دراسات
د. زهير برك الهويمل
الملخص:
يدرس هذا البحث مدى تأثر منهجية محمد عابد الجابري بالقياس على مثال سابق، وهو منهج كان متبعًا في الفقه والنحو وعلم الكلام والبلاغة، منذ عصر التدوين (العصر العباسي) -وهو ما يسميه الجابري (النظام المعرفي البياني)-، وكان يتشكّل في طرائق هذه العلوم، لكنّ الماهية التي ظلّ محافظًا عليها، هي قيامه على الثنائيات المتناظرة، المتقابلة منها وغير المتقابلة، فلا بدّ للقياس من مقيس ومقاس عليه، أي ثنائية ترسم ملامحه، حتى أضحى التشبيه به قياسًا. فتتبّع البحث نماذج من هذه الوجهة التي تبدّت رتيبة في نهج الجابري في كتابه (تكوين العقل العربي)، الأمر الذي أعطاها صبغة المنهج، واضعًا في الأخير مجموعة تساؤلات، موجهة إلى صميم الحداثة في الوعي العربي، تجعلنا نعيد النظر في قراءاتنا النقدية العربية (ما بعد الحداثية)، وهل استطاعت أن تبارح مكانها وزمانها القديمين، منذ عصر التدوين، والنظام المعرفي البياني، إلى ما بعد الحداثة الألسنية، كما هو الحال في المنهجين النقديين (النقد الحضاري) و(النقد الثقافي)، أم إنّها قراءات لم تبارح زمن التدوين، يختتم البحث بتوجيه التساؤلات إلى نهج الجابري نفسه، هل استطاع الالتزام بمنهجه “الأيبيستيمولوجي” الذي أعلنه نهجًا متبَعًا؟ نائيًا به عن الوجهة “الأيديولوجية”، والبطركية. في مشوار نقده للعقل العربي؟
المرجع : مجلة حضرموت الثقافية .. العدد 17 .. ص 46
رابط العدد 17 : اضغط هنا
أثر القياس في منهجية كتاب (تكوين العقل العربي) لمحمد عابد الجابري:
يمكن معرفة مصطلح القياس من منظور الجابري نفسه حين خصه بفصل كامل، في كتابه المدروس(1)، بيّن فيه مدى تأثير “القياس” في وحدة الفعل العقلي العربي (وحدة الآلية الذهنية العربية) الإسلامية -في الفصل السادس، أي بعد ما قطع خمسة فصول من الكتاب- في فقرة شكّلت رؤية البحث لقراءة منهج الجابري نفسه في آلية الكشف والتقصي الدقيقتين، اللتين دأبهما في نهج مشوار كتابه من أوله، وصولًا إلى هذه الفقرة وما بعدها، ليتجلّى مدى خضوع منهجه “ممارسة” للقياس في رحلة الكتاب كاملة، سيدرس البحث نماذج متعدّدة ومتنوعة -بقدر حيّزه المحدود- تبيّن مدى صيرورة القياس آلية ممنهجة في طرح الجابري وتقصيه، يقول الجابري: »بإمكاننا أن نؤكد أنّ الخطاب العربي في المجالات المعرفية المذكورة يؤسسه (فعل عقلي واحد) أي آلية ذهنية واحدة قوامها ربط فرع بأصل لمناسبة بينهما: إنه القياس بتعبير النحاة والفقهاء، والاستدلال بالشاهد على الغائب بتعبير المتكلمين، والتشبيه بتعبير البلاغيين، إنّ هذا يعني أن هناك قاعدة base أيبيستيمولوجية واحدة، ولنقل نظامًا معرفيًا واحدًا، يؤسس الإنتاج النظري في العلوم العربية الإسلامية. وبما أنّ هذا النظام المعرفي يقوم على ربط فرع بأصل، أي على نفس الآلية التي تؤسس البيان العربي (التشبيه) فإننا سندعوه: النظام المعرفي البياني«(2).
يمكننا الخروج من هذه الفقرة بأنّ مكوّنات أو أشكال القياس -لدى الجابري- على ثلاثة أوجه: ربط الفرع بالأصل، وهذا عند النحاة والفقهاء، والاستدلال بالشاهد على الغائب، وهذا عند أهل الكلام، والتشبيه، عند البلاغيين، ففي قولنا: (زيد أسد)، ثمة أصل هو زيد وفرع رُبط به هو الأسد، وفي النظر في مخلوقات الله، نراها شاهدًا على وجود الله، الذي هو في وعي غير المؤمنين غائب، يدل الشاهد عليه، وأصلٌ تفرّع منه الشاهد؛ ليدلّ عليه، إذن يمكن القول بأنّ الاستدلال بالشاهد على الغائب هو ربط فرع (الشاهد) بأصل (الغائب) أي قياس، وكذلك التشبيه كما أسلفنا ذكره، وكما هو مصرَّح به في نهاية فقرة الجابري أعلاه، ويعني به الجابري (البيان) بعمومه في منظور علم البلاغة اليوم، باستعارته وكنايته ومجازه؛ لأنّ طرفي الاستعارة هي في الأصل طرفا تشبيه، كما يرى ابن الأثير: إن المجاز »إنما كان ضربًا من القياس في حمل الشيء على ما يناسبه ويشاكله… وإذا حققنا النظر في الاستعارة والتشبيه وجدناهما أمرًا قياسيًا في حمل فرع على أصل لمناسبة بينهما، وإن كانا يفترقان بحدّهما وحقيقتهما«(3)، وهو رأي عبدالقاهر الجرجاني في الاستعارة، حين نص قائلًا: »أما الاستعارة فهي ضرب من التشبيه، ونمط من التمثيل، والتشبيه قياس«(4)، وهذا ما دعا الجابري أن يسميه (النظام المعرفي البياني).
