نقد
د. عبدالحكيم الزبيدي
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 16 .. ص 90
رابط العدد 16 : اضغط هنا
الاغتراب في اللغة:
يدور معنى مادة (غَرَب) في اللغة حول (الذهاب والبعد)، ومنه (التغريب في الحدود) بمعنى النفي، والغُرْبةُ والاغْتِرابُ والتغرُّب: النُّزوحُ عن الوَطَن. ورجل غريبٌ: بعيد عن وَطَنِه؛ الجمع غُرَباء([1]).
أسباب الاغتراب:
وللاغتراب أسباب متعددة، وللأدباء والشعراء أحوال مع الاغتراب، فقد يلجأ أحدهم للتغرب عندما يُضام في وطنه، وفي هذا المعنى يقول الشنفرى في لامية العرب([2]):
وفي الأرض مَنْأىً للكريم عن الأذى | وفيها لمن خاف القِلى مُـتَـحَــوَّلُ |
وقد يلجأ الأديب للاغتراب عندما تضيق به سبل العيش في وطنه، فلا يجد فيه ما يسد به رمقه، فيضطر إلى ترك وطنه مع شدة حبه له، وهذا ما حدث للقاضي عبدالوهاب المالكي الذي اضطر إلى ترك بغداد وهو يردد أسباب مغادرته لها([3]):
بغدادُ دارٌ لأهل المال طيبةٌ ظللتُ حيران أمشي في أزقتها | وللمفاليس دار الضنكِ والضيقِ كأنني مصحفٌ في بيت زنديقِ |
إنه الإحساس بالغربة في الوطن، هو الذي جعله يغادر وطنه. وهي الأسباب ذاتها التي جعلت المتنبي يغادر الكوفة ويتنقل بين الأمصار، وفي ذلك يقول واصفًا أسباب اغترابه([4]):
تغرَّب لا مستعظمًا غير نفسه | ولا قابلًا إلا لخالقه حكما |
وهو لا يبالي أن يترك موطن اللذات إذا لم يجد فيه ما يستحقه من تكريم، يقول حين غادر حلب([5]):
وَمَا مَنزِلُ اللّذّاتِ عِندي بمَنْزِل سَجِيّةُ نَفْسٍ مَا تَزَالُ مُليحَةً | إذا لم أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَرَّمِ منَ الضّيمِ مَرْمِيًّا بها كلّ مَخْرِمِ |
المُليحة: المشفقة الخائفة، والمخرم: الطريق في الجبل؛ يقول: هذا الفراق سجية نفسي التي هي أبدًا خائفة من أن تُظلم ويُبخس حقُها من الإكرام، وأنا أرمي بها كل طريق هاربًا بها من الضيم والذل.
على أن للاغتراب إيجابياته أيضًا، فقد كانت العرب تمدح الاغتراب وتحث عليه؛ لأنه يشحذ القرائح، ويلقح الأفهام عن طريق التواصل مع الثقافات الأخرى، وقد كان العرب في الجاهلية يرسلون أطفالهم إلى البادية لينشأوا هناك نشأة صحية بعيدة عن تلوث بيئة المدن، ولتستقيم ألسنتهم على طرائق العرب في اللغة، بعيدًا عن لحن المدينة التي لوثها الاختلاط بالأعاجم. ومن الأبيات المشهورة التي تحث على الاغتراب في طلب العلم، قول الشاعر، وينسب للإمام الشافعي([6]):
تغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِيْ طَلَبِ العُلَى تَفَرُّجُ هَـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيْشَـةٍ | وسافِرْ ففي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِـدِ وَعِلْمٌ، وآدابٌ، وصُحْبَـةُ مَاجِـدِ |
ومن فوائد السفر أيضًا غير طلب العلم واكتساب المعيشة، التجدد، وفي هذا المعنى يقول أبو تمام([7]):
وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقٌ فإني رأيْتُ الشَّمسَ زيدتْ مَحَبَّةً | لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ إلى النَّاس أَن ليْسَتْ عليهمْ بِسرْمَدِ |
ولعل المقصود بالتجدد هو التواصل مع الثقافات الأخرى والتلاقح معها مما يشحذ الذهن، وينمي المعرفة الإنسانية، ويجعل المرء يعيد النظر في بعض الأفكار التي كان يعدها من المُسَلَّمات لديه، وربما من هذا القبيل ما قيل عن الإمام الشافعي أنه غيَّر في فتاواه حين استوطن مصر.
