آثار
رياض باكرموم
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 16 .. ص 85
رابط العدد 16 : اضغط هنا
خلال عمل البعثة السوفيتية العلمية المجمعية المشتركة في مواسم التنقيب عن الآثار في حضرموت (1983- 1991م)، عثرت على نقوش حضرمية مكتوبة على عسيب النخيل، وبلغ إجمالي عدد النقوش المكتشفة (22 نقشًا خشبيًا) خلال مواسم التنقيب في الأعوام (1986م، 1987م و1989م) من موقع ريبون الواقع أسفل وادي دوعن (Frantsouzoff 1999: 55)، وهي أول نقوش خشبية يتم العثور عليها في أعمال تنقيب علمية ورسمية، ومن وجهة نظر بيستون (A. F. L. Beeston) فإن اكتشاف النقوش الخشبية يعود لحقبة أبكر؛ حيث تم اكتشاف أعواد خشبية من منطقة السوداء بالجوف شمال اليمن (نشان قديمًا) حوالي 100 كم شمال شرق صنعاء سنة 1970م (Beeston 1989: 15) منها 25 قطعة وصلت إلى يد عالم الآثار اليمني يوسف عبدالله (عبدالله 1986أ: 22)، ووصلت إلى عالم النقوش الأردني محمود الغول -رحمه الله- منها عودان خشبيان؛ الكبير منهما طوله 16 سم، وقطره 2 سم، أما الصغير فطوله 13 سم فقط (ريكمانز 1994: 12- 14)، ووصلت إلى قسم الآثار بجامعة صنعاء مجموعة من النقوش الخشبية من خرائب الجوف عددها 18 قطعة عام 1984م (عبدالله 1986أ: 23).
بدأت بعدها النقوش الخشبية تظهر بين أوساط الباحثين، وظهرت بعض الدراسات المختصة في النقوش العربية الجنوبية المكتوبة على الخشب، منها بحث ليوسف عبدالله سنة 1986م، ودراسة لبيستون سنة 1989م، وجاءت أول دراسة مكتملة لمجموعة نقوش خشبية في عمل مشترك بين كل من جاك ريكمانز، والتر مولر ويوسف عبدالله سنة 1994م، ووصلت مجموعة كبيرة من النقوش الخشبية -بطريقة ما- إلى مكتبة بافاريا الألمانية نشر منها (205 نقش) الدكتور بيتر شتاين من جامعة يينا الألمانية في كتابه (النقوش العربية الجنوبية القديمة المنقوشة على الخشب من مكتبة ولاية بافاريا في موينخ)، سنة 2010م (هياجنة 2013: 109).
نموذج للنقوش العربية الجنوبية القديمة المنقوشة على الخشب (Bron 2005)
وفي عام 2007م عُثر على مجموعة كبيرة من النقوش الخشبية بالصدفة عند حفر بئر في منطقة مقولة بسنحان جنوب صنعاء (الصلوي 2008: 63)، وفي العام 2018م تم العثور عن طريق الصدفة أيضًا في هضبة دوعن بحضرموت على أرشيف حوى (39 عودًا منقوشًا)، كُتب على بعضها أكثر من نقش، ويعد ذلك أكبر مجموعة نقشية خشبية يتم العثور عليها بحضرموت حتى اللحظة، وفي موضع واحد على شكل مجموعة غير متفرقة محفوظة بشكل جيد.
كما وصلت إلينا أيضًا (10 أعواد صغيرة) عثر عليها في هضبة دوعن منذ مدة طويلة مطلع تسعينيات القرن الماضي، واليوم أصبحت النقوش العربية الجنوبية القديمة المنقوشة على الخشب مصدر اهتمام الباحثين بعد اكتشاف كمٍّ هائل منها بلغ آلاف النقوش الخشبية من منطقة الجوف فقط (فقعس 2019: 7).
