) في منطقة السبير، بناه في المكان الذي ولده فيه.
- مسجد الحصاة بالسوق، وهو أحد المساجد القديمة، يعود تأسيسه إلى القرن الثامن الهجري، أسسه السلطان عبدالله بن يماني، ثم جدد عمارته العلامة أحمد بن حسين بلفقيه (ت 1048هـ).
- مسجد السلطان الثاني، الذي بناه السلطان بدر بن عمر الكثيري (ت 1073هـ)[33]، ويبدو أنه بناه بتوجيه من علماء تريم الذين كانت صلاتهم به قوية.
- مسجد بايعقوب بالمجف، الذي بناه الشيخ عبدالرحمن بن محمد بايعقوب.
- مسجد بلفقيه، ويقع في منطقة الرضيمة، مؤسسه العلامة أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بلفقيه (ت 1103هـ)، وبناه بمساعدة بعض المهندسين الهنود، ولم يستخدم العود فيه إلا بالأبواب فقط، كما بنى ذلك الإمام قبة نبي الله هود[34].
- مسجد خرد بالخليف، ومؤسسه زين عمر بن عبدالله بن علوي خرد في مطلع القرن الحادي عشر.
- مسجد دحمان بالنويدرة، أسسه العلامة عبدالرحمن بن محمد بن عمر بلفقيه الشهير بدحمان المدني (ت 1111هـ)[35].
- مسجد شجعنة (فضل بامقاصير)، وهو مسجد قديم أسسه السلطان شجعنة بن راشد، سنة 571هـ، ثم جدده الشيخ فضل بن سالم بافضل سنة 918هـ، ثم عمّره العلامة علي بن صالح المحجوب السقاف (ت 1051هـ)[36].
- مسجد شهاب الدين بالفجير، أسسه القاضي عبدالرحمن بن أحمد بن شهاب الدين (ت 1014هـ).
- مسجد شيخ عيديد بالنويدرة، أسسه العارف بالله شيخ بن عبدالرحمن بن شيخ عيديد (ت 1068هـ)[37].
- مسجد علوي بثبي، أسسه العلامة علوي بن عبدالله بن أحمد بن حسين العيدروس (ت 1055هـ).
- مسجد مديحج بالسوق، أسسه العلامة محمد بن عقيل بن شيخ الشهير بمديحج (ت 1005هـ).
- وقد أسهم علماء ذلك القرن في تجديد جامع تريم أشهر مساجدها وأقدمها، والذي تم تجديده مرات عدة، فقد قام الشيخ مكي بن أحمد بافضل بتعمير الجامع وشاركه الشيخ محمد بن أحمد بامصباح باحنان[38]، ويذكر المؤرخ محمد بن عبدالله الخطيب في مخطوطه (البرد النعيم) أنه في ذلك التجديد للجامع تم العثور على قبر موجه للقبلة العيسوية[39].
وأسهم العلماء في مواطن المهجر بتشييد المساجد، فقد بنى أحمد بن عيدروس بن عبدالله بن شهاب الدين مسجدًا بالحبشة في منطقة أوسه[40].
رابعًا: الإسهامات والدور العلمي:
1- دور العلماء في التدريس والتعليم وإرشاد العامة وتوجيههم:
تعد وظيفة التعليم من أجل وظائف العلماء والدعاة، حيث يحرص العلماء على إقامة الدروس العامة والخاصة اقتداء بالمعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن تقسيم العلماء والمدرسين على قسمين:
1- المؤدبون ومعلمو الصبيان.
2- الشيوخ والمعلمون في المراحل العليا.
أولًا: المؤدبون ومعلمو الصبيان:
وهم الذين يتولون تعليم الطالب في بيته أو في المعلامات والكتاتيب، حيث يتلقى فيها الطالب المبادئ الأساسية للعلوم العربية، وقواعد القراءة والكتابة، وأساسيات الدين كالوضوء والصلاة، وغالبًا ما يكون المعلمون من أسر المشايخ، الذين اشتهر الكثير منهم بالصلاح والاستقامة، ويتقاضى المؤدبون أجرًا على ما يقومون به من وظيفة التأديب والتعليم، وقد حفظت لنا المصادر الحضرمية في تراجم الأعلام الحضارم ذكر بعض أولئك الذين تولوا تربيتهم وتدريسهم في الصغر، مثل: المعلم عبدالله بن عمر باغريب[41]، والمعلم عمر بن عبدالله الخطيب، والمعلم محمد باعيشة[42]، والمعلم عبدالله باجمعان، والفقيه محمد بن أحمد باجبير، والفقيه عبدالله بن أبوبكر الخطيب[43]، والإمام عبدالرحمن بن عمر بارقبة[44]، والشيخ أبوبكر الجوهري بأفضل، والشيخ سالم بن أحمد بن عمر بافضل[45]، ويبدو أن ذكر أولئك الأعلام على هامش التراجم قد أسقط أسماء الكثير منهم، على الرغم من الدور المهم الذي قاموا به في المجتمع.