ويمضي الشعراء في استنباط الأدلة على أهمية التغرب، فمن ذلك أن الشمس لو لم تغرب لملها الناس، والماء إذا ركد يفسد، يقول الشاعر وينسب للإمام الشافعي([8]):
إني رأيت ركـود الـماء يفســده والتِّبرُ كالتُّـرب مُلقى في أماكنـه | إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطبِ والعود في أرضه نوع من الحطبِ |
وفي البيت الثاني يشير الشاعر إلى مسألة مهمة من طبائع البشر، وهي أن المواهب لا تقدر حق قدرها في مواطنها، فـ”العود في أرضه نوع من الحطبِ”، وقد قيل في الأمثال: مغنِّي الحي لا يُطرب، وقيل أيضًا: لا كرامة لنبي في وطنه. ولدينا من سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما يؤكد هذا المعنى، فلولا الهجرة إلى المدينة لما انتصر الإسلام وانتشر.
والشعراء والأدباء هم من أكثر الفئات التي تتعرض للاغتراب، إما لطلب العلم، أو لكسب الرزق، أو أنفةً من الظلم، كما أسلفنا.
ولم يزل هذا دأبهم في القديم والحديث. ففي العصر الحديث نجد كثيرًا من أدباء الشام وشعرائها قد اغترب في مصر، منهم على سبيل المثال لا الحصر: خليل مطران، وإيليا أبو ماضي الذي قال عن مصر([9]):
أحنى على الحرِ من أم على ولدٍ | فالحر في مصرَ كالورقاء في الحرمِ |
ومنهم من اغترب أبعد من ذلك إلى الأمريكتين، كإيليا أبو ماضي نفسِه، وجبران خليل جبران، وغيرهم.
اغتراب باكثير:
وإذا انتقلنا إلى الأديب علي أحمد باكثير، سنجد أنه اغترب مرتين: المرة الأولى من بلد مولده (إندونيسيا) إلى حضرموت بلد آبائه وأجداده، والاغتراب الثاني كان من موطن آبائه حضرموت إلى مصر عاصمةِ العروبة وحاضرتِها. وعن أثر هذا الاغتراب في أدب باكثير، تدور مداخلتنا هذه.
الاغتراب الأول:
ولد الأديب علي أحمد باكثير عام 1910م في مدينة (سروابايا)، وهي مدينة تتبع لما كان يُعرف حينها بجزر الهند الهولندية، وأصبح يُعرف بعد الاستقلال بإندونيسيا. وقضى باكثير عشرة أعوام من عمره في تلك البقاع الخضراء ذات المناخ الاستوائي. ولو قدر له أن يظل هناك طيلة عمره، لما تمكن من علوم العربية إلى الحد الذي يصبح فيه شاعرًا يمتلك عنان القريض. ولكن كان من العادات الحميدة للتجار الحضارمة المغتربين في إندونيسيا ومنهم والد الأديب باكثير، أنهم درجوا على إرسال أبنائهم إلى حضرموت حين يبلغون العاشرة من العمر، لينشأوا هناك نشأة عربية إسلامية، ويتربوا على عادات أهلهم وتقاليدهم ومثلهم ومآثرهم. حتى إذا بلغوا مبلغ الرجال عادوا إلى مغتربهم ليواصلوا رحلة البحث عن الرزق. ومن هذا الجيل كان الأديب علي أحمد باكثير الذي سافر به أبوه إلى حضرموت حين بلغ العاشرة من عمره، فكان هذا هو الاغتراب الأول في حياته. وقد حوَّل هذا الاغتراب مسار حياته، فتعلم في حضرموت العربية، وتفقه في علوم الدين، ودرس الحديث والفقه، وأكب على أمَّات الكتب التراثية في الشعر والأدب والبلاغة. وظهرت مواهبه الأدبية مبكرًا، فنظم الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وحين توفي والده، رثاه بقصيدة جزلة قوية الألفاظ، لا يخطر في بال قارئها اليوم أن ناظمها يافع لم يجاوز الخامسة عشرة من عمره، مطلعها([10]):
عبثًا تحاول أن تُكفَّ الأدمعا كيف السلو وما مررتَ بموضعٍ | وأبوك أمسى راحلًا مستودعا إلا وساد الحزنُ ذاك الموضعا |
ولم يبلغ باكثير العشرين من عمره إلا وقد أحاط بكل كتب الأدب القديم، وكتب التفسير والحديث والسيرة، وتمكن من علمي النحو والعروض. يظهر ذلك واضحًا من خلال ثقافته التي انعكست في أعماله الأدبية، وكتاباته النقدية المبكرة. فقد كتب استدراكًا على كتاب (الموازنة للآمدي)([11])، ناقش فيه كثيرًا من تحامله على أبي تمام ورد عليه، وهو لم يبلغ العشرين من عمره بعد. كما كتب مقالًا بعنوان (ملاحظات سائح في ديوان ابن زيدون)([12])، صحح فيه كثيرًا من الأخطاء التي وقع فيها محققا ديوان ابن زيدون، مما يدل على سعة اطلاعه على كتب الأدب وتضلعه منها. كما كتب قصيدة عن الإمام الغزالي تدل على أنه اطلع على مؤلفاته واستوعبها([13]).
