الإمام محمد بن علي القلعي .. ناشر المذهب الشافعي بحضرموت

أضواء

أكرم مبارك عصبان


المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 17 .. ص 22

رابط العدد 17 : اضغط هنا


أكرم بن مبارك عصبان [1]

المقدمة  

    لم ينتشرْ الفقهُ الشافعيُّ بحضرموتَ على يدِ محمدٍ بن عليٍّ باعلوي الملقبِ بصاحب مرباط (ت 551هـ)، فإن القول بهذا الأمر بعيدٌ دون إثباته خرط القتاد، وأبعدُ منه دعوى انتشاره بها على يد أحمد بن عيسى المهاجر، فإن بينها وبين إقامة البينات عليها مفاوز، والصحيح أنه لم ينتشر عن أحد بحضرموت وظفار كما انتشر عن الإمامِ العلّامةِ محمدٍ بنِ علي القلعي قولًا واحدًا، وأشدُّ بعدًا نسبة بعضِ تلاميذ الإمام القلعي -كالفقيه علي بن أحمد بامروان- إلى محمدٍ بن علي صاحب مرباط، فإن مولدَ الفقيه بامروان كان سنة 555هـ في حين أن وفاة صاحبِ مرباط كانت سنة 551هـ وقيل 556هـ.

  فبينما كنتُ أحققُّ رسالةً بعنوان (تحرير الأيدي والعقودِ اللازمةِ والجائزةِ وأدواتِ الطلاق) للفقيهِ عليٍّ بن أحمد بامروان التريمي (ت 624هـ)، قادَني البحثُ إلى ترجمةِ شيخِه العلامة القلَعي حيث ذكرَ اختياره في مسألةِ عودِ اليمين في الطلاقِ، فبحثت عن ترجمته في كتبِ الطبقات فوجدتُها لا تفي بمكانتِه العلميةِ، وما كان مني إلا أن شددتُ الرحالَ أتتبعُ مواردَها، وأتصيد شواردَها، من أوديةِ الكتب وشعابِها، فاستنطقت كتب أهلِ زبيد حيث نشأ بها للاستفادةِ، ثم طلبت ترجمته عند أهل ظفارٍ حيث الإقامةُ بها، ثم سألتُ عن أخباره كتب أهل حضرموت التاريخية حيث انتشر الفقهُ الشافعي بها على يده، فلم تغنِ شيئًا عن التفصيلِ، ولكنها عيَّتْ جوابًا واستعجمتْ ما تكلمُنا (والدارُ لو كلمتَنا ذاتُ أخبارِ).

  وقد ضُرِب بين الباحثِ وبين ترجمةِ هذا الإمام بسورٍ، فلا يظفرُ بشيء يليق بمنزلته العلمية ودوره الكبير، وما وجد شابه بعض الغلط، بل حصلَ خلطٌ عجيبٌ بينَه وبينَ محمدٍ بن علي باعلوي صاحب مرباط، وقد سوّد المؤرخ علويُّ بنُ طاهرٍ الحداد صفحات عدة وأراق حبرًا كثيرًا في الردِّ على الشيخ باطحن من تلاميذ تلاميذ الإمام القلعي.

  ثم إنَّ الغنيمةَ الكبرى في ترجمة هذا الإمامِ إنما هي بالظفرِ بكثيرٍ من كتبه التي وقفتُ عليها، أو ممن نقلَ عنها، مثلُ الإمامِ النووي (ت 676هـ)، والإمام ابن محب الطبري (ت 694هـ)، وغيرهما من الأئمة، ومع أن بعض المؤرخين -كالخزرجي- يذكرُ أن مصنفاتِ الإمام القلعي كانت بحضرموت إلا أنها في عداد المفقود.

  وهذا الموضوع قائم على ثلاثة مباحث، وفي كل مبحث ثلاثة أمور نتوخى من خلالها الاختصار بما يتناسب والمقام.

المبحث الأول

الإمام القلعي من زبيد إلى ظفار

أولًا: الإمام القلعي يرتع في مراكز العلم بزبيد:

اسمه ونسبته: هو الإمامُ العلَّامةُ أبو عبدالله محمدٌ بنُ عليٍّ بن الحسنِ بن عليٍّ بن أبي علي القلَعي. نسبة إلى قلعة بالمغرب كما ذهب إليه باطحن وأيَّده آخرون؟ وقيل قلعةٌ بالشام كما ارتضاه الجنَدي في كتابه (السلوك) قولًا، وتبعَه فيه الخزرجي ورجَّحه الزركلي، وقيل قلعة باليمن على ما ذهب إليه ياقوت، أو قلعة بلدة بالقرب من ظفار كما أشار إلى ذلك ابن قاضي شهبة وأبهمها([2]).

  ونرجِّحُ القولَ الأولَ منها الذي أفاده الشيخ باطحن (ت 630هـ) فإنه قريبُ عهدٍ بالإمام القلعي بأخذه عن شيخه سعد الدين الظفاري نزيل الشحر (ت 603هـ)، بأخذه عن شيخه الإمام القلعي ونصّ قوله: (إن أصله من المغرب ومولده بمصر)([3]).

نشأته بزبيد: 

  نشأَ الإمامُ القلَعي نشأةً علميةً بمدينةِ زبيد من تهامة اليمن، واستقرَّ بها للعلم -تحملًا وأداءً – وكانت زبيدُ في زمن إقامةِ الإمام القلعي تعدُّ مركزًا من مراكز الشافعيةِ، يؤمها طلبةُ العلم، ومما أهَّلها لتكون قبلة لطلبة الفقه الشافعي أمران:

أحدهما: تبني حكَّامِها المذهب الشافعي وهم النجاحيون الذين ارتبطوا ببني العباس وظاهروا الدولة الصليحية، ولذلك مالَ إليهم الفقهاءُ ورأوهم أحقَّ بالملكِ من الصليحين لتبنيهم المذهبَ الشافعي كما فعل الحسن بن محمد بن أبي عقامة، وقدْ كان الأمراءُ النجاحيون أولي فضائلَ جليلةٍ كما قال عمارة يصف حالهم: »وهم وإن كانوا حبشةً فلم تكنْ ملوكُ العربِ تفوقهم إلا في الحسبِ والنسبِ، فلهم من الكرمِ الباهرِ، والعزِّ الظاهر، والجمعِ بين الوقائع المشهورةِ والصنائعِ المأثورةِ«([4]).

الثاني: كثرة فقهاء الشافعية من أجلِّ فقهائِها بنو عقامة، قال ابن سمرة الجعدي: »وفضائل بني عقامة مشهورةٌ، وهم الذين نصر الله بهم مذهب الإمامِ الشافعي في تهامة«، وظهرَ منهمْ فقهاءُ أعلامٌ، منهم:

– القاضي أبو الفتوح بن علي بن محمد بن علي بن أبي عقامة قَامَ بعد ابن عمه الحسن برياسة القَضَاء بزبيد، وكانَ واحد عصره، ونسيج دهره في العلم، وصنف كتبًا في المذهب والخلاف، لم يتفقه أحد بعد تصنيفها إلا منها، منها كتاب التحقيق.

– القاضي أبو عبدالله محمد بن القاضي عبدالله بن علي بن أبي عقامة المعروف بالحفائلي عاصره وعاشره عمارة، كَانَ نبيلًا فَاضلًا فَقِيهًا متكلمًا شَاعِرًا مترسلًا رَئِيسًا ممدحًا قتلَه ابن مهدي علي لما تغلبَ على اليمن سنة 554هـ، وانتهتْ إليه رئاسة مذهب الشافعي([5]).

شيوخ الإمام القلعي:

  أفاد الشيخ باطحن أن الإمام القلعي «نشأَ بزبيدَ، وقرأَ العلمَ على يد أبي عقامة»([6]).

  وقال الإسنوي في ترجمة أبي الفتوح ويعرف بابن أبي عقامة الإمام عبدالله بن محمد بن علي بن أبي عقامة التغلبي ثم اليمني قال: »ولأبي الفتوح المذكور أولاد وأحفاد أئمة فضلاء انتفع بهم كثير من علماء اليمن، منهم القلعي صاحب (احترازات المهذب)، فإنه أخذ عن ولده عن أبيه عن جده أبي الفتوح«([7]).

  والصحيح أن أبا الفتوح هو القاضي أبو الفتوح بن علي بن محمد بن علي بن أبي عقامة واحد عصره، تفقه بعمه الحسن بن محمد بن أبي عقامة وأبي الغنائم الفارقي، عَن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وله مُختَصر فِي أَحكام الجِنَايَات([8]).

  وبهذا يكون سندُ الإمام القلعي عاليًا إلى أبي حامد الشيرازي صاحب (المهذب)، قد ذكر الإمام القلعي أبا الفتوح في كتابه (إيضاح الغوامض من علم الفرائض) في مسألة الإرث بالولاء، توفي أبو الفتوح كما في (طبقات الفقهاء) سنة 550هـ، وقد تفقَّه به أيضًا ابن أخته الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، وعليه فيكون من أقران الإمام القلعي.

