كتابات
د. سعيد الجريري
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 16 .. ص 105
رابط العدد 16 : اضغط هنا
(إقرأ مذكرات دوغول عن سنوات الثلاثينيات والأربعينيات، وستلاحظ أنه كان مشغولاً باللامرئي الذي يسميه فرنسا. إن فرنسا ابتداع شعري ومع ذلك هي التي ستحدد له ممارسته. لقد جعل منها شخصاً له جسد هو أرض فرنسا، وروح غامضة، آمرة، لا تُقاوَم هي التي توجه فعله. ذلك أن الإنسان حيوان شعري من الثدييات إلا أنه منخور ومعذّب بشيء لا يوجد خارج ذهنه).
لعل في هذا المقتطف من حوار مع ريجيس دوبريه أجراه محمد برادة، مدخلاً ملائماً إلى شعرية اللامرئي ليس في الشعر، كما يلوح في أفق التوقع، ولكن على ناصية الأسئلة الوجودية التي لها شعريتها الخاصة في القصيدة كما في خارجها. فالانشغال باللامرئي مكوّن حضاري وثقافي ووجداني أيضاً، تتداخل فيه صور الماضي والآتي في تماهٍ حيناً وتوازٍ حيناً آخر ، تلك الصور التي من تجلياتها مثلاً رمزية الطلل عند الشاعر القديم، ورمزية الحلم عند الشاعر الرومانسي، إذْ يغدو الطلل مستقبلاً كالحلم الذي يصبح ذكرى، في سياق اتفاقهما في الصفة، واختلافهما في كون كل منهما رحلة معاكِسة للأخرى (استعادة / انتظار)، وهي معاكَسة على مستوى التصور والاتجاه فقط، فالطلل حلم معجّل، والحلم طلل مؤجل، وفي المسافة بينهما يقف المرء، في عراء الرحلة، إزاء مرآة معتمة، سرعانَ ما يتلاشى فيها الطلل والحلم بالتعاقب، وتتمرأى تجليات اللامرئي في حقول مختلفة: وطن، مثال، تاريخ، مصير…إلخ.
ويظل السبيل إلى أيّ منها مزدحماً بانزياحات، وتوقعات خائبة، ومسافات توتر ، ومفارقات. غير أن الفرق بين شعرية المرئي ولا شعريته هو الفرق بين الحلم والوهم، (وليس الحلم والواقع)، على أن الحلم والوهم قد يتبادلان الأدوار والمواقع، فإذا الحلم وهم، والوهم حلم، وقد يأتلفان في ثنائية ما، وتلك تقنية أحاط ويحيط بأسرارها المنشئون والنقاد منذ الإغريق، وبتعدد لا مرئياتهم تتعدد الشعريات في أفق مفتوح على احتمالات مفتوحة، لكنها تظل مشغولة باللامرئي مثل دوغول. ولئن كانت تلك الشعريات مُثراةً بنظريات وتطبيقات فسيفسائية، فإن أفق الاحتمالات والتوقعات المفتوح تتزاحم فيه أسراب عديدة، يجوز في فضاء تأملها أن نميل إلى انزياح نحو شعرية من نوع آخر، لصيقة بتعبير دوبريه، هي شعرية الوهم التي يبتدعها كائن منخور معذّب بشيء لا يوجد خارج ذهنه، ولكنه يستعذبه مُعلياً ضرورته الغامضة، في مدار الرعب أو الألفة، فيدور هارمونياً حول ضرورة اللامرئي، يفلسف طاقاته وكوامنه ومحفزاته وفاعلياته.على أن القناعة من الغنيمة بالإياب توقظ أحياناً على فداحة الوهم، فيعيد كائن الوهم ترتيب أوراق متطايرة في ريح الضرورة، ليبتدع وهماً بديلاً، يعيد إليه توازناً يوازي فوضاه العارمة.
لكن شعرية اللامرئي التي تفتح الدروب والآفاق والأكوان، ليس من علاماتها زهو خامل بجهل مدجج بأجنحة الدجاج ومناقيرها – بتعبير خيري منصور – عن شعرية الجهل المسلح فلا هو يطير، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه وكل ما يفعله هو التقاط الحبوب من النفايات أو التعثر بأجنحته وهو يعدو بشكل أخرق مثير للسخرية.