ثانيًا: الشيوخ والمعلمون في المراحل العليا:
وهم الصنف الذين يطلق عليهم العلماء، الذين تمتعوا بمكانة في المجتمع نظرًا لتأثيرهم ودورهم الفاعل فيه، واختلف العلماء في النشاط العلمي فمنهم المقلون في التدريس المؤثرون الخلوة والانعزال، ومنهم الذين أفنوا حياتهم في التدريس رافضين أي عمل يعرض عليهم خوف التقصير في عملهم العلمي، فتنقلوا من مكان إلى آخر، ومن مسجد إلى زاوية، ومن حلقة إلى مجلس، فكثر لديهم المريدون والطلاب، ومن هؤلاء العلماء:
عبدالرحمن بن محمد السقاف (ت 1012هـ)، الذي كان يجلس للتدريس العام في مسجد باعلوي بعد العشاء، والقاضي عبدالرحمن بن شهاب الدين (ت 1014هـ)، الذي مارس التدريس والتعليم إلى جانب القضاء والإفتاء، والإمام عبدالله بن شيخ العيدروس (توفي ساجدًا في صلاة العصر 1019هـ)، الذي جلس للتدريس في مسجده بسحيل تريم، وأخذ عنه عدد من المريدين[46]، والعلامة زين الدين بن حسين بافضل (ت 1026هـ)، الذي كان شيخ وقته وأوانه، وانتصب للإقراء والتدريس والنفع العام، وبرع في العلوم، وطارت شهرته، ورحل إليه الناس للأخذ عنه، وأثنى عليه فضلاء عصره، وكان من العقل بالمنزل الأعلى يستشار في المعضلات، ويعول عليه في المشكلات، والمسائل العلمية [47]، وأحمد بن محمد بن عبدالرحمن شهاب الدين الذي كان له درس خاص في (إحياء علوم الدين)، وكان الشيخ أحمد بن علي بن عبدالرحمن باقشير (ت 1075هـ)، قد اشتهر بالتجويد والقراءات، فأخذ عنه الناس من تلك العلوم، وكذلك اشتهر بالتجويد عبدالله بن سعيد باقشير (ت 1076هـ)، الذي جلس للتدريس في مكة وانتفع به الكثير من أهل مكة واليمن والشام والعراق[48].
وقد اشتهر محمد بن محمد بارضوان بافضل بتدريس الفرائض، والميقات، والحساب، وممن أخذ عنه الشلي وذكره في المشرع (توفي في النصف الثاني من القرن الحادي عشر)[49].
وقد جلس للتدريس في المسجد الحرام بإجازة شيوخه المؤرخ محمد أبوبكر الشلي (ت 1093هـ)، وبعد أن عجز قام بالتدريس في بيته[50]، أما والده أبو بكر الشلي (ت 1053هـ)، فقد جلس للدرس العام في مسجد آل أبي علوي بتريم بعد وفاة شيخه أبي بكر بن علي المعلم[51].
وكان الشيخ سالم بن أحمد بن عمر بافضل ذا ذكاء وحفظ وإتقان للعلم، خصوصًا الفقه والنحو والقراءات، حتى إن الإمام الحداد كان يثني عليه ويحيل عليه ويقول: (إنه بقية القراء من آل أبي فضل)، وكان مستغرق أوقاته في التعليم، حتى عندما كبر في آخر عمره كان ما يزال يقرأ عليه في الإحياء والعوارف للسهروردي، توفي في صنعاء، وهو في طريقه إلى الحج[52].
واشتهر عقيل بن عبدالرحمن بن عقيل باهتمامه بعلوم القوم وتحقيق اصطلاحات الصوفية، وكان عبدالله بن أحمد بن عبدالرحمن الأسقع باعلوي، قد رحل إلى الهند والحرمين وأخذ عن شيوخها، ثم عاد إلى تريم ليتفرغ لتدريس العلوم وانتفع به كثير من الناس[53].
وكان عبدالله بن أحمد بن حسين العيدروس الصليبية (ت 1053هـ)، قد اشتهر بعلم الأنساب، وكان مشاركًا في العلوم العقلية، أما علي بن عبدالرحمن بن محمد الحبشي (ت 1012هـ)، قد اشتهر برواية الشعر والأدب[54].
واشتهر بالتدريس أبوبكر بن عبدالرحمن شهاب الدين (1061هـ) حيث كان محدثًا منفردًا في عصره بعلو الإسناد، وعندما بنى السيد محمد بن عمر بافقيه مدرسة بتريم فوض إليه التدريس بها من تلاميذه الحداد والشلي[55].