ولأن بيئة حضرموت في ذلك الوقت كانت منعزلة عن رياح التطور الأدبي التي شهدتها مصر والشام، فلا عجب أن يكون إنتاج باكثير الأدبي في تلك المرحلة انعكاسًا لتشبعه من التراث العربي القديم، فيأتي تقليدًا له. ولذا رأيناه في شعره الذي نظمه في تلك المرحلة يترسم خطى فحول شعراء الجاهلية، فيقف على الأطلال، ويكثر من الألفاظ الغريبة، ومن ذلك قوله([14]):
لمن طللٌ تحاكيه الوشومُ يحاكي مُصحفًا من عهد عادٍ ترحَّلَ عنه أحبابي جميعًا وخلَّوني هناك رهينَ سُقمٍ ووادٍ مثلَ جوفِ العِيرِ صَفرٍ فريتُ هجولَه والليلُ مُرخٍ إلى آخرها. | عفت منه المعالمُ والرُّسومُ بخط الحميريِّ له رقومُ وخلَّوني تساورني الهُمومُ تُساهرني الكواكبُ والنُّجومُ فريتُ وليلُه ليلٌ بهيمُ دُجاه وقد تجاوبَ فيه بُومُ |
وكما جاء شعره غارقًا في التقليد، جاء نثره أيضًا غارقًا في السجع والتكلف، على طريقة النثر في عصور الانحطاط الأدبي التي تشبع منها باكثير. وخير نموذج لنثره في تلك المرحلة، التقريظ الذي كتبه لكتاب ألفه أستاذه محمد بن عوض بافضل في مناقب قبيلته، وطلب من باكثير أن يقدمه بتقريظ، فكتب يقول([15]):
»الحمد لله الذي أورد من شاء مناهل العلوم، وأتحف من أراد بثاقبات الفهوم. أحمده على نعمه، وأشكره على قسمه. وأصلي وأسلم على النبي المعظم، والرسول المكرم، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد، فقد اطلعت على كتاب (صلة الأهل بتدوين ما تفرق من مناقب بني فضل) للعالم العلّامة، الحَبرِ الفهّامة، العلمِ الشهير، والبحرِ الغزير، المحققِ المدقق، والغيثِ المغدق، فريدِ عصره، ووحيدِ دهره، سحبانَ([16]) بلاغةٍ وخطابة، وابنِ مُقلة([17]) خطًا وكتابة، جامعِ أشتات الفضل، الشيخِ محمدِ بن عوض بافضل، لا زال رافلًا في حلل السلامة والعافية. فسرّحتُ النظر في أزهار رياضه، وأجلتُ الطرف في أشجار غياضه، وتنزهتُ في حدائقه البهيّة، وتفكهتُ بفواكهه الجنيّة، فوجدته يقطر بلاغة، ويندى صياغة، يُدّخر لنفاسته، ويُشرب لسلاسته:
تزينُ معانيه ألفاظَه | وألفاظُه زائناتُ المعاني |