ومن شيوخه أيضًا المحدث يوسف بن يعقوب الجوزجاني يروي عنه كتاب (الفايق) للبستي، قال الإمام الشوكاني: »الفائق للبستي أرويه بالإسناد إلى الشماخي عن محمد بن عراق اليافعي عن أحمد بن محمد بن أبي عقبة عن يحيى بن محمد الظفاري عن محمد بن علي القلعي عن يوسف بن يعقوب الجوزجاني عن عمر بن مالك الشاذكوني عن الحسن الكوزاني عن المؤلف«[9].

ثانيًا: الإمام القلعي يغادر مدينة زبيد:

  لقد هاجتْ فتنةٌ بزبيدَ أثارَها عليُّ بن مهدي الرعيني كان فيها من المسرفين، ومن الظالمين الذين عاثوا في الأرض فسادًا، ومن أمرِه أنه كانَ يظهرُ التنسكَ والدين، ويتمذهبُ بمذهب أبي حنيفة في الفروع، ويكفِّر بالمعاصي، ويقتلُ بها من خالف اعتقاده، وكان رأيه هو رأي الخوارج، ومما أعانه على فعلِه هذا اشتغال أمراء زبيد بالتنافسِ والتحاسد على رتبة القائد سرورٍ من ناحية، واعتكاف بعضهم على اللذات([10]).

  وقد قتل جماعة من العلماء وهرب آخرون، فممن قتل الفقيه أبو عبدالله محمد بن أبي عقامة الحفائلي قاضي زبيد وعلَّامتها، وممن هرب الفقيه طاهرُ بن يحيى بن أبي الخير العمراني جاورَ في مكة، وأبو عبدالرحمن الحسين بن خلف المقيبعي، قصدَ عدن، وقد امتدت فتنةُ ابن مهدي إلى الجند ففي شوال 556هـ أخذها فقتلَ فيها قتلًا ذريعًا، وحرق مسجدها ونكَّل بالعلماء، فهربوا منها، ومن العلماء الذين فروا من الجند أبو الحسن علي بن أحمد بن علي اليهاقري، والفقيه محمد بن عبدالله السهامي.

الإمام القلعي ييمِّم شطر دار الخلافة:

  وخرج الإمام القلعي من زبيد خائفًا يترقب، وقصدَ بغدادَ دار السلام، وحاضرةَ الإسلام لينعم فيها بالأمان، قال الشيخ باطحن: »حتى دخلَ زبيدَ، وقتلَ فيهم، وهمَّ بالفقهاء فهربوا في البلاد، فخرجَ الإمامُ محمد بن علي القلعي إلى عدن، وركبَ البحرَ يريدُ بغداد«([11]).

  توجّه تلقاءَ بغداد لينعمَ تحتَ ظل خلافة أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عبدالله العباسي البغدادي الذي بويع بالخلافة سنة 530هـ، ووصفه الذهبي بفضائل من ذلك قوله: »كان عاقلًا لبيبًا عاملًا مهيبًا صارمًا جوادًا محبًا للحديث والعلم، مكرمًا لأهله، وكان حميدَ السيرةِ، يرجع إلى تديّنٍ وحسنِ سياسة، جددَ معالمَ الخلافة وباشر المهمات بنفسه وغزا في جيوشه«([12]).

ثالثًا: الإمام القلعي يلقي رحله بمرباط:

  نزلَ الإمامُ القلعيُّ في طريقه إلى بغداد بمدينة مرباط بظفار، ونصبَ خيمتَه مسافرًا ليستريح من وعثائه وعنائه، وبلادُ مرباطَ تعدُّ مرفأ لظفار بينها وبين ظفار نحو مرحلتين، وسمِّيتْ بذلك لكثرة ما يربط بها من الخيلُ، وأهلُ مرباطَ أهلُ تجارةٍ، يتحلون بكثير من الفضائل التي رآها ابن بطوطة فوصفها بقوله: »وهم أهلُ تواضعٍ وحسن أخلاقٍ وفضيلة، ومحبة للغرباء، ولباسُهم القطنُ وهو يجلبُ لهم من بلاد الهند«([13]).

  وملوكها آل المنجوي والمستولي عليها سنة 540هـ السلطان أحمدُ بن محمد بن منجوه من عرب يقال لهم آل بلخ ونسبهم في مذحج([14]).

  ثم تولى ابنه السلطان محمد بن أحمد بن منجوه والد الأكحل (ت 573هـ)، وهو الذي عاش الإمام القلعي مدة طويلة في عهده قال الشيخ باطحن: »ولمَّا نزل الفقيه -القلعي- ليستريح وكان السلطان محمد بن منجوه، وهو يومئذٍ والي ظفار«([15]).

  ثم ابنه السلطان الأكحل محمد بن محمد المنجوي، أدرك الإمامُ القلعي أربع سنين من ولايته، وكان يلقَّبُ بالأكحل لكحل كان بعينيه، توفي سنة 596هـ، وهو آخر سلاطين المنجويين، وتفقه بالقلعي، وهو ممدوحُ الشاعرِ التكريتي الذي أشارَ إلى هذه الصفة بقوله:

وصفوا هندًا وما وصفوا    عكسوا المعنى وما عرفُوا

قلتُ هذا منكم سرفُ   أيقاس الكحل بالكحل

وتتمثل الحياة العلمية في ظفار ومرباط قبل قدوم الإمام القلعي إليها بما يأتي:

– انتشار مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- بها، وقد أشار باطحن إلى وجود المذهب الحنفي بتلك النواحي ظفار ومرباط، فقال: »وكانت على مذهب أبي حنيفة فمنّ الله بالقلعي«([16]).

– شيخ ظفار، الفقيه محمدٌ بن عبدالله حماد، المعروف، وقد رحلَ إليه الحافظ أبو نزارٍ ربيعةُ بن الحسن الشبامي الحضرمي ليتفقه عليه، ثم ركب البحر إلى البصرة وأصبهان ثم مصر([17]).

– وجود عدد من العلماء خرجوا للقاء الإمام القلعي واستقباله منهم المعلم يحيى بن نصيرٍ، قال الملكُ الأفضلُ في العطايا: إن العلماءَ والفقهاءَ خرجوا واجتمعوا بالشيخ القلعي، فلعلَّه بعدَ اجتماعِ المعلم به خرجوا مرحبين به، ولم يسمِّ الملكُ الأشرف أحدًا منهم.

– وجودُ مكتبةٍ حافلةٍ في مرباط تعد من الخزائن، وكانتْ من الأهميةِ بمكانٍ بحيث يساومُ بها السلطانُ الإمامَ القلعي في بقائه بمرباط كي يفيد العلم([18]).

المعلم والسلطان والتاجر يلتقون بالإمام القلعي:

  المؤدب الكامل والمعلم الفاضل أبو نصير يحيى بن نصير الأوسي الظفاري كان فقيهًا ومؤدبًا لآل المنجوي، وهو السفارةُ بين السلطانِ والإمام القلعي([19]).

  فبينَما كان يمشي المعلمُ أبو نصيرٍ بالساحل إذ أبصرَ خيمةَ القلعي فقصدَها، وجلسَ معه فبحث في العلم مسائل وقد نمى إلى علمِه أنَّ في المركبِ فقيهًا من أكابر العلماءِ، فألفاه جبلًا من جبال العلم، ووجد علمه ساقية أمام هذا البحر العباب الذي تتلاطم أمواجُه، فما كان منه إلا أن اعترفَ له بالإمامة، وطلب منه الإقامة، فلم يجبْه الإمامُ القلعي إلى ذلك فأحفاه المعلم في الطلب رجع أدراجَه إلى السلطان المنجوي ليرشده إلى الكنزِ الذي وجده وأن يدركَ الفقيهَ قبل أن يسافر([20]).

  ولقد عدَّ المؤرخُ الكثيري في رسالته مجيء السلطان بنفسه إلى خيمة الإمام القلعي تواضعًا فقال: »وكانَ السلطانُ محمدُ بن أحمدَ المنجوي، أوحد أهل زمانِه كرمًا وحلمًا وتواضعًا، فانظر كيف فعلَ للفقيه من المعروف، وخرجَ بنفسه ولم يتكبر على الفقيهِ، ولا على العلمِ مثل ملوكِ هذا الزمان، وانظر إلى تعظيمه للعلم وأهله«([21]).

  وقال له السلطان تفضلْ بجلوسك عندنا فقال الإمام القلعي يا مولايَ ما خرجتُ من زبيد إلا لأكونَ تحت حمى الخلافةِ في بغداد فأجابه بعد محاورة([22]).