أما الإمام عبدالله بن علوي الحداد الذي برز منذ النصف الثاني للقرن الحادي عشر الهجري، فقد كان وحيد زمانه متفردًا على أقرانه، قصده طلاب العلم من نواحي حضرموت واليمن والحجاز وبلاد المغرب العربي، تتلمذ على يديه بعض منهم أسن منه، ومن هم في طبقته، وقد أثر الإمام الحداد على الأمة تأثيرًا بالغًا بكلامه وقلمه وقدوته وتلاميذه، أما بكلامه فبدروسه ووعظه وإرشاده التي كان يعقدها في تريم وفي أثناء سفرياته إلى أنحاء حضرموت واليمن والحجاز حين سفره للحج، أما قلمه فمؤلفاته الشهيرة والتي ترجم بعضها إلى لغات أجنبية، أما كونه قدوة يقتدى به فقد كان مثالًا للسلوك المحمدي، أما تلاميذه فقد ذكر صاحب كتاب (بهجة الزمان وسلوة الأحزان)، منهم ما يقارب المائة والخمسين من العلماء والصالحين[56]، ويبدو أن ذلك العدد من التلاميذ هم خواصهم الذين كثر صلاتهم به، وتوجد أعداد كثيرة التقى بهم خلال أسفاره، أو قصدوه لأوقات قليلة.
2- نتاجهم العلمي ودورهم في التأليف:
يعطي النتاج العلمي صورة عن الحياة العلمية وسيرها في المجتمع، وعن أهم العلوم المتداولة في ذلك العصر واستخدامها، ومن خلال حصر ما أمكن حصره من المصادر المتاحة، نجد علومًا لم نعثر لها على نتاج علمي على الرغم من بروز علماء لهم اهتمام في تلك العلوم. ومن خلال النظر في النتاج العلمي نجد أن التزكية والتصوف هما أكثر العلوم المسيطرة على التأليف والنتاج العلمي لعلماء ذلك القرن، وذلك يعطي لنا صورة عن الحياة العامة في تريم خلال تلك الحقبة وسيادة التصوف والاهتمام بتزكية النفوس ومحاسبتها، وربما تكون الأوضاع المضطربة التي عاشتها حضرموت في تلك الحقبة سبب في اتجاه العلماء للكتابة عن تهذيب النفوس وكبح جماح شهواتها، رغبة ومساهمة منهم في إصلاح المجتمع.
أ) العلوم الشرعية: وهي العلوم المتصلة بالكتاب والسنة من حيث التدوين والشرح والتحليل، ومن أمثلتها كتاب (الدر الثمين في بيان المهم من الدين) لأبي بكر بن عبدالقادر العيدروس (ت 1038هـ)[57]. ويذكر ابن سميط في كتابه (بهجة الزمان) أن للإمام عبدالله بن أحمد الأسقع باعلوي تصانيف عجيبة في العقائد، وله نظم رائق، وكان أحمد بن زين الحبشي هو السبب في تأليفها[58].
وفي مجال المنظومات نظم أحمد بن علي باقشير (ت 1075هـ) أرجوزة في علم الفرائض وشرحها، وألف عبدالله بن سعيد باقشير (ت 1076هـ) شرح الإرشاد، واختصر نظم عقيدة اللقاني، وشرح نظمه، واختصر بريق الزنجاني نظمًا وشرحه، ونظم الحكم وشرحه، ونظم آداب الأكل وشرحه[59].
ولأبي بكر الشلي (ت 1053هـ) كتاب في فضل رمضان والصيام[60].
وألف أحمد بن أبي بكر بن عبدالهادي باشعبان بأفضل (توفي أواخر القرن الحادي عشر الهجري)، كتاب (المنتقى)، الذي يحتوي على بيان المهمات الدينية، والآداب المرضية، وقد فرغ من تأليفه سنة 1079هـ، وله رسائل مهمة مع الإمام الحداد يسأل فيها عن بعض المسائل[61].
وللإمام الحداد عدد من الكتب ألفها في شبابه، مثل كتاب رسالة (المعاونة والمؤازرة في الراغبين في سلوك طريق الآخرة)، ورسالة (المذاكرة) ألفهما سنة 1067هـ، وسنه إذ ذاك ست وعشرون سنة، وكتاب (النصائح الدينية والوصايا الإيمانية) فرغ من تأليفه سنة 1079هـ.
ب) العلوم العربية: فقد صنف أحمد بن عبدالله بافضل (ت 1044هـ)، حاشية على القصيدة الطرائفية، وله ديوان ونظمه كثير حسن، لذلك سموه بالسودي تشبيهًا بالشيخ عبدالهادي السودي الشهير، وله كذلك مراسلات بديعة مع علماء عصره[62]. وألف أحمد بن حسين بن محمد مولى عيديد (ت 1052هـ)، كتابًا شرح فيه الآجرومية، وشرح الملحة ومختصرها، وله أشعار حسنة غريبة[63]. ولأبي بكر الشلي (ت 1053هـ)، كتاب في غريب اللغة[64].