إن ما يميز النقوش الخشبية بالإضافة إلى كونها كتبت على مادة جديدة لم تكن معروفة من قبل وهي الخشب على عكس ما هو معروف من أن النقوش العربية الجنوبية القديمة وصلت إلينا منحوتة على الأحجار والفخار، هو نوع الخط المكتوب به هذا النوع من النقوش والذي أطلق عليه مسمى (خط الزبور)، استشهادًا بقول امرئ القيس بن حُجر الكندي:
لِمن طَلَلٌ أبصرته فشجاني كخط الزبور في عسيب يماني
وقد ذكر الحسن الهمداني وهو عالم يمني عاش في القرن العاشر الميلادي، أن حمير كانت تكتب قبل الإسلام بخطين، هما خط المسند وخط الزبور، وأورد ابن دريد قول شاعر:
وزبر حمير بينها أخبارها بالحميرية في عسيب ذابلِ (الصلوي 2008: 60).
وهو -أي خط الزبور- خط مشتق من الخط الرسمي كما يعتقد بعض الباحثين (الصلوي 2008: 76)، يتميز بسهولة كتابته، وتشكيل حرفه، ويكتب بشكل لين وسريع يتناسب مع حركة يد الكاتب على مواد لينة، وتتم كتابة النقوش الخشبية في البداية بقطع عود بحجم مناسب من الشجرة الأم مثل عسيب النخيل، شجرة السدر (العلب)، أو شجر السفرجل (فقعس 2019: 9)، ويتم تشذيبه وإزالة النتوءات والزوائد، ومن ثم الكتابة عليه النقش وهو ما زال رطبًا باستخدام أقلام خاصة تشبه اليراع، يثبت في أحد طرفيه قطعة معدنية، أو قطعة من العاج تتخذ شكل القلم، يبرى أحد طرفيها ليكون سنًا صالح للكتابة، وقد عُثر على نماذج من هذه الأقلام، وتعددت أقلام الكتابة وصنعت من الخشب، أو العاج، أو البرونز، أو الحديد (ريكمانز 1994: 10-11)، وتبدأ الكتابة بخط أفقي على طول العود، وتتجه الكتابة من اليمين إلى اليسار (عبدالله 1986أ: 24)، كما عثرت البعثة السوفيتية في ريبون بحضرموت على أعواد جُهزت للكتابة عليها غير أنه لم يتم الكتابة عليها (كوبيان 1989: 51)، كما حوت بعض الأعواد على ثقب في أحد طرفيها ربما لربط وثائق عدة وتكوين أرشيف وربما يفيد في ختم الوثائق بالشمع، وهو تقليد مذكور في النقوش نفسها (عبدالله، غاجدا 1999: 116).
دل انتشار هذا النوع من النقوش بالإضافة إلى الأنواع الأخرى من النقوش على انتشار للثقافة بين أوساط الناس، وعلى مستوى رفيع للحضارة (جريازنفتش 1986: 7)، كما هو الحال مع المخربشات التي يكتبها أناس من مختلف الفئات الاجتماعية: موظفون، جامعو ضرائب، حداة الإبل، تجار، صيادون، وغيرهم (لوندين 1987ج2: 103)، وقد كان الاعتقاد أن النقوش العربية الجنوبية القديمة المكتوبة على الخشب هي وثائق مؤقته فقط لم يرد كتبتها أن تبقى زمنًا طويلًا تعكس نمط الحياة الاقتصادية اليومية، فبعد الانتهاء منها كانت تُرمى (لوندين 1987 ج1: 82)، ومن صياغة بعض النصوص يتضح أنها خطت من قبل كُتّاب مهرة، فالمرسل يشير إلى نفسه بضمير الغائب مما يدل على أنها كتبت من قبل طرف ثالث (عبدالله، غاجدا 1999: 116).
شملت النقوش العربية القديمة المنقوشة على الخشب (الزبورية) المنشورة حتى الآن على مواضيع عدة، تتمحور حول المعاملات والمراسلات اليومية الاعتيادية (Bron 2005: 32)، ومنها صكوك مالية، ومعاملات بيع وشراء لمنتجات زراعية مثل القمح، الشعير، العدس، الذرة البيضاء، حبوب السمسم، البلح، الطحين، الملح ونحوها، وحيوانات مثل الجمال، الخراف والماعز ونحوها (عبدالله، غاجدا 1999: 117)، أو احتوت على قوائم بأسماء أشخاص أو بطون قبائل (ريكمانز 1994: 14)، والبعض منها على نصوص هجائية للتدريب على الكتابة (عبدالله، غاجدا 1999: 117)، كما تتعلق بعض الوثائق بتصريف المياه والري بين مختلف الأسر، أو تحكي عن شراكة في تربية المواشي (عبدالله، غاجدا 1999: 117)، أو شراكة في أرض زراعية، أو إعلان ملكية كما في بعض نقوش منقطة مقولة (فقعس 2019: 7)، وقد تكون مجرد مسودة أولية لنص يراد نقشه كما هو الحال في بعض النقوش الخشبية من ريبون (Frantsouzoff 1999: 61).