  وما إن استقرَّ الإمامُ القلعي بمرباط، حتى تسامع به الناس فشد إليه طلبة العلم الرحالَ، وغصَّت بهم البلادُ يرتشفون مختلف الفنون ويتلقون سائر العلوم، واحتاجوا إلى إعاشةٍ لتطيبَ لهم الإقامة، فإذا بتاجر صدوقٍ من أهل الدين والدنيا قد أرصدَ أموالَه لطلبة العلم ينفق عليهم ويكرم مثواهم وحال لسانه:

متى تأتِنا تلممْ بنا في ديارِنا    تجدْ حطبًا جزلًا ونارًا تأججُ

  وهذا التاجرُ هو فِتْر -بكسر الفاء وسكون المثناة فوق ثم راء- كما ضبطه الطيّب بامخرمة، وكانت له صدقاتٌ سارَ فيها على مذهب حاتم، وأحبَّ الإمام القلعي محبةً شديدةً، وتأكدت بينهما صداقة أكيدة، ولئن أنفقَ الإمامُ القلَعي من علمه، فقد أنفقَ التاجرُ فتر من ماله لينفق ذو سعة من سعة.

  قال الطيّب بامخرمه: »وكانَ يصحبُ الإمامَ أبا عبدالله محمد بن علي القلعي -مقدَّم الذكر – وكان يقوم بكفايةِ الطلبةِ الذين يصلون إلى الإمام القلعي وإن كثروا في الغالب، وقلَّ أن يدخلَ مرباطَ أحدٌ إلا ولهذا التاجر عليه فضلٌ وإحسانٌ… وإنما ذكرته هنا لما فيه من الفضلِ والإحسان إلى كلِّ إنسان، ودفنَ إلى جنب قبرِ الإمام القلعي وبينهما أذرعٌ يسيرة.. «([23]).

رحلة الإمام القلعي إلى الحج ووفاته:

  قصدَ الإمامُ القلعيُّ مكةَ لأداءِ فريضةِ الحجّ، وأفاد العلم بمكة وقد سمع منه الفقيه أبو عليٍّ ناصرُ بن عبدالله العطار وحدّث عنه وأخذَ ألفاظ المهذب، ومكثَ الإمامُ القلعيُّ في مرباطَ نحوًا مِن ربعِ قرنٍ للإفادة، منذ مجيئه سنة 554هـ حتى توفي سنة 577هـ، رحمه الله تعالى، كما كتب على قبره ما نصُه: »هذا قبرُ الإمامِ أبي عبدالله محمدٍ بن عليٍّ بن الحسن القلعي المتوفى سنة 577هـ«، وهذا قاطع للخلاف الذي وقعَ لكثيرٍ من المؤرخين، ممن ذهب أن وفاته كانت سنة 630هـ.

المبحث الثاني

جهود الإمام القلعي العلمية

أولًا: علوم الإمام القلعي والوظائف التي تقلدها بمرباط:

1 – علوم الإمام القلعي:

  لقد راحَ الإمامُ القلعي من زبيد بطينًا من العلوم التي حازها، وترقَّى في منازلها حتى بلغ درجاتٍ عالية، واستطاع أن يجمع علومًا متعددة، وهي:  

– الفقه الشافعي: يعدُّ الإمامُ القلعي أحدَ أعلامِ المذهبِ علمًا وتأليفًا، وكان كثيرَ الاشتغال بفروعه، ويمكن عدّه من الجامعين بين الطريقتين: طريقة الخراسانيين، وطريقة العراقيين، كابن أبي الخير والرافعي والنووي، وقد صنّفَ على المهذَّبِ أربعةَ كتبٍ، وله (إيضاح الغوامض في الدور والفرائض)، وله فتاوى مفيدة.

– الحديث: سمعَ الحديث سماعًا صحيحًا، فقد قال في اسم الصحابية المشهورة بروع بنت واشق (سماعنا فيه بالباء المعجمة بموحدة مكسورة والراء المهملة)، وقد اعتنى بالحديث حتى حدث عنه العلماء، واهتمَّ بالحديثِ حفظًا وشرحًا وضبطًا ومعرفة بأسماء الرجال، وقد أولى لأحاديث المهذب اهتمامًا خاصًا وأفرد لها كتابًا مستقلًا، كما أن له عناية بجمع الروايات المتعددة يتضح ذلك في كتابه (لطائف الأنوار).

– اللغة: وقد برعَ في اللغةِ فتفيأ ظلالها، وأجادَ فنونها، حتى غدتْ له اليد الطولى في علومها، وصار من أربابها، فله في هذا المجال كتاب (ألفاظ المهذبِ)؛ حيث يناقش اللفظ من الناحية اللغوية، وله في الشعر رغبة فيقرظه حينًا، ويستشهد به أحيانًا.

– مسائل العقيدة: لقد نصرَ مذهبَ أهلِ السنةِ وسلفِ الأمةِ في مسائل العقيدة:

– منها الردّ على الرافضةِ في كتاب (لطائف الأنوارِ في فضل الصحابةِ الأخيار).

– ومنها الردّ على الزنادقةِ الذين يُظهِرون الإسلامَ بألسنتِهم، وباطنُهم الكفرُ والجحودُ وينكرون البعثَ في الحشر والنشر.

– ومنها الردّ على الإسماعيلية وقومٍ من الصوفيةِ يدّعون أنهم قد ارتفعتْ درجتُهم عن العبادات اللازمةِ للعامة، وأنهم قد انكشفَ لهم حُجُبُ الملكوتِ واطلعوا على أسراره، قال: وهذانِ الصنفانِ في الكفرِ والضلال أشدُّ من الأولين وأضرُّ على الإسلامِ وأهلِه.

– ومنها الردّ على الخوارج والمعتزلة في شروط الإمامة.

  والإمام القلعي من حزب الفقهاء وليس من المتكلمين في شيء، ولكنه تأثر بما عليه الأشاعرة وينقل من كتاب (التمهيد) للباقلاني في مسائل في مسمى الإيمان، ومنها قوله: »إذا ثبت وجوب الإمامةِ فإنما يجبُ ذلك بالسمعِ وأدلةِ الشرعِ، وقالتِ المعتزلةُ والروافضُ يجبُ بالعقلِ، دليلنا: أن العقلَ عندنا لا يوجب شيئًا وإنما هو طريقٌ إلى العلمِ بحدثِ العالَمِ وإثبات الصانعِ…«، وقوله: »عقد الإمامة متعيّنٌ لأهل الحقِّ منهم دون غيرهم ممن كفرَ أو فسق وضلَّ بتأويله الخطأ في الدين وقد قام الدليلُ على أن هذه الفرقة هم أصحابنا، دون المعتزلة والنجارية والروافض والخوارج وغيرهم من الفرق المنسوبة إلى الأمة…«.   

أما الوظائف التي تقلدها بمرباط:

 1 – التدريس: تصدَّرَ الإمام القلعي للتدريس وأقام للعلم سوقًا، فنشر مطويَّ العلوم، وبثَّ ما غاب منها بأحسن تقرير، وأبين تحرير، حتى طار خبره في الآفاق، فقصده الطلبةُ يهرعون، وعلى حلقته يتزاحمون، وكفلهم التاجر فتر كما سبق، فتخرج به من العلماءِ الأجلاء من انتشر عنهم العلم في ظفار وحضرموت وغيرها فغالب طبقة فقهاء حضرموت وظفار في عصره من أصحاب الإمام القلعي وسيأتي ذكر تلاميذه.

2 – الفتيا: تصدرَ الإمام القلعي للفتيا، وهو يعد من المفتين في إطار المذهب الشافعي، وأقربُ ما ينتمي إلى الطبقة الثالثة التي حدَّدها ابن الصلاح في أحوال المفتين بقوله: الحالة الثالثة أن لا يبلغ رتبةَ أصحاب الوجوه لكنه فقيهُ النفس حافظُ مذهبِ إمامه عارفٌ بأدلته قائمٌ بتقرير ما يصوِّر ويحرِّر ويقرِّر ويهمل ويزين ويرجح، ولكن قصر عن أولئك لقصورِه في حفظِ المذهب والارتياضِ في الاستنباط أو معرفةِ الأصول ونحوها، وقد جعلَه الفقيهُ أحمد مؤذن باجمال في رتبة الأئمة الذين يكادون يبلغون رتبة الاجتهاد.

3 – القضاء: أما القضاء فقد تقلَّده بعد العقد، ووُصِف بأنه قاضي مرباط، وكان الإمام القلعي أحقَّ به وأهله، وقد توافرت شرائط القضاءِ وتكاملت أدواته فيه فأهلته للقيام به خير قيام، وسار فيه السيرةَ المحمودةَ والطريقة المرضية المنشودة، وقد ألف في هذا الباب كتاب (أحكام القضاء)، ويسمى أيضًا (أحكام القضاة).

ثانيًا: مصنفات الإمام القلعي:

  قال المؤرخ الخزرجي: »وكانَ القلَعيُّ إمامًا كبيرًا عالمًا عارفًا متضلعًا، له عدةُ مصنفاتٍ انتفع بها الناس انتفاعًا كبيرًا«([24]).

1 – احترازات المهذب: قال الخزرجي في ترجمة الإمام القلعي: »وله احترازُ المهذَّبِ، الذي شهدَ له أعيانُ الفقهاء أنه لمْ يُصنَّفْ في الاحتراز له نظيرٌ«([25]).