جـ) علم التصوف والتزكية: مثل كتاب (الفتوحات القدسية في الخرقة العيدروسية) لأبي بكر بن عبدالقادر العيدروس (ت 1038هـ)، وله أيضًا أبيات في السلوك وشرحها وسماه (غاية الضرب في شرح نهاية الطلب)، وله شرح على قصيدة العيدروس التي مطلعها (كل من لم يمنع نفسه)[65]، وألف أحمد بن عبدالله بن أحمد العيدروس شرحًا على قصيدة أبي بكر العيدروس:
هات يا حادي فقد آن السلو ** وتجلى عن سما قلبي الصداء[66]
وللشيخ محمد بن عبدالله بن سلمان الخطيب (توفي بعد 1025هـ)، عدد من المؤلفات في التزكية والتصوف، مثل الحكم الرئيسة والذخائر النفيسة والواردات الربانية والاستغاثات الإلهية، والوصايا الفتحية والنصائح الإحسانية، و(محجة الأنبياء وحجة الأولياء)[67].
وألف محمد بن عبدالله بن شيخ العيدروس (ت 1031هـ) كتاب (إيضاح أسرار علوم المقربين)، الذي طبع مرات عدة في مصر، والهند[68].
د) التراجم والتاريخ والسير: من نماذجها كتاب (الحدائق الخضرة في سيرة النبي ــــــ صلى الله عليه وسلم ـــ وأصحابه العشرة)، وكتاب (إتحاف الحضرة العزيزة بعيون السيرة الوجيزة) لأبي بكر بن عبدالقادر العيدروس (ت 1038هـ)[69]، وألف شيخ بن عبدالله بن شيخ العيدروس (ت 1041هـ) كتاب السلسلة العيدروسية، وتحتوي على تراجم أعلام تلك الأسرة [70].
وكان محمد أبو بكر الشلي (ت 1093هـ) وحيد عصره في علم التاريخ والتراجم وعلى الرغم من استقراره في مكة فإنه تريمي الأصل؛ إذ بها ولد ونشأ وتلقى تعليمه الأولي فيها، وتعد مؤلفاته التاريخية مصدرًا مهمًا لمن أراد الكتابة عن تلك الحقبة، وأشهر مؤلفاته هي (السناء الباهر في التذييل على النور السافر في أخبار القرن العاشر)، و(عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر)، و(المشرع الروي في مناقب السادة آل أبي علوي)[71]. وذكر الشلي في (المشرع) أن هناك مجموعًا في التاريخ جمعه والده أبوبكر الشلي في تاريخ أهل عصره وزمانه ومجريات دهره وأوانه، لكنه لم يكمله، فأخذ منه الابن بعض تراجم من وجده على شرط كتاب (المشرع)، ويذكر أيضًا أن والده اختصر كتاب (الغرر) لمحمد بن علي خرد[72].
وقد تميز الشيخ محمد بن عبدالله بن سليمان الخطيب (توفي بعد 1025هـ) بمؤلفاته التاريخية، أهمها (البرد النعيم في نسب الأنصار خطباء تريم)، و(التاج الكريم في نسب الأنصار خطباء تريم) وهو نظم، و(الدر البيان الأشرف العظيم شرح التاج الكريم)، و(الدوحة القديم في نسب الأنصار خطباء تريم)، و(البرق اللامع والمهند القاطع) ومائتي حكاية[73].
هـ) العلوم التطبيقية: ألف الإمام محمد بن أبي بكر الشلي رسالة في الميقات في علم المجيب وشرحها، وذكر أنه انتفع بها الكثير من الطلاب في الحرمين واليمن والهند ومصر، وألف رسالتين في علم الميقات بلا آلة، ورسالة في معرفة ظل الزوال كل يوم لعرض مكة المكرمة، ورسالة في معرفة اتفاق المطالع واختلافها، ورسالة في المقنطر، ورسالة في الإسطرلاب، وله رسالة في شرح رسالة الإمام السنوسي في المنطق[74].
ونظم أحمد بن علي باقشير (ت 1075هـ) أرجوزة في علم الحساب وشرحها. وأوردت المصادر ذكر عبدالله بن عمر بامصباح (ت 1039هـ)، وذكرت اهتمامه بعلم الهندسة، وأنه أسهم في تعمير عدد من سواقي السيول وفق قواعد علمية متقنة لكنها لم تشر إلى شيء من مؤلفاته في تلك العلوم[75].
وسجل علماء ذلك القرن حضورًا في مجال الترجمة من خلال الترجمة التي قام بها الإمام جعفر الصادق بن علي زين العابدين العيدروس (ت 1064هـ)، لكتاب جده (العقد النبوي) إلى اللغة الفارسية التي تعلمها وأجادها، واشتهر بناشر العلم في الدكن[76].
