كتابات
أ. نجيب سعيد باوزير
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 16 .. ص 106
رابط العدد 16 : اضغط هنا
توفي الأستاذ الشاعر عوض ناصر الشقاع في يوم الجمعة بتاريخ 15 من شهر مايو المنصرم من هذا العام 2020م، الموافق لتاريخ 22 رمضان 1441هـ، متأثرًا بفيروس كورونا كما قيل، رحمه الله رحمة واسعة، ولكنني لم أعلم بخبر الوفاة إلا بعد شهر كامل، أي في يوم 15 يونيو، من إشارة عابرة وردت في منشور للصديق الدكتور أبوبكر محسن الحامد ضم صورة له مع الشاعر الراحل.
سمعت باسم عوض ناصر الشقاع للمرة الأولى من مقال كتبه عنه الأخ الدكتور عبدالله حسين البار في صحيفة (الشرارة)، العدد المؤرخ 2 يناير 1985م، وكان ذلك أول مقال يكتبه عن الشاعر، المبتدئ في ذلك الوقت، الناقد البار، الذي كان هو أيضًا لم يستكمل بعد تحصيله العلمي الأكاديمي. وقد ربطت بين الرجلين، الناقد البار والشاعر الشقاع، منذئذ علاقة أدبية وإنسانية وطيدة، ولذلك فقد لجأت إلى الصديق والأخ الكريم الدكتور عبدالله لأعزيه أولاً في صديقه، ثم لأطلب منه تزويدي ببعض المعلومات، عن الشاعر الراحل، وهي التي أرسلها لي فعلاً وسأبثها في سياق هذا المقال.
أما أنا فقد التقيت بالشاعر الشقاع رحمه الله ربما في مناسبة واحدة فقط، تلك هي مناسبة المهرجان الثقافي الكبير، الذي حمل أيضًا طابعًا سياسيًا وانتظم في مدينة سيئون في أواخر شهر سبتمبر من عام 1996م، وحضره عدد كبير من الأدباء والمثقفين وشمل فعاليات مختلفة بين ندوات وأمسيات شعرية وقصصية وغير ذلك. وأتذكر أن الشاعر الشقاع ألقى في الأمسية الشعرية القصصية، التي أدارها وقدم المشاركين فيها الدكتور عبدالله البار نفسه، قصيدة استعمل فيها ما يسمى التناص مع إحدى سور القرآن الكريم وهي سورة الكهف. وقد ضم الشاعر بعد ذلك هذه القصيدة، وعنوانها (الرحلة)، إلى أحد دواوينه وهو ديوان (عناوين لرحلة الغيوم)، الذي أكرمني بإهدائي نسخة منه مع ديوان آخر له بعنوان (طقوس النار والأحجار)، وقد حمل لي الديوانين من الشاعر الأخ القاص الأستاذ عبدالله سالم باوزير، رحمه الله، الذي كانت تربطه علاقة صداقة بالشاعر، والاثنان ممن اختاروا الإقامة في عدن الحبيبة، فرج الله كربتها، وجعلوها لهم وطنًا أثيرًا، رغم أن أحدهما، وهو باوزير، من مواليد غيل باوزير في حضرموت في عام 1938م، والآخر، وهو الشقاع، من مواليد قرية المحفد، التابعة لمحافظة أبين، في عام 1954م. يقول الشاعر في أحد مقاطع قصيدة (الرحلة):
يا صديقي تفجر الكهف ضوءا
فإذا بالضياء أعمق سرا
لا تدعني لظلمتي وضيائي
خذ بكفي أجد على الماء خبرا
قال: لن تستطيع عندي صبرا
قلت: خذني سأصعد الوقت صبرا
قال: معنى الرحيل فكرك صمتا
ودليل الطريق صمتك فكرا
وقبل أن أمضي في الحديث عن الشاعر الشقاع، رحمه الله، سأنقل فيما يلي قصيدة كاملة له من ديوانه (طقوس النار والأحجار)، وهي بعنوان (تراب الولد المشاغب)، ومذيلة: العند 1987م:
أتعددين لي المناقب؟ إن الذي تعنين غائب
حولي نباح حضارة تلغو بفلسفة الخرائب
حولي شظايا عمري الزاهي وأنقاض المواهب..
زمنًا حلمت بعالم أبهى.. بإلغاء المتاعب
غامرت في تيه القصيد.. ركبت أمواج المذاهب
شاغبت بالأشعار مرحلة وأطلقت الكواكب
حتى تحطمت الجسور الخضر وانطوت التجارب
ذهبت خيول الحزن بالأشعار والولد المشاغب..
متوحدا بترابي الشخصي بالسجن المواظب
ما زلت أبحث من خلال الوقت عن وقت مناسب
ما زلت أنشد نار أعلامي وفجرا غير كاذب..