  ونقلَ الإمامُ النووي في (شرح المجموع) عن (احترازات المهذب) في مواضع كثيرة، وفي أوّلِ موضعٍ قال: »قال أبو عبدالله محمد بن علي بن أبي علي القلعي رحمه الله قوله: (مشهودٌ له بالطيب) احترازٌ من بللِ الوضوءِ على أحد الوجهين…«([26]).

2 – ألفاظ المهذب: وهو كتاب يُعْنَى بدراسةِ ألفاظِ المهذب، وقد ورد بأسماء عدة هي (المستعذَبُ في ألفاظ المهذب)، و(المستغربُ في ألفاظ المهذب)، و(كنزُ الحفاظ في غريب الألفاظ)، »قال تلميذُه ناصرُ بن عبدالله العطار أخبرنا العالمُ الفقيهُ العلَّامةُ أبو عبدالله محمدُ بنُ عليٍّ بن أبي علي….«.

3 – أحاديث المهذب: وقد يُطلقُ عليه (شواهدُ المهذب)، وهو كتاب يُعْنَى بالأحاديثِ التي استدل بها الإمام الشيرازي واحتج بها في (المهذب) للأقوال والأوجه التي ذكرها، وهي ما بين صحيحٍ وحسنٍ وضعيفٍ.

4 – قواعد المهذب: وهو من أهمِّ كتبِه ولذلك خصه ابن سمرة بالذكر دون غيره، فقال عند ذكر الإمام القلعي: »له مصنفاتٌ حسنةٌ منها قواعدُ المهذَّب وغيره«.

5 – كتاب لطائف الأنوار في فضل الصحابة الأخيار: يعدُّ هذا الكتابُ من أعظمِ كتبه وأنفعِها وأعلاها منزلةً؛ إذ إن موضوعَه يتعلق بشمائل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان فضلِهم الذي جاء منصوصًا في القرآن والسنة، وللأسف لم نعثر على هذا الكتاب -بعد طول بحثٍ- ولكن المحبَّ الطبري (ت 694هـ) نقلَ عنه في نحو اثنين وأربعين موضعًا في كتابه (الرياض النضرة في مناقب العشرةِ)، وجعله أحدَ مصادرِه.

 6 – إيضاح الغوامض في الدور والفرائض:

  وهو عبارةٌ عن مجلدين جيدينِ، ذكر فيه أصولَ مذهبِ الشافعي وفروعه في المواريث، وتعرضَ لذكرِ مذهبِ غيره في بابي الرد وتوريث ذوي الأرحام، وجمعَ فيه أيضًا تصحيحَ حسابِ المسائلِ، وطرق الاختصار فيها والمناسخاتِ وأصولَ الدَّين والتركاتِ وعويص النُسَب والمعاياة، وذكر فيه الوصايا والدور، وهو كتاب فريد في بابه جمع مسائل المواريث فأوعى.

7 – أحكام العصاة من أهل الإسلام المرتكِبين الكبائر العظام:

  وهو كتاب في غايةٍ من الأهمية يبين فيه حكم الذنوب وأقسامها، وقدْ جاء في مقدمته: »يقولُ العبدُ المذنبُ المعترِف بالتقصيرِ محمدُ بن يحيى ضمعج: أمْلى عليّ الشيخُ الفقيرُ الإمامُ العالمُ أبو عبدالله محمدُ بن عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي علي القلعي -رحمه الله- هذا كتابٌ فيه ذكرُ (أحكامِ العصاة من أهلِ الإسلام المرتكبينَ الكبائرَ العظام)«.

8 – تهذيب الرئاسة في ترتيب السياسة:

  ألّفَ الإمامُ القلعيُّ هذا الكتابَ لبيانِ أحوالِ السياسةِ الشرعية، حيث يبحثُ في أخلاقِ الراعي، وما يجبُ أن تكونَ عليه الرعيةُ، وهو من بابِ النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وثمرةُ هذه التعاليم السعادة للأمةِ كلها، وتسوَّرَ هذا الأسلوب عددٌ من العلماء قبل الإمام القلعي، وقد كانَ هذا الفنُّ قاصرًا على التراث الفارسي، أو كانوا يعودون فيه إلى كتاب (السياسة) المنسوب لأرسطو وما فيه من تعاليم للإسكندر الذي غلبَ الفرسَ وانتزع ملكهم، غير أنّ الإمامَ القلعي فارقهم، وقيَّده بالكتاب والسنة بأحسن بيانٍ وأوضح طريق لا من علم أرسطو بآيات وأحاديث.

9 – كتاب الإمامة: كتابُ الإمامة للإمامِ القلعي من أهم الكتب في هذا الباب، ذكرَ فيه شروطَ الإمامة، قال: »الشرط الرابع: العدالةُ: ولسنْا نشترطُ في العدالةِ أن يكونَ معصومًا، واشترطتِ الخوارجُ والروافضُ عصمتَه، أما الخوارجُ فبنوا ذلك على أصلِهم في تكفيرهم بالذنب، قالوا: والكافرُ لا يجوزُ أن يكونَ إمامًا، والكلامُ معهم أولًا في عدمِ التكفير بالذنب«.

10 – مجموع الفتاوى: للإمامِ القلعي فتاوى نافعةٌ، انتفع بها الناسُ ونقل منها فقهاءُ حضرموت، منهم الفقيه العمودي في (حُسْنِ النجوى)، والفقيه عليُّ بن علي بايزيد في مجموعتِه، والفقيهُ عبدالله بن محمد باقشير في (قلائدِ الخرائد)، والفقيهُ أحمدُ مؤذن باجمال، والشيخ سالمُ بن عبدالرحمن باصهي في الفتاوى وغيرهم.

ثالثًا: تلاميذ الإمام القلعي:

  للإمام القلعي تلاميذُ كثيرون، فقد انتفع بعلمه أهل مرباط وحضرموت وغيرهم، قال المؤرخُ الجندي: »أقبلَ على التدريس ونشْرِ العلمِ، فتسامعَ الناسُ به إلى حضرموتَ ونواحيها، فقصدوه وأخذوا عنه الفقهَ وغيره بحيث لم ينتشرِ العلمُ عن أحدٍ بتلك الناحية كما انتشرَ عنه«([27]). ونشيرُ إلى أشهر تلاميذِ الإمام القلعي على النحو الآتي:

1 – الفقيه محمد بن أحمد يحيى ضمعج السبتي الشحري: يرجعُ نسبُه إلى ضَمْعج بن أوس الصحابي، تفقهَ بالإمام القلعي ولزمَ مجلسَه بعده، وكانَ مباركَ التدريس، قال: »أملى علي الشيخُ الفقيرُ الإمامُ العالمُ أبو عبدالله محمدُ بن عليٍّ بن الحسين بن علي بن أبي علي القلعي -رحمه الله،- كتابَ ذكر (أحكام العصاة..) تفقَّه عليه ابنه القاضي أَبُو العَباس أَحمدُ بن محَمد الذي تولى قضاءَ الشحر بعدما خرجَ من مرباط«([28]).

2 – الفقيه الأصولي علي بن أحمد بامروان الكندي: ولدَ سنة 555هـ، وعاش بتريم، فأخذَ عن فقهائها، ثم رحلَ إلى مرباط، وأخذَ عن مفتيها العلامة القلعي، وقد ذكرَ شيخَه القلعي في رسالته (تحرير الأيدي والعقود اللازمة والجائزة وألفاظِ الطلاق) في مسألةِ عود اليمين، فقالَ في تصحيح الخلاف بعد البينونة الصغرى: »اختارَ الشيخُ أبو إسحاق الشيرازي عودَها، وهو مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفة -رحمهما الله تعالى- واختارَ ابنُ الصباغ وأبو إسحاق المروزي أنه لا يعود، وهو مذهبُ المزنيِّ واختيارِ شيخي محمدِ بن علي القلعي، وبه كانَ يفتي«، وقد عدَّه شيخُه القلعيُّ من أصحابه، كما في مسألة في الطلاق([29]).

3 – الفقيه إبراهيم بن أبي بكر باماجد: نشأ بتريم حيث إن آل أبي ماجد من فقهائِها، ورحلَ إلى مرباط، وتفقهَ بالإمام محمد بن علي القلعي، وكانَ قاضيًا فِي مرباط، وَاسْتمرّ على ذَلِك فِي ظفار، قال الخطيب في (الجوهر الشفاف): »كان بعض العارفين يقول: من أرادَ أن ينظرَ إلى وليٍّ في زِيِّ ملَكٍ فلينظر إلى الأديب إبراهيم«([30]).

4 – الفقيه عبدالرحمن زكريا: صرَّح بذكره الإمامُ القلعي في فتاويه في مسألةٍ في الطلاق ولعله صاحب مسجد الخَلْع بتريم (ت 600هـ)، والد الشيخ شمس الدين أبي محمدٍ عبدالله بن عبدالرحمن أبو زكريا باعبيد التريمي، نقلَ النوويُّ عنه في (المجموع شرح المهذب) من كتابه (الإكمال لما وقَعَ فِي التنبيه مِن الإِشكال والإِجمَالِ)([31]).