كتاب يُزري بعقد الثُّريّا، ويُخجل زهرَ الروضِ الباسمَ المُحيّا، كتاب أغلى من السَّلامة من المصائب، وأحلى من رسائل القاضي الفاضل([18]) والصاحب([19]). كتاب كسته بهجة الحسن رونقًا هو السِّحر، لا بل جلَّ قدرًا عن السِّحر. كتاب يهزأ بالعقود اللؤلؤية([20])، ويفوق على الصِّحاح الجوهرية([21]). هو السِّحر الحلال، أو الماء الزلال. حريٌ أن يُكتب بدموع الحور، على صفحات ربّات الخدور. كتاب يُزري بلآلئ البحور، ودراريِّ النُّحور. فهو مُفيد علوم، ومُبيد هموم. لا عيب فيه ولا شين، إلا أنه محتاج إلى ما يقيه من العين:
شخص الأنامُ إلى صنيعك فاستعذْ | من شرِّ أعينِهم بعيبٍ واحدِ |
فجعلتُ هذا التقريظ له من العين وقاية، ومن شرِّ الحسَّاد حماية:
جعلتُ تقريظي له عُوذةً | تقيه من شرِّ أذى العينِ«. |
الاغتراب الثاني:
غادر باكثير حضرموت، وهو في العشرين من عمره، بعد أن فُجع بوفاة زوجته وهي في غضارة الشباب ونضارة الصبا، بالإضافة إلى ما لقيه من أذى نتيجة لدعوته الإصلاحية في ذلك المجتمع الذي كان غارقًا في البدع الدينية، والتخلف الحضاري، والفوضى القبلية. فغادر حضرموت هائمًا على وجهه. فقصد مدينة (عدن) وأقام فيها برهة في ضيافة الشاعر المعروف محمد علي لقمان. ثم غادرها إلى الحجاز حيث أقام فيها قرابة عام ونصف متنقلًا بين مكة والمدينة والطائف. وفي الحجاز اطلع لأول مرة على مسرحيات شوقي الشعرية، وكان على اطلاع على شعر شوقي وحافظ وهو في حضرموت، ولكن لم يتح له الاطلاع على مسرحيات شوقي الشعرية إلا في أثناء إقامته بالحجاز، فانبهر بها، وكتب على منوالها مسرحيته الشعرية الأولى (هُمام أو في بلاد الأحقاف). وكان هذا أول ثمار الاغتراب الثاني في فكر باكثير؛ إذ تغير مفهومه للشعر من أنه تعبير ذاتي عن مشاعر الشاعر نفسه وأفكاره، إلى مفهوم أوسع، حيث يمكن أن يعبر الشعر عن مشاعر أشخاص آخرين غير الشاعر وأفكارهم، فيكون حوارًا فيما بينهم. ومن الغريب -كما يقول باكثير نفسه- أنه استطاع تقليد مسرح شوقي الشعري منذ أول لقاء به. وقد كانت نفسه تجيش في تلك الآونة بمشكلة وطنه (حضرموت)، ومأساة فقد زوجته، فجعل ذلك موضوعًا لمسرحيته الشعرية الأولى. وقد جاءت هذه المسرحية ضعيفة البناء فنيًا، ولكن كان فيها شعر جزل، كما يقول باكثير نفسه([22]).