مما سبق يتجلّى القياس مهيمنًا على العقل العربي بمختلف وجهاته، النحوية والفقهية والكلامية، أي معرفيًا، الأمر الذي يرسم معالم الوعي والفكر لآلية النظام المعرفي العربي (الإسلامي)، بوصف الحاضنة لهذا الوعي هي الدولة الإسلامية؛ لا بتأريخ العصرنة المعروف في الأدب والتأريخ، بل بنهوض هذا الوعي إبّان حركتي الترجمة والتدوين وما تلاهما، تحديدًا في العصر العباسي (عصر التدوين)؛ لأنه يشكّل الإطار المرجعي للفكر العربي، وقد فصّل هذا المفهوم الجابري وأشبعه في كتابه، وهو يقارن بين الزمن الثقافي الأوروبي والزمن الثقافي العربي، بعد تنظيره لمفهوم الحركة في الزمن الثقافي، ليس المجال هنا مجال بسطه(5).
تلك كانت باكورة القول بالقياس، وأثره على منهجية الجابري نفسه في كتابه ذاته، الذي فصّل وشرح القياس وأثره في تشكيل النظام الأيبيستيمولوجي للمعرفة العربية، في عصرها الزاهي، وإن لم تكن تلك بداية الكتاب، لكن الباحث آثر أن يبدأ من حيث بدأ الجابري الحديث عن القياس وشرحِه وتفصيله من منظور جابري؛ لتكون هذه البداية خلفية مرجعية يستند إليها البحث في مشوار تقصيه وتفتيشه عن ملامح القياس المتبدّية، مزاولة تأثيرها في مساق خطاب الجابري في كتاب (تكوين العقل العربي)، حيث ضم الكتاب قسمين رئيسين هما:
القسم الأول: -بدأه بتساؤل- (العقل العربي… بأي معنى؟ مقاربات أولي)، وحوى ثلاثة فصول، القسم الثاني: تكوين العقل العربي: وحوى تسعة فصول، والبحث حينما أفرز في قراءته ثراءً كثيفًا للاتكاء على الثنائيات المتتالية (المتقابلة والمتآلفة) -في نقد الجابري لتكوين العقل العربي- راح يفتش عن مستند علمي أو مرجع معرفي اعتمده الجابري في نهجه، الكثيف للجمع بين الثنائيات، واعتماده نهجًا قويمًا في معظم القضايا الجدية التي كان يناقشها -إن لم يكن كلها- حتى وصل إلى القياس، وآلية تشكله، آنئذٍ سَلّم البحث بأثر القياس على طرائق تحليل الجابري في منهج نقده الحضاري، في كتابه (تكوين العقل العربي)، ولا يدّعي البحث أنه سيناقش كل تلك الثنائيات؛ لهيمنتها على كتاب يضم ثلاث مئة وإحدى وستين صفحة، ولكنه سيكتفي ببيان هذه السمة الرتيبة في منهجية الكتاب.
هذه الثنائيات وإن كانت تستمدّ حضورها من منهجية القياس، إلا إنها تتنوع في تبدّيها غالبًا بين المتقابلات، محافظةً على الانشطار المكوّن لمثول بنيتها من مكونين اثنين، ثم إنّ هذه المتقابلات لا تعني بالضرورة اختلافها بقدر ما تعني الافتراق بين مكوِّنيها؛ ليكون أحدهما شاهدًا على مثول الآخر من منظور القياس؛ لذا نجد الجابري يستند في (مقابلاته) على المقولة السائدة: بضدها تتميز الأشياء، فالاستعانة بالضد منهجية لتحديد هوية العقل العربي، والضد هنا لا يعني التعارض والتنافر بل مجرد الاختلاف(6)، بما أن هذه المتقابلات في ثنائيات الجابري تكتسب هيئة الرتابة التقابلية عادة، وهي ذاتها منهجية القياس، سيطلق البحث عليها (الثنائيات) مسلّمِين بأنها منتوج قياسي، لم يكد يفتتح الجابري مبحثًا من مباحث كتابه إلا ويعقد مقابلة ثنائية يكون أحد طرفيها أصيلًا مبتغى، والآخر برهانًا أو شاهدًا على تقوية مثوله، أو مرآة يتراءى فيه ذلك الأصيل.