5 – ناصر بن عبدالله بن عبدالرحمن بن حاتم المصري: الفقيهُ المفتي نزيلُ مكةَ سمعَ منه بمكة، وحدَّث عنه وكما حدَّث عنه فقد أخذ عنه ألفاظ المهذب كما قال أبو نزارٍ ربيعةُ بنُ الحسن بن الحضرمي بقراءتي عليه في رجب سنةَ إحدى وستمائة، قال أخبرَنا الفقيهُ الزاهدُ المجاوِرُ بمكة -حرسها الله تعالى- ناصرُ بنُ عبدالله بن عبدالرحمن المقري بقراءتي عليه في جمادى الآخرة سنة خمسٍ وثمانين، قال أخبرنا العلَمُ الفقيهُ العلامةُ أبو عبدالله محمدٌ بنُ عليٍّ بن أبي علي القلعي ثم اليمني رحمه الله تعالى) «» ([32]).

6 – المعلم يحيى بن نصير: أبو نصيرٍ الأوسي المعلِّم في زمن المنجوي السابق ذكره، وهو الذي أرشدَ السلطانَ المنجوي لمقابلة الإمام القلعي وطلب منه البقاء، وكان أولَ المنتفعين به والمتلقين عنه، أخذ عنه الشيخ أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عراف صاحب أحور([33]).

7 – 8 الشيخ عبدالله بن محمد بن علي باعلوي والشيخ أبو القاسم بن فارس بن ماضي:

  ذكرَ الإمامُ القلعي بخطه في إجازةٍ منه للشيخين عبدالله بن محمدٍ بن علي باعلوي صاحب مرباط، وأبي القاسمِ بن فارس بن ماضي، مكتوبةً على ظهر الجزء الأول من (جامعِ الترمذي) أن الشريفَ يقرأُ وابن ماضي يستمعُ لقراءته وهذه صورة الإجازة: »أجزتُ لهما جامعَ أبي عيسى الترمذي وغيره وكتبه محمد بن علي القلعي، وذلك سنة خمسٍ وسبعين وخمسمائة من الهجرة النبوية، على صاحبِها أفضلُ الصلاةِ والسلام«([34]).

9 – الشيخ سعد الدين محمد بن علي الظفاري:

  الشيخُ سعدُ الدين محمدُ بنُ علي الظفاري الملقب بـ(تاج العارفين)، تلقَّى الفقه على يد الإمامِ القلعي وسائرَ العلوم الشرعية، وسافرَ فأخذ عن عبدالله الأسدي الطريقة الصوفية وتحكمَ له، وقد استقرّ بالشحر وجرتْ بينه وبين الفقيه المقدم مراسلات، وقد ألَّف تلميذُه محمدُ بن علي باطحن في مناقبه كتابًا أسماه (تحفةُ المريدِ وأنس المستفيد)، توفي الشيخُ سعدُ الدين سنة 607هـ([35]).

المبحث الثالث

انتشارُ المذهبِ الشافعيِّ بحضرموت على يدِ الإمامِ القلعي

أولًا: أثر الإمام القلعي يصل إلى حضرموت:

1- علاقة الإمام القلعي بفقهاء حضرموت:

  لقد ظهرَ أعلامُ مدرسةِ الفقهاءِ القراءِ الذين ذكرَهم ابنُ سمرة الجعدي، فكانوا يفيدون العلمَ بتريم وشبامَ والهجرين، ولما نزلَ الإمام القلعي بمرباطَ مدّوا إليه حبل الود، وجرتْ بينه وبينهم مراسلاتٌ، وتواصلٌ في الفتاوى، نذكرُ منهم اثنين:

– أحدهما: قاضي تريم يحيى بن سالم أكدر: وهو الإمامُ العالمُ شيخُ فقهاءِ تريمَ وقرائهِا، قال ابنُ سمرة الجعدي في الطبقات: »وأذكرُ أبا أكدر قاضي تريم جمع بين القراءات السبع والفقه«، وهو ممدوح نشوان الحميري بقوله:

وكم في تريم من إمامٍ مهذب    وسيد أهل العلم يحيى بن سالم

  وقد كانَ يفيدُ العلمَ بمسجدِ بني حاتم في تريم، وتخرجَ به جماعةٌ من فقهاءِ حضرموتَ، منهم تلميذُه عليُّ بنُ محمدِ بن حاتم، جرتْ بينه وبين الإمامِ القلعي مباحثاتٌ فقهية، قال القلعي في جوابِه عن مسألةٍ في كتابِ الوقف: »إذا كانَ الوقفُ في يدِ أربابِه يقتسمونَه فادَّعى البطنُ الثاني مشاركةَ البطنِ الأولِ في الوقفِ وأنَّه وقفُ تسويةٍ، وادَّعى الأولُ الترتيبَ فيه، وأقاما بيَّنتين فقد كانَ تقدمَ من الفقيه يحيى بن سالم إلى مملوكِه سؤالٌ وأجبْتُ عنه إن القولَ قولُ البطنِ الثاني الذي يدَّعون التسويةَ وعضّدتُه بأدلةٍ«([36]).

  وتأمل قول القلعي (إلى مملوكِه) تجد إجلالَه للفقيه يحيى بن سالم وعلوّ منزلته عنده، وقد ذهبَ الشيخُ يحيى بن سالم في فتنة الزنجيلي سنة 576هـ.

– ثانيهما: العلامة سالم بن فضل بافضل: وهو محيي الدينِ أبو العباسِ سالمُ بن فضلٍ بافضل التريمي المفسِّر الفقيه، أحيا العلم بعد اندراسِه، وطافَ البلاد وعاد إلى تريمَ (ت 581هـ)، جرتْ بينه وبين الإمامِ القلعي مراسلاتٌ، وأثنى عليه القلعي شعرًا:

جرّتْ تريمُ على المجرّةِ ذيلَها        عَجَبا وحُقَّ لها الفخارُ الأكبرُ

فالدهرُ من بعد العطولِ متوّجٌ        من مجدِه ومُطَوّقٌ ومسوّرُ

نالَ ابنُ فضْلٍ في الفضائلِ رتبةٌ       لم يستطعْها منجّدٌ ومغوِّرُ

فقهُ ابنِ إدريسٍ وإعرابُ الخليلِ      وما حوى سقراطُ والإسكندرُ

فبسالمٍ سلمتْ شريعةُ أحمدٍ        عما يؤودُ قناتُها أو يكسرُ

  فهو محيي العلم بعدما كان معطلًا كما في قوله: (من بعد العطول)، كما أنه باب في وجه الفتن التي تريد النيل من حضرموت فتظل سالمة معافاة منها لقيامه بالعلم.

2 – فقهاء حضرموت يستعيضون في الرحلة بمرباط عن زبيد:

  ولم يكتفِ فقهاءُ حضرموتَ بالمراسلاتِ بينهمْ وبين الإمامِ القلعي، بل دفعوا إليه بفلذاتِ أكبادِهم، وقرَّة أعينِهم من طلبةِ العلم لكي ينهلوا من علمِ هذا الحبر، ويردوا هذا البحرَ فيعودوا بالرِّبح، واستعاضوا بالرحلةِ إلى مرباط بدلًا من الرحلةِ إلى زبيد وغيرها من مراكز العلمِ، فهاجرَ الفقيه عبدالرحمن زكريا باعبيد، والفقيهُ عليُّ بن أحمدَ بامروان، والفقيهُ إبراهيمُ باماجد وغيرهم، وقد سبق ذكرُهم في تلاميذ الإمامِ القلعي.

3- شهادة المؤرخين على انتشار المذهب الشافعي بحضرموت على يد الإمام القلعي:

  لقد شهدَ جماعة من المؤرخين بأن انتشار المذهب الشافعي بحضرموت كان على يد الإمام القلعي وهم:

– قال المؤرخُ الجندي: »عنه انتشر العلم فتسامع به الناس إلى حضرموت ونواحيها، فقصدوه وأخذوا عنه الفقه وغيره بحيث لم ينتشر عن أحد بتلك الناحية كما انتشر عنه وأعيان فقهائها أصحابه وأصحاب أصحابه«([37]).

– قال المؤرخُ الخزرجي: »وأكثر ما توجد مصنفاته في ظفار وحضرموت ونواحيها، وعنه انتشر الفقه في تلك الناحية ولم ينتشر العلم عن أحد في تلك الناحية كما انتشر عنه وأعيان فقهائها أصحابه وأصحاب أصحابه«([38]).

– أفاد مفتي حضرموت عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف نقلًا عن الحافظ ابن حجر: »إن الفقه الشافعي انتشر عن القلعي بظفار وحضرموت، وأن الناس تسامعوا به في حضرموت وغيرها فقصدوه وحملوا عنه«([39]).