ثم قدم باكثير إلى مصر عام 1934م، والتحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، ودرس الأدب الإنجليزي، وهنا حدث الأثر الأكبر في مفهوم الشعر عنده. فقد ذكر باكثير أنه حين اطلع على الشعر الإنجليزي، وشعر شكسبير خاصة أصابته هِزَّة، وتغيرت نظرته للشعر، حتى إنه توقف برهة عن نظم الشعر، ثم عاد إلى كتابته بروحٍ جديدة وفهم جديد([23]). وكان ثمرة هذا اللقاء بالأدب الإنجليزي أن كتب باكثير ما أصبح يُعرف اليوم بالشعر الحُر، وأسماه هو (الشعر المرسل المنطلق)، فكان بذلك رائد هذا النمط من النظم في اللغة العربية. وكانت أول تجربة له في كتابته وهو ما يزال طالبًا في الجامعة، حيث ترجم مسرحية (روميو وجولييت) لشكسبير، التي كانت مقررة عليهم في منهج تلك السنة الدراسية، ترجمها بالشعر الحر تحديًا لأستاذه الإنجليزي الذي قال في قاعة الدرس إن الإنجليز انفردوا بكتابة الشعر المرسل (الحُر كما نسميه اليوم)، وإن الفرنسيين حاولوا تقليدهم ففشلوا، ومن المؤكد أنه لا وجود له في لغتكم العربية. فانبرى باكثير ليؤكد لأستاذه أنه ليس هناك ما يمنع من وجوده في العربية؛ لأنها لغة طيعة تتسع لكل أنواع التعبير الأدبي، فسخر منه الأستاذ. فأحس باكثير أن عليه أن يرد عليه بالفعل لا القول. وكان باكثير يفكر من قبل في هذا الأمر، ولكن هذا التحدي من أستاذه جعله يعجل بالتجربة([24]). وكانت ترجمته تلك في سنة 1936م، وبعدها بعام كتب مسرحيته الأولى بالشعر الحر وهي (أخناتون ونفرتيتي) ونشرها عام 1940م، وقد استفاد من تجربته الأولى في ترجمة (روميو وجولييت)، وذلك بأن صاغ مسرحيته كلها على تفعيلات بحر (المتدارك)، الذي رآه أصلح البحور لهذا الضرب من الشعر، بعد أن كان قد استخدم تفعيلات بحور متعددة في (روميو وجولييت)، ولكنها كلها من ذوات التفعيلة المتكررة، وهي التي أسمتها نازك الملائكة بعد ذلك بالبحور الصافية.
وهذا مقطع من مسرحية (أخناتون ونفرتيتي) للتعرف على تجربة باكثير الرائدة:
المنظر الثاني، من حوار بين أخناتون وأمه الملكة (تي) بعد وفاة زوجته (تادو))[25](:
الأمير: | تادو! لن أنساكِ يا تادو! لن أسلو حبك يا تادو! لن أعشق غيرك يا تادو! لن أفرح بعدك يا تادو – لن أعيش. |
تي: | لا بل سيطول بقاؤك يا أمنوفيس وستختار جوهرة أخرى لا تنقص عن تادو. |
الأمير: | لا توجد في الأرض جوهرة مثل تادو وأحسبها غير موجودة في السماء. طالما كانت تستيقظ في الأسحار فتكتم أنفاسها وتقبَل ما بين عيني في رفق حتى لا توقظني. وأسارقها الطرف حينًا فحينًا فألمحُ في شفتيها ارتعاش الصبي قد اختلس الحلوى من مخدع جدته الشمطاء وفي عينيها اغتباط الطفل تملأ من ثدي أمه! ثم يغزو التثاؤب فاها الجميل، ويلوذ النعاس بأهدابها فتميل إلى جنبي وتعود إلى نومها في طمأنينة وغرارة. |
تي: | ويح لك يا ولداه! |
الأمير: | ما أنس من الأشياء فلن أنسى ما كنا نخرج في أنفاس الصباح الجديد إلى الروض المطلول فننساب بين الغصون نبلل أوجهنا بالطل النضيد ونسير على العشب المنضور ونعدو هنا وهناك على المَرج المسحور ونجمع شتى الأزاهير ننظمها مثل الإكليل ونجري وراء الفراش الجميل نطارده من غصن لغصن فأمسكه فتشير علي بإطلاقه من جديد فأطلقه فيطير فترنو إليه وفي فمها بسمة بيضاء كما يبسم الأريحي الكريم ارتاح لفك أسير! |
تي: | ما أرق فؤادك يا ولداه! |
إلا إن باكثير لم يواصل تجربته الرائدة تلك -مع الأسف- نظرًا للفتور الذي قوبلت به. وانصرف إلى كتابة المسرحية النثرية والرواية. وهكذا لم يقدر لهذا الضرب من الشعر أن يشتهر وينتشر إلا بعد عشر سنوات من تجربة باكثير الرائدة، أي عام 1946م وذلك على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وأن تنطلق التجربة هذه المرة من العراق، لا من مصر.