3- دورهم في اقتناء الكتب ونسخها وبناء المكتبات ووقفها:
من أجل استمرار عملية التعليم وبخاصة في المراحل العليا يتطلب الأمر وجود مكتبات، وكانت عملية الحصول على الكتاب عملية مجهدة وشاقة وبخاصة للطلاب الذين ينتمون لأسر غير ميسورة. فحرص عدد من العلماء على اقتناء الكتب وإنشاء المكتبات الخاصة وتزويدها بالكتب عبر طلبها من المهجر أو اقتنائها في أثناء الأسفار وبخاصة في موسم الحج، ولاهتمامهم بطلاب العلم أوقف البعض تلك المكتبات لهم، وأوردت المصادر التي وقفنا عليها مجموعة من العلماء الذين أسهموا في هذا الجانب، أبرزهم:
العلامة أحمد بن عمر الهندوان (ت 1122هـ)، الذي رحل إلى الهند ومكة، وجلب معه إلى تريم عددًا من الكتب القيمة، حتى إن الإمام الحداد لما وقف عليها ورأى كثرتها وجمعها لفنون العلم من الفقه والسير والتصوف وغيرها أنشد:
جزى الله خيرًا سيدًا وابن سيد ** وعلامة من آل طه الأطايب
على جمعه كتبًا يعز اجتماعها ** لنفع عباد الله من كل طالب[77]
والقاضي عبدالرحمن بن شهاب الدين أحمد بن عبدالرحمن (ت 1014هـ)، كانت له مكتبة كبيرة أوقفها على طلبة العلم[78]. وكذلك أوقف العلامة علي بن حسين بن عمر بن حسن بن شهاب (ت 1069هـ) كتبًا كثيرة على طلاب العلم، وكان عقيل بن عبدالله بن عقيل (ت 1022هـ) له مكتبة نفيسة[79].
واشتهر جماعة من العلماء بنسخ الكتب وبخطوطهم الحسنة، مثل: علي بن أبي بكر الجنيد (ت 1070هـ)، الذي اشتهر بنسخ الكتب[80]، وعلوي بن عمر بن عقيل جمل الليل (ت 1054هـ)، الذي كان مولعًا بنسخ الكتب بخطه الجميل[81]. كما اشتهر أحمد بن أبي بكر الشلي (ت 1057هـ) بخطه الجميل الذي صار معروفًا لدى أهل جهته[82].
دورهم في بناء مؤسسات التعليم:
اشتهرت تريم بالإضافة إلى كثرة مساجدها بمعلاماتها وزواياها العلمية، مثل زاوية الشيخ سالم بأفضل، التي بنيت في القرن السادس الهجري، ومعلامة باغريب، ومعلامة أبي مريم المتخصصة في حفظ القرآن الكريم، وتخرج في تلك الزوايا الكثير من علماء تريم، والطلاب الوافدون إليها الذين بلغت شهرتهم أقاصي المعمورة، ومن أشهر تلك الأبنية التعليمية التي شيدت في القرن الحادي عشر الهجري في تريم:
– قبة مسجد الأبرار بالسحيل، التي بناها الإمام عبدالله بن شيخ العيدروس (توفي ساجدًا في صلاة العصر سنة 1019هـ)[83] إلى جوار مسجده وبيته لتشكل مجمعًا دينيًا وتعليميًا قصده الناس من نواحٍ شتى، ودرست فيها العلوم المختلفة.
وبنى السيد محمد بن عمر بافقيه مدرسة بتريم، وفوض عملية التدريس فيها إلى أبي بكر بن عبدالرحمن شهاب الدين (ت 1061هـ)، حيث كان محدثًا منفردًا في عصره تميز بعلو الإسناد، ومن أشهر تلاميذه الحداد والشلي[84]. وقام القاضي عبدالرحمن بن شهاب الدين (ت 1014هـ) بتعمير زاوية الشيخ علي[85] إحدى أقدم الزوايا العلمية بتريم، والتي ما زال نشاطها العلمي مستمرًا إلى اليوم.
خامسًا: الدور الاجتماعي للعلماء:
الإنفاق على الفقراء واستقبال الضيوف وإكرامهم:
نظرًا للوضع الاقتصادي العام في حضرموت وجدت شريحة من المساكين والفقراء وذوي الحاجة، فأخذ العلماء على أنفسهم الإنفاق عليهم، ذلك الإنفاق لم يكن من العلماء الأغنياء فقط، بل شاركهم فيه المتوسطون في المعيشة، ويحرص العلماء على إخفاء صدقاتهم وأعمال الخير رجاء الثواب الكامل من الله تعالى، لذلك لم تدون الكثير من تلك الأعمال في المصادر المتاحة، من أمثلة ذلك:
الإمام زين بن عبدالله باحسن الذي اشتهر بإطعام الفقراء والإنفاق عليهم حتى كثرت عليه الديون، وبعد سدادها يعود مرة أخرى للإنفاق والصدقة[86]، وكان محمد بن أبي بكر بن محمد بن علي بن عقيل (ت 1062هـ) كان منزله منتدى ومقصدًا للزائرين والمحتاجين والضيوف، وكذلك أبوبكر بن أحمد بن حسين بن شيخ العيدروس (ت 1040هـ) كان مأوى للغرباء والوافدين منفقًا على المحتاجين[87].