تمتاز النصوص الخشبية بنسق معين، يبدأ باسم المرسل والمستقبل أو العكس (عبدالله 1986ب: 11)، وفي الفترات السبئية المتأخر على نحو (ل + اسم علم + ع م – ن + اسم علم) أي إلى فلان (اسم المرسل إليه) من فلان (اسم المرسل) ولا تحتوي بالضرورة على ألفاظ التحية، وفي بعض الأحيان لا يمكن التمييز بين المراسلات التجارية والعائلية الخاصة (هياجنة 2013: 114)، ومن أمثلة هذا النمط النقش 5 لوحة 5ب عند ريكمانز وآخرين القائل: “إلى ذرح (ذريح) ذي صاحب (صحب) من أخيك عاهل وأنت أضمن (تكفل بالمال المتوجب على) (الفارع) فارعان في ناقته التي (بقيت) مرهونة لدى ظهران سيده وكتب (هذا)، توقيع. (ريكمانز 1994: 28).
نقوش خشبية (ريكمانز وأخرون 1994)
ومنها نماذج تذكر بطون وقبائل كتلك المكتشفة في الجوف اليمنية المحتوية على أسماء بطون وقبائل دون تبيان لسبب تدوينها، كما هو الحال في النقوش الخشبية رقم (2،3، اللوحة 2 أ – 2 ب واللوحة 3 أ-3ب) المنشورة عند ريكمانز وآخرين والتي يسبقها عادة ذو النسبية أو ابن نحو: (ذو حفّان، ذو ثور، ابن معدي إيل، ابن أنعت) ونحوها (ريكمانز 1994: 20)، وتذكر النقوش الخشبية التي عثر عليها في منطقة ريبون بحضرموت علاقة القرابة، كمثل ما ورد في السطر الأول من النقش الموسوم بـ X.Rb-87رقم 4 بصيغة فلان (ح م و) فلان أي الحمو، الصهر أو العم (Frantsouzoff 1999: 57).
كشفت النقوش الخشبية عن مصطلحات وقواعد لغوية جديدة لم تكن معروفة في النقوش المكتوبة بخط المسند على الصخور النمطية والمكررة وبخاصة النقوش النذورية والتي نادرًا ما يرد فيها ضمير الغائب المفرد أو الجمع على عكس النقوش الخشبية التي يرد فيها ضمير المتكلم وصيغ الفعل المضارع والأمر (عبدالله 1986ب: 10)، ووردت وزن الفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم والمخاطب على نحو (ف ع ل ت) للمخاطب، و(أ ف ع ل) للمتكلم، و(ف ع ل ت م و) لجمع المخاطبين، و(ف ع ل ت ن) للمؤنث، و(ن ف ع ل) لجمع المتكلمين، (هياجنة 2013: 115)، كما أعطت معلومات مهمة عن اللغة والمفردات القديمة، كتلك المكتشفة في حضرموت المحتوية على مجموعة كبيرة من التعابير والمفردات الجديدة (لوندين 1987 ج1: 82)، ويعود السبب في ذلك إلى أنها ترصد الحياة الاعتيادية دونما حاجة للرسمية، فتسجل الألفاظ الشعبية، وتحكي أحوال المجتمع اليومية.
أما تاريخ النقوش العربية الجنوبية القديمة المنقوشة على الخشب فيصعب تحديده؛ وذلك لندرة ذكر تواريخ في النقوش المكتشفة حتى اللحظة، إضافة إلى أنه لم يتم الكشف عن غالب النقوش الخشبية ضمن أعمال أثرية منتظمة يمكن تأريخها من خلال سياقها الأثري سوى تلك التي من ريبون بحضرموت المكتشفة من قبل البعثة الروسية، والتي أرخت بحسب الراديو كربون (C14) إلى القرن الخامس – الرابع قبل الميلاد (Frantsouzoff 1999: 56)، أو بالاعتماد على شكل الخط وتطوره كتصنيف ريكمانز الذي يذهب بناء على ذلك إلى أن أقدم النقوش الخشبية يعود في الأقل إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وأن أحدثها يعود للحقبة السبئية المتأخرة، ومن المعلوم أن أحدث نقش خشبي مؤرخ يعود إلى 522م (هياجنة 2013: 116)، وبشكل إجمالي يمكن القول إن تاريخ النقوش العربية الجنوبية القديمة المنحوتة على الخشب يمتد من القرن السابع قبل الميلاد وينتهي بالقرن الرابع الميلادي، أي على طول تاريخ حضارة ممالك جنوب الجزيرة العربية القديمة (عبدالله، غاجدا 1999: 116).