وظل باكثير يكتب قصائده على النمط العمودي، إلا أن شعره كان قد تطور فأصبحت ألفاظه مأنوسة، وتعابيره أكثر ألفة. وكان ينشر قصائده في مجلة (الرسالة)، ومجلة (أبولو). ومن أمثلة قصائده تلك هذه القصيدة([26]):
أمس | ||||
يا حبيبـي بـرد العقـدُ ولـم وانقضـى أو أوشـك الليـل أه مـا أحـلاكَ فـي قلبـي ليتـنـي أفـنـى بعينـيـك لو عبرنا الدَّهر ضمًا واعتناقًا يا حياتي ساعةٌ تعـدل منـك أنــتَ دنـيـاي وديـنـي ليت شعري عنك يا روحـي يا حياة الروح هل صاغـكَ أم براني الجسدَ الهامـدَ مَـن ذاك أو هـــذا فــإنّــا فــإذا نـحـنُ اعتنـقـنـا | يبرد على الرشـف صـداي ولمَّا أقضِ من فيـك مُنـاي وعينـي وذراعـي ولسانـي فأحيا في نعيـمٍ غيـرِ فـانِ لا أرى يُشـفـى غلـيـلـي الدَّهـرَ ليـسـت بالقلـيـلِ ومـعــادي وهــــداي أنفسي أنت أم أنـت سـواي؟ ربـي مـن فـؤادي وهـواه أودع لـي فيـكَ الحـيـاه؟ مهـجـةٌ فــي جسـديـن فمُصـلٍّ ضـمَّ لله اليـديـن | |||
وانطوى العهدُ وأُفردتُ لأشقى ليـتـه نـصـفٌ سـلـيـمٌ فلأمتْ بعـدكَ كـي ألقاك وعـزائـي فــي يقـيـن | واليوم | عائشـًا فـي نصـفِ روحِ غير ممنيٍّ بأشتاتِ الجـروحِ أو فلأحيَ بالذكـرى لحيـنْ أنني ألقاكَ فـي دار اليقيـنْ |
نجد هذه القصيدة تتدفق حيوية، وتنطق بالصدق والمعاناة، مع سلاسة في الألفاظ، وجمال في الأسلوب، دون تقعر أو تكلف.
ولنوازن قطعته النثرية تلك في التقريظ بما فيها من سجع متكلف، وصور مصنوعة، بهذه القطعة من رواية (وا إسلاماه) التي يصف فيها زواج (قطز) و(جلنار)([27]):
»وانتصف الليل، وانفضت جموع المدعوين والمدعوات، وسكتت أصوات الغناء، وألحان المزاهر والعيدان، وخفتت الطبول، وسكنت حركات الرقص، وتناعست عيون المصابيح، وأخذ الخدم يرفعون الموائد ويطوون الأخونة، وآوت الجواري إلى مخادعهن بين الفرح والحسرة، وأرخيت الستائر على الجناح الميمون، وخلا الحبيبان السعيدان.
فطاب اللقاء وساد الصفاء، وسالت دموع الفرح، وتحدث القلب إلى القلب ولذت الشكوى، ورقت النجوى، وتذوكرت ذنوب الزمان ثم غُفرت له دفعة واحدة. ومرت اللحظات، كأنها حبات عقد من اللؤلؤ النضيد وهى سلكه فانتثر، وقرت بنعيم الوصل عيون طالما أسهدها البين الطويل، فما كانت تنطبق إلا على لوم نافذ، ومضجع قلق، فمشى إليها النعاس مترفقًا يستعتبها فأعتبته، وضمته في شوق بين أهدابها الساجية. فرقد اثنان الحب ثالثهما تحوطهما بسمات الله ورضوانه. وتحقق حلم في الأرض، وأجيبت دعوة في السماء انطلقت من فم رجل صالح. واطمأنت روحا امرأتين غرقتا في نهر السند، وكانتا كثيرًا ما تنظران إليهما صغيرين يلعبان في حديقة القصر الملكي بغزنة فتتمنيان أن تريا مثل هذا اليوم.
حتى تنفس الصبح وبرد السوار، فهب العروسان مذعورين يخشيان أن يكون ما كانا فيه رؤيا في المنام، والتمس أحدهما الآخر في نور الغبش، فإذا هما متعانقان«.
هذا هو الأدب الذي تعشقه النفوس وترتاح إليه الأسماع، وهو صادر عن عاطفة صادقة، ذلك أن باكثير، وإن كان يصف هنا عرس قطز وجلنار، فإنه كان في الحقيقة يصف عرسه هو بمحبوبته التي اغتضرتها يد المنون وهي في ميعة الصبا وريعان الشباب، قبل أن تجف رياحين عرسهما. فجاء وصفه يقطر صدقًا ويندى عاطفة.