أولًا: ثنائية (الفكر والعقل):
يفرّق الجابري بين كلمتي “فكر” و”عقل” على اعتبار أنه يفتش عن جوهر العقل العربي وحقيقته، بوصفه مبهمًا يجري البحث عن إيضاح حقيقته وكشفها، لاجئًا إلى الفكر كطرف مقابل يسهم في العثور العلمي حال البحث عن المنشود حقيقة (العقل)، فيرى أنّ “الفكر” و”الأيديولوجيا” اسمان لمسمًّى واحد، لا سيما عندما يكون الأخير مرتبطًا بالإضافة إلى شَعب، أو قوم كـ”الفكر العربي” أو “الفكر الفرنسي” إلخ…
ثم يتساءل: عن هدف فلاسفة القرون الوسطى؛ حين انشغلوا على التمييز بين “العقل” و”المعقولات”، هل كان هدفهم ميتافيزيقيًا بالدرجة الأولى؟ ليجدوا جوابًا هل العقل مفارق؟
هل للمعقولات وجود موضعي مستقل أم إنها مجرّد أسماء؟ ويتعمّق الجابري في طرح تساؤلاته المفتشة عن الإجابات العلمية؛ حين يرى أنّ التداخل بين “الفكر” و”الأيديولوجيا” يقوم وراءه تداخل آخر مهم، وتساؤل: هل الفكر أداة لإنتاج الأفكار، أم إنه مجموع هذه الأفكار ذاتها؟ وهو تداخل تعكسه كثير من اللغات، ومنها اللغة العربية المعاصرة. أي تداخل بين “الفكر” كأداة، و”الفكر” كمحتوى، وكلاهما دائمًا يجسّد نتيجة للاحتكاك مع المحيط الثقافي، والاجتماعي الحاضن لهما فخصوصية المحيط تكوّن خصوصية الفكر(7).
ثمة قاعدة “عرفية” في العصر الحاضر، تتحدّدُ بموجبها “الجنسية الثقافية” لكل مفكر، بأن لا يُنسب مفكر إلى ثقافة ما إلا إذا كان يفكّر من داخلها وبوساطتها. والتفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بوساطتها، فالفارابي -مثلًا- الذي يفكر في قضايا الثقافة اليونانية، هو مفكر عربي، لأنه فكرّ في الثقافة اليونانية، من داخل الثقافة العربية.
إنّ الفكر الذي يتحدّث عنه الجابري هو الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية على وجه الخصوص، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، وتعكس واقعهم أو تعبر عنه، وعن طموحاتهم المستقبلية، كما تعبر في الوقت ذاته عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.
إذن ما تقدم يخطو بنا خطوة تنقلنا إلى الأمام -كما يرى الجابري- خطوة تنقلنا من مجال التحليل “الأيديولوجي” إلى مجال التحليل “الأيبيستيمولوجي”؛ أي البحث الذي يتخذ موضوعًا له أدوات الإنتاج الفكري، لا منتجات هذه الأدوات، إنّ وجهتنا الوحيدة هي التحليل “العلمي” لـ”عقل” تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبوساطة هذه الثقافة نفسها: “الثقافة العربية الإسلامية”، وهي نتيجة البحث “الأيبيستيمولوجي”، ويضرب الجابري مثالًا يبين -من خلاله- هل الفكر -بوصفه أداة- خال من المحتوى؟ أم أن المحتوى هو ذاته يشكّل الأداة؟ يضرب على ذلك مثالًا: آلة الحفر التي نحفر بها الأرض تستمد ماهيتها من فاعليتها: الحفر، لكنها تستمدّ قدرتها على الحفر من طريقة تركيب أجزائها، وأسلوب استعمالها… أفلا ينطبق هذا على “أداة التفكير” سواء سميناها “الفكر” أو “العقل”، ويستعين الجابري في ذلك بالتمييز الشهير الذي أقامه لالاند بين العقل “المكوِّن” أو الفاعل، والعقل “المكوَّن” أو السائد(8).
ثانيًا: ثنائية (العقل الأوروبي، والعقل العربي):
حتى يحلّلَ الجابري العقل العربي ويكشف آلية تكوينه، من منظور معرفي علمي أيبيستيمولوجي يقابله بعقل آخر، تماشيًا ومنهجية القياس التي تتبدّى نهجًا رئيسًا في مشوار نقده، فوضع العقل الأوروبي، مقابلًا للعقل العربي، لكنّ المسار المنهجي المسيطر على آلية التحليل هو مسار العقل العربي كهدف منشود. ثمة إشكالية واجهت الجابري وهو يقابل في بحثه بين العقلين الأوروبي والعربي؛ هي هل العقل الإغريقي يعدّ جزءًا من العقل الأوروبي تاريخيًا، أم إنه منفصل عنه، هذه الإشكالية وإن تجاوزها في مشوار البحث بعد ذلك بِعدّهِ مرحلة من مراحل العقل الأوروبي، إلا إنه في موضع هذه الثنائية، ما يزال يفصل بينهما، وهذا لا يعني أنه ذهب هذا المذهب أو ذاك عن خلط أو جهل، بل هو التدرّج في منهجية الكتاب والوصول إلى النتائج وفق خطوات إجرائية تراتبية، إن على نطاق التنظير، أو على مستوى الاصطلاح، فقد كان دقيقًا في آلية تناسل خطوات النتائج اللاحقة من السالفة، وهو يبني فرضياته التي ترتقي بعد النقاش العلمي المعرفي لتتجلّى ثوابت ممنهجة يؤكدها الواقع العلمي.
العقل اليوناني الأوروبي:
هكذا أطلق عليه الجابري لأنّه في هذا الموضع من الكتاب لمّا يقنع القارئ بعد بالمماهاة بين (اليوناني) و(الأوروبي) وتجاوز الزمن الثقافي فيهما، ثمة ثابتان يحكمان العقل اليوناني الأوروبي، هما:
الأول: اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة (وجود).
الآخر: الإيمان بقدرة العقل على تفسير هذه العلاقة، وكشف أسرارها (معرفة).