المصادر والمراجع:
جرنازنفتش، بطرس 1986م: المقدمة، نتائج أعمال البعثة السوفيتية العلمية المجمعية المشتركة في ريبون حضرموت، أكاديمية العلوم الاتحاد السوفيتي والمركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، ص2-8.
ريكمانز، جاك. وفالتر، مولر. وعبدالله، يوسف. 1994م: نقوش خشبية قديمة من اليمن، منشورات المعهد الشرقي في لوفان 43، جامعة لوفان الكاثوليكية.
الصلوي، إبراهيم محمد. 2008م: كتابات المسند وكتابات الزبور في اليمن القديم، حولية أبجديات، الإسكندرية، عدد 3، ص61- 77.
فقعس، أحمد علي صالح. 2013م: نقوش خشبية بخط الزبور من مجموعة المتحف الوطني بصنعاء – تحقيق ودراسة، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة صنعاء، (اليمن).
2019م: عقد شراكة بين بني بوس وبني جدن في ضوء نقش بخط الزبور من منطقة مقولة، أدوماتو، العدد 40، ص7- 24.
عبدالله، يوسف. 1986أ: خط المسند والنقوش اليمنية القديمة دراسة لكتابة يمنية قديمة منقوشة على الخشب، مجلة اليمن الجديد، عدد 5، ص10- 27.
1986ب: خط المسند والنقوش اليمنية القديمة دراسة لكتابة يمنية قديمة منقوشة على الخشب، مجلة اليمن الجديد، عدد 6، ص10- 29.
عبدالله، يوسف. غاجدا، إيفونا. 1999م: الحياة اليومية في اليمن القديم، اليمن في بلاد ملكة سبأ، ترجمة عز الدين عردوكي، ص115- 117.
لوندين، م. ق. وبتروفسكي. م، ب. 1987م ج1: معرفة الكتابة في حضرموت القديمة، نتائج أعمال البعثة السوفيتية العلمية المجمعية المشتركة في ريبون حضرموت، أكاديمية العلوم الاتحاد السوفيتي والمركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، ص97- 110.
1987م ج2: نقوش حضرموت الداخل، نتائج أعمال البعثة السوفيتية العلمية المجمعية المشتركة في ريبون حضرموت، أكاديمية العلوم الاتحاد السوفيتي والمركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، ص71- 84.
كوبيان، أرام وآخرون 1989م: الوثائق الحضرمية المكتوبة على سيقان سعف النخيل، نتائج أعمال البعثة السوفيتية العلمية المجمعية المشتركة في ريبون حضرموت، أكاديمية العلوم الاتحاد السوفيتي والمركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، ص40- 51.
هياجنة، هاني. 2013م: عرض كتاب (النقوش العربية الجنوبية القديمة المنقوشة على الخشب من مكتبة ولاية بافاريا في موينخ)، مجلة أدوماتو، عدد 28، ص109- 116.
Beeston, A.F.L. 1989 Mahmoud Ali Ghul and the Sabaean cursive script, Arabian Studies in Honour of Mahmoud Ghul: Symposium at Yarmouk University, December 8-11, 1984. Editor: Moawiyah M. Ibrahim, p 15-19.
Bron, Francois. 2005 Language and Writing, Caravans kingdoms Yemen and the ancient incense trade, p: 26-33.
Frantsouzoff, S.A. 1999 Hadaramitic documents written on palm-leaf stalks, Seminar for Arabian studies, Vol.29, p55-65.
رياض باكرموم(*)
(*) أخصائي آثار، مدير عام الهيئة العامة للآثار والمتاحف- المكلا/ حضرموت.