ثانيًا: نقض دعوى انتشار المذهب الشافعي على يد محمد بن علي باعلوي والرد على المؤرخ علوي بن طاهر الحداد:

   لم يُعرف أبو عبدالله محمدُ بن علي باعلوي صاحب مرباط بعلمٍ فضلًا عن انتشارِ المذهبِ الشافعي به في حضرموت وظفار، وإنما قضى زمنًا تسير القوافل في خفارتِه من بيتِ جبير -قرب تريم- إلى ظفار، كما أنَّه اتصف بالكرمِ كما في (الجوهر الشفاف)، ولو ظفرَ صاحب الجوهر بقلامةِ ظفرٍ من علم له لطارَ بها([40]).

  وغيابُ ذكرِه في طبقات الشافعية كـ(طبقات فقهاء اليمن) مع إثبات ترجمة فقهاء الشافعية بحضرموت كالفقيه يحيى بن سالم لا يُسعفُ القائلين بعدّه من فقهاء الشافعيةِ، وكذلك انتفاء ذكرِه أيضًا من ذيلِ طبقاتِ الإسنوي للفقيه عبدالله بن عمر بامخرمة مع إثبات ترجمة حفيده الفقيه المقدم محمد بن علي، يؤكد أنه ليس من أهل هذه الحلبة.

  قال المؤرخ سعيد بن عوض باوزير: »والجديرُ بالملاحظة والتأملِ أن مؤلِّفَ كتاب طبقات فقهاء اليمن -وهو ابن سمرة الجعدي شافعي المذهب- لم يذكر أحدًا من فقهاء العلويين بحضرموت، فهل تم ذلك عفوًا وبدون قصد؟ أم كان ذلك لأن العلويين الحضرميين إلى أواخر القرن الخامس وبداية السادس لم يكونوا شافعيين، وإنما كانوا شيعة إمامية كما يقول العلامة عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، فأغفلهم ابن سمرة لأن ذكرهم بين الفقهاء الشيعة لا يدخل في موضوع كتابه؟ إن مزيدًا من البحث سيقود إلى الحقيقة القاطعة في هذا الموضوع التاريخي المهم« ا هـ.([41]).

   ولو كانَ بالمكانة العلمية التي يصوِّرُها بعضُ المؤرخين وتخرج الفقهاء به لما احتاج السلطان المنجويُّ إلى الإلحاح على الشيخِ القلعي بالبقاء في بلده، ونريد أن نتطرق إلى مناقشةِ المؤرخِ علوي بنِ طاهرٍ الحداد حيث دافعَ عن القول بأن محمدَ بن علي باعلوي -صاحب مرباط- هو من انتشرَ بِه مذهبُ الإمام الشافعي بظفارِ، وتفقهَ به فقهاؤها، ولم يُطِبْ نفسًا بما جاءَ به الشيخُ باطحن، فردَّ عليه في ثماني عشرة مسألةً، والذي أشارَ إلى انتشار المذهبِ الشافعي بالشيخ العلوي هو صاحب المشرعِ، وأطلق صاحب البرقة والغرر انتشار علِمه بجهات اليمن وحضرموت وظفار من غير تحديد المذهب الشافعي.

  ولعلَّ التشابهَ الكبيرَ بين الإمامِ القلعي والعلوي في الاسمِ والكنيةِ هو الذي ولّد الخلط واللبس، فكلاهما يُكْنَى أبا عبدالله، ويُسمّى محمد بن علي -مع تقارب القلعي والعلوي- وكلاهما نزيلُ مرباط، اللقب صاحب مرباط، فجاءتْ التصوراتُ عليلةً كما قيل:

إذا اعتلَّتْ الأفعالُ جات عليلةً    كهيئتِها أسماؤُها والمصادرُ

  لقدْ قامَ المؤرخُ علويُ بنُ طاهر الحداد وقعد في تأييد قولِه في دعوى انتشار المذهب الشافعي بحضرموت على يدِ صاحبِ مرباطَ محمد بن علي باعلوي، وتكلَّفَ في الرد على الشيخ باطحن، ولم يشتطَّ الشيخُ باطحن في نقله حين ذكر أن المذهب الشافعي بظفار اشتهر بالإمام القلعي وصارتِ البلادُ كلُّها مذهبًا واحدًا وعقيدة واحدةً، وأنَّ أصلَه من المغربِ ومولده بمصر، ونشأ في زبيدَ وقرأَ العلمَ على يد أبي عقامة، وأنه خرج منها بسبب فتنةِ ابن مهدي إلى عدن، وركب البحر يريدُ بغدادَ فلما وصلَ إلى مرباط طلبَ منه السلطانُ محمدُ بن منجوه البقاءَ إلى آخرِ ما ورد عن الشيخ باطحن وسبقَ ذكرُه.

  ويكفينا في قبولِ قولِ الشيخِ باطحن أنه حديثُ عهدٍ بالإمامِ القلعيِّ، فإنه يعدُّ مِنْ تلاميذِ تلاميذِه، بأخذه عن شيخِه سعد الدين الظفاري عن الإمام القلعي، وكونه مِن أهلِ ظفار توفي سنة 630هـ، كما أنه لا يوجدُ ما يعارضُ قولَه عند التحقيق.

   ونريدُ أن نناقش أبرز ملاحظات المؤرخ الحدادِ في الأمور الآتية:

الأول: قال في ردِّه على الشيخ باطحن: »إنّ سيِّدَنا محمدًا بنَ علي بن علوي المعروف بصاحب مرباط كما تقدم عن البرقةِ المشيقةِ انتشرَ به العلمُ وفقهُ الإمام الشافعي في حضرموت وظفار واليمن، وبعلمِه وشهرتِه وكثرةِ تلاميذِه وانتشارهِم مع تعظيمِ أهلِ هذه الأقطارِ لأهل البيت النبوي تيسرَ له أن يربعَ القوافلَ من بيتِ جبيرٍ إلى ظفار« انتهى كلامه.

  قلتُ: أما انتشارُ العلمِ بصاحب مرباط فلا دليلَ عليه، كما سبق هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن صاحبَ البرقةِ المشيقة لم يحددْ أنه انتشر به المذهب الشافعي بل أطلقَ العلمَ فمن أين للحداد التخصيص بالمذهب الشافعي؟ ونصُّ البرقة: »وكانَ له جاهٌ عظيمٌ وقبولٌ عند الخاص والعام تام، وانتشرتْ علومُه بجهاتِ اليمن وحضرموت وظفار نشرًا عظيمًا«([42]).

الثاني: نقل عن باطحن قوله: »كانَ سيدي -يعني الشيخ سعدًا- والشيخُ عليٌّ يقرأون النحوَ على الأديبِ إبراهيم باماجد، ويقرأونَ الفقهَ على الفقيه باعلوي، ويقرأونَ الأصولَ على الشيخ أحمد بن علي بامحمود«، وقد ذكرَ المؤرخ الحداد أن المرادَ بالفقيه باعلوي صاحب مرباط محمد بن علي.

  قلت: إنَّ هؤلاءِ المذكورين من طبقة تلاميذِ الإمامِ القلعي، فهذا الشيخُ بامحمود متأخر قد اجتمعَ به الشيخُ محمدٌ بن علي بن جديد حين دخلَ ظفارَ سنة 618هـ، ولم يصرحْ باطحن باسم محمدِ بن علي باعلوي وإنما قال بالفقيه باعلوي، فإنه إن لم يتصحفْ لفظ باعلوي عن القلعي، فيحتملُ أن يكون المرادُ به عبدالله بن محمد بن علي باعلوي وهذا من تلاميذِ الإمام القلعي.

الثالث: قوله: »إن الشيخَ باطحن جعلَ دخولَ ابنِ مهدي إلى زبيد واستيلاءه عليها سببًا لهربِ الإمامِ القلعي منها ومرورِه بظفار فإن ابن مهدي ملكَ زبيد واستقر بدارِ الملك بها يوم الجمعة رابع عشر رجب من سنة 554هـ وسلطانُ ظفارَ أحمدُ بن منجوه توفي سنة 573هـ وإنما تولى ظفارَ ابنه السلطانُ محمدُ بن أحمد بن منجوه بعده، فبينَ دخولِ ابن مهدي زبيد وتولِّي محمدِ بن منجوه ظفار نحو تسع عشرة سنة…«.

  قلت: هذه نتيجة خاطئة مبنية على مقدمة خاطئة، فإن سلطان ظفار عند مجيء القلعي إليها هو محمد بن منجوه الذي تولى سنة 540هـ وتوفي سنة 573هـ ثم تولى ابنه الأكحل محمد بن محمد بن أحمد بن منجوه، وبهذا يزول الإشكال، ويتضح المقال.

الرابع: قوله: »إنَّ الذي يهربُ زمنَ دخولِ ابن مهدي من زبيد أي سنة 554هـ وقد صارَ فقيهًا ينبغي أن يكونَ من أقرانِ الإمام محمد بن علي صاحب مرباط مع أن وفاتَه قريبةٌ من وفاة تلاميذِه كأبي مروان وغيره، ووفاة أقرانِ صاحبِ مرباط في أثناء القرن السادس فمنْ أقرانه الشيخ الإمام يحيى بن أبي الخير..«.