إنّ ما يميز “العقل العربي” بوصفه عقل الثقافة العربية الإسلامية، هو أنّ العلاقات داخله تتمحور حول ثلاثية: (الله – الإنسان – الطبيعة)، وإذا قمتَ بتكثيفها تصير اثنين (الله – الإنسان) والطبيعة تحصيل حاصل، وفي الثقافة العربية الإسلامية يُطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصّل إلى خالقها “الله”، بينما هناك في الثقافة اليونانية الأوروبية يتخذ العقل اليوناني الأوروبي من الله وسيلة لفهم الطبيعة، أو على أقل تعبير ضمانًا لصحة فهمها.
ثم يقارن الجابري بين ميتافيزيقية “العقل اليوناني الأوروبي” وميتافيزيقية “العقل العربي” – في ثنائية داخلية داخل الثنائية محور الحديث- بأنه إذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة والمعاصرة مرتبطًا بإدراك الأسباب (المعرفة)، فإنّ “العقل” في اللغة العربية -وبالتالي في الفكر العربي- يرتبط أساسًا بالسلوك والأخلاق، وصولًا إلى “المعرفة”، ولكنّ الفرق كبير بين الاتجاه من المعرفة إلى الأخلاق (حالة الفكر اليوناني الأوروبي)، والاتجاه من الأخلاق إلى المعرفة (حالة الفكر العربي)، ففي الأولى: تتأسس الأخلاق على المعرفة، وفي الثانية: تتأسس المعرفة على الأخلاق. فتكون المعرفة هنا في حالة الفكر العربي ليست اكتشافًا للعلاقات التي تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، ليست عملية يكتشف العقل فيها نفسه من خلالها في الطبيعة، بل هي التمييز في موضوعات “المعرفة” بين الحسن والقبيح، الخير والشر، فتكون وظيفة العقل، بل وعلامة وجوده، تتمحور في حمل صاحبه على السلوك الحسن ومنعه من إتيان القبيح(9).
ثالثًا: ثنائية (الزمن الثقافي الأوروبي، والزمن الثقافي العربي):
تتوالى الثنائيات في نهج الجابري وهو يستكشف بنية العقل العربي خطوة خطوة، واضعًا مقابلاتٍ تسهم في كشف شقّ غير مقصود وآخر مبتغى ومقصود منها، وفق منهجية القياس التي تحدّث البحث عنها آنفًا، وها هو هنا، يدرس “الزمن الثقافي العربي” يرسم له مرآة عاكسة –الزمن الثقافي الأوروبي– لتتجلّى فيها صورته بوضوح، كمنهجية الثنائيات التي ارتضاها لمشوار نقده، ولم تكن دراسة الزمن الثقافي في حدّ ذاتها هدفًا، في نقد العقل العربي لدى الجابري، بقدر ما هي وسيلة موصلة لغاية هي الحركة في الزمن الثقافي، هذا الأمر يتطلّب وقوف البحث أولًا عند مفهوم “الحركة في الزمن الثقافي” وما تعنيه.
الحركة في الزمن الثقافي: يأخذنا هذا العنوان إلى ثنائية داخلية، تتمثلّ في حركتين، هما: أ) (حركة اعتماد) حركة الشيء في موضعه نفسه، كحركة السهم في القوس، قبل انطلاقه أي (حركة التوتر). ب) (حركة نقلة) أي حركة الانتقال من مكان إلى آخر، من مرحلة إلى مرحلة أخرى، فلا تتجسّد المراحل الثقافية إلا بحركة (النقلة)(10).
ويذهب الجابري إلى إنّ الحركة في الثقافة العربية حركة (اعتماد)، قائلًا: »وأكاد أقرّر أنّ الحركة في الثقافة العربية كانت وما تزال حركة اعتماد لا حركة نقلة وبالتالي فزمنها مدّة يعدّها “السكون” لا الحركة، وهذا على الرغم من جميع التحركات والاهتزازات والهزّات التي عرفتْها«(11).
لذا كان الزمن الثقافي العربي في حاجة إلى جلاء وبيان، ولن يكون ذلك في منهجية الجابري، إلا بمقارنته بالزمن الثقافي الأوروبي؛ لأنه من منظور الجابري هو »الزمن الثقافي المعاصر الذي يفرض نفسه علينا في كافة المجالات فيضايق بل يمزّق فينا زمننا الخاص بنا.. زمننا الراكد الممتد«(12).
أ) الزمن الثقافي الأوروبي:
في أوروبا يؤرخون للثقافة بالقرون منطلقين من ميلاد المسيح (ما قبل وما بعد) فيقولون: الفكر اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد.. والفكر الفرنسي أو الألماني، أو الأوروبي بنمطية عامة في القرن الثامن عشر الميلادي مثلًا، فتمثل هذه الآلية -سواء كانت مطابقة للواقع التاريخي أم غير مطابقة- ربطًا تواصليًا بين مراحل تطوّر الفكر الأوروبي، فيكون ممتدًّا في وعيهم من القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد إلى عصرنا الراهن: القرن العشرين، فيمتد (الفكر الأوروبي) في ذلك الوعي على مدى ثمانية وعشرين قرنًا أو أكثر، فصنفوه إلى ثلاثة عصور ثقافية، الأول: العصر القديم (الإغريقي – اللاتيني)، الثاني: العصر الوسيط (المسيحي)، والثالث: العصر الحديث.