أوتعجبين من انكساري في متاهات الغياهب؟
أوتسألين عن الهوى الناري عن عشب الغرائب؟
اليوم تمجيد الحصى اليوم تأليه الطحالب
للموت لون ناصع/ للعصر رائحة الجوارب..
ساءلت عن مدني الأثيرة لم أجد إلا الحقائب
وبحثت عن رسل الحقيقة لم أجد إلا المناصب
فعدونا خلف الحدودِ.. عدونا خلف المكاتب
ومن المحبة قسوة ومن العداوة ما يصاحب..
لي همي الذاتي ولي هم الجميع فمن أحارب؟
وعلى الرغم من أن الدكتور البار في مقاله القديم في الشرارة كان قد عمّد الشقاع “تلميذًا نابهًا في مدرسة البردوني” متنبئًا له أنه “سيصير علمًا يمنيًا في سماء الشعر العربي”، فإنه، عندما سألته الآن: هل يصح أن يقال إن الشقاع ينتمي إلى المدرسة البردونية وإنه التزم كالبردوني بكتابة القصيدة البيتية الموزونة المقفاة؟ رد قائلًا: “إن الشقاع كتب قصيدة التفعيلة، ولكن ميله ومزاجه كانا يفضلان قصيدة البحر على سواها، وهو ما ينبئ عنه ديوانه (الدفتر السقطري، وقصائد أخرى)، وأما عن تأثره بالبردوني فمسألة يفصل فيها المنهج النقدي الذي يدرس به شعره وليس الانطباع الأول السريع”. وهذا الديوان الذي ذكره البار، في إجابته التي سقتها للتو، هو من بين ثلاثة دواوين للشاعر معدة للنشر، والآخران أحدهما عنوانه (متاهات في كتاب الرمل)، والآخر قصائد متفرقة من حصاد سنوات العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين. وبالإضافة إلى الديوانين اللذين ذكرت أنه أهداهما لي هناك ديوان ثالث مطبوع له عنوانه (السائر في الظلمات). وكتب البار مقالة طويلة عن الشاعر الشقاع بعنوان (الشقاع شاعر من بلدي) نشرت في مجلة (آفاق) في التسعينيات، كما كتب عنه في عام 2012 دراسة نشرت بعد ذلك في مجلة (حضرموت الثقافية)، وهذه الكتابات كلها نواة لمشروع كتاب نتمنى أن يهيئ الله الظروف للناقد الدكتور البار كي ينجزه، وهو ما كان متوقعًا من الأخ البار نظرًا للإعجاب الكبير والتقدير اللذين يكنهما للشاعر الشقاع.
عندما بلغ الصبي عوض ناصر الشقاع سن الالتحاق بالمدرسة، دخل به والده إلى عدن، فبدأ دراسته هناك من الابتدائية ثم واصلها حتى الجامعة، حيث تخرج من كلية التربية العليا تخصص لغة عربية. وقد بدأ بالقرزمة بالشعر صغيرًا، ويقول الدكتور البار إن تلك القرزمة كانت سببًا في انفتاحه على القراءة واتساع ثقافته على صغر سنه، وقلة المنشغلين بالثقافة في داخل أسرته. وقد ساعدته قراءاته الواسعة على إخصاب تجربته الشعرية التي بدأت في عام 1973م بقصيدته (النار والأشياء)، ولم تقف من بعدُ حتى وفاته، رحمه الله.
انخرط الشقاع الشاعر في الأطر التنظيمية للجبهة القومية، ولكن وعيه الوجودي بالحياة جعله متناقضًا مع منطلقات الرفاق خاصة بعد ما سمي بالخطوة التصحيحية في 22 يونيو 1969م، فحاول الهرب إلى تعز، لكنهم ألقوا القبض عليه فسجن في لحج برهة ثم نفي إلى سقطرى سنة كاملة من عام 1976م إلى عام 1977م. عاد بعدها وقد تغير طعم الحياة في روحه كلها، لكنه حرص على مواصلة دراسته الجامعية فنال شهادة البكالوريوس وبها شق طريقه للعمل فجرب التدريس مدة من الزمن لكنه لم يرقه، وعمل في دار الهمداني بعدن، ثم بعد الوحدة عمل محررًا في صحيفة (14 أكتوبر) حتى آخر حياته.
يبدو لي مما عرفته عن الشاعر الراحل عوض ناصر الشقاع أنه كان صاحب تفكير مستقل، وحسنًا فعل بالانصراف عن الجو الاجتماعي والسياسي غير الصحي في البلاد إلى الاهتمام بموهبته الشعرية والاستمرار في كتابة الشعر حتى أنجز ستة دواوين شعرية، وهو حصاد طيب. وما يعزز هذه الصورة التي لخصتها عنه ما سمعته من الدكتور أبوبكر الحامد من أن مفتاح شخصيته كان الاستقامة، ولعل وفاته بالوباء في العشر الأواخر من رمضان وفي يوم جمعة أن تكون مؤشرات على قبوله عند الله سبحانه وتعالى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.