واشتهر زين العابدين بن مصطفى العيدروس (ت 1127هـ) بكثرة أعمال البر، فهو الذي شيّد المساجد والسقايات المسبلة، وأوقف عليها نخلًا، وأعتق الأرقاء والإماء، وأوقف لهم أوقافًا تكفيهم مدى الحياة[88].
وكان الإمام عبدالله الحداد مقصدًا للغرباء والطلاب، وكان يخرج كل سنة إلى وادي دمون والغبرة على سبيل التنزه والتروح ويأخذ معه الأولاد والأصحاب وطلاب العلم[89]، وقام بعده ابنه الحسن لإيناس القاصدين وإيواء الغرباء والمساكين، وإطعام الفقراء والجائعين[90].
وكان للإمام محمد بن أحمد بن عبدالرحمن بافضل نخل في منطقة القوز شرقي تريم وأجّر ناسًا لسقيه، وفي إحدى المرات التي ذهب لزيارة نخله وجدهم يسقونه بدواب أناس آخرين، فعاتبهم وأوقف ذلك النخل وتصدق به[91].
دورهم في خدمة المجتمع:
العلماء لم يكونوا بمعزل عن المجتمع الذي يعيشون فيه، بل كانوا مخالطين للناس معايشين لهم مشاركين لهم في أفراحهم وأحزانهم، فقد اشتهر الشيخ عبدالله بن عمر بامصيباح العدل (ت 1039هـ) بخبرته في الهندسة وإصلاح سواقي السيول، وكان يقوم بتجهيز الموتى من غسل وغيره، ويكون عند المصيبة بمثابة صاحب البيت[92].
ومن أعمال البر التي قام بها العلماء تجاه مجتمعهم توفير الماء من خلال حفر الآبار، فقد قام الإمام أحمد شهاب الدين الأصغر (ت 1033هـ) بحفر ثلاث آبار وجعلها مسبلة للناس، منها بئر السعادة بالنويدرة، والتي أتى بعد عقود أحد أحفاده وبنى بجوارها مسجد شهاب الدين[93].
الخاتمة
شهد القرن الحادي عشر الهجري بداية تخلخل النظام السياسي في حضرموت، وذلك بعد الصراعات الدامية التي شهدها البيت الكثيري الحاكم، الأمر الذي أغرى عددًا من القوى المحلية والخارجية إلى بسط نفوذها على حضرموت والإجهاز على السلطنة الكثيرية الهشة التي أنهكها الصراع الداخلي.
انعكست الأوضاع السياسية على بقية الأوضاع العامة في حضرموت، ولم تكن تريم بمعزل عن بقية أرجاء المنطقة، فقد شهد ذلك القرن اشتداد موجة هجرة علماء تريم إلى عدد من المراكز العلمية في اليمن كالشحر وعدن، والمراكز الإسلامية في الحجاز، واكتظت بهم مدن الساحل الهندي، لكن عددًا آخر من العلماء قرروا البقاء في وطنهم محاولين تغيير تلك الأوضاع بأقصى جهودهم.
كان لأولئك العلماء إسهامات وأدوار بارزة في مجتمعهم في الجانب السياسي بمناصحة الحاكم وتقديم المشورة له، وفي الجانب العلمي عبر التدريس وبناء المؤسسات العلمية، وبناء المساجد؛ حيث تم رصد أكثر من عشرين مسجدًا، وثلاث مؤسسات تعليمية أسهم في تشييدها أو ترميمها علماء ذلك القرن.
أما عن النتاج العلمي فمن خلال النظرة العامة إليه نجد أن التزكية والتصوف هما أكثر العلوم المسيطرة على التأليف لعلماء ذلك القرن، وذلك يعطي لنا صورة عن الحياة العامة في تريم خلال تلك الحقبة وسيادة التصوف والاهتمام بتزكية النفوس ومحاسبتها، وربما تكون الأوضاع المضطربة التي عاشتها حضرموت في تلك الحقبة سبب في اتجاه العلماء للكتابة عن تهذيب النفوس وكبح جماح شهواتها، رغبة ومساهمة منهم في إصلاح المجتمع.
تبقى صفحات العلماء مضيئة في سفر التاريخ الحضرمي، وهذه الدراسة جهد متواضع لإبراز جهودهم وعرفانًا بفضلهم على مجتمعاتهم التي عاشوا فيها.