فنكون بهذا التسلسل أمام استمرارية تاريخية تشكّل إطارًا مرجعيًا ثابتًا وواضحًا، وسواء كانت هذه الاستمرارية حقيقية أو موهومة، وسواء نُظر إلى حركتها بأنها متصلة أو كانت على غير اتصال، فإنّ المهم هو وظيفتها على صعيد الوعي، إنها تنظم التاريخ، وتفصل بين ما قبل وما بعد فيه، فلا يمكن للوعي الحالم أن يتطلّع إلى ما بعد ليحلّ محل الـ(ما قبل)، فلا يمكنهم الاتجاه إلى المستقبل دون أن يكون الماضي دليلهم إليه(13).
ب): الزمن الثقافي العربي:
للثقافة العربية زمنان ثقافيان الأول: الثقافة العربية في القرون الوسطى (القرن السابع أو الثامن للهجرة)، أما الثاني: فالثقافة العربية في العصر الحديث، عصر النهضة (التاسع عشر الميلادي)، أما العصر القديم فلا مكان له في التاريخ العربي، الأمر الذي يخلق اضطرابًا تاريخيًا، فالقرون الوسطى مؤرّخة بالهجري، وعصر النهضة مؤرخ بالميلادي، ثم إنّ القرون الوسطى تفتقد إلى ما يسبقها لتخلق وسطيتها، أما ما بين الثامن الهجري (الخامس عشر الميلادي) والثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) فهي مدّة تمثل حلقة مفقودة في التاريخ العربي، هكذا يظلّ الماضي يتناوب مع الحاضر على ساحة الوعي العربي، وقد ينافس الأول الثاني منهما، ليبدو وكأنه الحاضر عينه.
من المقارنة السابقة يتبين أنّ تاريخ الفكر العربي لمّا يُكتب بعد، وأنّ تاريخ الثقافة العربية في حاجة إلى إعادة ترتيب، وأنّ الزمن الثقافي العربي لمّا يتم بعد تثبيته ولا تعريفه، ولا تحديده، على الرغم من أننا نفرّق في المسميات بين العصور أ) العصر الجاهلي. ب) العصر الإسلامي. ج) عصر النهضة، ولكنه فصل سطحي تمامًا، فنحن لا نعيشه في وعينا كمراحل ألغت اللاحقة منها السابقة، ولا كأزمنة ثقافية تتميز عن بعضها بمميزات خاصة، بل إنّ النظر إلى هذه الأزمنة الثلاثة لا يعدو نظرًا إلى ثلاث جُزر منفصلة لا يؤدي بعضها إلى بعض بوعي ثقافي(14).
رابعًا: ثنائية (المعقول الديني) و(اللامعقول العقلي):
تحضر هنا ثنائية قياسية والجة في صميم البحث في العقل العربي، كما هو جلي (المعقول واللامعقول)، بعد مشوار قطعه الجابري عرّج من خلاله على تكوين العقل العربي داخل الدائرة العربية الإسلامية، أي دائرة البيان العربي كما وضع أسسه عِلما اللغة والدين، متأسيًا بالمنظور الأيبيستيمولوجي المحض، كما يؤكد على ذلك -الجابري- دائمًا، مفسرًا هذا المنظور بأنه: »آلية التفكير وطريقة الإنتاج النظري في العلوم العربية الإسلامية« (15).
تتناسل الثنائيات المتقابلة الداخلية، داخل الثنائيات الكبرى مرسّخة إياها نهجًا قويمًا في سبيل التقصي والتدقيق للمنظور المعرفي العلمي الذي يقتفيه الجابري، تفرضها خطوات نقده كلّ حين، قبل الخوض في تقابلها هنا، سيبدأ البحث برأي الجابري في أن الفعل المتطور للعقل العربي، كانت ممهداته عبارة عن سلسلة من ردود الفعل التي تهدف إلى الدفاع عن الذات ضد خصم خارجي تارة، أو استعادة التوازن الذاتي المختل بسبب خلافات داخلية تارة أخرى، فعلى سبيل المثال: كان تقنين اللغة ردة فعل لتفشّي اللحن، أي ضد لغة أو لغات، وتقنين الرأي في الفقه ردة فعل ضد تضخمه، وظهور اجتهادات تهدّد بتجاوز الأصول ذاتها، وكان التشريع في علم الكلام ضدّ شرائع أخرى للعقل تنتمي إلى ثقافات يتصادم منطقها مع منطق البيان العربي(16).
يضع الجابري سؤالًا يشكّل جوابه مدخلًا لثنائيتنا التي نحن فيها ندندن، هذا التساؤل على النحو الآتي:
بماذا وكيف تتحدّد المعقولية في البيان العربي و”الكلام” الإسلامي؟
فيكشف سياقه الخطابي -ضمنًا- عن جواب لتساؤله، بأنّ البيان العربي تتجلّى بدايته الفعلية في أعلى مراتبه، في النص القرآني الكتاب العربي المبين، إذن فالمعقولية في البيان العربي إنما تتحدّد داخل “الكلام” القرآني، بالضبط في جدلية المعقول واللامعقول في خطابه، وهذه الجدلية عينها من ترسم شكل الصراع العام بإطاره الأوسع بين “الشرك” و”التوحيد”، فالمعقول في النص القرآني يتحدّد باللامعقول، كما في قوله تعالى: [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا…](17)، فيكون بمنطق العقل نقيض (الشرك) هو (التوحيد) وهو المعقول، ومن هذا المنطلق يقدّم القرآن كفاح الأنبياء بمثابة نشر لخطاب (العقل)، وترجيحًا له على خطاب (اللاعقل)، فترى القرآن يرد على المشركين بمنطق البيان العربي الذي يعتمد القياس والتشبيه والتمثيل: [وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ](18).