خاتمة:
وهكذا رأينا كيف أثر الاغتراب في أدب علي أحمد باكثير، فبعد أن كان يعد نفسه ليصبح شاعرًا كبيرًا مثل شوقي وحافظ، إذا به بعد قدومه إلى مصر، واطلاعه على الأدب الإنجليزي، وبخاصة أدبِ شكسبير، يسلك طريقًا آخر، فيتجه أولًا إلى كتابة الشعر الحر، ثم يبدأ في كتابة المسرحية والرواية، حتى ينصرف إليهما انصرافًا كاملًا، فيترك لنا 6 روايات، و6 مسرحيات شعرية، وأكثر من 60 مسرحية نثرية، ويبقى الشعر على الهامش من اهتماماته الإبداعية فيلقى وجه الله قبل أن ينشر أعماله الشعرية الكاملة في ديوان.
[1]– ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي: لسان العرب، دار صادر، بيروت، د. ت، ج1، ص639.
[2]– المصري، عطاء الله بن أحمد: نهاية الأرب في شرح لامية العرب، دراسة وتحقيق: د. عبدالله محمد عيسى الغزالي، حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، الحولية الثانية عشرة، 1412هـ/ 1992م، ص40.
[3]– ابن خلكان: أحمد بن محمد بن أبي بكر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: د. إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1978م، ج3، ص221.
[4]– البرقوقي، عبدالرحمن: شرح ديوان المتنبي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1980م، ج4، ص233.
[5]– المرجع السابق، ج4، ص263.
[6]– الطباع، عمر فاروق: ديوان الإمام الشافعي، دار الأرقم، بيروت، د. ت، ص60.
[7]– التبريزي، الخطيب: شرح ديوان أبي تمام، دار الكتاب العربي، بيروت، 1992م، ج1، ص246.
[8]– الطباع، عمر فاروق: ديوان الإمام الشافعي، مرجع سابق، ص39.
[9]– أبو ماضي، إيليا: لكن مصرًا، مجلة (الزهور)، الجزء الخامس، السنة الرابعة، يوليو (تموز) 1913م، ص257.
[10]– باكثير، علي أحمد: ديوان أزهار الربى في شعر الصبا، تحقيق وتقديم: محمد أبوبكر حميد، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، بيروت، 1408هـ/ 1987م، ص 251.
[11]– نشره في مجلة (التهذيب) التي كان يصدرها مع نخبة من أدباء سيئون بين عامي 1349هـ و1350هـ.
[12]– كتبه في أثناء إقامته بعدن، ونشرته مجلة (المعرفة) المصرية في عدد ديسمبر 1932م.
[13]– باكثير، علي أحمد: ديوان أزهار الربى في شعر الصبا، مرجع سابق، ص229- 232.
[14]– المرجع السابق، ص141- 142.
[15]– بافضل، محمد بن عوض: صلة الأهل بتدوين ما تفرق من مناقب بني فضل، د. ن، 1420هـ/ 1999م.
[16]– خطيب مخضرم من وائل يضرب به المثل في البلاغة (ت 54هـ).
[17]– أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة الشيرازي (ت 328هـ)، من أشهر خطاطي العصر العباسي.
[18]– عبدالرحيم بن على بن محمد اللخمي (ت 596هـ) أحد الأئمة الكتَّاب، ووزير السلطان صلاح الدين الأيوبي.
[19]– أبو القاسم إسماعيل بن عباد (ت 385هـ) أحد أعيان العصر البويهي، كان من نوادر الوزراء الذين غلب عليهم العلم والأدب.
[20]– العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، تأليف: علي بن الحسن الخزرجي (مؤرخ، بحاثة، من أهل زبيد في اليمن، ت 812هـ).
[21]– تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393هـ).
[22]– حميد، محمد أبوبكر: أحاديث علي أحمد باكثير، دار المعراج، الرياض، 1997م، ص190.
[23]– المرجع السابق، ص192.
[24]– المرجع السابق، ص193.
[25] – باكثير، علي أحمد: أخناتون ونفرتيتي، مسرحية شعرية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، ط2، 1967م، ص44- 46.
[26]– نشرت في مجلة (أبولو)، العدد (4)، المجلد (3)، ديسمبر 1934م.
[27]– باكثير، علي أحمد: وا إسلاماه، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د.ت، ص206- 207.