قائمة المصادر والمراجع
أولًا: المصادر:
1- الحموي ياقوت، معجم البلدان (نسخة الكترونية).
2- الزبيدي مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس (نسخة الكترونية).
3- الحبشي، أحمد بن زين، شرح العينية، الطبعة الأولى، 1987م، سنغافورة.
– الخطيب، محمد بن عبدالله بن سليمان:
4- البرد النعيم في نسب الأنصار خطباء تريم، (مخطوط).
5- محجة الأنبياء وحجة الأولياء، تحقيق: د. محمد يسلم عبدالنور، الطبعة الأولى، 2010م، تريم للدراسات والنشر.
– بن سيمط، محمد بن زين بن علوي:
6- غاية القصد والمراد في ترجمة الإمام الحداد.
7- بهجة الزمان وسلوة الأحزان في ذكر طائفة من الأعيان، عني بطبعه علي بن عيسى الحداد، د. ت.
– الشلي محمد بن أبي بكر:
8- عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر، تحقيق: إبراهيم المقحفي، الطبعة الأولى، 2003م.
9- المشرع الروي في مناقب السادة الكرام آل أبي علوي، الطبعة الأولى، 1319هـ/ 1901م، المطبعة العامرة الشرفية، مصر.
ثانيًا: المراجع والدراسات الحديثة:
10- بن هاشم، محمد، تاريخ الدولة الكثيرية، أشرف على طبعه محمد علي الجفري، 1948م.
11- باغوث، خالد سعيد محمد، الدرر الثمينة في تاريخ مساجد تريم ومعالمها القديمة، الطبعة الأولى، 2010م، مكتبة دار الفقيه، تريم.
12- الجعيدي، عبدالله سعيد (الدكتور)، مجتمع تريم في مكاتبات السيد عبدالله بن علوي الحداد، ضمن أبحاث ودراسات فعاليات ملتقى تريم الثقافي، الطبعة الأولى، 2012م، المكلا.
13- الجنيد عبدالقادر بن عبدالرحمن، العقود العسجدية في نشر بعض مناقب أفراد الأسرة الجنيدية، الطبعة الأولى، 1994م، سنغافورة.
14- الرباكي، أحمد صالح، الجديد في تاريخ تريم القديم، ضمن أبحاث ودراسات فعاليات ملتقى تريم الثقافي، الطبعة الأولى، 2012م، المكلا.
عبدالنور، محمد يسلم (الدكتور):
15- الحياة العلمية في حضرموت في القرنيين السابع والثامن للهجرة، الطبعة الأولى، 2009م.
16- الحياة العلمية في تريم في القرن العاشر الهجري، الطبعة الأولى، 2010م، تريم للدراسات والنشر.
17- المشهور، عبدالرحمن بن محمد، شمس الظهيرة في نسب أهل البيت، تحقيق: محمد ضياء شهاب، الطبعة الأولى، 1984م، عالم المعرفة، جدة.
18- الندوي، مصطفى حسن، الإمام الحداد مجدد القرن الثاني عشر، الطبعة الأولى، 1994م، دار الحاوي.
[1] الحموي ياقوت، معجم البلدان، دار الفكر، بيروت، ج2، ص28.
[2] الزبيدي محمد مرتضى، تاج العروس، منشورات مكنية الحياة، مصر، 1306هـ، ج1، ص7631.
[3] الرباكي أحمد صالح، الجديد في تاريخ تريم القديم، ص127.
[4] عبدالنور محمد يسلم، الحياة العلمية في حضرموت في القرنين السابع والثامن الهجريين، ص48.
[5] بن هاشم محمد، تاريخ الدولة الكثيرية، ص69.
[6] بن هاشم، مصدر سابق، ص73.
[7] الجعيدي عبدالله سعيد، مجتمع تريم في مكاتبات السيد عبدالله بن علوي الحداد، ص109.
[8] لمزيد من تفاصيل تلك الأحداث السياسية ينظر: تاريخ الدولة الكثيرية لمحمد بن هاشم، السلطنة الكثيرية الأولى في حضرموت للدكتور عبدالله الجعيدي.
[9] الجعيدي عبدالله سعيد، مجتمع تريم في مكاتبات السيد عبدالله بن علوي الحداد، ص107.
[10] ومن أمثلة أولئك العلماء عبدالرحمن بن علوي بن أحمد بافقيه (ت 1047هـ)، عرض عليه القضاء مرارًا فامتنع.
[11] الشلي عقد الجواهر، ص 110. المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص137.
[12] الشلي، عقد الجواهر، ص90.
[13] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص397.
[14] المشهور، شمس الظهيرة، ج2، ص541.
[15] المصدر نفسه، ج2، ص491.