ولا تختلف طبيعة خطاب “العقل” في الماضي (مع قوم إبراهيم)، عن طبيعة خطابه في حاضر نزوله، مع قوم نبينا محمد (عليهما صلاة الله وتسليمه)؛ لأنه خطاب يجابه (اللاعقل) بمنطق التجربة والعقل، ولكن من خلال صور بيانية قامعة: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ](19)، ويستمر صراع “المعقول” و”اللامعقول” ليصل إلى الطبيعة، وما وراء الطبيعة، حيث تمّ تبادل الأدوار إذا كان (العقل) من قبل يتحدّى (اللاعقل)، متحكمًا في ذلك إلى الحس والتجربة، ومنطق البيان القائم على التمثيل، والتشبيه (القياس: بمنظور البحث)، فإنّ (اللاعقل) يتحدّى (العقل) طالبًا البرهان، الذي ليس من الطبيعة، بل من وراء الطبيعة، هذا البرهان هو الآية (المعجزة الخارقة للعادة) وهي مطلوب المكذبين دائمًا، الذي قد يُجاب، وقد لا يُجاب لعدم إيمان المكذبين الدائم به.
يظهر دائمًا الكون ونظامه، والقرآن وبيانه، عنصران رئيسان في الإطار المرجعي، الذي يستند إليه (العقل) في القرآن، خلال صراعه مع (اللاعقل)، أي مع المشركين الذين يطلبون حضور ما وراء الطبيعة في الطبيعة، فنظام الكون، وبيان القرآن متساويان من حيث الدلالة؛ لأنّ نظام الكون دليل وجود الله، ودليل وحدانيته، وبيان القرآن دليل نبوة محمد، ودليل صدق رسالته، وهما معًا -مرتبطين- يؤسِّسان (المعقول) الديني العربي ضدًّا على (اللامعقول) “العقلي”، أي على مستوى الخطاب القرآني (الشرك بالله، وإنكار النبوة).
في ختام هذه الثنائية المتقابلة، يرسم الجابري للمعقول الديني، ثلاثة محدّدات:
الأول: القول بوجوب معرفة الله، من خلال الكون ونظامه (دلالة الشاهد على الغائب).
الثاني: القول بوحدانية الله، ونفي الشريك عنه.
الثالث: القول بالنبوة، الاتصال بالله، محمد خاتم النبيين، وبعده انقطع الاتصال بالحقيقة العليا -وحيًا- لذا وجب الرجوع إلى القرآن؛ لأنه الوحيد مستودع الحقيقة(20).
ثمة مقابلات ثنائية قياسية صغرى تخلّلت شرح الجابري، لثنائية (المعقول الديني واللامعقول العقلي)، مثل: (الفعل وردّ الفعل)، (علوم الأعاجم وعلوم العرب)، (علوم الأوائل وعلوم الدين)، (العلوم العقلية والعلوم النقلية)، (الصراع بين التوحيد والشرك)، (خطاب العقل مع قوم إبراهيم، ومع قوم النبي محمد)، (صراع المعقول واللامعقول على مستوى الطبيعة، وما وراء الطبيعة)، (الكون ونظامه، القرآن وبيانه)، (التأويل بالظاهر، التأويل بالباطن).
خامسًا: ثنائية النظامين المعرفيين (الاستدلال والوصال):
يشرح هذان النظامان المعرفيان ذاتيهما، بوصفهما نتيجتين ناتجتين عن عقلين معرفيين، مختلفين في نظام واحد هو نظام العقل العربي الإسلامي، يعبر الجابري عن هذه الثنائية قائلًا: »ولما كان الفقهاء والأصوليون البيانيون قد استخرجوا من دراسة القرآن كنص لغوي. طريقة عربية بيانية لفهمه، واستنباط الأحكام منه، ولما كانت هذه الطريقة البيانية الفقهية القياسية لا تؤدي قط إلى المضامين التي صرح بها الباطنيون من الإسماعيلية والشيعة والمتصوفة بوصفها (الحقيقة) التي تقف وراء (الشريعة)، فإنّهم أي الفقهاء قد اعتبروا التأويل الباطني، شيعيًا كان أو صوفيًا، دخيلًا على الأفق القرآني، معارضًا ومناقضًا أحيانًا لظاهر النصوص، من هنا كان ذلك العداء المستحكم بين الفقهاء والمتصوفة. إنه عداء يعكس نظامين معرفيين، أحدهما يقوم على (الاستدلال) أي يربط المعرفة بـ(الحد الأوسط) الذي هو (العلة) عند الفقهاء، والآخر يقوم على (الوصال)، أي على الاتصال المباشر و(المعرفة اللدنّية)«(21).
بما إنّ النظام المعرفي قد طرح نفسه بديلًا عن النظام البياني العربي في الثقافة العربية الإسلامية، جاعلًا من المعرفة اللدنيّة، أو (العرفان) بديلًا عن القياس، الذي يعتمده البيان العربي، يطلق عليه الجابري (النظام العرفاني).