  قلتُ: لا سبيلَ إلى إنكارِ هروبِ الإمام القلعي من زبيدَ بسببِ فتنةِ ابن مهدي، ولم يقلْ باطحن أن وفاة القلعي كانت سنة 630هـ حتى يلزمه بهذه اللوازم التي ظاهرٌ عنه عارها، وكونه من أقران صاحب مرباط والإمام العمراني هو الصحيح فإن وفاة الإمام القلعي سنة 577هـ، وأما كون بامروان من تلاميذ صاحب مرباط فغلطٌ واضح فإن مولد بامروان كان سنة 555هـ في حين كانت وفاةُ صاحب مرباط 551هـ وقيل 556هـ فكيف يتأتى هذا التقرير([43]).

الخامس: قولُه: »ومِنَ الغريبِ أن الجندي تأثر بما ذكره باطحن أن الإمامَ الفقيه محمدَ بن أحمدَ بن يحيى بن ضمعج هو أقدمُ قدماءِ الشافعية في ظفار، ولم يتفطنْ أنَّ ابنَه أحمدَ بن محمد كان ممن أخذَ عن الإمام القلعي وتوفي بالشحر لبضع وسبعين وستمائة..«.

  قلتُ: ما ذكرَه باطحن من أن الفقيهَ محمدَ بن أحمد بن يحيى ضمعج السبتي من تلاميذِ الإمامِ القلعي صحيح كما سبقَ، وقد أملَى عليه كتابَ (أحكامِ العصاة)، وأما ابنُه القاضي أَبُو العَباس أَحمد بن محَمد شارح التنبيه فقد تفقَّهَ في مرباط بأبيه ثم قَدِمَ الشحر، وكانت وَفَاته تَقرِيبًا لبضع وَسِتين وستمائة كما في (السلوك)، وإنما دخلَ على المؤرخ الحداد الوهمُ من جهة كتاب (السلوك) حيث ذكر الابن من تلاميذ القلعي، وإنما الغلط من نسخة (السلوك) ولا علاقة للشيخ باطحن بذلك.

السادس: قولُه في الرد على باطحن بأنَّ الإمامَ القلعيّ تفقهَ على أبي عقامة بزبيد »فاعلم أنَّ المشهورَ منهم زمنا يمكنُ أن يسند إليه ذلك هو القاضي محمدُ بن عبدالله المذكور… فتعين أنَّ أبا عقامة تولَّى القضاءَ بزبيد ما بين سنة 569 وسنة 571هـ، أما الفقيهُ القلعي فقد صارَ قاضيًا وفقيهًا بظفار قبل أبي عقامة بسنين..«.

  قلتُ: لا يوجد غلطٌ في كلامِ الشيخ باطحن وإنما أطلقَ أبا عقامة، والمقصودُ به أبو الفتوح كما سبق، والنتيجةُ التي توصلَ إليها المؤرخُ الحدادُ باطلةٌ؛ لأنها مبنيةٌ على مقدمةٍ باطلة، فإن القولَ بأنَ مرادَ باطحن بأبي عقامة هو القاضي محمد بن عبدالله -الذي تولَّى القضاءَ أيام سيف الدولة- غيرُ صحيح، كما لا يصح قوله: »فتأملْ هذه اللوازمَ التي تلزمُ ما جاءَ عن باطحن من التلفيق في ترجمةِ هذا الشيخِ الإمامِ الجليلِ وقد توهمَ أنه سيصلحُها فأفسدها«، والصحيح أنه لا تلفيقَ في كلام باطحن، وإنما اختلط على المؤرخ الحدادِ كثيرٌ من الأمور، فجعل يردّ كلام باطحن منها:

– الخلطُ بين سلطانِ ظفار محمد بن أحمد منجوه وابنه الأكحل.

– الخلطُ بين أبي الفتوحِ والقاضي محمد بن عبدالله بن أبي عقامة.

– الخلطُ بينَ محمد بن أحمدَ بن يحيى ضمعج وابنه أحمد.

– تناقض في سنة وفاة الإمام القلعي ثم أكد أنها سنة 630هـ.

ثالثًا: نقض دعوى انتشاره على يد المهاجر أحمد بن عيسى:

  كما لم تصحّ الدعوى بانتشار مذهب الشافعي في حضرموت على يدِ محمد بن علي باعلوي صاحب مرباط، فإن دعوى انتشارِه بها على يدِ المهاجرِ أحمد بن عيسى أغلظ خطأ، وهذه الدعوى قد تقدمَ بها الشلي في (المشرع الروي)، وتلقفها عنه آخرون، ونصُّ عبارته: »إن الخوارجَ الإباضيةَ دخلَوا تحتَ طاعتِه، وأنَّ اللهَ أطفأَ به نارَ البدعةِ في حضرموت… وأنه على يديه كان انتشارُ المذهبِ الشافعي«([44]).

  وهذه دعوى داحضةٌ عند التحقيقِ، عارية عن أدنى دليلٍ عند التدقيق، فلا توجدْ للمهاجرِ أحمد بن عيسى – قدمَ حضرموت سنة 318هـ أي آثار تدل عليها من كتب أو تلاميذ، ولا توجد حوالة صحيحة على مصدر قديم يثبت صحة الدعوى.

بطلان هذه الدعوى:

  لقد بقيتِ الإباضيةُ بحضرموتَ فتيّةً قبلَ مجيء المهاجرِ وبعده حتى وهنت نهايةَ القرنِ الخامس الهجري، وعلى ذلك شهادة من عاصرَ هذه الحقبة وهم ثلاثة من المؤرِّخين:

1 – قال المسعوديُّ في (مروج الذهب): »فأكثرُها إباضيةٌ إلى هذا الوقت -وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- ولا فرقَ بينهمْ وبين مَن بعُمَانَ مِن الخوارجِ في هذا المذهب«([45]).

2 – قال الحسنُ بن أحمد الهمْداني المعروف (ت 334هـ)‍: »وأما موضعُ الإمامِ الذي يأمرُ الإباضيَّةَ وينهى ففي مدينة دوعن..«. وقال أيضًا في حديثه عن تُجِيب: »وإباضتُهم قليلةٌ، وأكثرُ ذلك في الصدِف لأنهم دخلوا في حمير«([46]).

3 – قال البِشاري (ت نحو 380 هـ): »حضرموتُ هي قصبةُ الأحقافِ، موضوعةٌ في الرمال، عامرةٌ نائية عن الساحلِ، آهلة، لهم في العلمِ والخيرِ رغبة، إلا أنهم شراةٌ شديد سمرتهم«([47]).

  ولقدِ امتلأَ شعرُ أبي إسحاق الحضرمي بذكرِ خصومه والردِّ عليهم، وجرّدَ سيفَه يضربُ كاهلَ خصومه لا يلوي في ذلك على أحدٍ، ويذودُ عن حياضِ إمامتِه ونحلتِه في حضرموت، ويتلهفُ على حالِها ويفتخرُ بقومِه وجنودِه، ويتغنى ببلدانهم مثل شبامَ وذي أصبحٍ وتريسَ وحبوضةَ ومدودةَ وبورٍ كما في قوله:

وحسبيْ وحسبيْ للجلادِ بعصبةٍ     شباميةٍ مثلِ النجومِ الثواقبِ

وذو صُبَّحٍ فيها لعمرُكَ عصبةٌ     يَطيبُ الثنا في مُردِها والأشائبِ

وكمْ في مدودٍ أو تريسٍ وأختِها    حبوضٍ وبورٍ من إباضيٍّ راغبِ

  وأطال الرد على الصليحي الذي أراد أن يغزو حضرموت كما ورد في سجل المستنصر الفاطمي إلى أبي الحسن الصليحي التصريح بضم حضرموت إلى دعوة الفاطميين عنوة فقال: »وأما إزماعك -قرن الله الخير بعزماتك، ولقاك النجح في تصرفاتك- التوجه إلى حضرموت لفتح أغلاقها، ونشر دعوتنا في آفاقها، فالله يمدك بالمعونة واردًا وصادرًا، ويحدد لك من سيف نصرته ما يكون لأعدائك قاهرًا بمنه«، كان وصول السجل إلى اليمن في جمادى الآخرة سنة 459هـ.

   والعجبُ أنه لم يلتفتْ إلى دعوى القضاء على الإباضية وانتشار المذهب الشافعي على يد المهاجر، وأعجب منه أن مؤرخي العلويين أنفسهم لم يتفقوا على مذهب المهاجر:

– زعمَ الشليُّ في (المشرع) بأن أحمد بن عيسى نشر المذهب الشافعي بحضرموت كما سبق.

شكَ مفتي حضرموت عبدالرحمن بن عبيدالله في كتابيه (بضائع التابوت) و(إدام القوت) في قول الشلي إن أحمد بن عيسى أظهرَ المذهبَ الشافعيَّ بحضرموت، وتساءل كيف يكون شافعيًا، وإنما هو عراقيٌّ ولآبائه مذهبٌ معروفٌ لا يمكنه انتقالُه عنه بدون نبأٍ عظيمٍ يكون له دوي في التاريخ.