[16] النقابة: تنظيم اجتماعي قائم على وحدة النسب، وقد أحدثها في حضرموت آل أبي علوي بهدف التعاون والتآزر ونصرة المظلوم. عبدالنور (الحياة العلمية في حضرموت في القرنيين السابع والثامن الهجريين)، ص325.
[17] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص107- 103.
[18] الشلي، عقد الجواهر، ص153.
[19] بن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص77.
[20] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص107.
[21] الجعيدي عبدالله سعيد، مجتمع تريم في مكاتبات السيد عبدالله بن علوي الحداد، ص109.
[22] الجعيدي عبدالله سعيد، مجتمع تريم في مكاتبات السيد عبدالله بن علوي الحداد، ص109.
[23] بن سميط محمد بن زين، بهجة الزمان وسلوة الأحزان، ص77.
[24] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص107.
[25] المصدر نفسه، ج1، ص345.
[26] المشهور، شمس الظهيرة، ج2، ص541.
[27] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص24. المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص114.
[28] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص106.
[29] المصدر نفسه، ج1، ص117.
[30] المصدر نفسه، ج1، ص107.
[31] المصدر نفسه، ج2، ص491.
[32] الجعيدي عبدالله سعيد، مجتمع تريم، ص107.
[33] بن هاشم، تاريخ الدولة الكثيرية، ص95.
[34] باغوث خالد، الدرر الثمينة في تاريخ مساجد تريم، ص148.
[35] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص397.
[36] باغوث خالد، الدرر الثمينة في تاريخ مساجد تريم، ص164.
[37] بن سميط، بهجة الزمان، ص6.
[38] باغوث، الدرر الثمينة، ص68.
[39] الخطيب، البرد النعيم، ص.
[40] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص183.
[41] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص17. ذكر الشلي بأنه قد ختم القرآن عنده حفظًا وهو ابن عشر سنين.
[42] المصدر السابق، ص20، 46.
[43] بن سميط، بهجة الزمان، ص39، 77.
[44] الشلي، عقد الجواهر، ص74.
[45] بافضل، صلة الأهل، ص251.
[46] الشلي، عقد الجواهر، ص 87- 110.
[47] الشلي، عقد الجواهر، ص146. بافضل، صل الأهل، ص224.
[48] الشلي، عقد الجواهر، ص318.
[49] بافضل، صلة الأهل، ص232.
[50] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص19. المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص346.
[51] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص21.
[52] بافضل، صلة الأهل، ص250.
[53] بن سميط، بهجة الزمان، ص37.
[54] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص101.
[55] المصدر نفسه، ص138.
[56] البدوي مصطفى حسن، الإمام الحداد مجدد القرن الثاني عشر، دار الحاوي، ط1، ص6.
[57] الشلي، عقد الجواهر، ص202.
[58] بن سميط، بهجة الزمان، ص37.
[59] الشلي، عقد الجواهر، ص318.
[60] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص22.
[61] بافضل، صلة الأهل، ص246.
[62] الشلي، عقد الجواهر، ص233.
[63] المشهور، شمس الظهيرة، ج2، ص541.
[64] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص22.
[65] الشلي، عقد الجواهر، ص202.
[66] بن سميط، بهجة الزمان، ص45.
[67] الخطيب، محمد بن عبدالله، البرد النعيم (مخطوط)، ص88. الخطيب محمد بن عبدالله، محجة الأنبياء وحجة الأولياء، دراسة المحقق د. عبدالنور، ص10.
[68] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص105.
[69] الشلي، عقد الجواهر, ص202.
[70] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص105.
[71] الشلي، المشرع الروي، ج1، ص19.
[72] الشلي، المشرع الروي، ج1، ص 22.
[73] الخطيب، محمد بن عبدالله، البرد النعيم، (مخطوط)، ص86.
[74] الشلي، المشرع الروي، ج1، ص19.
[75] الشلي، عقد الجواهر، ص206.
[76] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص117.
[77] بن سميط، بهجة الزمان، ص38.
[78] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص137.
[79] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص183، 369.
[80] الجنيد، العقود العسجدية، ص21.
[81] المشهور، شمس الظهيرة، ج2، ص491.
[82] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص46.
[83] الشلي، عقد الجواهر، ص129. المشهور، شمس الظهيرة، ج2، ص103.
[84] المشهور، شمس الظهيرة، ج1, ص138.
[85] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص169.
[86] المشهور، شمس الظهيرة، ج2، ص486.
[87] الشلي، المشرع الروي، ج2، ص24.
[88] المشهور، شمس الظهيرة، ج1، ص109.
[89] بافضل، صلة الأهل، ص251.
[90] بن سميط، بهجة الزمان، ص135.
[91] بافضل، صل الأهل، ص251.
[92] الشلي، عقد الجواهر، ص208.
[93] باغوث، الدرر الثمينة، ص167.