يعرّج الجابري في تحليله لثنائية (الاستدلال والوصال) على ثنائية أخرى داخلية هي (الفلسفة الإسماعيلية، والفلسفة الهرمسية)، وأنّ الفلسفة الإسماعيلية لم تكن تقف ضد الوجهة الإسلامية، وإنما كانت تقدم عنه فهمًا خاصًا يعد الصورة البيانية القرآنية ظاهرًا وراءه باطن، لقد انتقل الفلاسفة الإسماعيليون بالخطاب القرآني عن طريق التأويل الباطني، من مجال تداولي إلى مجال تداولي آخر، من الفهم البياني العربي الذي كان يعتمده (السلف) -بعبارة أهل السنة- إلى الفهم الفلسفي الهرمسي، الذي لا يتأتى إلا من خلال معرفة مسبقة بالأدبيات الهرمسية.
أيهما الأسبق من النظامين؟ وأيهما كان وجوده ردة فعل لوجود الآخر؟
إنّ تساؤلًا كهذا كفيل بأن يرسم صورة منهجية القياس لدى الجابري التي ظلت تسيطر على بحثه، الأمر الذي يُلمح بفكر بياني -كما يسميه هو- يشكّل منهجية الجابري في الشرح والتحليل، صحيح أنّ الجابري لم يضع هذا التساؤل أعلاه لكنه، أخذ يناقش جوابه الخليق بالطرح، لم يكن (النظام العرفاني) -سواء كان في مجال التصوف أو مجال الفلسفة الإشراقية، أو على صعيد الأيديولوجيا الإسماعيلية- ردة فعل ضد “تزمت الفقهاء” ولا ضدّ “جفاف” الاتجاه العقلي عند المتكلمين، بل إن العرفان الشيعي والكشف الصوفي معًا قد ظهرا قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء، ونظريات المتكلمين، بل إن العكس هو الحاصل ولم نكن مخطئين إذا ما ذهبنا إلى أنّ (العقلانية العربية، والإسلامية) هي التي تبدو في بعض صورها على الأقل، رد فعل ضد الغنوص المانوي والعرفان الشيعي، إذا ما أقمنا علاقة “ردة الفعل” بين النظامين البياني والعرفاني(22).
خلاصة البحث:
فلنترك البحث يتوقف -شرحًا- عند هذه النماذج الخمسة، على الثنائيات المتقابلة، والمنبثقة عن فكر قياسي بحت، كما برهنته الشواهد، وغيرها مما سنكتفي بذكره، من ثنائيات متقابلة وصفية كانت أو إجرائية، كمثل:
ثنائيات (التفكير بالعقل ↔ التفكير في العقل)، (الحضور ↔ الغياب)، (الزمان ↔ المكان) (العقل الإغريقي ↔ العقل العربي)، (النظرة المعيارية ↔ النظرة الموضوعية)، (التعريف الأولي ↔ التعريف الإنتاجي)، (الثوابت ↔ المتغيرات) في بنية العقل العربي، (اللاشعور المعرفي ↔ الشعور المعرفي)، (تداخل الأزمنة الثقافية ↔ تداخل الأمكنة الثقافية)، تقدم الفكر العربي بين (الماضي ↔ المستقبل)، (المنصوص ↔ المسكوت عنه) في منهجية القراءة، (العلم الشيعي ↔ العلم السني)، (العقل الشيعي ↔ العقل السني)، (العقل المستقيل في الموروث القديم ↔ العقل المستقيل في الثقافة العربية والإسلامية)، المثقف العربي بين (اللغة العامية الثرية ↔ اللغة الفصحى المحدودة)، (المانوية ↔ الزنادقة)، الصراع بين (الأيديولوجيا ↔ السياسة)، منهج الشيعة يقوم على (القول بالوصية ↔ عصمة الإمام)، الإله بين (التجسيم ↔ المشاركة)، (الفكر العلوي ↔ الفكر العباسي)، الصراع الأيديولوجي والسياسي بين (الشيعة “الغنوص” ↔ العقل الكوني اليوناني)، (علم الكلام ↔ علم التوحيد)… وغيرها كثير من الثنائيات.