ألّف المؤرخُ عبدالله بن حسن بلفقيه (صبحَ الدياجر في تاريخ المهاجر)، وأيَّد قول الشلي وجعل أحمد بن عيسى البطل الفذَّ والمؤسسَ الوحيدَ للدور الرابع من التاريخ الحضرمي؛ دور العهد السني بإدخاله المذهبَ الشافعي، ونصرته أصولَ أهل السنة.

نقل المؤرخُ صالحُ بنُ علي الحامد أن أحمد بن عيسى إمامي المذهب، وقال في تاريخه: »فالجزمُ بكون المهاجرِ كان شافعيَ المذهب على طريقة الأشاعرة غيرُ مبنيٍّ على تحقيقٍ وبحثٍ، بل هو من بابِ الرجم بالظن المبني على الاستصحابِ المقلوبِ، إذ صارتْ ذريتُه شافعيةً أشاعرةً«، وفي رده على من زعم شافعية المهاجر أنهم »كانوا في عصورٍ متأخرةٍ تفصلُهم عن العلمِ بحقيقةِ الأمرِ مع فقد النقلِ عصورٌ وقرونٌ، وليس هناك دليلٌ يستندون إليه، اللهمَّ إلا الاعتمادُ على الاستصحاب المقلوبِ لكون بنيه كانوا شافعيين، إذا فكَّرَ الحصيفُ مليًّا رأى في نفسِه ريبةَ الأمرِ«.

كان علوي بن طاهر على ما عليه (المشرع) كما في (جني الشماريخِ) يصرحُ بأن أحمد بن عيسى به انتشر مذهب الإمام الشافعي، ثم ألَّف (إثمد البصائر بالبحث في مذهب المهاجر)، وانتصرَ فيه لرسالة (صبح الدياجر)، ورد على ابن عبيدالله استدلالاته النقلية.

– عارضَ ابن عبيدالله ما في (إثمد البصائر) فألف (نسيم حاجر في تأييد قولي عن مذهب المهاجر)، ثم رد على أيضًا معارضه بتأليف (سموم ناجر لمن يعترض على نسيم حاجر).

– المؤرخُ محمدُ بن أحمد الشاطري قرر في (أدوار التاريخ الحضرمي) »أنه نشر المذهب الشافعي السني حتى حلَّ محلَّ المذهبِ الإباضي تدريجيًا)، ثم نزَّهه عن التقليد، وذكر أن المعروفَ أن المهاجر وإن كان يعتنقُ مذهبَ الشافعي لا يقلد الشافعي تقليدًا أعمى، وكذلك عقائدُه الإسلامية هي عقائدُ آبائه وأجدادِه كالباقر وزين العابدين… والمهاجر على مذهب الشافعي الذي يراه كمذهب آبائه«.

  وأنت ترى هذا الاضطراب الكبير في مسألة مذهب المهاجر، لم يشرق فيها صبح يكشف الدياجر، ولم تكتحل عين بإثمد البصائر، ولم ينتعش القول بنسيم حاجر، والكل (كانوا في عصورٍ متأخرةٍ تفصلُهم عن العلمِ بحقيقةِ الأمرِ مع فقد النقلِ عصورٌ وقرونٌ، وليس هناك دليلٌ يستندون إليه) فلا غرو أن يتردد الحصيفُ إذا فكر مليًا.

  وحسبنا ما أردنا الخوض فيه من ترجمة الإمام القلعي التي انتخبتها من تأليف موسع في هذا الباب أردنا هنا أن نتفيأ ظلال سيرته العطرة وقد وصلنا إلى خاتمة المطاف، فنسأل الله تعالى أن ينفع به، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ب العالمين.


[1]) عضو مجلس علماء وادي حضرموت.

[2]) طبقات فقهاء اليمن للجعدي، ص220، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي 1/ 156، وطبقات الشافعية للإسنوي 2/ 164، طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 39، السلوك للجندي 1/ 454، العقود اللؤلؤية للخزرجي 1/ 56، الأعلام للزركلي 7 / 169، عقود الألماس 2/ 76.

[3]) العدة المفيدة لابن حميد الكندي، ص74، وعقود الألماس، 2/ 76.

[4]) المفيد في أخبار زبيد، ص168.

[5]) خريدة القصر وجريدة العصر، 2/ 554، 555، السلوك في طبقات العلماء والملوك (1/ 381).

[6]) الدلائل والأخبار في خصائص ظفار، للشيخ عبدالله بن جعفر الكثيري، نقلًا عن العدة المفيدة، ص74، وعقود الألماس، 2/ 76.

[7]) وطبقات الشافعية للإسنوي، 2/ 164.

[8]) تاريخ الإسلام للذهبي (10/ 728)، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، (4/ 193).

[9]) السلوك في طبقات العلماء والملوك (2/ 456)، وعنه تحفة الزمن، الفتح الرباني للإمام الشوكاني.

[10]) ينظر: أخبار ابن مهدي في بغية المستفيد، المفيد في أخبار صنعاء وزبيد، بلوغ المرام في شرح مسك الختام، تاريخ وصاب، بهجة اليمن في تاريخ اليمن.

[11]) العدة المفيدة، 1/ 92، عقود الألماس، 2/ 76.

[12]) ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي، ج/ 20.

[13]) رحلة ابن بطوطة.

[14]) قلادة النحر، ص51، صورة الأرض لابن حوقل، 1/ 38.

[15]) العدة المفيدة، 1/ 92، عقود الألماس، 2/ 76.

[16]) المصدر السابق.

[17]) ذكره في سير أعلام النبلاء للذهبي فقال: »تفقه بظفار على محمد عبدالله حماد«، ولم يحدد المذهب الذي تفقه به على يديه.

[18]) أشار لهذه المكتبة باطحن كما جاء في (الدلائل).

[19]) ينظر ذكره في السلوك للجندي قال: »كان فاضلًا أخذ عن الإمام القلعي«، ص471.

[20]) العدة المفيدة، 1/ 92، عقود الألماس، 2/ 76.

[21]) الدلائل والأخبار، نقلًا عن العدة المفيدة، 1/ 92، عقود الألماس، 2/ 76.

[22]) المصدر السابق.

[23]) قلادة النحر للطيب بامخرمة، وطراز أعلام للخزرجي، وعند الجندي في السلوك (أبو فير).

[24]) العقود اللؤلؤية، 1/ 52.

[25]) ينظر: تكملة المجموع لتقي الدين السبكي، فصل الصرف في الذمة.

[26]) المجموع شرح المهذب، 1/ 276.

[27]) كتاب السلوك في طبقات العلماء والملوك، 1/ 455.

[28]) السلوك في طبقات العلماء والملوك، (2/ 458).

[29]) نقلًا عن كتاب النفائس للأزرق.

[30]) الجوهر الشفاف، (مخطوط).

[31]) المجموع شرح المهذب، (11/ 156).

[32]) مقدمة تهذيب الرئاسة.

[33]) السلوك للجندي، 2/ 30، 471، دلائل الأخبار.

[34]) الغرر للبهاء الضوي، وعنه تاريخ حضرموت للحامد، وعقود الألماس للحداد.

[35]) نسبة تتلمذ سعد الدين للقلعي أفاده المعشني في الآثار التاريخية لظفار.

[36]) فتاوى سالم باصهي (مخطوطة).

[37]) السلوك الجزء الأول.

[38]) العقود اللؤلؤية.

[39]) جواب الشيخ عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف بتاريخ 27/ 2/ 1374هـ على رسالة شيخنا العلامة عبدالرحمن عبدالله بكير يسأله عن دخول المذهب الشافعي إلى حضرموت، فقال المسؤول وجدت بخط الحافظ ابن حجر… وكلمة الحافظ عند الإطلاق تنصرف إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري. ينظر: القضاء في حضرموت، ولم نظفر بما ذكره ابن عبيدالله عن الحافظ ابن حجر.

[40]) الحكاية الثانية، وفيها أنه كان ينفق على أهل مائة بيت من الجن فضلًا عن الأنس.

([41]) الفكر والثقافة، ص107.

[42]) البرقة المشيقة، ص137. ومثله في غرر البهاء الضوي، ص130، »وكان له الجاه الوسيع والصيت الجامع الرفيع وله القبول التام عند الخاص والعام، وانتشرت علومه وأخباره بجهات اليمن وحضرموت وظفار انتشارًا طبق الآفاق منها«.

[43]) ذكر عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف في كتابه (إدام القوت) أن ما نقله صاحب المشرع، وعنه شارح العينية، من أخذ الشيخ سالم بافضل، وعلي بن أحمد بامروان، والقاضي أحمد محمد باعيسى، والشيخ علي بن محمد الخطيب عن السيد الإمام محمد بن علي صاحب مرباط شيء من البعد..

[44]) المشرع الروي.

([45]) مروج الذهب، (1/453).

([46]) صفة جزيرة العرب، (1/44).

([47]) هو الرحالة شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد المقدسي صاحب أحسن التقاسيم، (1/ 31).

وقال (1/ 35): »أهل الأحقاف نواصب غتم«.