وهو توجّه رتيب يرسم معالم منهجية ثابتة، إن أسرّها الجابري أو ضمّنها سياقاته النقدية، الأمر الذي يضعنا في الأخير أمام تساؤلات مهمة، هل استطاع الجابري أن يتحرّر من إعجابه بالمنهج البياني العربي الإسلامي (القياس)؟ والذي بسط البحث فيه الحديث سلفًا. فإن لم يستطع الجابري التحرّر من إعجابه بهذه المنهجية، فاصطبغت بمنهجه صبغة لا تكاد تبارح سياقات نقده الحضاري، أليس ذلك يُعدّ تأكيدًا بالممارسة على أن الجابري بعيدٌ زمانًا -من حيث الإجراء- عن زمن النقد الحضاري (ما بعد الحداثة) في هذا المنحى من وجهة نقده (القياسي البياني) على الأقل؟، لعلّ الحنين إلى (النظام البياني) وقوته المهيمنة على الذاكرة التاريخية العربية والإسلامية، يمكن أن يتبدّى من خلف السطور المعبرّة عن النظام “الأيبيستيمولولجي” الذي ظلّ الجابري يعلنه منهجًا نقديًا يتغيّا خطاه، نائيًا به عن الوجهة “الأيديولوجية” في آلية نقده، فحاول جاهدًا وبذل جهدًا جبارًا، في سبيل تحقيق ذلك، ولكنّ بحثنا مثل ما تساءل حول العقل المكوّن لمنهج القياس عند الجابري، يتساءل أيضًا عن مدى التزامه بالمنهج “الأيبيستيمولولجي” والذي يقوم على أساس الحيادية الجهوية، والأيديولوجية على وجه الخصوص، حيث يبدو للقارئ المتمعن أنّ القياس أو (النظام البياني) في عصر التدوين هو من يهيمن بالإجراء على عقلية النقد لدى الجابري، راسمًا بُعدًا عميقًا من الحنين لذلك العصر وراء سياق إعلانه، فينتسل عنه خروج عن حيادية المنهج “الأيبيستيمولولجي”، في بعض الفلتات السياقية التي تفسّر عمقًا شعوريًا، ثقافيًا وبيانيًا، يمكن للقارئ قراءته في إعجاب الجابري الشديد بالنظام البياني -منهاجًا- ومنه فكر عصر التدوين زمانًا، كما في قوله: »ألم يولد النحو العربي كاملًا مع سيبويه؟ ألم تتحدّد أصول الفقه عند مولدها مع الشافعي؟ ألم تولد الكتابة التاريخية في الإسلام “كاملة” أو شبه كاملة مع ابن إسحاق والواقدي؟ ألم يقدّم الخليل بن أحمد للناس المعجم العربي والعروض العربي كاملين؟ ألم تتحدّد مسائل علم الكلام مع واصل بن عطاء ومعاصريه؟ ألم يكتمل الفكر الشيعي فقهًا وكلامًا وسياسة مع جعفر الصادق؟… وأخيرًا، ألم يعش هؤلاء وأمثالهم جميعًا في عصرٍ واحد عصر التدوين، عصر البناء الثقافي العام الذي شكّل وما يزال يشكّل الإطار المرجعي للفكر العربي والثقافة العربية إلى اليوم… ونحن نختار أوروبا؛ لأنّ الزمن الثقافي المعاصر الذي يفرض نفسه علينا في كافة المجالات فيضايق بل يمزّق فينا زمننا الخاص بنا.. زمننا الراكد الممتد«(23).
كما هو جلي من منصوص الجابري ولعه بالنظام البياني وحقبته التاريخية في بداية نصّه، فإنّ لغته كشفت عن فلتات سياقية زلت بها لسان وصفه، خارجة عن حيادية منهجه “الأيبيستيمولولجي” الذي أعلنه نهجًا نقديًا في كتابه، كما في قوله: ونحن/ نختار/ علينا/ فينا/ زمننا/ الخاص بنا/ زمننا، فتلاحظ أنّ ناء الفاعلين التي استحوذت فاعلية على جريان الأفعال التي أسندت إليها قد أدخلت ذات الناقد إلى وجهة أو أيديولوجية، أعلن مسبقًا براءته من انتهاجها في مسيرة نقده الحضاري لتكوين العقل العربي، لكن ألم يبنِ المنظر للنقد الحضاري العربي هشام شرابي نقده على أبرز ثنائيتين هما (الأب ↔ الأبناء) أو كما يسميها النظرية البطركية؟
إضافةً إلى فصل من فصول كتابه الذي وسمه بـ(الذات ↔ في صورة الآخر)، ألم يكتب أدونيس عن (الثابت والمتحول)؟، وكمال أبوديب عن جدلية (الخفاء والتجلي)؟، ألا تتساوق كل هذه الثنائيات مع منهجية القياس على مثال سابق لدى الجابري قائلًا: »فالمعقول في النص القرآني يتحدّد باللامعقول…«(24)، تلك التساؤلات توصلنا إلى سؤال أكثر تعميمًا: هل يعيش المثقف العربي -نفسه- بشكل عام حالة افتراق زمانية بين أسس تنظيره وسلوكيات تنصيصه التي تكشف آلية التقصي عن (آيديولوجياتها الباطنية)؟ ومنه نختتم بتساؤل طرحه عبدالله الغذامي: هل الحداثة العربية حداثة رجعية؟!
يا ترى هل أجوبة تلك التساؤلات تكوّن أسئلة أخرى تبحث وتفتش، في الجهد العربي المبذول للنقد الحضاري؟ لذلك نرى ثنائيات تأليفية في هذا المجال من مثل (نقد العقل العربي، لشرابي ↔ ونقد نقد العقل العربي، لجورج طرابيشي)؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري: ص115، ط (8)، 2002م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان.
(2) السابق: 131.
(3) المثل السائر، ضياء الدين بن الأثير، تحقيق أحمد الحوفي، وبدوي طبانة: (2/ 87)، 1962م، مكتبة نهضة مصر، القاهرة.
(4) أسرار البلاغة، أبوبكر عبدالقاهر الجرجاني، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر: ص20، ط (1)، 1991م، شركة القدس للنشر والتوزيع.
(5) ينظر، تكوين العقل العربي: 42- 44.
(6) ينظر، السابق: 17.
(7) ينظر، السابق: 11- 12.
(8) ينظر، السابق: 13- 15.
(9) ينظر، السابق: 29- 30.
(10) ينظر، السابق: 42.
(11) السابق: الصفحة نفسها.
(12) السابق: 43.
(13) ينظر، السابق: الصفحة نفسها.
(14) السابق: 44.
(15) السابق: 134.
(16) ينظر، السابق: الصفحة نفسها.
(17) الأنبياء: 22.
(18) البقرة: 171.
(19) الحج: 73.
(20) ينظر، تكوين العقل العربي: 138- 140.
(21) السابق: 213- 214.
(22) ينظر، السابق: 214.
(23) السابق: 42- 43.
(24) السابق: 136.